كلمات حول السيد الشهيد الصدر الاول محمد الحسيني

في مدينة (الكاظمية) من ضواحي العاصمة العراقية (بغداد) ولد الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وبالتحديد في يوم الاحد في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من عام (1352هـ)، الموافق للثامن والعشرين من شهر شباط/ فبراير من عام (1935م).

كان مولده مبعث فرحة عارمة اهتزت لها جوانب البيت الذي ضمّ السيد حيدر الصدر وكريمة آل ياسين، وقد مضى على أول وليد لهما ما يربو على عشرة أعوام. وها هو الوليد الثاني يطل عليهما بالفرح والسرور والالفة والمودة. لكن القدر فاجأ البيت ودخله دون استئذان فهز أركانـه بقـوة معلناً وفاة الاب (السيد حيدر الصدر). كان ذلك في عام (1356 هـ) ولم يمض على ولادة الشهيد الصدر ما يزيد على ثلاثة أعوام.

لم يع الشهيد الصدر أو يدرك فصلا من حياة أبيه، ولم تحمل ذاكرته شيئاً ينتمي الى تلك المرحلة. لكنه ـ لابد ـ شكّل في ذهنه صورة عن أبيه، صنعها من أحاديث كبار الاسرة، الام والاخوال والاخ الاكبر، الام التي سهرت على أولادها (اسماعيل، محمد باقر، آمنة) وظلت عاكفة عليهم، تنميتهم في ظل مجد عريق وتغذيهم من ذلك النبع الصافي الذي استقى منه الاب (الراحل) والاجداد، أجداد الاب والام معاً.

وقد نشأ وترعرع الشهيد الصدر في الكاظمية ما يقرب من ثلاث عشرة سنة دخل أثناءها مدرسة (منتدى النشر الابتدائية) التي أسسها السيد مرتضي العسكري والمرحوم أحمد أمين سنة (1362) هـ وقد يكون عمره الشريف يوم انتشابه اليها تسعة أعوام او قريباً من ذلك.

وفي تلك الفترة لفت وجوده انتباه الهيئة التدريسة ومشرفي المدرسة لما يتمتع به من نبوغ وذكاء استثنائيين، الا أنّه مع ذلك كان كثير التغيب عن المدرسة مع مواظبته على حضور الامتحانات التي يؤديها بنجاح باهر.

وقد لاحظ عليه اساتذته ان اهتماماته الفكرية تتجاوز عمره بكثير من قبيل اطلاعه في تلك السنّ المبكرة على الفلسفة الماركسية فضلا عن مطالعاته المتنوعة واطلاعه على الاعمال الفكرية لعدد من مشاهير الغرب.

ولم يشأ الشهيد الصدر مواصلة الدراسة في (منتدى النشر) اذ تركها في وقت مبكر وقد تكون مدة وجوده فيها ثلاثة اعوام او اكثر قليلا.

في العام (1365) هـ انتقل السيد الشهيد الى النجف الاشرف بمعية أخيه الأكبر السيد اسماعيل الصدر الذي اكمل تحصيله العلمي في الكاظمية وليواصله على مستوى أعلى في النجف الأشرف.

هذه الرحلة ستفتح للشهيد الصدر افاقاً جديدة للعلم والفكر لم يعهدها في الكاظمية التي كانت في يوم من الأيام مركزاً علمياً مرقوماً، الا انها سرعان ما انحسرت عن دورها وذوت أمام تطاول النجف الاشرف وتمركز العلم فيها.

ولم يكن للنجف برجالها وحلقاتها الدراسية ومدارسها الدينية العامرة على قلتها يومذاك أن تستغرب دخول هذا الفتى الذي لم يبلغ الثالثة عشرة سنة، فهو ابن اُسرة علمية معروفة تخرج منها عشرات الاعلام. فأبوه السيد حيدر الصدر ـ على رغم وفاته مبكراً ـ كان واحداً من أشهر الفقهاء، واشكالياته العلمية في علم الاصول ـ خاصة ـ تجري على ألسنة أعلام النجف الاشرف. نعم لم تكن النجف لتستغرب حضور الشهيد واختلافه على حلقات الدروس وموائد العلم والمعرفة المنتشرة في الصحن الحيدري والمساجد الكبيرة في النجف ومدارسها الدينية المخصصة لسكن الطلاب ودراستهم، خاصة وانه كان يعيش في ظل أخواله أعلام آل ياسين وفي مقدمتهم فقيه النجف الشيخ محمد رضا آل ياسين.

تاريخياً لا نعرف ـ على وجه الدقة ـ متى بدأ الشهيد الصدر حياته الدراسية وانقطاعه الى العلوم الاسلامية، كما أننا لا نعرف الكتب التي درسها والظرف الزمني الذي استغرق في ضبطها والتوفر على مضامينها الفكرية، الا ان السيد الحائري(1) نقل عن السيد عبد الغني الاردبيلي أنه ـ اعني الشهيد الصدر ـ قرأ (المنطق) وهو في الحادية عشرة من عمره، كما انه قرأ كتاب (معالم الاصول) فى أوائل السنة الثانية عشرة من عمره.

كان ذلك في الكاظمية كما يبدو، أمّا في النجف الاشرف فالأمر لا يخلو من غموض اذ لم نتوفر على معلومات كافية ودقيقة، ويفترض انه انصرف الى دراسة المرحلة الثانية وهي ما تعرف بـ (السطوح)، وقد ذكر السيد الحائري ان الشهيد الصدر قرأ اكثر أبحاث هذه المرحلة بلا استاذ معتمداً على قدراته الذاتية(2)، وهو مّما لا يمكن استبعاده بالنسبة للشهيد الذي تميز بذكاء وعبقرية استثنائيين.

وكنت اعتقد الى وقت قريب أنّه لم يحضر في مرحلة (السطوح) عند أحد من أعلام النجف الاشرف، وأنه اكتفى بالحضور عند أخيه السيد اسماعيل الصدر، سواء أكان ذلك في الكاظمية أم في النجف الاشرف بعد انتقاله اليها، وقد سجلت ذلك الاعتقاد فيما كتبته عن الشهيد الصدر، ولم يكن اعتقادي هذا نابع عن عاطفة غامرة تهدف الى اشاعة هالة من القداسة وجو من الاعجاز وخوارق العادات، وانما كان لعدم التوفر على معلومات كافية في هذا المجال. ولا أدعي اني توفرت عليها، فلا زالت عدة حلقات من حياة الشهيد الصدر الثقافية مفقودة للأسف بسبب خلفية عدد من العوامل لسنا بصددها، الا اني اطلعت على عدة معطيات يمكن على ضوئها رسم صورة اكثر دقة من سابقتها عن حياة الشهيد الصدر الفكرية في بداياتها وانطلاقتها.

وعوداً على بدء يمكن القول ان حياة الشهيد الصدر العلمية بدأت بشكل طبيعي ولم تخرج عن نظام الحوزة، فقد دخل الحوزة من الباب المألوف بدءاً بمرحلة المقدمات ومروراً بمرحلة السطوح وانتهاء بمرحلة السطوح العليا المعروفة بـ (البحث الخارج)، الا انّه لم يرض لنفسه أن يكون أسير تلك النظم التي وضعت لطالب متوسط القدرات فتعاطى معها بالطريقة التي تتناسب وطاقاته وقدراته الخلاقة.

_________________________

1 ـ الحائري، المرجع السابق، ص42.
2 ـ الحائري، المرجع السابق، ص42.

************


وأعتقد أنّه أنهى دراساته التمهيدية (المقدمات) معتمداً على قدراته الذاتية وبمعونة أخيه السيد اسماعيل الصدر وأنّه أتمها جميعا في الكاظمية قبيل هجرته الى النجف الاشرف، وأظنه لم يكف عن طريقته هذه في دراساته اللاحقة (السطوح) الا انه فيما يبدو حضر عند عدد من الاساتذة واظن انه كان حضور استكشاف ومحاولة لاختبار امكانيات الاساتذة وفيما اذا كانوا يشبعون رغبته العلمية(1)، ولا يحفظ لنا التاريخ شيئاً عن سيره الثقافي في هذه المرحلة سوى أنّه حضر لوقت قصير لدراسة كتاب (اللمعة الدمشقية) عند الشيخ محمد تقي الجواهري (المولود 1341هـ ـ ولا يزال مصيره مجهولا في سجون النظام العراقي) في مدرسة الخليلي الكبرى(2). وأكده لي نجله الشيخ حسن مشافهة عن والده. وقد واظب الشهيد الصدر على طريقته الخاصة في دراسة المناهج (الكتب) المقررة التي اعتمد فيها بشكل مباشر على امكاناته وقدراته الذاتية في مرحلة (السطوح العالية) تلك المرحلة التي تؤهل الطالب للدراسات العليا (بحث الخارج). واعتاد الطلاب في هذه المرحلة دراسة كتابين مهمين ومعروفين هما (المكاسب) في الفقه للشيخ الانصاري و (الكفاية) في الاصول للشيخ الآخوند الخراساني، وهي كتب يفتقر الى دراستها الى أُستاذ متخصص وعالي القدرات، ويبدو أنه وان لم يفارق طريقته الخاصة المشار اليها آنفاً، حضر عند عدد من الاساتذة وهم: الشيخ محمد تقي الجواهرى، حضر عنده الشهيد الصدر لدراسة كتاب (الكفاية) والسيد باقر الشخص (1381) هـ وقد حضر عنده السيد الشهيد قسماً من كتاب (الكفاية) أيضاً.ونعرف ان السيد الشخص كان كثير الاشادة بالشهيد الصدر والتنويه بذكائه وعبقريته.

_________________________

1 ـ نقل لي ذلك (عن الشهيد الصدر) في مقابلة خاصة الشيخ محمد رضا النعماني في قم بتاريخ 28/7/1994.
2 ـ سمعته شخصياً من السيد محمد عبد الحكيم الصافي وذكر لي أن مكان الدرس كان في غرفته بمدرسة الخليلي التي شاركه بها الشيخ الجواهري، وقد ضم الدرس ايضاً السيد حسين بحر العلوم وقد ذكر السيد الصافي ان ذلك كان لأيام قليلة.

************


والسيد محمد الروحاني (لا يزال حياً)، ويبدو ان الشهيد الصدر حضر عنده (الكفاية) و(المكاسب) وقد أكد لي هو شخصياً ان الشهيد الصدر حضر عنده درس (الكفاية) لمدة شهرين ثم حضر عنده درس (المكاسب)(1).

وأقدر ان الشهيد الصدر أكمل دراسته للمرحلة الثانية (السطوح) في ظرف زمني قصير لا يتجاوز في أكثر التقديرات أربعة أعوام، ابتداء من عام (1365) هـ الى ما قبل (1370) هـ عام وفاة خاله الفقيه الشيخ محمد رضا آل ياسين الذي حضر بحثه وهو يصنف علمياً في مرحلة الدراسات العليا. كما أنه ألف في العام (1371) هـ كتابه (غاية الاصول) وهو ما يؤكد أنه كان في ذلك التاريخ قد تجاوز بكثير مرحلة (السطوح) نظراً لتعقيد موضوعه.

ولا أستبعد ـ وفقاً لما بين يدي من معطيات ـ أن يكون الشهيد الصدر بذل جهداً استثنائياً ـ مع ذكائه المنقطع النظير ـ أهله لحضور دروس ما يسمى بالسطح العالي ودروس بحث الخارج.

_________________________

1 ـ في لقاء خاص تشرفت بحضور لقاء الفقيه السيد محمد الروحاني بداره في ( قم ) بتاريخ 7 / 8 / 1994


************

الأمل المنشود

دخل الشهيد الصدر النجف وهو يسمع بملء أذنيه الأسماء اللامعة في سماء النجف (الخراساني، النائيني، العراقي، الاصفهاني..) ها هو الآن يدخل عالم (النجوم اللامعة) في فضاء هذا المركز العلمي العريق، ولعله يفقوهم وهو يطوي المراحل في زمن قياسي وخارق للعادة، فقد دخلها طالباً في العام (1365) هـ وفى العام (1374) هـ يبرز اسمه كأحد مشاهير النجف الاشرف ومفكريها، الى درجة معها يحتل فيما بعد موقع أحد أبرز مفكري الاسلام في عموم البلاد الاسلامية.

وفي العام (1381) هـ انتظمت حلقاته الدراسية العالية، وكان يعقدها يومذاك في (مقبرة) أخواله آل ياسين، كما هو المعروف في النجف الاشرف، اذ تنتظم حلقات الدروس في المدارس او المساجد او مراقد العلماء. والتف حوله نفر من خيرة أبناء مدرسة النجف الاشرف، وأخذت حلقته الدراسية تتسع وتكبر يوماً بعد يوم لتستوعب اعداداً اكبر من الطلاب على اختلاف جنسياتهم.

لم تمض مدة طويلة فقد لمع أسمه في قائمة المراجع، وبالتحديد عقيب وفاة السيد محسن الحكيم، اذ كان في تلك الفترة منهمكاً في دعم مرجعية السيد الحكيم سياسياً واجتماعياً وفكرياً، وعلى مستوى (الحوزة) كانت (مدرسة العلوم الاسلامية) المعروفة بـ (الدورة) من بنات أفكاره(1)، وهي عبارة عن صيغة جديدة للدراسة ومحاولة لاصلاح الاطار التعليمي في الحوزة، فيما لعب السيد الصدر دوراً كبيراً في تنظيم علاقات المرجعية وتطوير علاقة الاطراف بالمركز عبر اختيار الكوادر الفعّالة والعاملة. وقد تضخم دوره على المستوى السياسي حيث كان الشهيد الصدر (العقل) السياسي المدبر لكثير من حركة المرجعية ابان عهد السيد الحكيم، وبذل في سبيلها ما وسعته قدرته والظروف الموضوعية آنذاك، وكان همّه الرئيس والأساس دعم مرجعية السيد الحكيم وان في الظروف الصعبة التي عاشتها أواخر عهدها.

عقيب وفاة السيد الحكيم رجحت مرجعية السيد الخوئي، وكان يفترض ان يكون تفاعل الشهيد الصدر معها أشد وعلاقته بها أوثق، الا ان للمسألة في نظر الشهيد الصدر وجهاً مختلفاً، اذ لا يسمح لهذه الأطر التقليدية أن تتحكم بعلاقته مع الكيان المرجعي، فهو في الوقت الذي لم يكن فيه من تلامذة السيد الحكيم او ممن يحسب عليه لم يأل جهداً في مساندة مرجعيته ودعمها دونما اعتبار للعلامات (الفارقة) التي ترسم الحدود بين مرجعية هذا أو ذاك.

طبعاً لا نزعم أن الشهيد الصدر لا تعنيه مرجعية السيد الخوئي ولم يكن بصدد دعمها او التعاطي معها، اذ الأمر على العكس تماماً، فهو على صلة وثيقة بالسيد الخوئي بحكم العلاقة العلمية، وهو ما يسهل عملية التعامل ويمنحها دفعاً قوياً وهو ما حصل بالفعل اذ سعى السيد الصدر للاتصال المباشر بالسيد الخوئي واتفق معه على تنظيم العمل التبليغي وتوزيع وكلاء المرجعية بعيداً عن العشوائية والفردية. كان ذلك بعد عام (1972/1392) وبمقتضى هذا التنسيق تم توزيع عدد كبير من أفاضل علماء (حوزة) النجف على معظم المناطق العراقية وفقاً لاحتياجاتها الفعلية والمستقبلية.

أمّا قبل هذا التاريخ فقد كان التنسيق مع مرجعية السيد الخوئي يتم بطريق غير مباشر وعبر وسائط يتم عبرها التفاهم مع مرجعية السيد الخوئي، اذ يتم ترشيخ (الوكيل ـ الممثل) من قبل السيد الصدر او المنطقة وأحياناً من قبل شخصيات حزب الدعـوة الاسلامية وطرحـه على السيد الخوئي الذي كان غالباً ما يمضي هذا الترشيح ويوافق عليه(2).

_________________________

(1) البهادلي، علي أحمد، الحوزة العلمية في النجف ص 344 ط1، بيروت 1993 دار الزهراء.
(2) العطار، الشيخ مهدي، مقابلة خاصة (دمشق) بتاريخ 31/5/1994). وقد مارس الشيخ العطار دور الوسيط لفترة من الزمن بحكم علاقاته مع مرجعية السيد الخوئي.

************


ومن مظاهر تنسيق السيد الشهيد الصدر مع السيد أبو القاسم الخوئي ومرجعيته موقفه تجاه حملات التسفير التي طالت بشكل أساسي طلبة العلوم الدينية في النجف الاشرف من حملة الجنسية الأجنبية بهدف (قمع) النجف والضغط على مرجعيتها خاصة عقيب وفاة السيد الحكيم. واستمرت هذه الحملات ابتداء بالعام (1970/1390) وانتهاء بالعام (1975/1395) بدرجات متفاوتة تبعاً لأغراض النظام الحاكم ودرجة تعاطيه مع النجف. والملفت للانتباه شيوع التعاطي السلبي تجاه هذه الحملات من قبل الكيان المرجعي خاصة وان النظام الحاكم استفاد من تضاؤل دور المرجعية عقيب وفاة السيد الحكيم، ومرض السيد الخوئي (خليفة السيد الحكيم) الذي رقد في أحد مستشفيات (بغداد) لفترة من الزمن. والأكثر طرافة في هذا الفصل هو تشجيع جهاز مرجعية السيد الخوئي على سفر طلبة العلوم الدينية الأجانب وخروجهم من العراق، وصرف المبلغ اللازم لهم، في الوقت الذي كان يفكر فيه السيد الشهيد بطرق ناجعة للتصدي والصمود في وجه محاولات النظام الحاكم الى درجة أنه فكر بطريقة (انتحارية) لمواجهة هذا الوضع المأساوي خاصة في ظل الاهتزاز النفسي داخل الكيان المرجعي وحوزة النجف بشكل عام، وقد استطلع الأجواء لهذا الغرض، الى درجة انه اكتشف انه يعيش في عالم يفتقر الى أدني حالات الحيوية والحرص على هذا الكيان العريق، فعدل عن التفكير بطريقة من هذا القبيل(1). الا انه وفق في تلك الفترة ـ أعني فترة التسفير ـ الى الاتفاق مع السيد الخوئي على اصدار (حكم فقهي) يحرم بمقتضاه سفر الطلبة الى خارج العراق بمحض اختيارهم ومنع جهاز مرجعيته من دعم سفر الطلبة. وكان السيد الشهيد قد مارس ضغطاً مباشراً وآخر غير مباشر على السيد الخوئي لحمله على اصدار مثل هذا الحكم (2).

ولأهمية هذا التنسيق بين (مرجعيات) النجف دأب السيد الشهيد على مواصلته لأدنى مناسبة وان بدرجة ضعيفة أحياناً، وكانت انتفاضة صفر (1396/1977) مناسبة اخرى للاتصال المباشر مع السيد الخوئي خاصة عقيب القضاء عليها من قبل السلطة واعتقال عدد كبير من المشاركين فيها وغير المشاركين. وقد اجتمع السيدان الخوئي والصدر في دار الأول منهما في (الكوفة) بحضور عدد من العلماء كان منهم السيد عز الدين بحر العلوم والدكتور مصطفى جمال الدين، واتفقا على ارسال وفد الى السلطة يحمل رسالة المرجع (الخوئي) لاطلاق سراح المعتقلين وتسوية الامور للحؤول دون اقدام النظام على تصفية العشرات من المشاركين في الانتفاضة. وقد كتب نسخة الرسالة الأصلية (مشروع الرسالة) السيد الشهيد الصدر والدكتور جمال الدين كل على انفراد ليختار السيد الخوئي نسخة السيد جمال الدين. ولعل ذلك يرجع الى ما تنطوي عليه رسالة السيد الشهيد من معان ودلالات تنسجم مع خطه السياسي المعروف، وحمل رسالة السيد الخوئي كل من السيد مصطفى جمال الدين والسيد جمال الخوئي والسيد حسين بحر العلوم والشيخ جواد الشيخ راضي.

_________________________

(1) الحائري، المرجع السابق، ص49.
(2) العطار، مقابلة خاصة.


************


وكان قبل ذلك أن قرر السيد الصدر ارسال السيد محمد باقر الحكيم الى المشاركين في الانتفاضة بغية تهدئة الاوضاع شرط ان لا تلجأ السلطات الى قمعهم. وأعلم السيد الخوئي بالفكرة بواسطة السيد جمال الدين وأرسل من جهته السيد جمال الخوئي والشيخ جواد الشيخ راضي، ولم يلتق أحد منهم المشاركين في الانتفاضة لتأخرهم في الوصول بعد ان تمكنت السلطات من تصفية الانتفاضة ( 1 ) .

يمكنني القول من دون مبالغة ان الشهيد الصدر أحيا اول تنسيق بين (مرجعيات) النجف، بغية تحقيق الأهداف المشتركة ، بعد أن طوى تقادم السنين محاولة السيد محمد مهدي بحر العلوم (1212 هـ) لتنسيق العمل المرجعي ، والتي لا نعرف عنها سوى أنه اقتسم وأعلام عصره يومذاك ادارة شؤون النجف من لاة وقضاء وادارة شؤون الدراسة والزعامة(2).

الا ان محاولات التنسيق التى قام بها الشهيد الصدر أقبرت دونما شعور بالمسؤولية او الغيرة على هذا الكيان العظيم، فيما كان ضمير الصدر يعتصر ألماً على ما آل اليه الكيان المرجعي الذي يراه غريباً وسط أهله.

كانت هذه المشاريع (أعني مشاريع التنسيق ـ تحمل في داخلها بذور الفشل لأنها كانت تتم وفقاً لآليات متخلفة و(عقليات) متنافرة، فسرعان ما تهتز وتعلن عن فشلها الى الملأ. ففي الوقت الذي ينسق فيه السيد الشهيد مع مرجعية السيد الخوئي وجهازه الخاص على مستوى توزيع ممثلي المرجعية يباغت بتصريح غير مسؤول يطال أحد مقربيه والذي تم بتنسيق مع السيد الخوئي تعيينه في (المجر) ممثلا للمرجعية، ونزعت منه الشرعية وفقاً للبيان التالي (السيد محمد الغروي ليس وكيلنا في المجر)(3).

طبعاً هذا البيان كان بمثابة قنبلة فجرت الموقف وكشفت عن (الاحتقان) الداخلي الذي يختزنه المشروع. وشكّل هذا (البيان) سداً جديداً بين المرجعيتين يصعب تجاوزه، ليمهّد للقطيعة التي تحكم علاقتهما.

ويعتقد بعض الباحثين(4) أن أحد أسباب القطيعة يبدو مع تصريح للسيد الخوئي أدلى به لمراسلي الصحافة ذكر فيه (أن الشيعة في العراق بخير)، في وقت كانت فيه (جراحات) انتفاضة صفر حاضرة ولم تندمل بعد.

_________________________

(1) جمال الدين، مصطفى، مقابلة خاصة (دمشق) بتاريخ 27/3/1994.
(2) بحر العلوم، المرجع السابق، ص109.
(3) العطار، مقابلة خاصة.
(4) القزويني، جودت، اشكالية الفقهاء والدولة وبدايات الحركة الاسلامية في العراق، مجلة الفكر الجديد، عدد 2 ص 262.

************


وقد يكون آخر مظهر من مظاهر القطيعة هو ذلك الموقف الذي اتخذته مرجعيات النجف تجاه السيد الشهيد، ليس السلبي وحسب، بل (المعاند) ايضاً، اذ لم ينتظر السيد الشهيد في موقفه الأخير من النظام العراقي أي شكل من أشكال الدعم والمساندة من (مرجعيات النجف)، ولم يكن يأمل أي شيء من هذا القبيل، وكان لفتواه بحرمة الانتماء للحزب الحاكم الأثر الفعّال في مواجهة النظام والضغط عليه وتشجيع الناس على التمرد، الا انه شعر أن (مرجعية) النجف ليست سلبية وحسب بل تتعمد مواجهته بالذات بدلا من أن تسانده في مواجهة السلطة. كان ذلك اثر جواب صدر من (المرجع العام) والذي نفى بمقتضاه أن يكون حرم الانتماء للحزب الشيوعي فكيف بحزب السلطة(1)، قد لا يكون المرجع واعياً لآثار ما قال ومدركاً لأبعاد مقالته، الا أنه بالتأكيد يكشف عن وضع جد خطير ينذر بالانهيار والتلاشي في وقت يفترض فيه أن تكون المرجعية واعية لأبعاد قراراتها.

كان الشهيد الصدر يدرك طبيعة هذه العلاقات خاصة في ظل (استقالة) أو ضعف المرجع وانصرافه الى البحث واعتماده الكلي على جهاز في الغالب لا ينهض بمسؤوليات مجتمع صغير فضلا عن أمة، وهو يدرك التباين الحاد بين مرجعيته والمرجعية القائمة على مستوى الاهداف والآليات وطريقة التفكير، الا ان ادراكه العميق لهذا الاختلاف لم يكن ليسمح له بالقطيعة مع مرجعية كان هو أحد أهم مرشحيها عقيب وفاة السيد الحكيم. أمّا جهاز مرجعية السيد الخوئي فادراكهم لهذه الحقيقة لا يقل عن ادراك السيد الشهيد ان لم يكن يفوقه بفعل الحساسية المفرطة تجاه مرجعية السيد الصدر، اذ يستكثر هذا الجهاز ـ دوماً ـ على ذلك التلميذ العبقري، والمبدع ان يكون نداً للاستاذ، خاصة وأنه طالما تحسَّس من التلميذ المجدد والمصلح والسياسي والحزبي في يوم من الأيام.

وقد قام الشهيد الصدر بتشكيل حزب اسلامي عرف بـ ( حزب الدعوة الاسلامية ) في العام (1957/1377) سبقته قراءة واعية للاحداث والمعطيات اشترك فيها عدد من المخلصين والمقربين للشهيد الصدر.

وقد سجّل كبار العلماء حضوراً بارزاً في (حزب الدعودة الاسلامية) في مقدمتهم الامام الشهيد والسيد مرتضى العسكري والشهيد السيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم والشيخ علي الكوراني والشيخ عبد الهادي الفضلي والشيخ مهدي السماوي والشيخ محمد مهدي الآصفي... وهو ما حقق للحزب فرصة كبيرة للصمود والارتقاء التدريجي على الرغم من غياب الدور الحقيقي للمراجع في ميلاده(1). غير أن دعم المرجع الاعلى السيد محسن الحكيم في ذلك الوقت كان واضحاً وحقيقياً، وتجلى في انتماء اثنين من أنجاله في الحزب وهما الشهيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم، فضلا عن انخراط عدد كبير من وكلائه وفي مقدمتهم السيد العسكري. هذا علاوة على أن تحرك الحزب كان ـ في الغالب ـ يتم من خلال مؤسسات كانت تحمل اسم (المرجع) السيد الحكيم كما في (مكتبات) السيد الحكيم المنتشرة في معظم المناطق العراقية والتي يديرها ويحضرها عشرات الدعاة، والاحتفالات والمهرجانات التي يحييها الدعاة تحت ظل السيد الحكيم وبرعايته(2).

وقد سعى حزب الدعوة الاسلامية جاهداً لكسب تأييد المراجع ومباركتهم، وفي هذا الاتجاه أطلع السيد الشهيد استاذه السيد الخوئي وأخبره بتأسيس الحزب، كما سلّمه نسخة من (الاسس) التي كتبها الشهيد الصدر، كما أنه أطلع خاله الشيخ مرتضى آل ياسين.

فيما عرضت نسخة من (الاسس) على الشيخ حسين الحلي وان كان موقفه الفكري مغايراً. وفي الاتجاه ذاته تم عرض (الاسس) على الشيخ هادي معرفة.

_________________________

(1) العسكري: مقابلة صحيفة (صوت العراق) مرجع سابق.
(2) الحكيم، الشهيد مهدي، التحرك الاسلامي في العراق (من مذكرات الشهيد الحكيم) ص 41 ط ايران.

************


وفي العام 1961 اضطر الشهيد الصدر الى الانسحاب من الحزب، بناء على نصيحة من السيد الحكيم ـ لا أعرف اذا كان سمعها منه مباشرة أو بطريق الوسائط ـ الذي أمر نجليه السيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم بالانسحاب أيضاً والتعاون مع الحزب خارج اطار التنظيم. كان ذلك اثر حملة تعرض لها السيد الصدر بوجه خاص قادها حسين الصافي وآخرون نيابة عن حزب البعث العراقي في محاولة استعداء المراجع وأفاضل حوزة النجف عليه، وفي هذا الاتجاه تمت زيارة السيد الحكيم والسيد الخوئي وغيرهم لاقناعهم باتخاذ موقف مضاد للسيد الصدر، الا ان حملتهم هذه باءت بالفشل.

اثر تلك (الحملة) كتب الشهيد الصدر الى (القيادة) يعتذر لها عن مواصلة العمل التنظيمي بشكل مباشر، وقد نقل الكتاب السيد مهدي الحكيم وسلّمه الى صالح الأديب(1).

ولكن انسحاب السيد الشهيد لم يعن في يوم من الايام القطعية مع الحزب، فقد ظل السيد الشهيد يرعى الحزب الى درجة معها لم يعلم أحد اكبر قيادي الحزب ـ يومذاك ـ الشيخ علي الكوراني بأمر انسحابه الى العام 1968 هو أحد الاسباب التي أدت الى تعكير صفو العلاقات بينهما كما يذكر الكوراني نفسه(2). اذ لم يطلعه السيد الشهيد على انسحابه وكان يتعامل معه الكوراني كقائد للدعوة. يبقى أن أشير الى جواب كتبه لي الشيخ الفضلي في هذا الخصوص يقول: (لم يترك السيد الصدر الدعوة، وانما بالنظر الى حاجة الامّة الى مرجعية قائدة بعد وفاة السيد الحكيم ارتأت الدعوة ترشيحه للمرجعية لما يملك من شخصية قيادية. وكان هناك اعتراض على ذلك من قبل البعض خوفاً من حاشية السيد الخوئي التي كانت علاقاتها وثيقة بالسلطة، ولكن اصبح مرجعاً بتصويت الاكثرية، وفي الوقت نفسه بقي مرجع الدعوة الفكري كحركة ومنظمة)(3).

ويبدو أن العلاقة مع الدعوة أخذت تميل الى الفتور فيما بعد خاصة مع توجه السيد الشهيد الى مهام المرجعية والتدريس بشكل أساسي والتفات عدد من طلابه ممن لا يرون له العمل الحركي ولا يتفاعل معه، مع بروز اتجاه في الحزب يتعاطي مع الشهيد الصدر على نحو العلاقة (العرضية) لا الطولية، الا ان ذلك لا يفي بمتطلبات الرأي القائل بانفصام عرى العلاقة القائمة بينه وبين الدعودة. ولا أستبعد ان يكون الشهيد الصدر سعى الى تضليل السلطات والايحاء لها بشيء من هذا القبيل، تلك السلطات التي ظلت تتوجس من علاقاته التاريخية بالدعوة وتشكك بأي نحو من الانفصال.

ومنذ العام (1972) جرت مواجهات حادة بين السلطة والحزب أدت الى ان اكتشفت بعض الخطوط التنظيمية واعتقال المئات ومن ضمنهم عدد كبير من العلماء المرتبطين بمرجعية الشهيد الصدر على نحو الخصوص. وفي تلك الفترة ـ وبالتحديد عام (1974/1394) صدرت فتوى الشهيد الصدر بتحريم انتماء طلاب العلوم الدينية الى الأحزاب ولو كانت اسلامية، ويبدو أنها كانت وليدة مباحثات مع عدد من مساعدي الشهيد الصدر أجراها معهم قبل عام تقريباً من هذا التاريخ (4)، وارغم على اعلان المنع في صورة الفتوى الصادرة عام (1974).

_________________________

(1) الاديب، مرجع سابق، والحسيني، المرجع السابق ص 235، والحكيم، مهدي مرجع سابق ص 40.
(2) الكوراني، مرجع سابق.
(3) الفضلى، مرجع سابق.
(4) الحكيم، مقابلة خاصة، مرجع سابق، والزهيري، عبد الحليم، مقابلة خاصة (قم) بتاريخ 23/7/1994.

************


وهو منع لا يطال جميع طلبة العلوم الدينية ومن كافة المستويات وانما يقتصر على المرتبطين بالمرجعية خاصة ويحسبون عليها(1).

حضوره الفعّال في الحزب لم يكن الظاهرة اليتيمية له على المسرح السياسي، فقد كان للسيد الشهيد ومنذ وقت مبكر ـ أعقب تأسيس الحزب ـ دور بارز في (جماعة العلماء) ذلك التشكيل الثاني الذي عرفته النجف في غضون سنوات قليلة وبالتحديد عام 1959 وباشراف من السيد محسن الحكيم. وقد شكلت من عدد من المبرّزين في حوزة النجف

وفي الوقت الذي لم يكن فيه الشهيد الصدر عضواً رسمياً في الجماعة فقد برز دوره فيها فاعلا وقوياً الى حد كبير، يمكن معه اعتباره العقل المدبّر للجماعة.


القرار المؤجل


رصدت الانظمة العراقية المتعاقبة على الحكم ظاهرة (محمد باقر الصدر) الذي دخل الميدان السياسي من أوسع أبوابه مدججاً بسلاح الفكر والمرجعية، وتركزت عليه الاضواء في ظل حكم الحزب الحاكم بشكل ملفت للنظر بلغ الى درجة معها يتردد اسمه في نشرات الحزب الداخلية
 

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله