مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

الأس الفكرية
لحقوق الإنسان في الإسلام
 الشيخ عزالدين الخطيب التميمي(1)


عندما بزغ فجر الإسلام، كانت المجتمعات البشرية بأسرها تئن تحت وطأة الاستغلال والاستعباد والتبعية والطبقية، ووأد البنات، وافتراس الأقوياء لجهود الضعفاء، وضياع الحقوق والتنكر لها، ولم يكن في موازين الناس شيء يسمى حقا يقام له وزن أو اعتبار، باستثناء ما كان للأقوياء وكانت شعوب العالم تنظر بلهفة إلى ذلك اليوم الذي تشرق فيه شمس الحرية على هذه الأرض المروية بدموع الحزن والعذاب.
فأخذ الإسلام ينشر نوره، ويعرف الإنسان موقعه في هذا الوجود، ويحدد له حقوقه وواجباته، وينظم علاقاته. فقرر في محكم نصوصه "كرامة الإنسان"
وحرم في صريح بيانه الاعتداء على حياته وعرضه وماله، وحرم كلّ شيء ينتقص من قدره، واعتبر كلّ ذلك ظلما. ومن حق المظلوم أن ينال حقه، ولا لوم عليه في ذلك ولا مؤاخذة ولا تثريب قال تعالى: ?ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنّما  السبيل على الّذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم? (41 ـ 42 الشورى) فاللوم والمؤاخذة إنّما  يقعان على الّذين يظلمون الناس، متجاهلين حقوقهم مختلسين جهودهم.
نعم، أعلن الإسلام مبادئه الأساسية في نطاق النظام الفكري، والسياسي والدستوري، والاقتصادي، والاجتماعي، وقدم الحلول الناجعة لمشكلات الحياة بأسرها.
ففي نطاق المبادئ الجوهرية السياسية والدستورية، أعلنت الشريعة الإسلاميّة مبدأ الشورى والمساواة والعدل والتعاون، وفي مجال الحقوق أعلنت كرامة الإنسان في معتقده ورأيه ومسكنه وماله، وفي مجال الأسرة قفز الإسلام بالمرأة من منتهى الإهانة إلى أعلى درجات الكرامة، فأعلن في نصوصه كامل إنسانيتها، وكامل أهليتها للحقوق والواجبات، وكامل تقديرها واحترامها، بل أكد احترامها في المعاملة بصورة تفوق احترام الرجال، ووضعها في مكانها الطبيعي الفطري في سلم المسؤولية، وسوى بينها وبين الرجل في التكاليف العامة، وراعى في أحكامه خصائص أنوثتها التي تجاهلتها الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، والى جانب ذلك فإن الشريعة الإسلاميّة أولت الطفل والطفولة عناية خاصة، تفوق مما تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الطفل، فصححت مفاهيم البشر عن الطفل، وشرعت من الأحكام ما يلبي الحاجات الأساسية والفطرية له، وأوجبت على البشرية الاهتمام به، وتحقيق الرعاية الصحية والنفسية والعقلية له. وبينت حقوقه
الكاملة في أمواله وتربية وتعليمه، ووقايته من كلّ عوامل الضرر.
وقد وجه الإسلام نداءه للبشر جميعاً يعلن عليهم مبدأ المساواة بينهم في بشريتهم وانسانيتهم، وأنهم يقفون جميعاً في صف واحد أمام فرص الحياة، وأمام نعم الله فيها، وأنهم لا تمييز لبعضهم على بعض، إلاّ بمقدار ما يقدم الإنسان من خير للناس، واستقامة على منهج الله في طريق الحياة ?يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ? (النساء: 1) فالإسلام ردّهم إلى الأصل الواحد، باعتباره المنطلق الحقيقي للمساواة بينهم في خصائص الإنسانية من التفكير والتعبير والتعاون على الخير العام، وباعتباره منطلقاً للحقوق التي يرتكز عليها أمنهم واستقرار عيشهم، وتيسّر لهم أداء الرسالة التي خلقوا من أجلها، وهي عبادة الله تعالى رب هذا الوجود.
ومن الخطورة بمكان أن تكون حقوق الإنسان صادرة من الإنسان نفسه، لأنه بطبيعته متناقض في حكمه على الأشياء، وهو، إلى جانب ذلك، يتّصف بالأثرة وحب السيطرة، فتكون الحقوق حينئذٍ مجال عبث، ومصدرها الأقوياء الّذين يستبدون عادة بمصالح الضعفاء، فيسلبون الشعوب حقوقها، ويمنحون أنفسهم حقوقاً ليست لهم، فيسود حينئذٍ قانون الغاب، وهذا ليس في مصلحة الإنسان على الإطلاق.
نعم، إنّ  الّذين يقومون بإصدار الإعلانات العالمية أو غيرها، هم أناس لهم خلفياتهم الثقافية والحضارية التي ينطلقون منها، ولهم نظرات خاصة ومصالح لا يستطيعون أن ينفلتوا منها، وهم، أن استطاعوا أن ينطلقوا أحياناً انطلاقاً سليماً من الناحية النظرية، فإن هذا الانطلاق لا يلبث أن ينحرف في التطبيق لما تقتضيه مصالحهم.
أما حقوق الإنسان في الإسلام، فهي ربانية المصدر، لأنها مشروعة من الإله
الحكيم العادل، خالق الكون والإنسان والحياة، وهو العليم بالإنسان، وبما يحقق له السعادة وبما يعرضه للشقاء، فهو العليم العلم المطلق بما يمنح الإنسان من حقوق، وبما يملي عليه من واجبات، وما يشرع له من أحكام يقف عند حدودها فلا يتجاوزها.
فالله تعالى هو المصدر الحقيقي الأمين الحكيم لتشريع الحقوق، وبيان الحقوق، ومنح الحقوق، وبخاصة فإن تشريعه ليس نابعاً من أثرة أو حقد أو كراهية، فالخلق كلهم عياله، وليس تشريعه نابعا من نظرة طبقية أو جهل بحقائق الأشياء، وإنّما  هو أرحم بهم من أنفسهم، واعلم بهم وبأحوالهم وبما يصلحهم ويسعدهم حق الإسعاد، ويهديهم حق الهداية، قال تعالى:?قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق، قل الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يتبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى، فما لكم كيف تحكمون، وما يتّبع أكثرهم إلاّ ظنّا، إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، إنّ الله عليمُ بما يفعلون ? (يونس: 35 ـ 36)المصادر الشرعية للحق
تتألف المصادر الشرعية للحق من أربعة مصادر، هي:
1 ـ القرآن الكريم: وهو الأصل الذي تتفرع عنه المصادر الشرعية الأخرى، وهو المصدر الأساسي الذي تستمد منه أحكام الشريعة الإسلاميّة، بما فيها الأحكام المتعلقة بالحقوق والواجبات.
2 ـ السنة النبوية: وهي المصدر الثاني لأحكام الشريعة الإسلاميّة، ومنها الأحكام المتعلقة بالحقوق والواجبات، والسنة النبوية هي الأقوال والأفعال
والمواقف والتقريرات التي صدرت عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، تأكيدا لما جاء في القرآن الكريم، وتفصيلا وبيانا لإحكامه ومبادئه، والمسلمون ملزمون بالنزول على أحكامها ومبادئها، عملا بنصوص القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:
?وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا? (الحشر: 7)
3 ـ الإجماع: وهو القرار الإجماعي الذي صدر عن صحابة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، ومثله القرار الإجماعي الذي يصدر عن علماء المسلمين في جيل من الأجيال في ضوء قواعد الشريعة ومبادئها العامة الواردة في القرآن الكريم والسنة الشريفة والمسلمون ملزمون باتباعه، عملا بنصوص القرآن الكريم التي تحذر بشدة من مخالفة سبيل المؤمنين، مثل قوله تعالى: ?ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً? (النساء: 115)
4 ـ القياس: وهو الرأي الذي يصدر عن مجتهد في فروع الأحكام، انطلاقاً (2) من أحكام أصلية وردت في القرآن والسنة، والقياس أصل شرعي تثبت به الحقوق. مفهوم الحق:
لكلمة الحق في اللغة عدة معان، يرجع أكثرها إلى الثبوت والوجوب (3) وقد استعمل الفقهاء هذه الكلمة في حدود هذا المعنى اللغوي ولم يخرجوا عنه إلاّ أنهم لم يذكروا للحق معنى اصطلاحياً فقهياً محدداً ويقول في ذلك الشيخ
علي الخفيف: استعمل علماء الفقه الإسلامي اسم الحق كثيرا في مواضع مختلفة وفي معان عديدة متمايزة ذات دلالات مختلفة، على الرغم من انتظامها في معنى عام يجمعها هو الثبوت، ومع كثرة استعمالهم له، لم يعنوا ببيان حدوده في مواضع استعمالاته المختلفة، بل اكتفوا بوضوح معناه اللغوي، ودلالته عليه، ووفائه لجميع استعمالاته في اللغة والعلوم ومخاطبات الناس وقد كشف الشيخ عبد العزيز البخاري في شرحه "كشف الأسرار" على أصول البزدوي: أن الحق هو الموجود من كلّ وجه، الذي لا ريب في وجوده(4).
وهذا التعريف ـ كما هو ظاهر ـ هو عين معناه اللغوي الذي تقدم ذكره.
وقد عني بعض المحدثين بوضع تعريف فقهي للحق، فقد استنبط الشيخ علي الخفيف تعريفا للحق من استعمالات الفقهاء المتعددة، فقال: ولا نبعد إذا ما ذهبنا إلى تعريفه في الفقه الإسلامي مذهبا نستمده من استعمالاتهم له متفرقة بأنه: ما ثبت بإقرار الشارع وأضفى عليه حمايته(5).
وفي تعريف آخر قال: ما كان مصلحة لها اختصاص بصاحبها شرعا، وقد قيد التعريف بإقرار الشارع، لأن الحق في شرعة الإسلام منحة من الله لعباده، ولا ينبثق إلاّ عن إرادة الشارع.
وممن عرفه من المحدثين أيضاً الشيخ مصطفى الزرقاء، حيث قال: الحق هو اختصاص يقرر به الشارع سلطة أو تكليفا، وذلك كحق الولي في التصرف على من تحت ولايته، فانه سلطة لشخص على شخص، وكحق البائع في طلب الثمن من المشتري، فإنه تكليف على الثاني لمصلحة الأول، وكحق الوارث في ملكية أعيان التركة الموروثة وحق الإنسان في منفعة العقار الموصى له بمنفعته، فانها سلطة
لشخص على شيء(6).المصلحة وموقعها من الحق:
المصلحة في الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة.
وقد اهتمت الشريعة الإسلاميّة بمصالح الناس، ودعت إلى مراعاتها في شؤون حياتهم، ورعاية المصالح تفضل من الله على خلقه جميعهم، وقد راعى منها في كلّ مجال ما يصلحهم، وينتظم به حالهم، راعاها في مبدأهم ومعاشهم ومعادهم، ويظهر ذلك في نصوص القرآن وأحاديث النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال الله تعالى: ?ولكم في القصاص حياة?(البقرة: 179) فهو من تشريعه للقصاص أعلمنا أنّه  تشريع يهدف لتحقيق مصلحة الناس، وهي حماية حياتهم.
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : لا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يبيع حاضر لباد، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، إنكم إنّ  فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم (7)........ ومثله في القرآن والسنة كثير.
ذكر المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه "أصول الفقه" أن المصلحة التي قصد بتشريع الحكم تحقيقها قد تكون مصلحة عامة للمجتمع، وقد تكون مصلحة خاصة للفرد، وقد تكون مصلحة لهما معا.
وذكر أيضاً: "أن أفعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية أن كان المقصود بها مصلحة المجتمع عامة، فحكمها حق خالص لله تعالى، وليس للمكلف فيها خيار، وتنفيذه لولى الأمر.وان كان المقصود بها مصلحة المكلف خاصة، فحكمها حق خالص للمكلف، وله في تنفيذه الخيار، وأن كان المقصود بها مصلحة
المجتمع والمكلف معا ومصلحة المجتمع فيها اظهر، فحق الله فيها الغالب و حكمها حكم ما هو حق خالص لله، وأن كانت مصلحة المكلف فيها اظهر فحق المكلف فيها الغالب، وحكمها كحم ما هو خالص للمكلف(8).
وما تنبغي الإشارة إليه، أنّه  يجب على الإنسان صاحب الحق أن يراعي مصالح المجتمع وهو يباشر حقا مشروعاً أثبتته له الشريعة، ومن هنا كانت الفضائل الأخلاقية الاجتماعية عنصراً مهما في تقييد استعمال الحقوق. وهذا له انعكاساته الإيجابية على الحياة الاجتماعية والحياة الاقتصادية وحتى على الحياة السياسية. وإذا لا حظنا أن الدولة لها حق الولاية العامة، فإن هذا الحق يمنحها سلطة التدخل لحماية الفضيلة باسم الشرع، لتحد من سلطان الحق بطريقة يترتب عليها الهدف من إثبات الحق.
وهذا التدخل من الدولة إنّما يكون لحماية مصالح الأفراد وحماية المصالح العامة، وهذا التدخل أيضاً لا يجوز أن يترتب عليه إلحاق ضرر بالأفراد، أو إهدار حق من حقوقهم، فلا ينبغي رفع الضرر بإيقاع ضرر، أو رفع الظلم بإيقاع الظلم فلا بد من وجود تعويض عادل حين دفع الضرر العام بالضرر الخاص.
ومن زاوية أخرى، نجد أ، الشريعة الإسلاميّة عندما تثبت حقا للإنسان، يكون للإنسان في ذلك الحق مصلحة تعترف الشريعة بها، وفي اللحظة التي تكون للفرد مصلحة معينة في تصرف معين، ولم تعترف الشريعة بهذه المصلحة للفرد، فتكون المصلحة ملغاة في هذه الحالة، وهنا لا حق يباشره الإنسان لتحقيق تلك المصلحة والمصالح التي يباشرها الفرد أو يقصد تحقيقها كثيرة، فمثلا له مصلحة في التعليم، وله مصلحة في التملك، وله مصلحة في الادخار، وله مصلحة في
الزواج، وله مصلحة في الطلاق، وله مصلحة في أن يرتشي وله مصلحة في أن يتعامل بالربا، وله مصلحة في الغش فاعترفت الشريعة بمصالح للإنسان، كحقه في الطلاق، وحقه في الحياة، وحقه في التعليم، ولم تعترف له بمصلحته في الرشوة، ولم تعترف له بمصلحته بالتعامل بالربا، ولم تعترف للمحتكر بمصلحته وهو يحتكر، ولم تعترف للغاش بمصلحته وهو يغش، فالمصلحة المعترف بها في الشريعة يترتب عليها حق للفرد أو  للمجتمع، فيكون حقا شرعيا، وعندما تعترف الشريعة بالمصلحة، يكون لصاحبها حق وسلطة في استعماله.
ونلاحظ أن الشريعة الإسلاميّة عندما تتحدث عن الحقوق تقرنها بطبيعتها الاجتماعية، أي بما يترتب عليها من آثار اجتماعية. فالحق لا وجود له إلاّ بالاعتراف الشرعي بذلك الحق، قال تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم? (سورة التوبة: 34).
فهذا الإنسان يستعمل حقه، وهو الادخار، ولكنه استعمل هذا الحق بطريقة منافية للفضيلة ومنافية للمصلحة الاجتماعية، ولهذا كان في نظر الإسلام آثماً ولأنه استعمل حقه في الادخار بطريقة مضرة بالمصلحة الاجتماعية، فصاحب الحق عند ما يريد أن يستبد بحقه بطريقة منافية للفضيلة فإنه بذلك يتحدى مشاعر المجتمع.
فالحق عندما أثبتته الشريعة للإنسان إنّما  أثبتته لهدف اجتماعي، ولا يجوز للفرد أن يتجاهل الدور الاجتماعي لذلك الحق.
ومن هنا، فأننا نؤكد أن الشريعة الإسلاميّة عندما شرعت الحقوق طالبت الناس أن يستعملوها بطريقة منظمة، ولو كان كلّ فرد استعمل حقه بالطريقة المشروعة، فسوف لا يحدث أي اصطدام بين حق وحق، أو بين فرد وفرد، أو بين مصلحة ومصلحة، كالكواكب في السماء، فإنها تسير وفق نظام محكم فالناس عندما يمارسون حقوقهم المشروعة بالكيفية المشروعة، عندئذٍ يجدون أنفسهم
يتعاملون من خلال نظام حقوقي بالغ الروعة سواء كان ذلك التعامل في نطاق الأسرة أو في نطاق المجتمع، وحتى في نطاق العلاقات الدولية.
نعم، إذا أراد الفرد أن يستعمل حقه المشروع، فلابد أن يراعي مصالح الآخرين، ولا يجوز أن يلحق أضراراً بهم حين استعماله لذلك الحق فإذا ألحق بهم أضراراً يكون قد ارتكب إثماً، حتّى ولو كان تصرفه جائزاً من الناحية الشرعية.
وهناك حوادث تاريخية تؤكد هذا المبدأ، ومن ذلك أن رجلاً من الصحابة طلق زوجته في مرض موته، وكان يهدف إلى حرمانها من الإرث، فورثها عثمان بن عفان جبراً عن ذلك الرجل، لأن الطلاق ما شرعه الله لأجل الإضرار بالزوجة، وإنّما  هو حق أعطيه الإنسان عندما تتعذر الحياة الزوجية، فمن حقه أن يستعمل ذلك الحق، لكي ينهي حياة زوجية لا تتوافر فيها صفات النجاح أما أن يستعمل ذلك الحق بقصد حرمان الزوجة من حقها في الإرث، فهذا لا يجوز في نظر الإسلام (لا ضرر ولا ضرار).حقوق الإنسان والإعلان العالمي
إنّ  الرسالة الإسلاميّة التي أنشأت في التاريخ العالمي عهداً جديداً من التحرر، بينت للعالم أجمع طريق التحرر من العبودية والخراب والفقر، وأثبتت عمليا أنها الرسالة الجديرة بتحرير الشعوب في كلّ العصور، بما فيها العصر الحاضر، من الاضطهاد الاستعماري والطبقي والطائفي، والقادرة على إحداث التبديل الجذري الصحيح في حياة الإنسان المعاصر وتحرير الإنسان من ظروفه الكالحة
التي أوجدها الاستعماريون في العالم، وفسح المجال إمامه لنقلة إصلاحية في الاجتماع والسياسة والقانون والاقتصاد، وتخليصه من التبعية التي يعيش معها جائعاً فقيراً محروماً، فاقداً لأبسط حقوقه المشروعة من الكرامة والحرية والسلام.
وعلى المسلمين أن يبدأوا كما بدأ الإسلام، بتصحيح مفاهيم الإنسان عن الحياة في عالم الفكر أولاً، وينقلوا هذه المفاهيم من النفس والعقل إلى مسرح الحياة، ليحددوا أبعاد المجتمع على أساس عريض متين من الإيمان بالله، والعلاقات الإنسانية النظيفة، والعمل الصالح.
وقد استقر في ضمائر المسلمين وأذهانهم عبر القرون، أن الحقوق التي نصت عليها الشريعة الإسلاميّة هي حقوق الإنسان التي تتمشى مع مصلحته، وتحقق سعادته وامنه واستقراره وراحته وهي الحقوق التي اختلطت بعقول المسلمين وضمائرهم في قناعة كاملة بأنها من عند اعدل العادلين، ويجدون النزول عليها والتزامها، أداءها لأهلها ناشئاً عن قناعة ورضى وتسليم لله رب العالمين، عملا بالآية الكريمة: ?فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً? (النساء: 65).
وقد حفلت مصادر الشريعة الإسلاميّة بيان الحقوق وتفصيلها، ويمكننا أن نجمل بعض هذه الحقوق فيما يلي:
1 ـ كرامة الإنسان وعدم التمييز في الكرامة والحقوق الأساسية بين إنسان وأخر، انطلاقا من قوله تعالى: ?ولقد كرمنا بني آدم? (الإسراء: 70)
2 ـ حرمة العدوان على مال الإنسان ودمه، عملاً بآيات القرآن، مثل: ?ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق? (سورة الأنعام: 151).
وعملا بقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  (إنّ  دماءكم وأموالكم
عليكم حرام).
3 ـ عدم جواز ممارسة الإكراه في معتقدات الإنسان، عملا بالآية الكريمة: ?لا إكراه في الدين? (البقرة: 256).
4 ـ حصانة البيت ـ المسكن ـ لحماية الحياة الخاصة، عملا بما جاء في القرآن الكريم: ?لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا? (النور: 27).
5 ـ التعاون بين الشعوب على ما فيه الخير، وتقديم جميع أنواع البر والمعونة إلى جميع بني الإنسان، دون النظر إلى جنسياتهم او أديانهم أو أوطانهم، عملاً بالآية الكريمة: ?وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ  أكرمكم عند الله أتقاكم? (الحجرات: 13) والتطبيق العملي الأولي لتقوى الله هو رعاية الحقوق، وإعطاء كلّ ذي حق حقه والإنسان يقع تحت مراقبة الله عزّوجلّ.
6 ـ التكامل بين أبناء المجتمع في حق كلّ إنسان بالحياة الكريمة، والتحرر من الحاجة والفقر، بفرض حق معلوم في أموال القادرين ليصرف لذوي الجاجة، عملا بالآية الكريمة: ?والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم? (المعارج: 25) ?إنّما  الصدقات للفقراء والمساكين...? (التوبة: 60).
7 ـ احترام العمل الإنساني وتقديره والمكافأة عليه، ولا فرق في ذلك بين عمل الرجل وعمل المرأة قال تعالى ?فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره? (سورة الزلزلة: 7 ـ 8 ) وقال تعالى: ?من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيّبةً ولنجزيّنهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون? (النحل: 97).
8 ـ إيجاب العلم على كلّ مسلم من أجل القضاء على الجهل، عملاً بقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: (طلب العلم  فريضة على كلّ مسلم) (9) ويشمل
ذلك الذكور والإناث.
9 ـ حماية الصحّة العامة من الأمراض المعدية، إلى جانب حماية المجتمع من الفقر والجهل، عملاً بقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليها، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه) (10).حقوق الطفل
كان الطفل محوراً مهماً في نظرة الإسلام للإنسان وذلك لإكسابه صفة "الصلاح" فالعناية بالطفل، من وجهة النظر الإسلاميّة، ينبغي أن تتجه إلى تربيته وتنشئته ليكون "صالحا"، وصلاح الولد مطمح فطري لدى الآباء والأمهات، يدل على ذلك قوله تعالى: ?هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين?.(الأعراف: 189).
ومفهوم الصلاح في هذه الآية، حالة معينة تتجسد في سلامة العقيدة وسلامة الجسم، وسلامة العقل، وسلامة الخلق، وسلامة السلوك وسلامة القصد، ليقوم في المستقبل بدوره في خدمة المجتمع في إطار عبادة الله سبحانه.
إنّ  مبدأ الولاية مبدأ بالغ الأهمية في رعاية الطفل والمحافظة على حياته، فالعناية بالطفل يجب أن تكون عناية شاملة لغذائه وكسائه ومأواه وصحته وتربيته وأمنه والترفيه عنه، وكل ذلك يشكل حقوقه على والديه وأسرته ومجتمعه.
وجعلت الشريعة الإسلاميّة المسؤولية الأولى عن الأطفال تقع على عاتق الآباء والأمهات، فأوجبت هذه الشريعة وقاية الأطفال من الهلاك، والانحراف، والمعاصي المؤدية إلى النار ?يا أيها الّذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ? (التحريم: 6)
ومن ذلك يتبين أن ولاية الأب على ولده القاصر ولاية شرعية، أثبتها الشارع له بسبب الأبوة، فهي حق له، وفي الوقت نفسه واجب عليه، فتكون حقا للطفل على أبيه.
وتربية الأطفال في الإسلام مهمة دقيقة، تحتاج إلى صبر وأناة وصدور رحبة، وتفاهم مطلق بين الزوجين، كما يحتاج إلى ثقافة تربوية، ومعرفة بدوافع الأطفال وحاجاتهم، والوالدان والحالة هذه ينبغي أن يدركا كلّ أبعاد هذه المهمة.
وقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  من إهمال الأطفال، وعدّ ذلك إثماً كبيراً، قال عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت) (11).
وقال بعض الصحابة للرسول: يا رسول الله قد علمنا حق الوالد على الولد، فما هو حق الولد على الوالد؟
فأجاب قائلا: "يحسن والده اسمه ويحسن أدبه"(12) فتكون تسمية الطفل حقا للطفل على أبويه، بل الإحسان في اختيار الاسم.
وتؤكد الشريعة الإسلاميّة أن تكون تربية الطفل في حجر أمه وفي كنف رعايتها، وأوجبت عليها إرضاعه، حتّى لا تكون تربيته تربية صناعية بعيدا عن عواطف أمه، قال تعالى: ?والوالدات يرضعن أولادهنّ? (البقرة: 233)، فتكون الرضاعة حقا من حقوق الأطفال على أمهاتهم، وهذا هو الطريق الفطري الآمن،
للمحافظة على حياة الطفل، وعدم تعريضه للهلاك.
وان المدقق لطبيعة الإعلان العالمي لحقوق الطفل، يجد أن بنوده كافة تؤكد الاهتمام الكامل بحقوق الطفل الأساسية التي أعلنها الإسلام بصورة أعمق واشمل منذ أربعة عشر قرنا، وهذه الحقوق كما جاءت في الإعلان العالمي هي، حق الطفل في اسمه وجنسيته، وحقه في الوقاية الخاصة المميزة لنفسه، وحقه في رعاية أمه العاقلة، وحقه في الرضاعة والنفقة والأمن الاجتماعي، وحفظ ممتلكاته، ورعاية أسرته.
وقد جاء اهتمام الغرب بالأطفال وتخفيف ما يعانون من متاعب، ويقاسون من ضياع، بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أوقعهم فيها التطور الحضاري المادي الحديث، وبسبب تدهور أوضاع الأسرة وتفككها في تلك المجتمعات، مما أدى إلى ضياع الأطفال.حقوق المرأة:
 مما يفخر به المسلمون، أن الإسلام الحنيف جعل المرأة محل التقدير والاحترام من حيث هي الأم والأخت والبنت، ونصوص الشريعة الإسلاميّة جاءت صريحة، وفي أبلغ درجات الوضوح والجلاء، في تكريم المرأة وتحديد حقوقها الإنسانية منذ أربعة عشر قرنا في حين كانت الجاهلية تعم الأرض شرقا وغربا على نحو مظلم ظالم في هضم المرأة حقها، بل عدم الاعتراف بأي حق لها.
أما الحضارة في العصر الحديث، ففيها ما يتعلق بالمرأة شر كبير غير موجود في الدين الإسلامي الحنيف، بل يبرأ منه الدين الإسلامي، وما في الحضارة المعاصرة من أمور مستحسنة بالنسبة للمرأة، فالدين الإسلامي لا يعارضها ولا يواجهها بالعداء.
وتكفيني الإشارة إلى أن الدين الإسلامي جعل المرأة في التعليم والتربية كالرجل، وكذلك حقها في المال والملك والمسؤولية، والثواب والعقاب الدنيوي والأخروي، تستوي فيه مع الرجل.
ومجمل القول، إنّ  الإسلام انتقل بوضع المرأة من الحضيض إلى أعلى، بل قفز بها من العدم إلى الوجود ومن الشك في إنسانيتها إلى كامل إنسانيتها، ومن منتهى المهانة إلى أعلى الكرامة، ومن فقدان الأهلية إلى كامل الأهلية، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، حتّى في أهلية الولاية لكل منهما على الآخر، فقد جاء في القرآن الكريم ?والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر? (التوبة: 71) وهذا لم يكن معروفاً من قبل. ___________________
1  ـ  وزير أوقاف في الأردن سابقاً.
2  ـ على رأي بعض المدارس الفقهية، فالإمامية والظاهرية لا يعتبرون القياس (المجلة).
3  ـ أساس البلاغة: الزمخشري ص 187 ـ 188. القاموس المحيط: 3 ـ 221 وجاء في المصباح المنير: الحق خلاف الباطل، وهو مصدر حق الشيء إذا وجب وثبت.
4  ـ الشيخ علي الخفيف: التصرف الإرادي والإدارة المنفردة ص 10.
5  ـ المؤلف نفسه، الملكية ـ ص 2.
6  ـ مصطفى الزرقاء: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج 2، ص 21.
7  ـ رواه البيهقي والترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل.
8  ـ عبد الوهاب خلاف: أصول الفقه، ص 211.
9  ـ رواه البيهقي في شعب الإيمان وابن عبد البر عن انس وهو حديث صحيح.
10  ـ رواه البخاري ومسلم والنسائي، وهو حديث صحيح. 
11  ـ رواه أبو داود والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن وهو حديث صحيح.
12  ـ ابن ماجة، السنن، كتاب الأدب، باب ما يستحب من الأسماء: 3. 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية