مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

الفكر الطائفي
وأثره في انقسام الأمة(1)
صادق العبادي


تمهيد:
الحديث عن الوحدة الإسلاميّة ونبذ الطائفية والمذهبية كان ولا يزال الهدف والحلم الكبير عند دعاة الفكر والإصلاح منذ اكثر من قرن من الزمان، وذلك نظراً لتأثيرات حالة التمزق والفرقة التي أصابت الأمة الإسلاميّة والتي حولتهم إلى طوائف ومذاهب ومجتمعات منفصلة بعضها عن بعض، وما يحدث بينهم من مصادمات وخلافات ومشاحنات فكرية والذي يؤدي بالنتيجة إلى مزيد من الضعف
السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وجعل الإنسان المسلم يتقوقع في إطار مذهبي محمّد بدل أن يتسامى في إطار الشخصية الإسلاميّة وما أشد ما لهذا الواقع من تأثير على إبعاد الإسلام عن واقع الحياة ووضعه في دائرة التراث، والتاريخ، وبالمقابل إفساح المجال للقوى الأجنبية للنفوذ السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والعسكري، في بلادنا الإسلاميّة وتحويلها إلى مقاطعات صغيرة ومناطق نفوذ وبؤر للصراع تسيطر هي على مفاتيح العمل والتأثير فيها، وجعل المسلمين بدل أن يعيشوا ضمن دائرة إسلامية واسعه لها اهدافها التنموية والحضارية والرسالية جعلهم يعيشون ضمن دائرة من السلبيات والأحقاد والحساسيات المختزنة والتي يملك الأجنبي فتيل إشعالها حسب المرحلة المناسبة عبر الحروب الحدودية والداخلية والطائفية.
وهذا هو الذي يدفع الكثيرين من أبناء الأمة لبحث الموضوع تارة تحت عنوان (الوحدة الإسلاميّة) وأخرى تحت شعار (التقريب بين المذاهب) أو (الطائفية وأثرها في انقسام الأمة).
ولابد لنا من مراجعة سريعة لمفهوم الطائفية وجذورها ونشأة المذاهب الفقهية والكلامية. أولاً: مفهوم التعصب والطائفية:
إنّ  هناك فرقاً كبيراً بين التعصب والطائفية كحالة فكرية أو سلوكية أو نفسية سلبية تتسم بها بعض الجماعات وبين المذاهب الفقهية، والكلامية، والاتجاهات الإسلاميّة المختلفة التي ولدت ضمن عوامل وتطورات فكرية وتاريخية مختلفة، ربما لا تكون العصبية الطائفية من سماتها.
إنّ  الحالة لا تقتصر على الدائرة المذهبية فقط وإنّما  أيضاً ضمن الدوائر
العنصرية، والقبلية، والجغرافية، والحزبية، السياسية كذلك فإننا لا نستطيع اتهام الطائفية بأنها شر مطلق ذلك أنها جزء من التركيبة الإنسانية والفطرة البشرية، وهي ربما تكون مفيدة في حالتها الطبيعية المعقولة وربما تنزلق إلى دائرة الإفراط والانحراف والسلبية ؛ في الحالة الشاذة وغير المعقولة.
يقول الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ :
"فإن كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالخلاق الرغيبة والأحكام العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة" (2).
أما الجانب السلبي القابل للرفض من الطائفية والتعصب فهو يعبر عن انحراف في مسيرة المقتضيات الطبيعية، ذلك أن الفرد والأمة قد يبتليان نتيجة عوامل بالضعف في الشخصية المحددة ـ سواء على الصعيد العقائدي، أو العاطفي، أو السلوكي ـ فإذا ما صادف ذلك توفر عامل خارجي تحريضي أدى الأمر إلى ما نشاهده من أوهام عقائدية من جهة، وتعصب جاهلي مقيت من جهة أخرى، ونعني بالعامل الخارجي التأثيرات التي يمتلكها ذوو المصالح الضيقة، ويسعون لإيجادها في النفوس تحقيقا لمطامعهم وتمويها على الآخرين وتسخيرا لهم لتحقيق تلك المآرب الدنية فالضعف في الشخصية الفردية أو الاجتماعية، والإعجاب بالنفس أو الطائفة في الولاء، وتأثيرات النفعيين والمترفين، كلّ هذه الأمور لها دورها الهام في تحويل الأمور النسبية إلى مطلقة فالقبلية والنسب وأمثالهما أمور نسبية قد تكون طبيعية في حدود معقولة، أما الخطر كله فيكمن فيما
لو حاول الإنسان أن يصعد بهذه الأمور إلى مستوى الأمور المطلقة والمعايبر العامة، فحينئذ تكون الكارثة وعندئذ تكون (الطائفية) قد تجلت بأبشع صورها وأخس اشكالها، وحينئذ يتحول النسبي النافع إلى قيد على الذهن الإنساني يمنعه من الانطلاق الحضاري البناء باعتبار أن هذا النسبي يرتبط بظروفه الموضوعية، فإذا جعل مطلقا لهم يعد يمكن للإنسان أن يتخطى هذه الظروف، وحينئذ فالجمود والانحطاط المقيت.
إذن فنحن عندما ندين الطائفية وندعو إلى نبذها على الصعيد الفردي والاجتماعي لا نقصد مطلقاً: أن يتنازل الفرد أو المجتمع عن عقيدته وإيمانه، أو أن لا يميل عاطفياً إلى قومه، أو طائفته، أو وطنه كما لا نقصد أن لا يدافع عن مبادئة التي آمن بها بقوة ولا يعلن رأيه بكل صراحة وأن لا يعمل على تقوية الخط الذي يؤمن به بالسبل الإيجابية الحصيفة وإنّما  الذي نعنيه ويعنيه كلّ من ينطلق لإدانة هذه الصفة من أسباب موضوعية إنسانية هو: رفض كلّ انحياز غير موضوعي إلى عقيدة، أو طائفة، أو وطن أو قومية وابتعاد عن المنطق السليم، والحوار الحر البناء، ومنع الآخرين من إبداء آرائهم بكل حرية ومنع ذوي الاختصاص من مناقشة فكرة ما والوصول إلى صخرة الواقع ولب الحقيقة (3).
ثانياً: المسألة الطائفية والمذاهب الفقهية عواملها.. ومراحل تطورها:
إنّ  الهدف من دراسة المسألة الطائفية كحقيقة تاريخية وعلمية، وكقضية تدخلت عدة عوامل في صنعها وتأجيجها ومن ثم حرفها عن سيرها الطبيعي هو الوصول إلى مشروع قناعة مشتركة يمكن أن يكون دافعاً لإيجاد نواة التفاهم
والتقارب الحقيقيين بين مختلف الاتجاهات الإسلاميّة ومن ثم بناء الأساس الراسخ لهيكل الوحدة الإسلاميّة الكبرى.
ويبدو أن تحقيق ذلك الهدف لا يمكن أن يتم بمعزل عن البحث الموضوعي المعمق لجذور المسألة، بعد الإذعان بوجودها كمشكلة معقدة وكواقع مر نعاني منه، وطرح جميع أسباب نشأتها، وعواملها، وظروفها، بكل وضوح وتجرد ودون انغلاق أو تعصب أو أحكام سابقة، والحديث الصريح في هذا المجال سيكون مثيراً وحساساً دون شك، حتّى قد يتصور بعضهم أن مثل هذا الحديث يشكل ـ بحد ذاته ـ إثارة للروح الطائفية.
وقد يتصور بعض آخر أنّه  معني بكل السلبيات التي سيحفل بها الحديث عن مسيرة الخلاف والصراع بين التيارات الفكرية، والمذهبية، ولكن الحقيقة موازية تماماً لهذين التصورين ولك التصورات التي تنظر إلى المسألة بمنظار سلبي.
فدراسة الأحداث والظروف التي رافقت المسلمين منذ عصر صدر الإسلام في مجال المسألة الطائفية، بعمق وموضوعية تعد خطوة أولية في طريق التفاهم والتقارب المشترك. العوامل التاريخية للخلاف والتفرقة:
وتتلخص العوامل التاريخية التي خلقت بذور الخلاف والتفرقة والتي زرعتها بين المسلمين فيما يلي:
أولاً: التفسيرات المختلفة للقرآن الكريم والسنة المطهرة والاجتهادات الخاصة التي يصيب بعضها ويخطئ بعضها الآخر، والتي انتقلت من الصعيد النظري إلى المجال العملي ثم تغيرت إلى شكل تعصب أعمى.
ثانياً: المصالح الضيقة والأهواء التي تقاذفت بعض المسلمين.
ثالثاً: الأيدي المغرضة الدخيلة المتمثلة ببعض العناصر الجاهلية، والمنافقة، واليهودية، التي ما فتئت تحاول الفتك بالإسلام وتمزيق وحدة أبنائه.
لقد كانت سقيفة بني ساعدة في المدينة المنورة هي المسرح الذي شهد فصول بدء الخلاف ومن هنا فقد كانت "الخلافة" هي أساس الانشقاق الأول.
ومع أن الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ  بقي يرى أنّه  أحق بالخلافة، إلاّ أنّه  بذل كلّ سعيه لتجاوز آثار الخلاف، حفاظاً على وحدة الأمة، حيث وضع بذلك الأسس الأولى للتقريب والوحدة بين المسلمين باتجاهاتهم الفكرية، والسياسية، المختلفة فلم يكن يمانع من مد يد العون والمشورة والنصح للخلفاء الثلاثة، ولم يكن خلافه في الرأي معهم سبباً في إيجاد الفرقة والنزاع بين المسلمين (4).
وفي سنوات خلافة الإمام علي ـ عليه السلام ـ  وقعت للمسلمين أحداث عظيمة لم يكن من السهل أبدا جبر الكسر الذي نتج عنها، حتّى أصبح السيف والدم هما الفاصلين بين المسلمين وأهم هذه الأحداث: رفض والي الشام تقديم فروض الطاعة لخليفة المسلمين وخروجه، ونشوب معركة صفين، وظهور فرقة الخوارج، وظهور بوادر الطوائف، والفرق نتيجة الآراء، والمواقف المختلفة التي اختلطت فيها المفاهيم الفكرية، والسياسية، وكان من أهمها تلك الآراء المتناقضة التي اتخذت إزاء معركة صفين وكانت هذه الفترة حافلة بالمفاهيم الجديدة التي حملت على الإسلام، والتفسيرات والاجتهادات الخاصة والكيفية بشأن القرآن الكريم والسنة النبوية، فكان الكثيرون يبتدعون الآراء، والمدارس الكفرية، ثم يفرضونها على القرآن، والسنة، لتسويغها وتثبيتها، بدلا من استلهام أفكارهم من القرآن أو عرضها عليه، يقول الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ "فاجتمع القوم على الفرقة، وافترقوا على الجماعة، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم".انقسام الأمة على الخلافة:
وعموماً، فإن الاتجاهات التي كان لها رأي من قضية الخلافة ـ نقطة الخلاف المركزية ـ انقسمت حيال محور القضية (الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ) إلى أربع فئات رئيسية:
الأولى: أبغضته وغالت في عدائه وهي على صنفين النواصب وخوارج عصره.
الثانية: غالت في حبه وهي فئة الغلاة.
الثالثة: عرفت حقه وقدره ومقامه وهي شيعته.
الرابعة: ساوته بالخلفاء الراشدين الثلاثة، وقدمتهم عليه في المنزلة واعتبرت أن اتجاهها معتدل وهي فئة أهل السنة.
وليس هذا التقسيم حقيقة مطلقة، بل أن فيه شيئاً من التداخل وإنّما  نذكره هنا لتوجيه الصورة المعقدة التي كانت سائدة آنذاك، وفي هذا المقام يقول الإمام علي ـ عليه السلام ـ : (وسيهلك في صنفان محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في حالاً النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة(5).
وساهمت أحداث الفترة اللاحقة في بلورة الاتجاهين أو الفئتين الرئيسيتين الأخيريتين وبروز مصطلحي "الشيعة" و"السنة" للدلالة على مدرستين مختلفتين. عوامل ظهور الفرق والمذاهب الفقهية والكلامية:
ولم يكن ظهور الفرق والمذاهب في الإسلام فجائياً أو منطلقاً من فراغ، بل إنّ  له من الخلفيات والأرضية المناسبة والعوامل ما تفاعل بقوة، بحيث بات ظهورها أمراً طبيعياً ومتوقعاً، ويمكن حصر أهم العوامل والأسباب التي أدت إلى الإعلان عن قيام المذاهب بشكل رسمي بما يلي:
الأول: أرضية الخلاف الواسعة، والتي كانت مزيجاً من عاملين سياسي، وفكري، كما مر.
الثاني: ظهور مناطق فراغ في المجالين الكلامي، والفقهي، وحاجة المسلمين لمعرفة تكليفهم الشرعي، الأمر الذي حمل الفقهاء والمتكلمين على سد هذه المناطق من خلال بلورة أفكار واتجاهات وأصول متباينة حيال تفسير القرآن وتطبيقه، وإخضاع ذلك للاجتهادات، وكذلك الحال بالنسبة إلى السنة المطهرة، وبذلك يختلف الموقف من القضايا المطروحة فيؤدي ذلك إلى اعتبارها حقيقة إسلامية عند بعض وبعيدة عن الإسلام عند بعض آخر.
الثالث: حاجة الحكام إلى اتجاهات تشريعية تناقض الاتجاهات التي تخالفهم فكرياً، وسياسياً، والى غطاء ديني يدعم ممارساتهم.
الرابع: الوضع السياسي العام، وحالة الانفتاح ـ خلال الفترة الانتقالية التي فرضها سقوط الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية ـ والاستقرار النسبي الذي شهدته البلاد الإسلاميّة، وخاصة على مستوى الوضع الداخلي وحركة الفتوحات.
الخامس: شعور بعض الاتجاهات الفكرية، السياسية، التي لها عمق زمني بضرورة بناء كيان مذهبي مستقل انطلاقاً من اعتقادها بأنها تمثل الموقف الشرعي الملزم، وبأحقية تصوراتها في المجالات الكلامية، والفقهية، والسياسية(6).
وقد نشأت عشرات المذاهب الكلامية، والفقهية، خلال القرن الثاني والثالث الهجري، ويمكن أن نعتبر ذلك العصر من أهم عصور الاجتهادات في الفقه والفكر الإسلامي..
إلاّ أن هناك عاملين كانا وراء بقاء بعض المذاهب الفقهية واندثار الباقي(7) وهذان العاملان هما: اعتناق الخلفاء لبعض المذاهب وجعل القضاء مقصوراً على فقهاء ذلك المذهب ومن ثم دعم هذا المذهب الخاص، وجهد تلاميذ الأئمة في تدوين المذاهب ونشرها بين الناس مما جعل النفوس تستريح إلى هذه الثروة الفقهية الهائلة وتستغني عن البحث والاستنباط وبالنتيجة تفضل التقليد على البحث والاجتهاد.
وقد مرّت المذاهب الفقهية (السنية) بعد قيامها وتبلور مناهجها بثلاث مراحل أساسية: مراحل تطور المذاهب السنية:
المرحلة الأولى: مرحلة قيام المذاهب وتأسيسها وظلت نحو ثلاث قرون حتّى سقوط بغداد على يد المغول سنة 656 هـ حيث نما الفقه فيه وتطور وعرف لوناً من الاجتهاد، داخل نطاق المذهب وليس اجتهاداً في نطاق الشرع، كما تضاعف الاهتمام بعلم أصول الفقه ووضع قواعد كلية تندرج تحتها الأحكام الفقهية وامتازت هذه المرحلة بتنظيم وترتيب الفقه المذهبي، فقد كان من أثر الدفاع عن المذاهب والدعاية لها والعمل على نشرها تأليف الكتب التي تجمع
شتات المسائل في المذاهب وذكر المسائل الخلافية مع المذاهب الأخرى وتحرير أوجه الخلاف وبيان رجحان المذهب، وكان نشاط الفقهاء في هذا المجال: لوناً من السباق العلمي الذي خدم الفقه ورتب أبوابه وفصوله وكان من الأسباب التي حفظت فيه الأئمة المجتهدين وعملت على تنميته وكثرة الكتابة فيه.
المرحلة الثانية: بدأت بعد سقوط بغداد وظهور الحكومات الإسلاميّة المختلفة، حين غلب التقليد على النشاط الفقهي في المذاهب عبر توقف منهجية الاجتهاد وإغلاق بابه عند كثير من الفقهاء إلاّ الواعين منهم وساعد على ذلك تمزق العالم الإسلامي وضعفه واستبداد الحكام وتطاحنهم من اجل النفوذ والسلطان وقد نجم عن كلّ هذا انهيار الحياة العقلية والفقهية وانتشار البدع والضلالات وحرص الفقهاء على المناصب، وتجلي التقليد في هذه المرحلة في اجترار التراث الفقهي عن طريق شرحه واختصاره أو تنظيمه من دون إضافة جديدة وطغيان المباحث اللفظية والمسائل الافتراضية بصورة غير عقلية وابتعاد الفقه عن الحياة وما يحتاجه الناس من معاملات حيث طغى الشكل على الجوهر.
المرحلة الثالثة: والتي بدأت بعد الاحتكاك والمواجهة الأولى مع الاستعمار الغربي قبل مائة عام واستنهاض المسلمين وخروجهم من قوقعة الانطواء والركود منذ عصر السيد جمال الدين الأفغاني الأسد آبادي، حيث بدأت دعوة جاده للنهوض، والعودة إلى الإسلام وتفعيل عملية الاجتهاد الفقهي، فقد أخذت الدراسات الفقهية تشق طريقها نحو التجديد والتطوير ومواكبة العصر ومشكلاته المختلفة، وكانت العوامل التي هيأت لهذه الدراسات أن تتطور هو ظهور عدد من المصلحين الّذين قادوا حركة التجديد وحذروا من الجمود والركود وكذلك التطور الزمني ونحو المعارف البشرية والاحتكاك بين الحضارات وتيسر سبل الاتصال بين الأمم وانتشار التعليم وظهور الصحافة والمجلات، ولكن الفقه الإسلامي اليوم على الرغم من كثرة معاهده ومؤسساته ومؤتمراته ومؤلفاته مازال يعيش في دائرة النظر أكثر من دائرة التطبيق(8).مراحل تطور المذهب الشيعي:
أما المذهب الإمامي الشيعي فهو كذلك مر بمراحل مختلفة لعبت التطورات السياسية، والاتجاهات العقلية والفكرية، في بقائه وتطوره دوراً كبيراً بدأت مدرسة الفقه الشيعي الإمامي من (المدينة) ثم انتقلت إلى (الكوفة) في عصر الإمام جعفر بن محمّد الصادق ـ عليه السلام ـ  لتبدأ عصر ازدهارها وانتشارها في فترة ما بين سقوط الحكومة الأموية، ونشوء الحكومة العباسية وحتى (الغيبة الكبرى) للإمام المهدي ـ عليه السلام ـ  في نهاية القرن الثالث الهجري، وتتسم هذه المرحلة بنمو الحركة العلمية عند الإمامية، وتدوين الحديث ونشر المذهب في البلاد المختلفة، وفيما بين القرن الرابع وحتى منتصف الخامس انتقلت المدرسة الإمامية من العراق إلى إيران وبالذات إلى (قم وري) التي أصبحت في ذلك الوقت معقلاً من معاقل الفقه الإمامي، بسبب الضغوط التي كان يواجهها علماؤهم من العباسيين، وقيام حكومة البويهيين ذات الولاء الشيعي وظهور شيوخ كبار في الفقه والحديث أمثال الكليني والصدوق وفي هذه الفترة نشطت حركة التأليف والبحث الفقهي وتدوين المجاميع الحديثة الموسعة كالكافي ومن لا يحضره الفقيه والتي تعتبر من الصحاح عندهم.
وفي القرن الخامس الهجري انتقلت المدرسة من (قم وري) إلى (بغداد) حاضرة العالم الإسلامي آنذاك وكان من أسباب هذا الانتقال هو، ضعف الحكم
العباسي وظهور شخصيات فقهية من بيوتات كبيرة في بغداد كالشيخ المفيد والسيد المرتضى، وتحولت بغداد إلى مركز ثقافي كبير من مراكز الحركة العقلية في العالم الإسلامي، يقطنه الآلاف من الفقهاء والمحدثين من كلّ المذاهب، وقد تبلورت ونمت مدرسة الفقه الشيعي في بغداد وخرج من دائرة عرض السنة ونقل الحديث إلى مرحلة الاجتهاد المطلق واستخدام الأصول والقواعد وظهور الفقه المقارن أو الفقه الخلافي وكان للشيخ الطوسي دور كبير في تكوين هذا الاتجاه وخصوصاً بعد انتقاله إلى النجف واستقرار مدرسة الفقه الإمامي الشيعي فيها (9).
وفي القرن العاشر الهجري ظهر تيار سلفي إخباري بين فقهاء الشيعة على يد الشيخ الاستر آبادي يعتمد الحديث والسنة كمصدر أساسي للفقه وكرد فعل لتطور واتساع الاعتماد على علم الأصول والحركة العقلية، ولكن بعد قرنين وبظهور العلامة الوحيد البهبهاني الذي أحيى الأصول وحركة الاجتهاد، سيطرت المدرسة الأصولية على الفقه الشيعي أي منذ ثلاثة قرون، ويعتبر أحياء المذهب الفقهي الشيعي منذ ثلاثة قرون وتوسع نشاط الحركة الفكرية وتطوير الاجتهاد من نتائج هذا الاتجاه، ولا يمكن أن ننسى دور الحكم الصفوي في اتساع رقعة التشيع في إيران وحواليها خلال تلك الفترة.
إنّ  نمو وتطور نظرية ولاية الفقيه، والفقه الشيعي ودخوله معترك الحياة السياسية والاجتماعية على يد الإمام الخميني رحمه الله ونمو الحركة الفكرية والإسلاميّة  في المجتمع الشيعي (10) يعتبر امتداداً للخط الاجتهادي والأصولي لهذه المدرسة الفقهية.  
ثالثا: التعصب المذهبي والطائفي وأثره على الأمة الإسلاميّة:
بعد نشوء المذاهب الكلامية والفقهية، ظهرت في كثير من المراحل ظاهرة التقليد لأئمة الفقه ثم التعصب للمذاهب وأصبح هذا التعصب مصدراً للتحامل والخصام والصراع بين الفقهاء، والناس، والحكومات الإسلاميّة، وفي كثير من الأحيان تبادل الفقهاء أو اتباعهم في دفاعهم عن مذاهبهم عبارات السخرية والعداوة وزعموا انهم بهذا ينصرون الدين، بيد أنهم كانوا يخذلونه بتفريق كلمة الأمة وساعد على حدة التعصب المذهبي النزعات العرقية والإقليمية وأهواء بعض الحكومات، أولئك الّذين جعلوا من المذهب ومن الخلاف والتفرق وسيلة لحماية استبدادهم وجورهم(11). ولقد عرف التاريخ الفقهي ألواناً من التعصب الكريه بين أتباع المذاهب تجلت بعض صورة فيلما يلي: صورة غربية من التعصب المذهبي والطائفي:
1 ـ المناظرات غير العلمية: فبالرغم من أن المناظرات كانت في عصر أئمة المذاهب تتخذ طابع البحث العلمي الذي يهدف التوصل إلى النتائج من مقدمات منطقية، وتعتمد الأمانة والصدق والتعاون العلمي ورعاية أدب الاختلاف، والتي أعطت الفقه أفكاراً جديدة وبلورة وازدهار(12) إلاّ أن المناظرات في عهد تلاميذهم وخصوصاً في عصر التخلف والتقليد لم يكن الغرض منها تمحيص المسائل وإظهار الحق وإنّما  محاولة إفحام الخصم. إنّ  التعصب هو الذي أحال مناظرات كثير من الفقهاء إلى صراع جدلي لا يعرف الموضوعية أو الأمانة وإنّما  يعرف قصد الغلبة والتظاهر بالعلم والفضل ففقدت مهمتها في تنمية الأفكار وتطويرها وأمست من عوامل ضعف الحياة العلمية وتعميق قوة الخلاف بين المذاهب الفقهية وتوهين روابط الوحدة.
2 ـ انتشار الأحكام الغربية في الفقه الإسلامي: وكان من أوزار التعصب المذهبي ظهور الآراء والأحكام غير اللائقة بحق اتباع المذاهب الأخرى كتحريم الزواج من مذهب آخر، أو بطلان الصلاة خلفه، أو تكفير اتباع المذهب الآخر، أو اعتبار آراء الغير باطلة ورأيه هو الصواب وما إلى ذلك من الآراء التي عمقت الخلاف والشقاق بين أبناء الأمة في فترات طويلة.
3 ـ العمل بخلاف طريقة الأئمة في الاجتهاد: بالرغم من أن أئمة الفقه والعلماء من السلف الصالح كانوا لا يرون قداسة لآرائهم، وكانوا يعتقدون بأن آراءهم اجتهادات عرضة للصواب والخطأ، وكانوا يخصون من يأخذ عنهم بأن يسلك سبيلهم في الاجتهاد، ولكن اتباع المذاهب صوروا المذهبية على أنها التزام مذهب معين ولا يجوز أن يعمل بغير مذهبه وأحياناً عليه أن يقبل آراء المذهب دون مناقشة لها أو اعتراض عليها، وقد أفتى بعضهم بأنه لا يجوز الانتقال من مذهب إلى آخر.
لقد دفع التعصب المذهبي إلى العكوف على تقليد المذاهب والدفاع عنها وعدم الخروج عليها وإن اشتلمت على بعض الآراء الضعيفة أو المخالفة للكتاب والسنة، وليس فقط ذلك وإنّما  كانوا يناهضون من يخرج على آراء السابقين ويصف الإمام الشوكاني (المتوفى عام 1250هـ) هذه الحالة المزرية ويقول في كتابه "القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد": فإذا تكلم عالم من علماء الاجتهاد بشيء يخالف ما يعتقده المقلدة قاموا عليه قومة جاهلية، ووافقهم على ذلك أهل الدنيا وأرباب السلطان، فإذا قدروا على الأضرار به في بدنه وماله فعلوا ذلك وهم بفعلهم مشكورون عند أبناء جنسهم من العامة والمقلدة، لأنهم قاموا بنصرة الدين بزعمهم، وذبوا عن الأئمة المتبوعين وعن مذاهبهم التي قد اعتقدها أتباعهم فيكون لهم بهذه الأفعال التي هي عين الجهل والضلال من الجاه والرفعة عند أبناء جنسهم ما لم يكن في حساب".
ويبدو أن هذا التعصب قد أعاق حركة الاجتهاد والتجديد التي حاول بعض الأعلام الّذين ظهروا في عصور الضعف والركود أن ينهضوا بها عن الانطلاق وكسر طوق المذهبية الذي خنق الحرية الفكرية وأكره الأمة على أن تسير في ركب التبعية المطلقة للآراء والاجتهادات التي خلت، والتي إنّ  صلحت لعصر فلن تصلح بالضرورة لغيره مما أطال أمد تخلفها وكسوف شمس نهضتها وفرق بين أبنائها وأعطى للدخلاء فرص السيطرة عليها والسعي لغزوها عسكرياً وفكرياً.
4 ـ الصراعات الدموية: كانت تلك الصورة المؤسفة للتعصب المذهبي في دائرة القول والكلام وكانت على جرائرها أيسر وقعاً وأخف وزنا من هذه الصورة المحزنة التي تمثلت في الصراع الدامي بين أتباع المذاهب حتّى في المساجد دون مراعاة لحرمتها يروى انه في سنة 326 هـ حصل في مصر قتال بين أتباع المذهب الشافعي، والمالكي، والحنفي في المسجد الجامع العتيق وقد وصل أمر هذا القتال إلى الإخشيد الذي كان واليها في ذلك الحين، فتدخل لفض النزاع ولم يتمكن من ذلك إلاّ بعد أن أرسل فرقة من الجنود طردت الفقهاء من المسجد ثم أمر بإغلاقه ولا يفتح إلاّ في أوقات الصلاة، وقد سمح للفقهاء بعد ذلك بالتدريس في المسجد بعد شفاعات، وجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي عند الحديث عن مدينة أصفهان وقد فشا الخراب في نواحيها، لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية، والحنفية،والحروب المتصلة بينهما، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها لا يخافون في ذلك إلاّ ولا ذمة.
ويتحدث ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء 12 عما وقع من فتن بين أرباب المذاهب والعقائد في بغداد فيذكر أنّه  في سنة 414 هـ حصل بين أهل الكرخ، وأهل باب البصرة فتن لا تحصى حصل فيها قتل ونهب وسلب ينحصر ولا ينضبط، ويقول أيضاً: وفي عام 422 هـ أغلق الشيعة الأسواق وعلقوا المسوح وخرجوا يبكون في الأزقة فأقبل عليهم أهل السنة في الحديد واقتتلوا اقتتالاً وقوى عليهم أهل السنة فقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
وهذا الصراع الدامي بقي حتّى العصر الحاضر، فقد نشرت مجلة رسالة الإسلام مجلد 14 في القاهرة عام 1382 هـ أن رجال الشرطة في مدينة كراتشي أعلنوا أن 120 شخصاً من المسلمين قد قتلوا كما أصيب 16 شخصاً آخرين على أثر معارك دامية نشبت بين السنة والشيعة في قرية ثاري التي تبعد 25 ميلاً عن العاصمة الباكستانية وحتى هذا الأيام نسمع أخباراً من هناك لنفس الأسباب.
5 ـ تعدد الجماعات في المسجد الواحد: وكان من ثمرات ذلك الصراع المؤسف، تعدد الجماعات في المسجد الواحد وبخاصة في المساجد الكبير كالجامع الأموي بدمشق، والجامع الأزهر بالقاهرة، وأكثر الجوامع في العراق وإيران، فقد أصبح لأتباع كلّ مذهب محراب وإمام، كما تعدد القضاة بحيث كان لكل مذهب قاض يمثله(13).حصيلة الطائفية التمزق والتخلف والاستبداد:
وكما كانت الصراعات والنزاعات الطائفية بين المذاهب الفقهية في
أصفهان، وبغداد، ودمشق، وراء نجاح المغول للسيطرة على البلاد الإسلاميّة، كذلك إنّ  هذه الصراعات كانت وراء سقوط أكبر حكومتين إسلاميتين هي الحكومة الصفوية في إيران، والخلافة العثمانية في تركيا فخلال حكم الدولتين العثمانية (الحنفية) والصفوية (الإمامية الشيعية) أصبح الصراع الطائفي في جانبه الأعظم صراعاً وتنافساً سياسياً مغلفاً بالشعارات المذهبية، وقد ساهمت في تعميقه دول أوروبا (التي كانت في بدايات نفوذها الخارجي)، بهدف تفتيت وحدة الدول الإسلاميّة فخلال انتصارات العثمانيين المتتالية في عمق أوروبا والتمدد الصفوي في المنطقة، وبعد أن أصبحتا أقوى دولتين في العالم الإسلامي أجمع، تحرك الأوروبيون لضربهما من الداخل، فنشبت الحروب بينهما، حتّى قيل أن أية دولة في العالم لم تستطع الوقوف بوجه العثمانيين سوى الدولة الصفوية، وأن أية دولة لم تعاد الصفويين أكثر من الدولة العثمانية وفي الوقت الذي كان فيه الأخوان (رو برت وانطو ني شرلي) الإنكليزيين متحمسين لصناعة المدافع النارية للشاه عباس الصفوي (ت 1629م) بغية استعمالها في الحرب ضد العثمانيين، فإن العثمانيين كانوا يخرجون شيعة العراق من الجيش أو الرتب العليا فيها (14)
 وقد كان التعصب المذهبي وراء قتل الحرية العقلية وتفرق الأمة الواحدة، واستبداد بعض الولاة والحكام بها، مما قضى عليها بالضعف والتخلف عدة قرون، وقد أتاح هذا لأعدائها لكي ينقضوا عليها، ويثأروا منها، فهم لم ينسوا جراحاتهم في حطين وغيرها من المعارك ولهذا سلبوا الأندلس، وصقلية، وجزر البحر المتوسط، وفلسطين، واحتلوا كثيراً من أقطارها، وفرضوا عليها قوانين وعادات تباعد بينها وبين أصالتها، وتسير بها شيئاً فشيئاً إلى الغربة الكاملة عن دينها وتراثها.
وإذا كانت الأمة الإسلاميّة تنعم في حاضر ها بالاستقلال والحرية فهي ما زالت تعاني من تلك الآثار، وليس أدل على ذلك من أنها تملك أسباب القوة والنهضة، ومع هذا تصنف ضمن الأمم الضعيفة المتخلفة أو الأمم النامية، لأنها لا زالت تجتر تاريخاً بغيضاً يمنعها من الوحدة والتعاون، والانتفاع بما تملك من إمكانات هائلة، بسبب تفرقتها ولم تبلغ في ثقافتها وعلمها مبلغاً يؤهلها لأن تلحق بالأمم التي سيقت في مضمار الحضارة والتقدم. رابعاً: رؤية الاتجاهات الإسلاميّة عن التقريب والوحدة:
وإذا كانت الرؤية القرآنية تعتبر الاختلاف والتفرق والتنازع هو السبب الرئيسي في الضياع والتخلف كما في الآيات الشريفة:
ـ ?ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم? "الأنفال: 26".
ـ ?... ولا تكونوا من المشركين من الّذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، كلّ حزب بما لديهم فرحون? "الروم: 31 ـ 32".
ـ ?أن الّذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء...? "الأنعام: 159".
ـ ?... وما اختلف الّذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم...?"آل عمران: 19".
فماذا فعل المسلمون في هذا الاتجاه لكي يتجاوزوا التعصب والطائفية ويصلوا إلى الحدّ  الأدنى من الوحدة الإسلاميّة: أطروحات الوحدة والتقريب:
اختلفت الاطروحات عن الوحدة الإسلاميّة، فهناك "الأطروحة المثالية" ـ على حد قول السيد محمّد حسين فضل الله ـ التي تواجه المشكلة بالروح الغيبية الضبابية التي تحاول إبعاد المشاكل الحية عن تفكير الأمة بالإيحاء بأنه لا خلافات صعبة بين المسلمين، وأن علينا تناسي القضايا الهامشية، والوقوف صفاً واحداً كالبنيان المرصوص في مواجهة الأعداء وهكذا يغرق الإنسان المسلم فيما يشبه الأحلام في أجواء عاطفية فيستسلم لهذا الخدر ثم يرجع إلى الواقع في داخل حياته اليومية، فيجد إمامه أكثر من مشكلة حادة، وأكثر من خلاف متحرك في عمق ممارساته وعلاقاته.
وهناك "الأطروحة الواقعية" التي تؤكد على مواطن اللقاء، كما تؤكد على مواطن الخلاف، ولكنها لا تضع مواطن الخلاف في الجانب الذاتي الشعوري للأمة، بل تضعها في الجانب الفكري من نشاطها، وتوحي بأن مثل هذه الخلافات ليست مقصورة على الفئات الكبيرة من المسلمين فيما بينها، بل هي موجودة في داخل كلّ طائفة أو مذهب ـ في أكثر من جانب فقهي أو كلامي ـ ثم تثير أما المسلمين قواعد الحوار القرآني الذي يريد للأمة أن  تناقش قضاياها في الداخل وفي الخارج من موقع التفكير الموضوعي الهادي الهادف إلى معرفة الحقيقة من أقرب طريق بالحجة والبرهان الواضح، وتقودهم إلى الأسلوب الأخلاقي في الصراع، الذي لا يستخدم كلمات السباب والشتائم في حركة الخلاف، بل يتحرك من موقع الجدال بالتي هي أحسن، واختيار الكلمة الأحسن والأسلوب الأحسن الذي يدفع بالأعداء إلى أن يتحولوا إلى أصدقاء.
وقد عاشت تجارب الوحدة ـ في أكثر من أسلوب ـ في التجارب الثقافية على التأكيد على الآفاق الوحدوية في الثقافة الإسلاميّة، كما عملت على إرجاع
الخلافات إلى أسس فكرية من المصادر الإسلاميّة كالكتاب والسنة في أسلوب إيحائي بالطابع الاجتهادي العلمي لهذا الخلاف وفي التجارب الاجتماعية، والسياسية، في اللقاء على أكثر من أرض إسلامية واحسن فيما يعيشه المسلمون من قضايا اجتماعية وسياسية مشتركة(15).نظرة المسلمين الشيعة إلى الوحدة الإسلاميّة:
أما نظرة الشيعة إلى الوحدة الإسلاميّة، فإن هناك اتجاهين إلى الوحدة:
الاتجاه الأول: الذي يرى أن مشروع الوحدة يعمل على تذويب الشيعة في المحيط الإسلامي العام ويؤدي إلى فقدان الركائز الأساسية لفكرة التشيع وهي الإمامة وما يتبعها من قضايا فكرية وفرعية فيتحول الشيعة إلى سنة وبذلك لن تكون عملية الوحدة إلاّ أسلوبا من أساليب احتواء فئة من المسلمين لفئة أخرى، وليست عملية جمع للمسلمين على أساس الحق ويضيف هؤلاء: إننا قد نوافق على عملية التذويب والاندماج لو كانت القضية قضية هامشية طارئة يمكن للإنسان أن يتجاوزها كما يتجاوز الكثير من القضايا الحياتية الطارئة، للمحافظة على المصلحة العامة، ولكن القضية تمثل ـ في وعينا الفكري ـ قضية التزامنا الإسلامي بخط الحق في العقيدة والتشريع، لأن مسألة الإمامة ليست مسألة شخص أو أشخاص أو موقف سياسي معين، بل هي مسألة القاعدة الشرعية التي انطلقت القناعة فيها من الدليل والبرهان، فلا يمكن للإنسان أن يتنازل عنها انطلاقاً من تسوية خاضعة لأوضاع معينة.
الاتجاه الثاني: الذي يرى أن مسألة الوحدة ليست مسألة إدخال الشيعة
في محيط السنة أو بالعكس في عملية اندماج وتذويب للشخصية الفكرية الخاصة التي يحملها كلّ واحد منهما بطريقة عاطفية، بل هي مسألة روحية نفسية في البداية كما هي مسألة فكرية عملية في النهاية، لأن قاعدة التفكير الوحدوي ترتكز على أساس الإيحاء للمسلمين بالروحية الإسلاميّة التي ينبغي أن تطبع شخصيتهم فيما تمثله الشهادتان من عقيدة والتزام وحركة في حياتهم العامة والخاصة، مهما اختلفت نظرتهم إلى التفاصيل، الأمر الذي يثير فيهم مشاعر الوحدة، ويحلق بهم في آفاقها، ويوحي لهم بمسؤولياتها لتكون هذه الروحية سبيلا من سبل اللقاء الذي يساعد علي التفاهم والتحاور والتعاون فيمكن للشيعي أن يقنع السني بطريقته في فهم الإسلام وفي ممارسته، كما يمكن للسني أن يقنع الشيعي بطريقته وبممارسته، ويمكن لهما أن يكتشفا من خلال اللقاء الفكري سبيلاً آخر.
ويضيف أصحاب هذا الاتجاه قائلين: إنّ  النتائج الإيجابية التي يحصل عليها المسلمون الشيعة في مسألة الوحدة لا تقاس بالنتائج السلبية التي يعيشونها في مسألة الفرقة والخلاف الفكري والعملي الذي يتحرك من موقع العقيدة الذاتية لا من موقع المصلحة العامة. نظرة المسلمين غير الشيعة إلى الوحدة:
أما نظرة المسلمين غير الشيعة إلى الوحدة مع الشيعة فهناك ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول: الذي ينظر إلى الشيعة بأنهم خارجون عن الإسلام فيما ينسبه إليهم أصحاب هذا الاتجاه من عقائد في الغلو، والشرك، وتحريف القرآن، أو إيمانهم بقرآن آخر غير هذا القرآن وما إلى ذلك من مفاهيم لا تلتقي مع الأسس العقائدية التي ركز الإسلام عليها فكره وشريعته، وبذلك لا يسعى لطرح قضية الوحدة معهم.
الاتجاه الثاني: الذي لا يرى في الشيعة هذا الرأي، بل يرى أنهم مسلمون فيما يرتكز ـ عليه السلام ـ  من عقيدة وشريعة، وأن الخلافات بينهم وبين السنة كالخلافات بين السنة أنفسهم في بعض تفاصيل العقيدة والشريعة، فهم مسلمون مخطئون في بعض ما يعتقدون، فحالهم حال أي مسلم مخطئ في اجتهاده فإن الخطأ لا يخرجه عن إسلامه بل يكون مسلماً خاطئاً مأجوراً، ولكن أصحاب هذا الاتجاه أيضاً لا يرون مصلحة في الوحدة مع الشيعة ولعل الواقع الذي يعيشه جمهور المسلمين من أهل السنة يعيش عمق هذا الاتجاه ولكن بدرجات مختلفة.
الاتجاه الثالث: الذي ينطلق في حركته الإسلاميّة من موقع الإيمان بوحدة المسلمين الواقعية، وبأن الخلافات فيما يختلفون فيه لا تضر بهذه الوحدة، كما لا تضر خلافات المذاهب بين بعضها في وحدتهم الإسلاميّة، وعلى هذا الأساس كانوا يرون في الوحدة أمراً واقعيا في عمق الشخصية الإسلاميّة، ولابد لنا من تحويله إلى خطوة عملية في حركة الإسلام في الحياة ويتمثل هذا الاتجاه في الحركات الإسلاميّة الواعية وفي الشخصيات الفكرية المسلمة التي تعيش مسئولية الإسلام من خلال الآفاق الرحبة الواسعة لا من خلال الآفاق الضيقة الخانقة، وقد ساهم أصحاب هذا الاتجاه في خلق جو وحدوي عام، وفي صنع مجتمعات هنا وهناك تعيش روحية الوحدة بانفتاح وإيمان وذلك من خلال اللقاء بالاتجاه الثاني الموجود في مجتمع المسلمين الشيعة الذي يرى في الوحدة عنصراً إيجابياً في حركة الإسلام العامة (16).
من خلال مجموعة خطوات ثقافية وعملية في هذا الاتجاه(17) ولا يزال الاختلاف حول الوحدة قائماً بين أصحاب هذه الاتجاهات المختلفة، ولا تزال الساحة تحفل في كلّ يوم بالجديد من النتائج السلبية والإيجابية في هذا الخط أو ذاك، ولا يزال المستقبل الإسلامي ينتظر النتائج النهائية لهذا الصراع، ليلتقي بالوحدة الإسلاميّة كنتيجة إيجابية للوعي الإسلامي الجديد... (18).

___________________
1  ـ بحث القي في ندوة مستجدات الفكر الإسلامي المعاصر الرابعة ـ الكويت بتاريخ 9 رجب 1415 هـ.
2  ـ نهج البلاغة.
3  ـ مجلة التوحيد العدد 11 ـ 1404 هـ حول الطائفية أنواعها وتطبيقاتها.
4  ـ  جذور المسألة الطائفية في الإسلام ـ علي المؤمن.
5  ـ نهج البلاغة ـ خطبة 127.
6  ـ جذور المسألة الطائفية في الإسلام ـ علي المؤمن.
7  ـ المذاهب الفقهية المعتبرة التي انتشرت وظلت حتّى عصرنا الحاضر هي: المذاهب السنية الأربعة المشهورة (المالكية والحنفية والحنبلية والشافعية) والمذهبان الشيعيان الإمامية والزيدية، ثم المذهب الاباضي.
8  ـ للمزيد انظر (منهج التقارب بين المذاهب الفقهية) د. محمّد الدسوقي.
9  ـ انظر تاريخ الفقه الشيعي في مقدمة كتاب (اللمعة الدمشقية) طبعة النجف 1386.
10  ـ راجع دراسة "منهجية التغيير والإصلاح في الفكر الإسلامي الشيعي" لصادق العبادي التي ألقيت في مؤتمر مناهج التغيير في الفكر الإسلامي المعاصر عام 1414 هـ في الكويت
11  ـ انظر الكتب التاريخية التي تكتب عن تاريخ الصراع المرير والدموي بين الحكومة العثمانية والحكومة الصفوية.
12  ـ لمعرفة المزيد من أسلوب المناظرات العلمية وأدب الاختلاف بين أئمة الفقه انظر كتاب (أدب الاختلاف في الإسلام) للدكتور طه جابر العلواني.
13  ـ مقالة (منهج التقارب بين المذاهب الفقهية) د. محمّد الدسوقي في مؤتمر الوحدة الإسلاميّة ـ طهران.
14  ـ كتاب إيران من الداخل ـ فهمي هويدي.
15  ـ العلامة محمّد حسين فضل الله ـ الشيعة والوحدة الإسلاميّة.
16  ـ العلامة محمّد حسين فضل الله ـ الشيعة والوحدة الإسلاميّة.
17  ـ قامت الجمهورية الإسلاميّة في إيران بتبني شعار الوحدة والتقارب بين المذاهب من خلال إحياء مؤسسة التقريب بين المذاهب التي جمدت نشاطها في مصر، وإقامة مؤتمر سنوي عن الوحدة والسبل العملية للتقريب، وتبني القاعدة الإسلاميّة في مجال الفكر والتشريع.
18  ـ طرح الكاتب في نهاية مقاله اقتراحات عملية على المؤتمر حذفناها للاختصار (التحرير). 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية