مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

كتاب مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن


الدرس الثالث :
استعرضنا فيما سبق المبررات الموضوعية والفكرية لايثار التفسير الموضوعي التوحيدي على التفسير التجزيئي التقليدي باعتبار أن التفسير الموضوعي أغنى عطاءا وأكثر قدرة على التحرك والأبداع وعلى تحديد المواقف النظرية الشاملة للقرآن الكريم .. الآن أود أن أذكر مبررا عمليا وهو ان شوط التفسير التقليدي شوط طويل جدا لانه يبدأ من سورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل اكماله الى فترة زمنية طويلة ايضا ولهذا لم يحض من علماء الاسلام الاعلام الا عدد محدود بهذا الشرف العظيم ، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته الى نهايته ونحن نشعر بأن هذه الايام المحدودة المتبقية لا تفي بهذا الشوط الطويل ولهذا كان من الافضل اختيار أشواط أقصر لكي نستطيع ان نكمل بضعة أشواط من هذا الجولان في رحاب القرآن الكريم . من هنا سوف نختار موضوعات متعددة من القرآن الكريم ونستعرض


( 32 )

ما يتعلق بذلك الموضوع وما يمكن أن يلقي عليه القرآن من أضواء . وسوف نحاول أن يكون البحث مربوطا بقدر الامكان لكي نستطيع أن نصل الى عدد من المواضيع المهمة . فنقتصر على الافكار الاساسية والمبادئ الرئيسية بالنسبة الى كل موضوع وسوف أحرص على أن لا يستوعب كل موضوع الا عددا محدودوا من المحاضرات . أرجو أن يكون بين خمس محاضرات الى عشر محاضرات لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوعة من القرآن الكريم .. الان نواجه هذا السؤال :
ما هو الموضوع الاول الذي سوف نبدأ به الان انشاء الله تعالى ؟
الموضوع الاول الذي سوف نختاره للبحث هو « سنن التاريخ في القرآن الكريم » ! هل للتاريخ البشري سنن في مفهوم القرآن الكريم ، هل له قوانين تتحكم في مسيرته وفي حركته وتطوره ، ما هي هذه السنن التي تتحكم في التاريخ البشري ، كيف بدأ التاريخ البشري ، كيف نما ، كيف تطور ، ما هي العوامل الاساسية في نظرية التاريخ ، ما هو دور الانسان في عملية التاريخ ، ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة الاجتماعية . هذا كله ما سوف ندرسه تحت هذا العنوان ، عنوان


( 23 )

سنن التاريخ في القرآن الكريم ، وهذا الجانب من القرآن الكريم قد بحث الجزء الاعظيم من مواده ومفرادته القرآنية لكن من زوايا مختلفة ، فمثلا قصص الانبياء (ع) التي تمثل الجزء الاعظم من هذه المادة القرآنية . بحثت قصص الانبياء من زاوية تاريخية تناولها المؤرخون واستعرضوا الحوادث والوقائع التي تكلم عنها القرآن الكريم ، وحينما لا حظوا الفراغات التي تركها هذا الكتاب العزيز ، حاولوا ان يملؤا هذه الفراغات بالروايات والاحاديث ، او بما هو المأثور عن أديان سابقة ، أو بالاساطير والخرافات فتكونت سجلات ذات طابع تاريخي لتنظيم هذه المادة القرآنية ، كذلك أيضاً بحثت هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى ، من زاوية منهج القصة في القرآن ، مدى ما يتمتع به هذا المنهج من أصالة وقوة وابداع ، ما تزخر به القصة القرآنية من حيوية ، من حركة ، من أحداث ، هذا أيضا زاوية أخرى للبحث في هذه المادة يضاف الى زوايا عديدة . نحن الآن نريد ان نتناول هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى ، من زاوية مقدار ما تلقي هذه المادة من أضواء على سنن التاريخ ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكم في عملية التاريخ اذا كان يوجد في مفهوم القرآن شيء من هذه النواميس والضوابط والقوانين .


( 34 )

الساحة التاريخية كأي ساحة أخرى زاخرة بمجموعة من الظواهر كما ان الساحة الفلكية ، الساحة الفيزيائية ، الساحة النباتية زاخرة بمجموعة من الظواهر ، كذلك الساحة التاريخية بالمعنى الذي سوف نفصل من التاريخ انشاء الله بعد ذلك ، زاخرة بمجموعة من الظواهر ، كما ان الظواهر في كل ساحة أخرى من الساحات لها سنن ولها نواميس فمن حقنا أن نتساءل : هل ان هذه الظواهر التي تزخر بها الساحة التاريخية ، هل هذه الظواهر ايضا ذات سنن وذات نواميس ، وما هو موقف القرآن الكريم من هذه السنن والنواميس ، وما هو عطاؤه في مقام تأكيد هذا المفهوم ايجابا أو سلبا ، اجمالا أو تفصيلا ، وقد يخيل الى بعض الاشخاص ، اننا لا ينبغي ان نترقب من القرآن الكريم أن يتحدث عن سنن التاريخ ، لان البحث في سنن التاريخ بحث علمي كالبحث في سنن الطبيعة والفلك والذرة والنبات ، والقرآن الكريم لم ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هداية ، القرآن الكريم لم يكن كتابا مدرسيا ، لم ينزل على رسول الله (ص) بوصفه معلما بالمعنى التقليدي من المعلم لكي يدرس مجموعة من المتخصصين والمثقفين ، وانما نزل هذا الكتاب عليه ليخرج الناس من الظلمات الى النور ، من ظلمات الجاهلية الى نور


( 35 )

الهداية والاسلام . اذن فهو كتاب هداية وتغيير وليس كتاب اكتشاف ، ومن هنا لا نترقب من القرآن الكريم ان يكشف لنا الحقائق والمبادئ العامة للعلوم الاخرى ولا نترقب من القرآن الكريم ان يتحدث لنا عن مبادئ الفيزياء أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان ، صحيح أن في القرآن الكريم اشارات الى كل ذلك ، ولكنها اشارت بالحدود التي تؤكد على البعد الالهي للقرآن ، وبقدر ما يمكن أن يثبت العمق الرباني لهذا الكتاب الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل والذي استطاع أن يسبق التجربة البشرية مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق متفرقة في الميادين العلمية المتفرقة ، لكن هذه الاشارات القرآنية انما هي لاجل غرض عملي من هذا القبيل لا من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء . القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن قدرة الانسان الخلاقة ، عن مواهبه وقابلياته في مقام الكدح ، الكدح في كل ميادين الحياة بما في ذلك ميدان المعرفة والتجربة ، القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن هذه الميادين ، وانما طرح نفسه طاقة روحية موجهة للانسان ، مفجرة طاقاته ، محركة له في المسار الصحيح . فاذا كان القرآن الكريم كتاب هداية وتوجيه وليس كتاب اكتشاف وعلم فليس من الطبيعي أن


( 36 )

نترقب منه استعراض مبادئ عامة لأي واحد من هذه العلوم التي يقوم الفهم البشري بمهمة التوغل في اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها ، لماذا ننتظر من القرأن الكريم أن يعطينا عموميات ، أن يعطينا مواقف ، أن يبلور له مفهوما علميا في سنن التاريخ على هذه الساحة من ساحات الكون بينما ليس للقرآن مثل ذلك على الساحات الاخرى ، ولا حرج على القرآن في ان لا يكون له ذلك على الساحات الاخرى . لان القرآن لو صار لمقام استعراض هذه القوانين ، وكشف هذه الحقائق لكان بذلك يتحول الى كتاب آخر نوعيا ، يتحول من كتاب للبشرية جمعاء الى كتاب للمتخصصين يدرس في الحلقات الخاصة ، قد يلاحظ بهذا الشكل على اختيار هذا الموضوع الا ان هذه الملاحظة رغم ان الروح العامة فيها صحيحة بمعنى ان القرآن الكريم ليس كتاب اكتشاف ، ولم يطرح نفسه ليجمد في الانسان طاقات النمو والابداع والبحث ، وانما هو كتاب هداية ، ولكن مع هذا يوجد فرق جوهري بين الساحة التاريخية وبقية ساحات الكون ، هذا الفرق الجوهري يجعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمرا مرتبطا أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هداية ، خلافا لبقية الساحات الكونية والميادين الاخرى


( 37 )

للمعرفة البشرية ، وذلك ان القرآن الكريم كتاب هداية وعملية تغيير هذه العملية التي عبر عنها في القرآن الكريم بأنها اخراج للناس من الظلمات الى النور ، وعملية التغيير هذه فيها جانبان « الجانب الاول » جانب المحتوى المضمون اليه هذه العملية التغييرية من احكام ، من مناهج ، ما تتبناه من تشريعات ، هذا الجانب من عملية التغيير جانب رباني ، جانب الهي سماوي ، هذا الجانب يمثل شريعة الله سبحانه وتعالى التي نزلت على النبي محمد (ص) وتحدت بنفس نزولها عليه كل سنن التاريخ المادية لان هذه الشريعة كانت اكبر من الجو الذي نزلت عليه ، ومن البيئة التي حلت فيها ، ومن الفرد الذي كلف بأن يقوم بأعباء تبليغها . هذا الجانب من عملية التغيير ، جانب المحتوى والمضمون ، جانب التشريعات والاحكام والمناهج التي تدعو اليها هذه العملية ، هذا الجانب جانب رباني الهي ، لكن هناك جانب آخر عملية التغيير التي مارسها النبي (ص) وأصحابه الاطهار ، هذه العملية حينما تلحظ بوصفها عملية متجسدة في جماعة من الناس وهم النبي والصحابة ، بوصفها عملية اجتماعية متجسدة في هذه الصفوة ، وبوصفها عملية قد واجهت تيارات اجتماعية مختلفة من حولها واشتبكت


( 38 )

معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائدي والاجتماعي والسياسي والعسكري ، حينما تؤخذ هذه العملية التغييرية بوصفها تجسيدا بشريا على الساحة التاريخية مترابطا مع الجماعات والتيارات الاخرى التي تكتنف هذا التجسيد والتي تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد ، حينما تؤخذ العملية من هذه الزاوية تكون عملية بشرية ، يكون هؤلاء اناسا كسائر الناس تتحكم فيهم الى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكم في بقية الجماعات وفي بقية الفئات على مر الزمن . اذن عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي (ص) لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي ومصادر الوحي ، هي ربانية ، هي فوق التاريخ ولكن من حيث كونها هي عملا قائما على الساحة التاريخية ، من حيث كونها جهدا بشريا يقاوم جهودا بشرية اخرى ، من هذه الناحية يعتبر هذا عملا تاريخيا تحكمه سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط التي وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية ولهذا نرى ان القرآن الكريم حينما يتحدث عن الزاوية الثانية ، عن الجانب الثاني من عملية التغيير يتحدث عن أناس ، يتحدث عن بشر ، لا يتحدث عن رسالة


( 39 )

السماء ، بل يتحدث عنهم بوصفهم بشرا من البشر تتحكم فيهم القوانين التي تتحكم في الاخرين حينما أراد أن يتحدث عن انتصار المسلمين في غزوة أحد بعد ان احرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر ، بعد ذلك انكسروا وخسروا المعركة في غزوة أحد ، تحدث القرآن الكريم عن هذه الخسارة ، ماذا قال ، هل قال بان رسالة السماء خسرت المعركة بعد ان كانت ربحت المعركة ؟ لا .. لان رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى المادي ، رسالة السماء لا تهزم ، ولن تهزم ابدا ، ولكن الذي يهزم هو الانسان ، الانسان حتى ولو كان هذا الانسان مجسدا لرسالة السماء ، لان هذا الانسان تتحكم فيه سنن التاريخ ، ماذا قال القرآن ؟ قال « وتلك الايام نداولها بين الناس » (1) . هنا اخذ يتكلم عنهم بوصفهم اناسا قال بان هذه القضية هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ ، المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض ان ينتصروا ، وخسروا المعركة في اُحد حينما كانت الشروط الموضوعية في معركة اُحد تفرض عليهم ان يخسروا المعركة . « ان يمسكم قرح فقد
____________
(1) سورة آل عمران : الآية (140) .
( 40 )

مس القوم قرح مثله » (1) ، « وتلك الايم نداولها بين الناس » لا تتخيلوا ان النصرن حق الهي لكم ، وانما النصر حق طبيعي لكم بقدر ما يمكن ان توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى كونيا لا تشريعيا ، وحيث انكم في غزوة اُحد لم تتوفر لديكم هذه الشروط ولهذا خسرتم المعركة . فالكلام هنا كلام مع بشر ، مع عملية بشرية لا مع رسالة ربانية ، بل يذهب القرآن الى اكثر من ذلك ، يهدد هذه الجماعة البشرية التي كانت انظف واطهر جماعة على مسرح التاريخ ، يهددهم بانهم اذا لم يقوموا بدورهم التاريخي ، واذا لم يكونوا على مستوى مسؤولية رسالة السماء فان هذا لا يعني ان تتعطل رسالة السماء ، ولا يعني ان تسكت سنن التاريخ عنهم بل انهم سوف يستبدلون ، سنن التاريخ سوف تعزلهم وسوف تأتي بأمم اخرى قد تهيأت لها الظروف الموضوعية الافضل لكي تلعب هذا الدور ، لكي تكون شهيدة على الناس اذا لم تتهيأ لهذه الامة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة « الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ، ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء
____________
(1) نفس الآية السابقة .
( 41 )

قدير » (1) ، « يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم .. » (2) . اذن فالقرآن الكريم انما يتحدث مع الجانب الثاني من عملية التغيير ، يتحدث مع البشر في ضعفه وقوته ، في استقامته وانحرافه ، في توفر الشروط الموضوعية له وعدم توفرها . من هنا يظهر بان البحث في سنن التاريخ مرتبط ارتباطا عضويا شديدا بكتاب الله بوصفه كتاب هدى ، بوصفه اخراج للناس من الظلمات الى النور لان الجانب العملي من هذه العملية ، الجانب البشري يخضع لسنن التاريخ ، فلا بد اذن ان نستلهم ، ولا بد اذن ان يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءات في هذا المجال لتكوين اطار عام للنظرة القرآنية والاسلامية عن سنن التاريخ . اذن هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات ، تلك السنن ليست داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التاريخ ولكن هذه السنن داخلة في
____________
(1) سورة التوبة : الآية ( 39 ) .
(2) سورة المائدة : الآية ( 54 ) .

( 42 )

نطاق التأثير المباشر على عملية التغيير . باعتبار الجانب الثاني ، اذن لا بد من شرح ذلك ولا بد ان نترقب من القرآن اعطاء عموميات في ذلك ، نعم لا ينبغي ان نترقب من القرآن ان يتحول ايضا الى كتاب مدرسي في علم التاريخ وسنن التاريخ بحيث يستوعب كل التفاصيل وكل الجزئيات حتى ما لا يكون له دخل في منطق عملية التغيير التي مارسها النبي (ص) وانما القرآن الكريم يحتفظ دائما بوصفه الاساسي والرئيسي ، يحتفظ بوصفه كتاب هداية ، كتاب اخراج للناس من الظلمات الى النور ، وفي حدود هذه المهمة الكبيرة العظيمة التي مارسها يعطي مقولاته على الساحة التاريخية ويشرح سنن التاريخ بالقدر الذي يلقي ضوءا على عملية التغيير التي مارسها النبي (ص) بقدر ما يكون موجها وهاديا وخالقا لتبصر موضوعي للاحداث والظروف والشروط . ونحن في القرآن الكريم نلاحظ ان الساحة التاريخية عامرة بسنن كما عمرت كل الساحات الكونية الاخرى بسنن . هذه الحقيقة نراها واضحة في القرآن الكريم ، فقد بينت هذه الحقيقة باشكال مختلفة وبأساليب متعددة في عدد كثير من الآيات بينت على مستوى اعطاء نفس هذه المفهوم بالنحو الكلي ، ان للتاريخ سنن وان للتاريخ قوانين ، وبينت هذه الحقيقة في آيات اخرى


( 43 )

على مستوى عرض هذه القوانين وبيان مصاديق ونماذج وامثلة من هذه القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للانسان وبينت في سياق آخر على نحو تمتزج فيه النظرية مع التطبيق أي بين المفهوم الكلي وبين في اطار مصداقه وفي آيات اخرى حصل الحث الاكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية وشحذ الهمم لايجاد عملية استقراء للتاريخ وعملية الاستقراء للحوادث كما تعلمون هي عملية علمية بطبيعتها ، تريد ان تفتش عن سنة عن قانون والا فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنة او قانون . اذن هناك السنة متعددة درجت عليها الآيات القرآنية في مقام توضيح هذه الحقيقة وبلورتها .


( 44 )

الدرس الرابع :
قلنا ان هذه الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ بلورت في عدد كثير من الآيات باشكال مختلفة وألسنة متعددة في بعض هذه الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية وفي بعض الآيات اعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج ، في بعض الآيات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخية من اجل الوصول الى السنة التاريخية وهناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة وبعض هذه الآيات التي سنستعرضها واضح الدلالة على المقصود والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر او يكون معززا ومؤيدا للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية ... فمن الآيات الكريمة التي اعطيت فيها الفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن وضوابط ما يلي : « لكل امة أجل اذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة


( 45 )

ولا يستقدمون » (1) . « ولكل امة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » (2) .
نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين ان الاجل اضيف الى الامة ، الى الوجود المجموعي للناس ، لا الى هذا الفرد بالذات او هذا الفرد بالذات ، اذن هناك وراء الاجل المحدود المحتوم لكل انسان بوصفه الفردي ، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الافراد ، للامة بوصفها مجتمعا ينشيء ما بين افراده العلاقات والصلات القائمة على مجموعة من الافكار والمبادىء المسندة بمجموعة من القوى والقابليات . هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة . هذا له أجل ، له موت ، له حياة ، له حركة ، كما ان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الامة تكون حية ثم تموت ، وكما ان موت الفرد يخضع لاجل ولقانون ولناموس كذلك الامم لها آجالها المضبوطة وهناك نواميس تحدد لكل امة هذا الاجل ، اذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الافراد ، بهوياتهم الشخصية « وما اهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم
____________
(1) سورة يونس : الآية (49) .
(2) سورة الاعراف : الآية (34) .

( 46 )

ما تسبق من امة أجلها وما يستأخرون » (1) . « ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون » (2) . « او لم ينظروا في ملكوت السموات والارض وما خلق الله من شيء وان عسى ان يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون » (3) .
ظاهر الآية الكريمة ان الاجل الذي يترقب ان يكون قريبا او يهدد هؤلاء بأن يكون قريبا هو الاجل الجماعي لا الاجل الفردي لان قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وانما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن ان يكون قد اقترب أجله . فالاجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة لا عن حالة قائمة بهذا الفرد او بذاك ، لان الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر اليها بالمنظار الفردي ، لكن حينما ننظر اليهم بالمنظار الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، في سرائها وضرائها ، حينئذ يكون لها أجل واحد . فهذا الاجل الجماعي المشار اليه انما هو أجل الامة وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة ... « وربك الغفور ذو الرحمة لو
____________
(1) سورة الحجر : الآية : (4ـ5) .
(2) سورة المؤمنون : الآية (43) .
(3) سورة الاعراف : الآية (185) .

( 47 )

يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى اهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكم موعدا » (1) . « ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها دابة ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » (2) . « ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم فان الله كان بعباده خبيرا » (3) .
في هاتين الآيتين الكريمتين تحدث القرآن الكريم عن انه لو كان الله يريد ان يؤاخذ الناس بظلمهم وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة ولا هلك الناس جميعا . وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني حيث ان الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة ، فيهم الانبياء ، فيهم الائمة الاوصياء هل يشمل الهلاك الانبياء والائمة العدول من المؤمنين ، حتى ان بعض الناس أستغل هاتين الآيتين لانكار عصمة الانبياء (ع) والحقيقة ان هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب أخروي ، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما
____________
(1) سورة الكهف : الآية (58ـ59) .
(2) سورة النحل : الآية (61) .
(3) سورة فاطر : الآية (45) .

( 48 )

تكسبه امة عن طريق الظلم والطغيان ، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من ابناء المجتمع بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هوياتهم وعلى اختلاف انحاء سلوكهم . حينما وقع التيه على بني اسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرده ، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني اسرائيل وانما شمل موسى (ع) شمل اطهر الناس واذكى الناس ، واشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت ، لان موسى (ع) جزء من تلك الامة وقد حل الهلاك بها قد قرر نتيجة ظلمهم ان يتيهوا أربعين عاما وبهذا شمل التيه موسى (ع) . حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم واموالهم واعراضهم وعقائدهم ، حينما حل هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الاسلامي ، وقتئذ شمل الحسين (ع) ، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس وأعدل الناس . شمل الامام المعصوم (ع) فقتل تلك القتلة الفظيعة هو واصحابه وأهل بيته ، هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ ، لا يختص بالظالمين من ابناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية اخرى « واتقوا فتنة لا


( 49 )

تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب » (1) بينما يقول في موضع آخر « ولا تزر وازرة وزر اخرى » (2) . فالعقاب الاخروي دائما ينصب على العامل مباشرة ، وأما العقاب الدنيوي فيكون اوسع من ذلك ، اذن هاتان الآيتان تتحدثان عن سنن التاريخ لا عن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمقاييس يوم القيامة بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الامة ، سعي الامة ، جهد الامة ... « وان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها واذن لا يلبثون خلافك الا قليلا سنة من قد ارسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا » (3) .
هذه الآية الكريمة أيضا تؤكد المفهوم العام ، يقول « ولا تجد لسنتنا تحويلا » ، هذه سنة سلكناها مع الانبياء من قبلك وسوف تستمر ولن تتغير ، أهل مكة يحالون أن يستفزوك لتخرج من مكة لانهم عجزوا عن امكانية القضاء عليك وعلى كلمتك وعلى دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد وهو اخراجك من مكة .
وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي شرحها بعد
____________
(1) سورة الانفال : الآية (25) .
(2) سورة فاطر : الآية (18) .
(3) سورة الاسراء : الآية (76ـ77) .

( 50 )

ذلك يشار اليها في هذه الآية الكريمة . وهي أنه اذا وصلت عملية المعارضة الى مستوى اخراج النبي من هذا البلد بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الاخرى فانهم لا يلبثون بعده الا قليلا . ليس المقصود من انهم لا يلبثون الا قليلا يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء ، لان أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة . استفزوه وارعبوه وخرج النبي (ص) من مكة اذ لم يجد له أمانا وملجأ فيها فخرج الى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ، وانما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كأناس ، كبشر ، وانما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، لا يمكثون الا قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا . فان رسول الله (ص) حين أخرج من مكة لم يمكثوا بعده الا قليلا ، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة الى جزء من دار الاسلام بعد سنين معدودة .
اذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول « ولا تجد لسنتنا تحويلا » « قد خلت من


( 51 )

قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين » (1) . تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لاحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن والاعتبار بها ، « ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين ... » (2) . هذه الآية ايضا تثبت قلب رسول الله (ص) ، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربطه بقانون التجارب السابقة توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الانبياء الذين مارسوا التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر والثبات واستكمال الشروط ، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر ، ولهذا يقول « فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى اتاهم نصرنا ، لا مبدل لكلمات الله » اذن هناك كلمة لله لا تتبدل على مر التاريخ هذه الكلمة هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت في آيات متفرقة وجمعت على وجه الاجمال هنا . اذن فهناك سنة للتاريخ « ... فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا
____________
(1) سورة آل عمران : الآية (137).
(2) سورة الانعام : الآية (34) .

( 52 )

استكبارا في الارض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء الا بأهله فهل ينظرون الا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا » (1) . « لو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا » (2) .
هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ « ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (3) المحتوى الداخلي النفسي والروحي للانسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي الا وفقا لتغير القاعدة على ما يأتي انشاء الله شرحه بعد ذلك . هذه الآية اذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للانسان وبين الوضع الاجتماعي ، بين داخل الانسان وبين خارج الأنسان ، فخارج الأنسان يصنعه داخل الانسان ، مرتبط بداخل الانسان ، فاذا تغير ما بنفس القوم تغير وضعهم ، وعلاقاتهم والروابط التي تربط بعضهم ببعض . اذن فهذه سنة
____________
(1) سورة فاطر : الآية (43) .
(2) سورة الفجر : الآية (23) .
(3) سورة الرعد : الآية (11) .

( 53 )

من سنن التاريخ ربطت القاعدة بالبناء العلوي « ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (1) . « أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله الا ان نصر الله قريب » (2) . يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنن التاريخ ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الامم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل الى حد الزلزال على ما عبر القرآن الكريم ، ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة ، هي امتحان لارادة الامة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس . اذن نصر الله قريب لكن النصر له طريق . هكذا يريد ان يقول القرآن . نصر الله ليس أمرا عفويا ، ليس أمرا على سبيل الصدفة ، ليس امرا عمياويا . نصر الله قريب
____________
(1) سورة الانفال : الآية (53) .
(2) سورة البقرة : الآية (214) .

( 54 )

ولكن اهتدي الى طريقه ، الطريق لا بد ان تعرف فيه سنن التاريخ ، لا بد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي فيه الى نصر الله سبحانه وتعالى ، قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن اذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي الى اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه .
اذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكن الانسان من التوصل الى النصر . فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ « ... وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به كافرن وقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين .. » (1) . هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ وبين موقع المترفين والمسرفين في الامم والمجتمعات . هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة والا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال « وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها » اذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض ، بين
____________
(1) سورة سبأ : الآيات (34ـ35) .

 

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله