موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

سعيد بنسعيد العلوي
المجتمع الإسلامي: الثقافة والمستقبل

 

تقوم بين المجتمع الإسلامي وبين العالم من حوله أسباب وصلات قوية، فهذا المجتمع في سيره وصيرورته معا يخضع لأثر العالم ولتأثيره. ومن أجل تأكيد آخر لهذا المعنى، وفي سبيل طرح واع ومتبصر لأفاق المستقبل في هذا المجتمع نقف، في أسطر قليلة، وقفة استخلاص ومراجعة.
1_ في "عصر النهضة" تعلق الأمر بالنسبة للمجتمع الإسلامي. بما يحق نعته بالاكتشاف المزدوج، أو بالاكتشاف ذي المظهرين المترابطين، اكتشاف أول هو اكتشاف "الآخر" أو "الغير"؛ ذاك هو "الغرب". فقد جعل النظر في أسباب قوته وازدهاره انتباه المفكر المسلم ينصرف إلى "الشورى الدستورية" وإلى سلامة المؤسسة السياسية وقوتها؛ واكتشاف ثان هو اكتشاف "الذات"؛ ذاك هو "الشرق"، والنظر في علة تأخره وأسباب "انحطاطه" قاد إلى القول باعتبار "المسألة الكبرى" (كما يقول الكواكبي) هي الأساس والمصدر.
في مقابل هذا الوعي المزدوج (التأخر/ التقدم) كان "الغرب" صعوداً إمبريالياً وهيمنة استعمارية، وكان "عصر النهضة" هو عصر التحضير لاقتسام تركة "الرجل المريض" وتوزيع غنيمة الوطن العربي والعالم الإسلامي.
2_ في الأزمنة المعاصرة، أي في المرحلة التي تشمل حركات التحرر الوطني وما بعدها، يجوز الحديث عن تقابل بين أمرين اثنين هامين، أولهما أن "الزمان" كان زمان اقتسام للسيطرة العالمية بين العظيمين أو القطبين، وكان كل من المعسكرين (الرأسمالي والشيوعي) يسعى في استقطاب جزء من الوطن العربي وبعض من العالم الإسلامي. (وغني عن البيان أن كلاً منهما قد قطع على درب النجاح في مسعاه خطوات كبيرة). وبعبارة أخرى، فقد كان المجتمع الإسلامي يتفاعل مع واقع "الحرب الباردة" وينفعل بها؛ وأما الأمر الثاني فهو أن دول الإسلام (وقد كانت في أغلبها الأعم بصدد الخروج من هيمنة الاستعمار المباشر، دون أن تقدر على التخلص من براثن أحد القطبين العملاقين) كانت تصارع مشاكل ذاتية، مشاكل بناء دولة الاستقلال (تكوين الأطر، إحداث البنيات الاقتصادية والسياسية والقانونية الملائمة، مشكلات "الديمقراطية" وهيمنة الحزب الواحد _في الأغلب الأعم من الأحوال)، ومشاكل بناء صرح المجتمع الجديد (البحث عن الهوية، الخضوع للأثر الإيديولوجي الخارجي، الصراع بين نظام العلاقات السابقة وما يفرضه منطق التحول إلى نظام جديد للعلاقات وسلم جديد للقيم...).
3_ لا يزال العالم يعيش اليوم حالة التأهب والتوقع التي نشأت عن تداعي النظام الدولي المعروف (نظام الثنائية القطبية)، نتيجة انهيار المعسكر الشيوعي. فلا تزال صورة "النظام الدولي الجديد" بصدد التكون والصياغة، ولربما كانت بساطة من المرء في التفكير أن يحسب أن القيادة في هذا النظام "الجديد" ستكون للولايات المتحدة الأمريكية وحدها دون منازع. نعم، هنالك مؤشرات كبرى تدل على ذلك، وعند رجال الاستراتيجية والتصورات المستقبلية يبدو هذا المشهد أو السيناريو الأكثر احتمالاً وامتلاكاً لأسباب القوة والنجاح. أضف إلى ذلك أن "النموذج الأمريكي" (من حيث هو صورة لثقافة وتعبير عنها، ومن حيث هو تجسيد لسلم من القيم وتأكيد لها في الوقت ذاته) يتجه، أكثر فأكثر، نحو الهيمنة شبه المطلقة في كافة أرجاء المعمورة (بما في ذلك دول الشرق الأقصى من جانب أول، وما كان يشكل "المعسكر الاشتراكي" من جانب ثان)؛ كل هذا صحيح ومن العسير على الإنسان أن يجاحد فيه، ولكن احتمالات مشاهد أخرى تظل ممكنة. إلا أن الإشكال لا يكمن في هذا وحده بالنسبة للمجتمع الإسلامي.
يكمن الإشكال، في عمقه، من وجهة نظر، في أن ما كان عند "الآخر" تحققاً تاريخياً لا يزال عندنا احتمالاً وإمكاناً في انتظار التكون والظهور، والقصد بذلك بناء الدولة الحديثة على الحقيقة (دولة القانون والمؤسسات، دولة الديمقراطية في معنى مراقبة السلطة بالطرق القانونية؛ وفي معنى تداولها وانتقالها من جهة إلى أخرى)، كما أن القصد به بناء ما به تتحقق أسس تلك الدولة ودعاماتها الحضارية وأسسها الثقافية.
يكمن الإشكال، من جهة أخرى، في الصورة التي يكتسيها الإسلام اليوم في هذا النظام "الجديد" الذي لا يزال بصدد التكون والتشكل. فمن السهولة بمكان أن يطمئن المجتمع الإسلامي إلى صورة الإسلام بحسبانها خطراً أو قوة خطيرة يُحسب لها حسابها بعد ما كان من انهيار المعسكر الشيوعي. وبعبارة أكثر وضوحاً نقول: من اليسير أن يطمئن المجتمع الإسلامي إلى صورة الإسلام المستهدف أو المهدد في وجوده؛ ثم يحتسب كل المشاكل والصعوبات التي يعانيها على حساب الخطر الخارجي الذي يتهدده.
لا أملك أن أقطع في مسألة المجتمع الإسلامي والمستقبل برأي حاسم، ولكني أدرك أن واقع المجتمع الإسلامي، من داخله (أي بالنظر إلى مشكلاته الذاتية من جهة أولى، وبالنظر إلى الأطوار التي مر بها في وتيرة متسارعة نسبياً منذ القرن التاسع عشر من جهة ثانية)، وهذا الواقع "الدولي" الذي هو قيد التكون والتشكل، كل هذا يحملنا حملاً على اعتبار أن الجذر والأساس في المجتمع الإسلامي يؤول إلى مسألة الثقافة وقضية القيم في ارتباطهما وتضافرهما.
تعيش الإنسانية اليوم مخاضاً هائلاً وتحولاً عظيماً يسهم فيه التقدم التكنولوجي نحواً من الإسهام يشي بإحداث نوع من الانتهاء أو القطع مع العصور المتقدمة جميعها، وتجليات هذا المخاض والتحول قابلة للملاحظة والدرس في مظاهرها الكبرى الواضحة. فكأنما الإنسان يبحث فعلاً عن جديد يفتقده فلا يجده، وكأنما العالم في امتداده واتساعه قد استحال إلى قرية واحدة تحت تأثير وسائل الاتصال وقوة الإعلاميات ووسائل المواصلات السريعة. وفي هذا كله لا يملك الإسلام، بحسبانه تراثاً حضارياً كبيراً، أن يكون في موقع الغائب أو اللاهي. وطبيعة "المجتمع المفتوح" التي مكنته من الوجود والاستمرار قروناً وأزمنة شتى تحمل اليوم على النظر إلى المستقبل بقوة وثقة.
هل نملك إحداث نقلة "كيفية" نجد بها لأنفسنا مكانة لائقة في العقود القليلة المقبلة؟
--------------------------------
المصدر: الاسلام واسئلة الحاضر

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة