موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

د. حسن حنفي
العلوم التراثية ومعوقات العمل السياسي


ينقسم التراث إلى مجموعات ثلاثة من العلوم: العلوم النقلية الخالصة، والعلوم النقلية العقلية، والعلوم العقلية الخالصة. ولكل منها أثره في العمل السياسي على درجات متفاوتة طبقاً لمدى رسوخها في وعينا القومي. فقد عاشت العلوم النقلية والعلوم النقلية العقلية في وجداننا وترسّبت فيه بدرجة كبيرة بينما اختفى أثر العلوم العقلية من وعينا القومي في حين أنها انتقلت، من خلال الترجمة، إلى وجدان الغرب، وساهمت في نهضته الحديثة، وكانت وراء تكوين الوعي الأوروبي بأبعاده الثلاثة، العقلي والعلمي والإنساني.
(1) العلوم النقلية:
العلوم النقلية الموروثة خمسة: القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. كل منها تحقّق ثاني للذي قبله، فالحديث تحقّق ثانٍ وتخصيص للقرآن وبيان لأوجه تطبيقه. والتفسير شرح للقرآن وجَمعُ أكبر قدر ممكن من المعلومات حوله. والسيرة تخصيص أكثر للحديث بإدخال حياة الرسول قبل البعثة بل وقبل الميلاد. أما الفقه فهو إعادة تبويب الحديث، حتى يكون سلوكاً للناس جميعاً. فهي كلها علوم مرتبطة بالوحي، ومتفاوتة بين أقصاها في العموم مثل القرآن وأقصاها في الخصوص وهو الفقه.
وقد رَسَبَت هذه العلوم الخمسة في وجداننا وتراكمت في سلوك الناس على نحو سلبي أكثر منه إيجابياً. فعلوم القرآن ما زالت تتحدث عن رَسمِ المصحف وشكله وجمعه وتدوينه، وعدد سوره وآياته، ونَظمِه، وهل البسملة جزء منه، وقراءاته، ولهجاته وهي كلها أشياء خارجية مَحضَة مرتبطة بظروف الوحي والإعلان عنه أول مرة، ولم نعد نحن قادرين على المساهمة فيها خاصة في القراءة والتدوين، فقد بَعُدَ العهد ولم يعد أحد منّا معاصراً لنزول الوحي كما كان القدماء شاهدي عيان له. ولكننا نستطيع أن نجد دلالات معاصرة لبعض موضوعاته تساعد على حلّ بعض القضايا التي تعرض لنا ونحن بصدد موضوع التغيّر الاجتماعي أو العمل السياسي. فمثلاً موضوع المكّي والمدني هو بالنسبة لنا يدلُّ على أن أي نسق مذهبي إنما يشمل بالضرورة قسمين: التصوّر والنظام، العقيدة والشريعة. فالمكّي أعطى التصوّر والمدني استنبط النظام، فلا عقيدة إذن بلا شريعة، ولا شريعة بلا عقيدة، وبالتالي يُحسًم الخلاف بين الحركة الإسلامية والحركة العلمانية حول الإسلام دين ودولة أم دين دون دولة، كما أنّ موضوع "أسباب النزول" إنما يعني بالنسبة لنا أن الواقع سابق على الفكر، وأن الوحي لا ينزل إلاّ بعد وقوع مشكلة اجتماعية تتطلّب حلاّ لم يهتد إليه جلّ الناس أو اهتدى إليه البعض ببداهته وفطرته. فالواقع ينادي الفكر والفكرُ يفرض نفسه على الواقع. الهدف من الوحي هو حلُّ المشاكل الاجتماعية وليس غطاءً معرفياً نظرياً للعالم، معرفة من أجل المعرفة. وهذا ما يعطي فكرنا الديني السياسي المعاصر نموذجاً ومنهجاً. فلا يُقرأ الوحي إلاّ من خلال المشاكل الاجتماعية، ولا نصائح نظرية سياسية إلاّ من خلال المواقف الإنسانية والتحديات الأساسية التي تواجه كل مجتمع. أما الناسخ والمنسوخ، فإن له أيضاً دلالة حديثة فيما يتعلّق بالزمان والتطور، وإعادة صياغة التشريعات والقوانين طبقاً للقدرات الإنسانية. فلا جمود في التشريع، وأنّ القانون وضع لصالح الإنسان، وليس الإنسان لصالح القانون.
أمّا "علوم الحديث" فقد أتقن القدماء مناهج الرواية وفصّلوا في طرقها من أجل التحقق من صحة الحديث من خلال السّند. وأسّسوا لذلك علوماً مساعدة مثل علم الجَرح والتعديل أو علم ميزان الرجال. أما نحن فقد بَعُدَ علينا العهد، ولم نعد في مثل قدرة القدماء في التعرّف على الرواة. ولكننا قادرون على نقد "المَتن" وتحكيم الحسّ والعقل والمصلحة في الرواية، خاصة وأن من شروط التواتر الاتفاق مع الحسّ ومجرى العادات. وبالتالي يخفُّ أثر الأحاديث "الغيبية" عن النفوس، وكل ما يعارض العقل، ويناهض المصلحة. فنفرض واقعنا على الرواية، وبالتالي نكون قد قدّمنا نقد المضمون كما قدّم القدماء نقد الشكل، فكثير من الأحاديث تؤثر في حياتنا السياسية مثل حديث "الفرقة الناجية" الذي يكفّر كل اجتهادات الأمّة ولا يقبل إلاّ رأياً واحداً هو رأي السلطة القائمة التي تمثّل "الفرقة الناجية".
و "علوم التفسير" في حاجة أيضاً إلى إعادة نظر، ليس المطلوب هو التفسير "الطولي" للقرآن، جزءاً بعد جزء، حزباً إثر حزب، سورة بسورة، وآية بآية، وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات "التاريخية" عن الحوادث والشخصيات التي يعرّض لها القرآن، فليس الوحي حوادث بل معان، وليس وقائع بل ماهيّات. كما أن التفسير الطولي تجزئة للموضوع الواحد، وبعثرة لبنائه، إنما الذي يفيد في العمل السياسي هو البحث عن المعاني والدلالات وتعميمها في كل عصر وليس الوقائع التاريخية المحدّدة. كما أنّ المفيد هو التفسير الموضوعي الذي يجمع الآيات كلها حول موضوع واحد مثل المساواة، المال، العدل، الظلم، الحكم، الأمة، الوحدة حتى يمكن التعرّف على نظريات التراث التي ما زالت تفعل إيجاباً أم سلباً في وجدان الناس. ولا تفسير إلا من خلال مصالح الأمة، وهو التفسير الأصولي لا الكلامي أو الفلسفي أو الفقهي أو الصوفي أو اللغوي أو الأدبي. فقد أتى الوحي حفاظاً على مصالح الناس. ومن ثمّ يُقرأ القرآن من خلال مصالح الناس، وتُرى مصالح الناس داخل السور والآيات. وبالتالي ينشأ تفسير سياسي اجتماعي اقتصادي يكون هو البديل عن الإيديولوجية العلمانية.
أما علوم "السيرة" فإنها تتعرّض لشخص النبي، ولكل جوانب حياته، ما قبل الميلاد، وما قبل البعثة، وربما ما بعد الموت. وبالتالي "تشخّص" الوحي في النبيّ مع أنّ النبيّ مجرد وسيلة لإبلاغ الوحي. وربما كان هذا هو سبب التشخيص في حياتنا السياسية، تحوّل الحُكم إلى شخص، والمبدأ إلى سيرة، والفكرة إلى زعامة. فلا فرق بين الاحتفال بالمولد النبوي وبين الاحتفال بميلاد الملك، فكلاهما تشخيص للأعياد الوطنية. تتشخّص المؤسسات الاجتماعية والسياسية بل وتتشخّص دول بأكملها، فهذه دولة الحسن وهذه دولة الحسين، وتضيع الأمم. خاصة وأن السيرة فيها الغيبي المُعجز وفيها العقلي البديهي، والأول هو الذي يشدُّ انتباه العامة. لذلك، أصبح الزعيم السياسي أيضاً مُعجزاً في أقواله وأفعاله، مَعصوماً في أخطائه، يتعبّده الناس أو كادوا.
أما علوم "الفقه" القديمة فإنّ طابع العبادات هو الغالب عليها نظراً لقرب عهدها بالدين الجديد وشعائره. ولكن بعد أن استقرت وعرفت ومارسها الناس لم تعد الأركان الخمسة محور الفقه أي العبادات، بل المعاملات في الزراعة والصناعة والتجارة، وفي الأجور والقيمة والاستثمار. فأثر الفقه القديم في العمل السياسي بأن ترك الحركات الدينية تصول وتجول في العبادات وتترك المعاملات وكأنها خارج نطاق الاهتمام. فتركت موضوعات الأرض والزراعة والعمالة والأجور يفعل فيها الحكام ما يشاؤون وتقترح فيها المذاهب العلمانية ما تريد. أما الفقه الافتراضي القائم على افتراض حالات لم تقع فإنه حوَّل الشريعة إلى مجرد احتمالات وخيالات لا واقع لها، وضاع منها لبّها وجوهرها وهو واقعيتها.
وربما تحتاج العلوم النقلية كلها إلى تطوير بحيث تصبح علوماً نقلية عقلية أو حتى عقلية خالصة حتى يضيع أثر النقل من حياتنا ويتحول إلى العقل، وتضيع حجة السلطة ويسود المنطق والبرهان.
(ب) العلوم النقليّة العقلية:
وهي أربعة: علم أصول الدين، وعلوم الحكمة، وعلوم التصوّف، وعلم أصول الفقه. وهي العلوم التي جَمَعت بين العقل والنقل أو التي أستطاع فيها العقل أن يفرض على النقل. وهي أيضاً تتفاوت فيما بينها في درجة اختراق العقل للنقل. وقد انتهت هذه العلوم منذ سبعة قرون إلى تراجع قَدر العقل فيها، وتحولت إلى علوم تَقرِب من النقلية الخالصة.
(أ) علم أصول الدين: وهو أول العلوم النقلية العقلية وأخطرها على معتقدات الأمة وسلوكها. فهو العلم الذي يمدُّها بتصوّراتها للعالم ويعطيها أنماط سلوكها. فالعقيدة ليست مجرّد إيمان انفعالي بل هي تصوّر للكون على الفعل. وقد كانت القضية الأساسية في هذا العلم هي قضية "التوحيد" فقد كانت موطن الهجوم ومظانّ الطّعان من الديانات المعاصرة والملل والنّحل للأمم المغلوبة، فجنّد المتكلّمون جهدهم كله دفاعاً عن التوحيد فانتصر التنزيه الخالص، الله ليس كمثله شيء، ضدّ كل نزعات الحلول والاتحاد والتجسيم والتأليه والتشبيه الحسّي. وتمّ إثبات صفاته الكاملة وقدرته اللامتناهية، وأفعاله من بعث للرسل وخلق للعالم وحشر للأجساد وحساب وعقاب. ولكن استعملت النظم السياسية القائمة هذا التصوّر "المطلقي" Absolutist للعلم لحسابها الخاص وبدافع سياسي خالص. فما أسهل ما أن ينزلق الحاكم وراء صورة الإله المطلق فيتشبّه به، ويأخذ صفاته، ويستعير أفعاله فيصبح الحاكم مطلقاً مثل الله، وأفعاله واجبة الطاعة مثل أفعال الله.
وإذا كان القدماء قد أعطوا الأولوية للفعل الإلهي على الفعل الإنساني فذلك لأن القدرة الإلهية كانت في خطر من جرّاء أفعال الطبيعة أو السحر أو الآلهة أو الأرواح. أما الآن فإن الفعل الإنساني في خطر من جرّاء أفعال الحكام وقدراتهم المطلقة والقوانين المقيّدة للحريات. فالدفاع عن الفعل الإنساني أولى من الدفاع عن الفعل الإلهي. كما دافع القدماء عن النقل في عصر نزول الوحي وصحّة الرواية في مواجهة ديانات تقوم على العقل أو الحسّ، أما الآن فإن العقل قد انحسر والحسّ قد توارى وساوى النقل حتى أصبح سلطةً بمفرده ممثّلاً في قال الله أو قال الرسول أو قال الزعيم أو قال الإمام أو قال المجاهد أو قال الرئيس. في حين أنّ كل الحجج النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء على أنه يقيني ما أثبتته، ولظلّ ظنياً، ولا يتحوّل إلى يقين إلاّ بحجة عقلية ولو واحدة. كما دافع القدماء عن النبوّة في عصرها ودليلها المعجزة في عصرها. أما نحن فندافع عن تحقق النبوة في التاريخ واكتمالها باستقلال الوعي الإنساني عقلاً وإرادةً وأن المعجزة إعجاز أي تحدّ للإرادة البشرية على الخَلق والإبداع بدلاً من التقليد والاتباع. لقد دافع القدماء عن أمور المَعَاد وعن حياة الإنسان بعد الموت وخلود النفس في عصر كان الناس ينشغلون بأمور الدنيا. أما الآن فإنّ حياتنا بعد الموت ليست موضع تساؤل، ونفوسنا عامرة بالخير. إنما القضية في أمور الدنيا وفي الأبدان المُعّذّبة جوعاً وعطشاً وعُرياً وعراءاً. لقد دافع القدماء عن الإيمان المتمثّل في الشهادتين لفظاً حتى يتسع المجال لكل الأمة. يجد كل منّا فيها مكاناً. أما اليوم فإن الإيمان عاجز، والشهادتين نطلقهما في كل مكان لفظاً بالشفاه. والغائب هو العمل. ومن ثمّ ندافع عن العمل كجوهر للإيمان وأنّ مَن لا عمل له لا إيمان له. وقد يكون الخوارج أنسب لنا من المُرجئة. ولقد تصوّر القدماء التاريخ على أنه سقوط وانهيار من الرسول إلى الصحابي إلى التابعي إلى تابعيّ التابعي، وكل جيل لاحقٍ أقل فضلاً من الجيل السابق (فَخَلَفَ من بعدهِم خلفٌ أضاعُوا الصَّلوة واتَّبعوا الشهواتِ) (مريم:59)، حتّى يئس الناس من التقدم، ونشأت الحركات السلفية ظانّة أن كل تقدم هو رجوع إلى الوراء "خيرُ القرونِ قَرني"، فكيف تنهض أمة والتاريخ في وعيها سقوط وانهيار؟ لا يمكن أن يتمّ عمل سياسي لإيقاظ الجماهير وإحياء عقائدهم إلاّ بإعادة بناء النّسق العقائدي واستبدال اختيار القدماء باختيار آخر نظراً لتغيّر الظروف وتبدّل المخاطر. أو على الأقل الاستفادة من النسق القديم على نحو يخدم القضية الاجتماعية الحالية. فلا يُعقل أن يَعبُدَ مجتمعٌ إلهاً عالِماً وهو جاهل، قادراً وهو عاجز، حياً وهو ميت، سميعاً، بصيراً، متكلّماً، مُريداً، وهو لا يسمع ولا يُبصر ولا يتكلّم ولا يريد! لا يمكن أن يتم عمل سياسي دون أيديولوجية، ولا يمكن صياغة أيديولوجية في مجتمع تراثي دون ما تحوّل لنسقه العقائدي القديم.
(ب) علوم الحكمة: وهي علوم نظرية مثل علم أصول الدين، ولكنها تطوّره وتحيله إلى علوم يغلب عليها العقل أكثر من النقل، وتتعامل مع الحضارات الأخرى دون خوف أو تردّد. وقد تشعّبت إلى حكمة منطقية وحكمة طبيعية وحكمة إلهية دون أن تكون هناك حكمة إنسانية أو حكمة تاريخية، وبالتالي غاب بُعدا الإنسان والتاريخ من وجداننا القومي فقامت نظمنا السياسية بلا إنسان، لا ترعى حقوقه، ولا تدافع عن كرامته. كما أنها نُظُم خارج التاريخ لا ترتبط بماضيها ولا تخطط لمستقبلها. فانفصل الوعي السياسي عن حقوق الإنسان وعن الوعي التاريخي في آن واحد. وتعثّر العمل السياسي، واختلفت النظم في تصوّرها للهياكل الاجتماعية والسياسية، ولكنها اتفقت فيما بينها على تجاهل قضية الإنسان، وتجاهل المرحلة التاريخية التي تمرّ بها مجتمعاتنا.
(ح) علوم التصوّف: وهي علوم عملية في مقابل العلمين النظريين السابقين، تهدف إلى تصفية القلب. فهي طريقة للوصول وليست منهجاً للاستدلال، تقوم على "التأويل" أي الرجوع إلى المصدر الأوّل وليس على "التنزيل" أي استنباط الأحكام من الأصول إلى الفروع. وقد نشأت هذه العلوم في بدايتها كرد فعل على التكالُبِ على الدنيا، والصراع على السلطة، ومظاهر البذخ والترف في المجتمع الإسلامي، واليأس من التغيير، وإصلاح الناس والعودة إلى الشرعية وحياة النبوة الأولى بعد أن استشهد المئات من آل البيت الخارجين على الدولة الأموية. فما دام الأمر أصبح ميؤوساً منه، وما دام إصلاح العالم أصبح طريقاً مسدوداً فالأولى العكوف على الذات، وإصلاح النفس، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي هذا الموقف خرج حديث: "عُدنا مِنَ الجهادِ الأصغَرِ (جهادُ الأعداء) إلى الجِهادِ الأكبرِ (جهاد النَفس)". وأصبح التصوّف لهذا السبب الطريق الأوحد للخلاص، خلاص النفس بعد أن استعصى خلاص العالم، وإنقاذ النفس بعد أن استحال إنقاذ الآخرين، وتصفية الداخل بعد أن استقرّت الأبنية الاجتماعية والسياسية في الخارج واستحال تغييرها.
(د) علم أصول الفقه: وهو أقلّ العلوم التراثية احتواءً على معوّقات العمل السياسي. وذلك أنه علم عملي يهدف إلى رعاية مصالح الناس، يقوم على الاستدلال العقلي وعلى الاستقراء التجريبي. فليست به عقائد نظرية بل إنّ الله هو مجرّد الشارع. وليست به قيم سلبية بل يعتمد على الاجتهاد وبذل الوسع والمجهود. وليست به نظرات إشراقية فهو يقوم على التعليل. لا يضرُّ بالناس فمن مبادئه العامة لا ضَرَر ولا ضِرار، الضرورات تبيح المحظورات، لا يجوز تكليف ما لا يُطاق، المصالح المرسلة. ومع ذلك فهناك بعض المخاطر على العمل السياسي. منها إعطاء الأولوية للنصّ على المصلحة عند بعض مدارس الرأي. بل إنّ النسق الاستدلالي القديم كله يبدأ بالكتاب ثم السُنَّة ثم الإجماع ثم القياس، في حين أنّ عصرنا يحتّم البدء بالقياس مباشرة، فالصالح العام يعرفه الجميع وسيكون حتماً متفقاً مع النص. كما أن الحُكمَ بمقاصد الشريعة مباشرة، المحافظة على الضرورات الخمس: الحياة (النَفسُ)، والعقل، والدين، والعِرضُ، والمال، بها يتوجَّه مباشرة إلى مصالح الناس وإلى ما فيه قوام الحياة الإنسانية. أما الأوامر والنواهي أي الأحكام الشرعية فإنه من الأفضل للعمل السياسي أن تكون نابعة من طبيعة الناس ووجودهم الإنساني بدلاً من أن تكون فرضَاً عليهم فتزيد الفروض فرائض جديدة. فالواجب ما به قوام الحياة وعكسه الحرام أي ما به فسادها. والمندوب متروك لاختيار الإنسان طِبقاً لقدراته الفردية أن يفعل الخير تطوعاً، وعكسه المكروه ألاّ يفعل ما قد يفسد الحياة بحريته واختياره. أما الحلال فهو مصاحبة الأشياء، وكأن الشرعية في الطبيعة، في البراءة الأصلية، فالأصل في الأشياء الإباحة. لقد استطاع علم الأصول بتحليله أحكام الوضع الخمسة ربط كل حُكمٍ بسبب وعلة وتعليقه على شرط وإقامته على القدرات الإنسانية (العزيمة والرخصة)، ابتداءً من النية (الصحة والبطلان). فليس المهم قطع يد السارق لأن شرط ذلك هو الكفاية، فلا تُقطَع يد السارق عن جوع أو بطالة أو حرمان أو عداء طبقي وحسد اجتماعي ولا تُقطع يدُ سارق الدرهم وتُترَكُ يدُ ناهب ثروات الشعوب من باطن الأرض ومن فوقها، صاحب البراميل أو إقطاعي الأرض أو رأسمالي المصنع. ولا يُرجم زانٍ في مجتمع لا يجد الإنسان فيه زواجاً فلا مَهرَ ولا سكنَ، وكلّ ما فيه الإثارة الجنسية في الصحف وأجهزة الإعلام، وعهر الحكام في كل مكان وتعرفه الشعوب من حديث الصحف الأجنبية.
2_ العلوم العقلية:
وهي العلوم الرياضية مثل الحساب، والجبر، والهندسة، والفلك، والموسيقى. والعلوم الطبيعية وهي النبات، والحيوان، والطبيعة، والكيمياء، والطب، والصيدلة. والعلوم الإنسانية وهي اللغة، والأدب، والجغرافيا، والتاريخ. وهي نموذج للعلوم التي أثّر فيها التوحيد وكان دافعاً على الكشف العقلي والإبداع العلمي. فهناك علاقة بين اللاتناهي وحساب اللامتناهي، وعلاقة أخرى بين التوجّه نحو الكواكب والنجوم ونشأة علم الفلك، وبين موسيقى القرآن ونشأة علم الموسيقى، وبين تصوّر القرآن للنبات والحيوان وإبرازه للحياة ونشأة علوم النبات والحيوان، وبين الطبيعة والكيمياء، ومقتضيات المجتمع الفاتح وحاجات الحرب في صناعة الأسلحة وعلوم الطب والصيدلة. وقد نشأت علوم اللغة والأدب من تحليل بلاغة القرآن وإعجازه، كما ارتبطت نشأة علوم الجغرافيا والتاريخ بخرائط البلاد المفتوحة، والتعرّف على العالم من أجل الاستخلاف عليه، والتفكير في سبب تقدم الأمم وانهيارها.
ولكننا انفصلنا عن هذا الجانب العقلي العلمي الإنساني الخالص الذي طوّره الغرب فكان وراء نهضته الحديثة. وأخذنا نحن ننقل العقلانية والعلمية والإنسانية الغربية التي هي تطوير لهذا الجانب فينا من تراثنا القديم. ثم عدنا نفتش عليه ونبعثه كفخر واعتزاز بالقديم دون أن يكون دافعاً على الإبداع الجديد، ورفضاً للنقل عن الغرب.
---------------------------------
المصدر : دراسات فلسفية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة