موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

تركي الحمد
ما هي الدولة الإسلامية؟

 

كثيرة هي الكلمات والمصطلحات التي نتخاصم حولها ونتعارك، بل ونهدر دماء بعضنا بعضاً من أجلها، دون تفكير حقيقي في محتواها وما تتضمنه، أو لا تتضمنه، فعلاً. فإذا ما أعملنا العقول فيها وحللناها، وجدنا أنها لا تعني شيئاً، أو تعني ما هو متفق عليه، والنتيجة واحدة. فسيطرة "المألوف" و"البداهة" و"المتوارث" دون تمحيص وتدقيق، تقود في كثير من الأحيان إلى توترات وتشنجات ومشكلات قاتلة، وتبعدنا عن معرفة وتحسس المشاكل الفعلية التي تقف وراء أمراضنا ونواقصنا وسوء حالنا.
كثيرة هي الكلمات التي تجعلنا نعيش في عالم من "الكلام" الذي لا يعدو أن يكون كلاماً لا علاقة له بمشاكلنا الفعلية، لا شراباً أسقى، ولا خبزاً أطعم، أشبه ما يكون بالمخدر الذي يعطي إحساساً وهمياً بالسعادة والإشباع، ولكنه في الحقيقة ينسف الجذور الحقيقية للسعادة والإشباع.
لقد كان حكيم الإغريق (سقراط) يجوب شوارع أثينا طارحاً الأسئلة العقلية التحليلية المعربة لكل ما هو مألوف، أو يبدو بديهياً، أو اكتسب هيمنته من قوة التقليد المتراكم غير الممحص. لم يكن يطرح حلولاً. لأنه لا يعرف "الحلول"، كما يعترف، ولكنه يبدأ الخطوة الأولى في معرفة الحل حين يطرح السؤال المناسب، مثيراً السكون من حوله، دافعاً الجميع إلى الخروج من دائرة الركود الرهيبة، لقد كان سقراط، بإيجاز، يحاول إعادة "الوعي المفقود" في غياهب المألوف والبدهي والتقليدي.
بل إنك إذا نظرت في "مناهج" السلف، عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية نصاً مفتوحاً، لوجدت أن القاسم المشترك بين هذه المناهج هو حرقة السؤال قبل برد الجواب. أنظر، مثلاً، إلى تلك الحوارات الرائعة بين أئمة الفقه، بين أحمد والشافعي، أو مالك والليث بن سعد والأوزاعي، أو أبي حنيفة وجعفر الصادق، وغيرهم، والتي كانت تطرح السؤال وتنقضه في ذات الوقت، تحلل الكلمة وتعيد تركيبها، ويخرج الجميع وهم على قناعة من أن رأيهم "صواب يحتمل الخطأ"، على أفضل الأحوال، أو "خطأ حتى يثبت صوابه" على أسوئها.
ونحن اليوم، في هذا الجزء من العالم، أحوج ما نكون إلى مثل هذه المناهج، التي تثير قبل أن تسكّن وتهدّئ، وتُغضب قبل أن تُرضي، لأن في ذلك تكمن الحركة، وفي الحركة تكمن الحلول والخروج من أعناق الزجاج.
من هذه الكلمات والمصطلحات والشعارات المتحدث عنها، شعار "الدولة الإسلامية" و"نظام الحكم الإسلامي"، وغيرها من أسماء وعناوين لا تدور فقط حول علاقة الإسلام بالسياسة، ولكن حول صفات وإجراءات محددة لابد أن تتوفر في السلطة أو نظام الحكم كي يكون "إسلامياً"، ولا يكون بهذه الصفة بغير ذلك. والمشكلة تنبع من أن تلك الصفات والإجراءات تختلف اختلافاً كبيراً بين كاتب وآخر، وتيار وآخر، بحيث إنك تخرج في نهاية المطاف خالي الوفاض، غير قادر على شيء من كل ذلك. والتعددية في الطرح والرأي شيء مقبول، بل ومطلوب، إذا وقر في قلب الجميع أن تلك الأطروحات والآراء ليست إلا وجهات نظر، قابلة للدحض والنقض، الأخذ والرد. غير أن ما يجري على الساحة الإسلامية، هو أن معظم ما يطرح من آراء وشعارات يعبر، في زعم أصحابه، عن "الإسلام الحقيقي" الذي لا يراه أي طرف آخر، إسلامياً كان هذا الطرف أو غير ذلك، فرداً كان أو جماعة. وبالتالي، واستناداً إلى هذا "الحق المعرفي"، فإن كل طرف من هؤلاء ينفي ما عداه معرفياً في المجتمع، وسلطوياً في السياسة.
أن التعددية الفكرية والسياسية أمر مرغوب في للجميع، طالما قبلت كافة الأطراف "النسبية" في المعرفة، و"الديموقراطية" في السياسة. ولكن معظم التيارات المتحدث عنها، ونكرر "معظم"، لا ترى هذا ولا ذلك، بل هي قطعية في المعرفة، شمولية في السياسة، وهنا تكمن المشكلة.
نعود إلى الموضوع الرئيس ونقول: حين نقول "الدولة الإسلامية" وما يرتبط بها من مصطلحات أخرى، فماذا نقصد بالضبط؟ سؤال أطرحه على نفسي بصوت مرتفع ليس إلا. ولكي نجعل النقاش قصيراً ومركزاً، فإننا لن نخوض في تحليل المفهوم كلمة كلمة، فنعرف الدولة تعريفاً أكاديمياً، واختلاف المعنى من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن لغة إلى أخرى، لن نخوض في كل ذلك، بل نفترض أن المقصود بالدولة هو "السلطة السياسية"، رغم أنها أحد عناصر الدولة، وفق التعريف الأكاديمي وليس كلها، لأنها، أي الدولة، لا تذكر في الأدبيات "الإسلامية" المعاصرة إلا بارتباط مع مصطلحات أخرى تبين أن المقصود بها هو السلطة. باستعراض هذه الأدبيات في إجابة السؤال الآنف، نجد أنها عموماً لا تخرج عن التيارات الأيديولوجية التالية:
هناك من يرى أن الدولة الراشدة (الخلافة الراشدة) كانت هي الدولة الإسلامية الوحيدة في التاريخ، وبنهايتها انتهت الدولة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي، وانقلب الأمر إلى "ملك عضوض"، ابتداء من معاوية بن أبي سفيان وحتى هذه اللحظة. بالنسبة لأصحاب هذا الرأي، على قلتهم، فإنه لا يمكن قيام حكم إسلامي، وبالتالي دولة إسلامية، إلا بشرطين: الشورى والخلافة الشاملة معاً، بحيث لا يغني أحدهما عن الآخر. إذا وافقنا مع هذا الرأي فسوف نقع في إشكالية حضارية: كيف نصنف تاريخنا الإسلامي كله؟ هل نقول كان هناك إسلام، وكان هناك مسلمون، وكانت هناك حضارة إسلامية، ولم يكن هناك دولة إسلامية؟ كيف نصنف دولاً (بالمعنى العربي المصطلح) مثل دولة بني أمية، ودولة بني العباس، وحتى دولة بني عثمان؟ لا ريب أن مثل هذا الرأي يجردنا من كل تاريخ وكل حضارة وكل إضافة ثقافية.
وهناك تيار يقول إن "الإسلامية" مرتبطة تاريخاً وعقيدة بمؤسسة "الخلافة"، حتى وإن انتفت الشروط الأخرى، فلا دولة إسلامية دون خلافة شاملة. وعلى ذلك، فإن الدولة الإسلامية انتهت بسقوط مؤسسة الخلافة. ووفقاً لهذا الرأي، فإن هنالك فترات تاريخية أكثر إسلامية من غيرها، فالخلافة الراشدة هي النموذج الذي قد لا يتكرر، ولكنه يبقى مثالاً يحتذي، غير أن ذلك لا ينفي إسلامية ما عداه. فالإسلامية، وفق هذا الرأي، مثل الإيمان، يزيد وينقص، وليس "يكون" أو "لا يكون" كما هو عند بعض الفرق مثل الخوارج. معنى هذا الرأي أنه لا وجود لدولة إسلامية منذ سقوط الخلافة العثمانية في أوائل هذا القرن. لكن مثل هذا الرأي غير عملي وغير واقعي، إذ إنه ينفي الشرعية الإسلامية عن أي نظام أو حركة ترفع هذا الشعار في رقعة من الأرض لا تشمل كل الأمة الإسلامية"، بالإضافة إلى أنه يحرم الدول الإسلامية الحديثة (أي ذات السكان المسلمين) من الهوية النابعة من الدين والتاريخ والحضارة والثقافة.
وهناك تيار، بل تيارات ترى أن معيار "الإسلامية" هو تطبيق الشريعة، بغضّ النظر عن أيّ مسائل أخرى. فالدولة الإسلامية هي تلك المطبقة للشريعة، وغير ذلك لا يمكن أن يتصف بهذه الصفة. مثل هذا الرأي لا تقبله تيارات "إسلامية" أخرى، ترى أن مجرد التطبيق القانوني للشرع لا يعطيه الصبغة الإسلامية ما لم يتصف بصفات أخرى، تختلف من تيار إلى آخر. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاقتصار على مثل هذا المعيار، من الناحية الموضوعية، سوف يخرج معظم الدول الإسلامية المعاصرة من إسلاميتها، وهذا أمر لا يستقيم، إذ إنه يختزل الإسلام إلى نظام قانوني وحسب، نازعاً أبعاده الأخرى، الحضارية والثقافية والتاريخية، المساهمة في هوية تلك البلدان، وإن لم يطبقوا الشريعة. فدولة مثل تركيا، كي نأخذ حالة قصوى، لا تطبق الشريعة، وينص دستورها على العلمانية صراحة، وتتجه نحو الغرب في سياساتها وميولها، ومع ذلك لا نملك إلا أن نعتبرها دولة إسلامية موضوعياً وتعاملياً، ولا ننفي عنها صفة الإسلامية لأنها، أي الإسلامية، جزء من هوية المجتمع، الذي هو من "المسلمين" المنتمين، رغم كل شيء، إلى الإسلام وحضارته وتاريخه وثقافته، سواء شعورياً أو سلوكياً دون شعور.
وهناك تيارات تربط "الإسلامية" بمن يحكم، من حيث علاقته بالإسلام، ولكن مثل هذا الربط يخلق أسئلة أكثر مما يعطي أجوبة. فمثلاً، هل تكون الدولة إسلامية حين يكون الحاكم "مسلماً" أم حين يكون إسلامياً. إذا كانت المسألة حول كون الحاكم مسلماً، فلا مشكلة في الموضوع، إذ أن ذلك يمكن أن يتحدد ببساطة. ولكن المشكلة تثور عند طرح "إسلامية" الحاكم، فمن هو الحاكم الإسلامي؟ ليس هو "المسلم" فقط، وفقاً للمتفق عليه فقهياً من شروط الإسلام، ولكنه صاحب توجه أيديولوجي (وليس فقهياً) معين. وهنا تثور المشكلة حول تعدد "الإسلاميات" وتضارب "الإسلاميين". ولو افترضنا جدلاً أن الإسلامية (الإسلاموية) شيء واحد لا خلاف عليه، فإن كل الدول الإسلامية المعاصرة تقريباً تخرج من إسلاميتها، لأن حكامها "مسلمون" وليسوا "إسلاميين" وفق شروط ذلك التوجه.
الحقيقة أنه لو أردنا استعراض كافة التيارات "الإسلامية" المعاصرة ومواقفها، لما وصلنا إلى نتيجة، إذ إننا سوف نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة من "الكلام". لذلك نجد أنه حين التعامل الفعلي، فإن المعيار الموضوعي للإسلامية لا علاقة له بكل هذه التيارات، بل إنه ينصرف إلى الذوات التي تعيش في الكيان المتحدث عنه. فالدولة الإسلامية، موضوعياً، هي ذلك الكيان الذي يعيش فيه غالبية من المسلمين، أو حتى أقلية واسعة، وينتمي إلى الثقافة الإسلامية، منظوراً إليها تاريخياً وحضارياً.
هل يعني ذلك نسيان المسألة السياسية والاجتماعية؟ ليس الأمر كذلك، إذ أن كل المقصود هو الخروج من لجّة "الكلام" وصراع المفردات، ووضع المسألة في وضعها المناسب، الذي يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت. أما بالنسبة للمسألة السياسية والاجتماعية، فقصارى القول هو أن أي كيان يعيش فيه الإنسان حراً (في كلمته وحركته)، آمناً (في ذاته وماله وعرضه)، مصان الكرامة (في ظل قانون قائم على العدل والمساواة)، لابد أن يكون متماهياً مع الإسلام، لأن الإسلام دين الفطرة، والفطرة تقول إننا ولدنا أحراراً متساوين، ولكن القيود والعوائق اللاحقة هي ما يكبلنا. وكما قال السلف منا، فإنه حيث يكون العدل يكون شرع الله، دون الحاجة إلى هذه الأيديولوجيات المتقاتلة، وتلك الرغبات المتصارعة، وشعارات اللفظ والكلام. ليكن مثل هذا الكيان، لأن هذا هو جوهر الإنسان، الذي هو جوهر الإسلام، وسموا ذلك ما شئتم.
---------------------------
المصدر : السياسة بين الحلال والحرام

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة