مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

دعوة الى العلماء والمفكرين
الدكتور صالح عضيمه

 هذا باب جديد نفتحه في المجلّة لحديث الصدور المتلهفة لأن تنفث ما فيها .. شرط أن تكون نفثة مخلصة صادقة تحمل همّ رسالة التقريب. ولكن لا شأن للمجلة فيما يطرح الكاتب فيها من تفاصيل وآراء واقتراحات ، ومن حقّ القارئ علينا أن ننشر رأيه وتعليقه على هذا الباب. وهذه الدعوة الى العلماء والمفكرين يوجهها باحث عربي يدرّس في الجامعات الفرنسية، ونأمل من نشرها أن نفتح صفحة من الحوار الجادّ الصريح البنّاء. من بين البلدان الاسلامية كلّها، يظلُّ العلماء في إيران وحدهم هم القادرين على أن يفعلوا ما يقولون وينجزوا ما يَعِدون. وذلك لأنّهم يحكمون أنفسهم، ويحكمون شعبهم بأنفسهم، ولأنّهم سادة على أرضهم، ثم لأنّهم علماءُ حقّاً، اتّخذوا من العلم سبيلاً لقيام الثورة، وصنعوا من الفقه والحكمة أداةً لتسيير الاُمور وتيسيرها بعد الثورة. والعلماءُ في إيران وحدهم، هم الذين امتنعوا على السياسة أن يُصبحوا مطيَّة لها، فخدعوها بالصبر عليها، وعالجوها بالترويض، حتى أصبحت هي المطيّة الذلول. زمامُها بين أيديهم وصهوتُها تحت اختيارهم. صحيح أنَّها تكبو بهم في بعض المواقف، ولكن سرعان ما تنهض وتسير. وصحيح أنهم يسقطون عن صهوتها في بعض الأوقات، لكنّهم يعودون إليها بكياسة ومهارة.
ولا مبالغةَ في قولي هذا ولا احتيال فيه لتحقيق رغبة، فقد عُرِفتُ بنقدي لهم، ومواجهتي إيّاهم، بمالم يكن يُرضيهم، في مواقف مشهورةولا حاجة لي بالمبالغة والاحتيال في أقوالي عنهم ولهم، وأنا الذي خبرتُهم حقَّ الخبرة وعرفتُهم حقَّ المعرفة، منذ صحبتي القويّة للقائد الراحل الإمام روح اللّه الموسوي الخميني، فقد رأيتهم من حوله كيف كانوا يتسابقون ويتدافعون للتضحية، ولا سبب لذلك إلا لأنهم علماء، ولا غاية لهم إلا أن يكونوا أوفياء للعلم، اُمناء على رسالته، وأتمنّى عليهم أن يظلّوا الأوفياء الاُمناء.
وهؤلاء العلماء، في جمهورية إيران الاسلامية - الذين إذا تكلّموا فعلوا، وإذا فعلوا أثّروا لأنهم الحاكمون وولاة الأمر - لولا أنّهم بذلوا كثيراً وضحّوا كثيراً، لما انتقلت ولاية الأمر إليهم، ولما أذعن الحكم بين أيديهم. فقد أصبحوا اليوم، إذا تكلّموا عن الحرب فعندهم القدرة على الحرب، وإذا تكلّموا عن السلم فهم أهل للسلم، واذا هم وعدوا بأنّهم سينصرون الاسلام وأهله في كلّ مكان، وسيخذلون الكفر وأهله في كلّ مكان، فإنّهم يبرّون بوعودهم، ولا يجدون حرجاً ممّا يفعلون، ولا يأبهون لعائق يعوق ولا لعدوّ يتربّص. أمّا العلماء المسلمون في الأقطار الاسلامية الاُخرى، فليسوا هنا، ولا هم يُقرّون إلى إخوانهم في ايران، ولا يستطيعون أن يكونوا مثلهم يفعلون ما يقولون، إلا إذا صاروا مثلهم حاكمين وقبضوا على ولاية الأمر، وأصبح لهم النهي والأمر.
نحن الآن لا نشكُّ في أقوالهم إذا قالوا، ولا نشكّك في نواياهم إذا همّوا، ونكنّ لهم كل تكريم وتجليل. ولكنّنا نشكُّ كل الشك في أن تسمح لهم السياسة، في أقطارهم، أن يقولوا مالا يرضيها، وأن يفعلوا ما يغضبها. إنها تسمح لهم أن يقولوا ما يشاؤون ويفعلوا ما يريدون، ماداموا لا يشكّلون خطراً، لاعليها ولا على مصالحها. وهذه السياسة، إذا هي خضعت للبحث والدراسة، ونزلت تحت حكم الخبرة والاختبار من هؤلاء العلماء، فإنّها تظهر متّهمة مرفوضة، لا تُمثّل شعباً، ولا تعبر عن طموحات اُمّة، ولا تعدو أن تكون وسيلة مسخّرة لتأريث التفرقة بين العرب والمسلمين، ونشر أسباب التخلّف والانحطاط في أوساطهم، كما لا يعدو هؤلاء القائمون على أمرها أن يكونوا عبداناً مأجورين بثمن بخس لأعداء الاسلام والمسلمين.
ونحن لا يدخل الى أذهاننا شكُّ في أنّ هؤلاء العلماء يفهمون جيّداً هذه السياسة المسلّطة على أعناق المسلمين وقلوبهم، ويعرفون جيّداً هؤلاء السياسيين الذين يعتنقونها وينزلون عند أمرها ويُخلصون في خدمتها. فكيف يصنعون بأقوالهم، إذا قالوا في المؤتمرات والندوات الاسلامية، إنّهم عازمون على حماية حوزة الاسلام مهما كانت التضحيات، وإنّهم جادّون في إعادة الحقوق المسلوبة إلى أهلها المسلمين المستضعفين، وإنهم لن يهدأوا ولن يتوقّفوا، حتى تعود كلمة الذين آمنوا هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وإنهم يضعون أنفسهم وأحوالهم وقدراتهم كلّها في يد كل مشروع من شأنه أن يضرب أعداء الاسلام ويذلّهم، ويرفع راية أهله ويُعزّ محبيه ونُصراءَه؟!
أقول: كيف سيصنعون بهذه الأقوال وباُخرى مثلها من الوعود، وهم تحت لواء ألدّ أعداء الاسلام، أعني تلك السياسة التي تقود اُمور بلدانهم، وفي أحضان أشرس خصماء المسلمين الذين هم حكّامهم وولاة اُمورهم؟ حاشا للّه أن نقول: إنهم يختانون أنفسهم، وإنّهم يخادعون ويتظاهرون، أو إنهم ينوون أن يكتفوا بظاهر من القول! ولكننا نقول: إن ما يظهرون من أقوال طيّبة وما يخفون من نوايا طيّبة، ستظلُّ كلّها حبيسة هذه السياسة وهؤلاء السياسيين، ولن يسمحوا لشيء منها أن يخرج من حبسه، إلا إذا كان يتّفق مع أغراضهم ومصالحهم، أو إذا كان لا يولّد أدنى خطر على أحلامهم ومطامعهم! وهكذا تضيع الأقوال في الرياح، وتختنق النوايا في صدور أصحابها، فلا تعرف إلى الظهور سبيلا.
نعم، وجدنا من هؤلاء العلماء الأجلاء، من يقول، إنَّه لا يتدخّلُ في السياسة العليا لبلاده، ولا يريد أن يكون له دور في هذه المسألة، ورفاقه يعملون في نشر الاسلام وتوسعته على هواهم وبملء حرّيتهم، ولا يجدون من السلطة إلا الترحيب والتشجيع، وهذا عندهم هو الطريق الأقوم والرأي الأصوب. ووجدنا من هؤلاء العلماء من يحمد سياسة بلاده ويدعو لها ويغتبط كلّ الاغتباط في أن يعيش تحت رايتها، وأن يكون ممثّلاً لها في المؤتمرات والندوات، وأن الدين تُفسده السياسة ويصلحه البعد عنها، ويرى أن للسياسة أربابها وأنّ للإسلام أربابه، ولا ينبغي لأحد
من الفريقين أن يتدخل في شؤون الآخر، ولا أن يتعدّى حدوده إلى مملكة غيره وممتلكاته، ويعتقد بأنه ليس هناك من حاجة لإعلان الخصومة والحرب على السياسة والسياسيين في بلاده، من أجل خدمة الاسلام ورفع شأنه، وعنده أن ذلك هو الفتنة والتخريب أو السعي الى الفتنة والتخريب.
ويتأوّل هذا الصنف الكريم من العلماء آيات من الذكر الحكيم لإثبات صواب رأيه، ويُدلي بطائفة من السنُّة النبويّة المطهّرة، تُحرّض كلُّها على السمع والطاعة للحاكم القائم، ويُصرّح بوضوح فيها بأنّ إطاعة السلطة الحاكمة مقرونة إلى طاعة اللّه ورسوله، وأنّ الخروج عليها هو خروج على اللّه ورسوله. واذا أضفنا الى هذه الآيات المتأوّلة والمتون النبوية هذا التاريخ الطويل، الذي كانت السلطة الحاكمة فيه تحظى دائماً بتأييد طبقة رجال الدين، أو قل بتسخيرها لبسط سيطرتها وهيبتها في الجموع والنفوس، عرفنا أنّ هذا الصنف من العلماء قد أوى الى ملجأ أمين وحصن حصين، يلتف حولهم فيه جمهور كبير من المسلمين، يصبح من العسير معه إخراجهم منه، ويظلُّ أعسر منه مجابهتهم فيه أو هدمه عليهم.
فلابدّ لنا، ولمن أدركته اليقظة من العلماء في الأقطار الاسلامية وانكشف الحقّ أمامه، من محاورة هؤلاء المتأوّلين ومجادلتهم بالتي هي أحسنُ، إشفاقاً على المسلمين من اتّساع نار الفتنة بينهم وازدياد التصدّع في بنيانهم وصفوفهم، فكفى ماهم فيه من الفتن ومن التمزّق والتشرذم ومن يدري؟ فلعلّ اللّه يخلق في أنفسهم، أثناء الحوار والتذكير أو بعدهما ، استجابة لصوت الحق وانقياداً لأمر الحقيقة.
ونقول لهؤلاء ولمن يمشي خلفهم ويشدّ معهم: إنّ مفهوم السلطة في الاسلام يعني القدرة على حمل المسؤولية في تسيير الاُمور ورعاية مصالح الناس، وينبغي أن تتصف بأنّها مخلصة في الرعاية وفيّة في حفظ الأمانة، عادلة في توزيع المصالح والحقوق، قادرة على توطيد الأمن والدفاع عن البلاد. ولا يرضى الاسلام أن يتّصف الحاكم المسلم بالتسلّط والاستبداد، ولا أن ينفرد بالسلطة ويستأثر بأسباب الحكم، بأيّ وجه ظهر وبأيّ لباس استتر، ولا يرضى بالفساد صغيره وكبيره، ولا يرضى بالتخبط والفوضى، ولا يرضى بالثراء الفاحش، ولا يرضى بكلّ ما يتصل بهذه
الأوصاف من أسباب، قريبة كانت أو بعيدة. وهذا مالا يختلف عليه علماء المسلمين وعوامّهم.
وإذا وجد هذا الصنف من العلماء، أنّ السلطات التي يعيشون تحت رايتها هي محميّة بالنصوص الدينية المقدّسة، وأنهم أقوياء في الدفاع عنها، نقول لهم بكلّ لطف وطيب خاطر: هاتوا ما عندكم، فكلّما أتيتم بآية مؤوّلة أو متأوّلة، تحمي هذه السلطات وتمكّنها، نأتيكم بعشرين آية واضحة، لا محلّ للتأويل فيها، تُلغي هذه السلطات وتقتلعها، وكلّما جئتم بحديث نبويّ طاهر شريف، نأتيكم بخمسين حديث أو بمئة، وكلّها ترجم هذه السلطات وتقتلها. وكلّما أدليتم لنا بأثر أو قصّة أو واقعة، في مراحل الاسلام ومراحل الحياة كلّها قبل الاسلام أيضاً، ندلي لكم بمائة أثر وقصة وواقعة ، ليس فيها إلا رفض هذه السلطات وإبعادها.
فماذا تريدون بعد ذلك؟ إذا كنتم تريدون وجه اللّه، فهذه الساحات أمامكم، فتقدّموا واختاروا الطريق إليه، إنّه أقربُ اليكم من أنفسكم. وإن كنتم تريدون نعيم السلطان، فاذهبوا إليه، فمتعة عابرةٌ تعقبها غصّةٌ دائمة.
ونقول لهذا الصنف من العلماء: إنّ اُمور الناس هي أمانة في أعناق العلماء، وليست في أعناق الجهلاء والشطّار والخبثاء، وهي ملك لهم، لا يجوز لهم التنازل عنها، ولا التهاون بها، وهي الخلافة الالهية التي لا يستحق أحد على الأرض أن يتقلّدها إلا العلماء، واذا هي وجدت فى يد أحد من الناس سواهم، فلأنّهم أهملوها وعافوها، واستعاضوا عنها بالهيّن الرخيص . فلماذا يتهاون السادة العلماء بهذا الحقّ الذي اختصهم اللّه به، وبه فضّلهم على غيرهم من البشر، وجعلهم أئمة وقادة لهم؟! فإذا كانوا يخافون من السلطة وغضبها، فاللّه أحق أن يخافوه ويخافوا غضبه وعقابه، وإذا كانوا يخافون من الحرمان والتعذيب والنكال، فإن ما يلاقونه بينهم من حسد وتباغض، وماقد يلاقونه من أبنائهم وإخوانهم وأقربائهم من الأذى والسطو، ليس بأهون من الحرمان والتعذيب والنكال، ثم لا يحسبون أنفسهم أنّهم بمنأى عن المصائب والأمراض أو عن تربّص السلطة نفسها وأذاها.
واذا استعان هذا الصنف من العلماء بحجّة اُخرى، نسمعها من بعضهم ونقرؤها
عن بعضهم الآخر،وهي قولهم: إنّ السكوت عن السلطان الحاكم الظالم وترك أمره الى اللّه، هو إخماد فتنة، وإن القيام ضدّه هو إشعال فتنة لا تبقي نارها ولا تذر، هي حجّة غير خافية على أحد، وهي واهية، ومن لا يعرف أن الفساد الذي يتولّد عن السلطان وجنوده وأعوانه وأذياله، تأتي شروره وأضراره أشدّ وأقوى بكثير من الشرور والأضرار التي تتولّد عن قيام العلماء في وجه هذا السلطان الفاسد الظالم؟! فقتل الأبرياء، وجلد الأوفياء، وإهدار حقوق الشعب، والتهاون بالقيم، وتبذير الثروات والخيرات، والاستهانة بدين اللّه وشرعه، والتعدّي على الحرمات، هذه هي بعض أضرار السلطان الظالم وبعض شروره، فأين منها أضرار مجابهته والقيام عليه؟ إنها لا تكاد تقف إلى جانبها في حجمها ونوعها ومدى الآثار السيئة التي تخلّفه على البشر والأرض. واذا قبلنا مع هذا الصنف من العلماء بالسكوت على الحاكم الظالم، خوفاً من الفتنة وإشفاقاً على الناس، فكيف نقبل بالمفاسد التي تختال أمامنا في كلّ مكان، وبالتعاون مع أبالسة السياسة أعداء اللّه وأعداء عهد اللّه؟
أحكي لكم، أنّ المقرّبين من الإمام الخميني كانوا يقولون له أيام منفاه: إن هيئة العلماء في بلد من البلدان العربية، أصدرت بياناً تستنكر فيه الأعمال الهمجية التي اقترفها العدو الغاصب في فلسطين. فكان يبتسم، ويقول لهم: لقد أتعبوا أنفسهم، ولم يجنوا غير التعب ! لماذا لا ينهضون في وجه السلطان الظالم، والحاكم القائم عليهم بالقمع والجبروت، ويصبحون هم ولاة الأمر، ويستنفرون شعبهم وطاقاته للهجوم على العدوّ والدخول ضده في حرب حتى يأذن اللّه لهم بالنصر. إن بلداً واحداً من هذه البلدان المجاورة للعدوّ الغاصب، إذا أعد شعبه وجهّزه، فإنّه سيعود وحده قادراً على دحر المغتصب الظالم واسترداد ما اغتصبه منه. نحن لا نُحبّ أن نكتفي بالبيانات، فانظرونا حتى نقتلع الشاه الخبيث وتصير ولاية الأمر الينا، فعند ذلك سترون منّا مالا تتوقعونه. وصدق - رحمه اللّه رحمة واسعة - فلقد رأينا ورأينا ولا نزال نرى كلّ يوم ما يغني عن السمع وعن القول معاً.
ولماذا الخوف من الحاكم الظالم؟ وما الذي فيه غير ظلمه وعنفه وجبروته حتى يبعث في نفوسنا الخوف؟ إن أدواته وأساليبه في الحكم وأخلاقه ونزواته لا تساوى
شيئاً في جنب الشيطان وكيده، واللّه يقول فيه: (... إنّ كيد الشيطان كان ضعيفا)(1)فكيف لا نفهم من هذا القول، أنّ اللّه يوقظ الانسان من غفلته، ويلقي في قلبه الشجاعة والأمل لمقاومة الشيطان وجنوده؟ وكيف لا ندري أنه يزوّده بسلاح جديد، حين يكشف له عن عدوّه الشيطان؟ ومن لا يعلم أن الضعف في العدوّ هو سلاح لابدّ أن ينقلب عليه متى انكشف للطرف الآخر الذي يغالبه ويحاربه؟
ونحن لا نختلف، في أنّ البلاد وشعبها وأرضها هي أمانة في عنق الحاكم، وهي أيضا أمانة في أعناق العلماء وزناً بوزن وحبّة بحبّة كما يقولون، فإذا انحرف الحاكم وتطاول واستبد، فقد بقي الخير والأمل في العلماء ماداموا لم يطاوعوه ولم يقبلوا سيرته في الحكم وتدبيره الأحوال والاُمور. أما إذا انضموا إليه وأيّدوه، فيما يقول ويفعل بفتوى تعتمد نصاً مزوّراً، أو بحجّة تقوم على نصّ متأول، دفعاً للفتنة أو ركوناً إلى السكوت والصبر، فإنّ ما سيعانيه الشعب من عواقب ذلك يأتي أشدّ من ألف فتنة وأمرّ من ألف صبر. وهل هذه العواقب إلا الضعف والفساد والفقر والتخلف والانحلال وأمثالها من المبيدات والمدمّرات، وقد سبق ذكرها؟!
ومن للشعب في عسره ويسره الا علماؤه وقادة الفكر فيه؟ إنهم إذا انسدّت الدنيا في وجهه، وأظلمت عليه الحياة، يصيرون له النوافذ التي تحمل إليه النسائم وتأتيه بالضياء. وإذا خانه حُكّامه وخانوا بمواعيدهم وانقلبوا عليه، فإنّ العلماء وأرباب الفكر، ينقلبون آنذاك إلى وقود يدخل الى النفوس فيوهجها ويخلق فيها الحركة والتوثّب، ويتحوّلون إلى أشعة كاشفة، تهدي الى الطريق اللاحب القويم. وليس الوقود إلا التضحيات وليست الأشعّة إلا أقوال الحق وأفعال الحق . ولولا أمثال هؤلاء العلماء وقادة الفكر لتأخّر تطوّر البشرية أحقاباً طويلة، ولابتليت الشعوب بالعقم، والحياة بالقحط، وأصبح انقطاع العيش خيراً من استمراره.
وربّما اتّفق لهؤلاء العلماء الذين يتعايشون مع الحاكم الظالم، أن يجدوا ملجأً آخر حصيناً يهربون إليه، وهو حُجّتهم بأنّ عملهم ينحصر في الوعظ والإرشاد
1- النساء / 76 .وتفهيم الناس اُمور دينهم، والدعوة إلى الاسلام، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يُريب ويهدّد الأمن والسلامة. وأرى أنهم أقوياء في هذه الحجّة، وليس لأحد أن يعكّر عليهم صفوهم وهدوءهم فيها، ولا أن يزدريهم ويهوّن من جهودهم، ويقول: هذا عمل هيّن يلجأ إليه الضعفاء، فلا يُعوّل عليه في سيرة البناء والإصلاح، ولا دوره محسوب من الأدوار الكبرى في يقظة الاُمة وتنمية البلاد.
بل نريد أن نذهب في رأينا إلى وجهة اُخرى ، فنحمد لهؤلاء العلماء غيرتهم على الدين ونبارك مساعيهم وجهودهم في نشر الاسلام وتفهيمه وتوسيع رقعة المهتمين به والمتطلّعين إليه، وليسمحوا لنا الآن أن نكون معهم، وأن نصير بجانبهم، نرفدهم بما عندنا من نظرة أو خبرة، تزيدهم قوّةً على قوّة وتمكّن لهم دورهم في صنع العقول وتنمية المواهب والمدارك، وما نريده منهم هو أن يعملوا على تنقية صورة الاسلام من هذه الشوائب التي أضافها إليه أصحابه الجاهلون المعدودون في المسلمين، ومن كيد أعدائه المتربّصين به، فالجاهل لا يعلم ماذا يعمل ولا كيف يعمل، والعدوّ لا يرحم فيما يعمل ولن اُطيل الشرح والتعريف بهذه الصورة، فلا يوجد هناك من لا يعرفها سواء في الجملة أو في التفصيل . ونقول بأيسر ما يكون الايجاز والدقة: إنّها صورة حزينة مضطربة لا تكاد تهدأ على معنىً، تبدو في أكثر الأحيان والأحوال قاتمة، واذا هي أشرقت فإشراقتها شاحبة غامضة، لا تبعث في النفس التفاؤل، ولا تدعو إلى الاطمئنان.
فهل هذه الصورة التي قدّمنا تعريفها هي الاسلام في واقعه وعلى حقيقته، أم أنّ فيها ملامح ومخايل من الاسلام، أم أنّ الاسلام شيءٌ آخر غيرها؟ وهذه المسألة هي أُم المسائل في تاريخنا كلّه وفي حياتنا كلّها، ولا نقدر نحن أن نأتي الا على بسط ما تيسّر منها أو على وضع إشارات وتنبيهات تصلح لأن تكون بدايةً لخطة عمل طويلة، لسنوات ممتدة في الطول، يشترك فيها علماء المسلمين ومفكّروهم بهمّة ونشاط لا يعرفان الفتور، حتى يأذن اللّه لهذه الاُمّة بالتحوّل الى الحال الأفضل. وبالانتقال في مدارج الترقي والصعود، وتصبح أهلا لأخذ محلّ قول الحقّ سبحانه: (كنتم خير اُمّة
اُخرجت للناس...)1 فأنا من الذين يرون أن معنى "الاُمة" في الآية هو الدين أو الشريعة أو الأئمة، وليس هو المسلمين عامّة كما ذهب إليه فريق من المفسّرين. فهذه الحال التي وجِدَ بها المسلمون منذ زمن طويل، والتي تتّصف بالتفسخ والفساد والتمزّق، لا تسمح لهم أن يأخذوا معنى الآية ولا أن يرتقوا إلى موضع قصدها.
ولكي لا نتّهم بأننا لم ننظر إلا بعين واحدة إلى واقع الاسلام والمسلمين، وأننا أسرفنا في التشاؤم واليأس، فسوف نأتي فيما بقي من الحديث على ذكر بعض الأمثلة في الفكر الاسلامي وعرض بعض المناظر لحياة الاسلام والمسلمين تقوم كلّها شاهداً ودليلا على أننا رأينا بعينين سليمتين وعقل سليم، وأنّ الصورة التي قدّمناها لواقع الاسلام والمسلمين، هي صورة صحيحة لواقع صحيح، والناس كلّهم من مسلمين يرونها معنا كما نراها، بل ويشهدون معنا كما نشهد، أنّ الاسلام هو في قفص عند المسلمين، وأنّه عاد غريباً بينهم كما بدأ بينهم غريباً.
ولن نرضى لهذه الأمثلة والمناظر أن تؤدّي دوراً وصفياً، أو بمعنىً آخر أن تأتي شاهداً ودليلاً على صحّة رؤيتنا وسلامتها فحسب، بل نريد لها أن تؤدّي دوراً تحليلياً، يصحّ أن نسمّيه النقد لأنماط التفكير عند المسلمين أو الكشف عن ضعف محاكمة النصوص في تاريخ الفكر الاسلامي. ونوسّع في الإيضاح أكثر فنقول: نحن نصدّق بأنّ الايمان، هو نور يقذفه اللّه في القلب، وأنّ هذا الايمان هو الحدس الذي لا يخلو منه مخلوق بشري، وإنْ تفاوتت الدرجات فيما بينهم بالقوة والضعف، ونصدّق أنّ إيمان المسلمين الأوائل، كان على درجة من قوّة التوهّج، يسمح لهم بأن يستعملوه في الكشف عن مناجم الصدق في النصوص وعن مناجم الكذب والزور فيها، أو أن يميّزوا بين الخبيث والطيب في النصوص الدينية المروية وفي فهمها ودرايتها، فهل أحجموا عن استعمال هذا النور الكاشف لتأدية هذا الدور، أم أنّهم استعملوه وأفلحوا في استعماله، ولكن لم يصلْ إلينا من ثمرات هذا الاستعمال إلا خيوط رفيعة؟
والحقّ أقول أنهم استعملوه وأكثروا من استعماله، ولم يكن في بمقدورهم إلا أن
1- آل عمران / 110 .
يفعلوا كذلك، كالعين عند الانسان ، ليس بمقدوره أن يمتنع عن الرؤية بها عندما يفتحها. أمّا لماذا لم يصل الينا من ثمرات هذا الاستعمال وقطافه إلا ما بأيدينا من خيوط رفيعة؟ ولماذا توقّف هذا الاستعمالُ حتى كاد أن يضمر وينعدم؟ فلأنّ أسباباً مختلفة وجدت في كلّ مكان وجد فيه المسلمون، ونمت وأُوتيت حظّاً من القوة والانتشار أصبحت معه أقوى من إيمان المسلمين المؤمنين ومن ثمرات استعمالهم له في الكشف والتمييز . وهذه الأسباب القويّة المختلفة، هي كلّها ترجع إلى طبيعة واحدة، ألا وهي السياسة.
ومن لا يعرف السياسة وما تَلِدُه من عداوات وأحقاد وخصومات وحروب، وتأليف وتركيب، وطمس وإظهار؟! هذه السياسة التي بدأت خيوطها بالانفتال والانعقاد، منذ الكلمة الاُولى التي خرجت من فم الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) ، تبشّر بالدين الجديد والرسالة الخالدة، ثم الهجرة وما جرى فيها، والغزوات وما أحدثته من خلخلة، إلى الاختلافات عند احتضار الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) ، والاختلافات بعد رحلته الى الرفيق الأعلى في سقيفة بني ساعدة، إلى الحروب في عهد الصدّيق، إلى استشهاد الفاروق عمر، إلى الفتن التي قامت في خلافة عثمان والتي انتهت باستشهاده، ثم الفتن الطخياء والحروب الطاحنة في عهد الإمام علي، وإذا وصلنا الى الملك العضوض الذي أسّسه معاوية بن أبي سفيان، فلك أن تحدّث ثم تحدّث فلا تنقطع عن الحديث إلى يوم القيامة.
فهذه السلسلة الطويلة العريضة من الأحداث والحوادث والواقع والوقائع، خلقت سلسلة طويلة من السياسات، في كلّ سياسة منها دنيا لا تحدُّ من العجائب أقلّها وأضعفها أن الحقّ صار باطلا والباطل حقّاً، والصغير كبيراً، والكبير صغيرا، والعاقل مجنوناً والمجنون عاقلاً ، فكيف والحال هذه لا يضمر حسُّ النقد عند المفكّر الاسلامي؟ ثم كيف لا تُشرف على الاختناق عنده قوّة التمييز بين النصوص القوية والاُخرى الضعيفة، وقدرة التحليل والتعليل للحوادث والأحداث، وقد انسدّت أمامه كلّ أبواب الحريّة، ولم يعد يتنفّس أو يرى النور، إلا من كوى صغيرة لا تكاد تبين؟
وفي ظلّ هذه السياسات، عاشت حياتنا الماضية وحضارتنا، بكلّ ما تقوم عليها
الحياة والحضارة من أسباب وألوان، كالعلوم والفنون والتاريخ، ولا تزال حياتنا وحضارتنا في جزء كبير منهما تعيشان وتدرجان في ظلّ هذه السياسات أيضاً. فكيف سنتخلّص منها، وقد صبغت هويّتنا بأصباغها؟ بل قل تكوّنت هويّتنا خيطاً فخيطاً من غزلها. وكلّما قلنا إن محاولةً قامت هنا أو هناك لتعيدنا إلى أصلنا الذي انفصلنا عنه، أو تعيد الينا ما فقدناه بسبب هذه السياسات، يجبهنا واقعنا بخيبة الأمل، ويقذفنا الأمل بمرارة ذات طعم جديد، تُضاف الى المرارات المتقدّمة.
وإنّا، وإن كنّا عقدنا الرجاء على الثورة الفكرية الاسلامية في إيران، ورأينا الأمل يكبر فيها يوماً بعد يوم، لا نزال نعتقد بأن المسألة تحتاج الى معجزة أو ما يشبه المعجزة. وكيف لا نعتقد بذلك، وقد رأينا مالاقاه شقيقنا الشعب الإيراني حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولا يزال في أوّل الطريق؟ هل تدرون أن كلّ بلد مسلم، إذا أراد أن يصنع صنيع الشعب في إيران، يحتاج إلى البذل والتضحيات والمعاناة ما احتاج إليه الشعب في إيران، وربّما كانت حاجته أكثر وأعقد.
واذا كانت هذه الأمثلة التي سنقدّمها الآن ، تبدو سهلةً يسيرة بجنب آمالنا وطموحاتنا، وبجنب التحدّيات التي تحيط بها، فهي - ولا شكّ - المقدمات الاُولى لهذه الآمال، والباب الذي ندخل منه لنلاقي طموحاتنا وننعم بها .
ولماذا لا نجعل من الحديث في سيرة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) المثل الأول من أمثلتنا التي وعدتنا بها هذه السيرة التي تعيش في أذهان المسلمين أكثر ممّا تعيش في الأوراق وبين السطور، والتي لا يخفى أمرها على أصحاب الحسّ النقدي وأرباب البصائر النفاذة. أقول هذه السيرة تعاني من تناقضات شديدة، لا يوجد أشدّ منها إلا هذه الصعوبة التي تمنع ايجاد التلاؤم والتوافق فيما بينها. فعلى حين تقرأ لمؤرخ من مؤرّخي السيرة، يُحدّثك عن عَظمَة الرسول(صلى الله عليه وآله) وسبقه الأنبياء جميعهم بالعلوّ والقرب من اللّه، وعن عصمته والمعجزات التي ظهرت على يديه، وأنّه كان نوراً موجوداً قبل التكوين، وما إلى ذلك من الأخبار والأسرار التي تشدَهُ الفكر وتخلب اللبّ، تقرأ لمؤرّخ آخر سيرة اُخرى تختلف بمنهجها وتفسيرها وتحليلها. صحيح أنّك تقرأ فيها التعظيم والتبجيل، ولكن بدرجة أدنى مما عند سابقه وعلى حرارة
أخفّ . فهو - مثلاً - يعترف بعصمة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، فيما يتّصل بالوحي والشريعة وشؤون الدين، ولكنه ينكر عصمته في شؤون الدنيا، ويرى أنّه يبقى خارج دائرة الوحي والنبوّة، بشراً آخر، يسلك كما يسلك البشر، فيخطئ أحياناً ويصيب أحياناً اُخرى . ويردّد لتأكيد مقولته من الآيات: (قُل إنّما أنا بشر مثلكم....)(1)، ومثيلاتها التي هي غير قليلة.
ويتأزّم التناقض في أخبار السيرة أحياناً، بين ما يرويه الوحي عنه وبين ما يرويه الرواة، ثم بين كل من هذين وبين الأحاديث المودعة في الصحاح والأسانيد; فأنت تقرأ قصّة الاعرابي الذي أخذ بثوب الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) من عنقه، وسأله حقّه بشيء من الغلظة والخشونة، فيعطيه حقّه ويأخذ من الاعرابي إعجابه واعترافه بسموّ أخلاقه، ممّا جعله بعد فترة من الوقت يستجيب للاسلام ويدخل تحت راية الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) وقيادته. ثم تقرأ بجانبها قصّته مع عبد اللّه بن اُمّ مكتوم، التي كانت سبباً في نزول سورة "عبس"، فيستولي عليك شيء من العجب وتقع في الحيرة والذهول. كيف يصدّق العقل أن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)أشاح بوجهه عن هذا الأعمى الذي جاء يطلب الهداية ويلحّ في طلبها، وانصرف إلى ثُلّة من عُتاة قريش وجبّاريها، يُلاينهم ويشوّقهم إلى الدخول في الاسلام؟ ولو أنّ هذه القصّة رُويت عن شيخ من شيوخ القبائل أو زعيم من زعماء الأحزاب، لتردّد العقل قليلاً في قبولها، واستكبر أن تُروى إلا عن تاجر أو بائع أو مقاول، فما قولك في قبولها وهي تذكر عند جلّة المفسّرين أنّها من أسباب نزول السورة المذكورة، وأنها تفسّر الآيات الاُولى منها؟! وبدون هذه القصّة، لا يستقيم في رأيهم أمر النزول ولا أمر التفسير.
إذن، كيف يستقيم لهم أن يوفّقوا بين وصف الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) وسلوكه، فيما أوردوه من شرح على هذه الآيات، وبين وصفه وسلوكه، في شروح اُخرى ذكروها على آيات اُخرى، نذكر منها الآية: (... ولو كنت فظّاً غليظَ القلب لانفضّوا من حولك...)(2) والآية: (وإنّك لعلى خُلُق عظيم)(3) فلو رحنا نستقصي معنى الخلق
1- الكهف / 110 .
2- آل عمران / 159 .
3- القلم / 4 .
 
العظيم في هذه الآية، لرأينا أنه العصمة الكاملة في اُمور الدين والدنيا والاُخرى، منذ أن خلقه اللّه تعالى حتّى عودته إليه، بل ونقترب من المعنى الذي يقول، إنّ بشريته كانت تفضل بشريّة البشر ونسألهم: كيف يدافعون عن هذه الثغرة الكبيرة من ثغرات السيرة، حين يوتّر أحد من الرماة الأعداء قوسه ليرمي كبد الاسلام والمسلمين من هذه الثغرة؟ ربّما يحلو لهم أن يقولوا ، إنّ الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) كان فيما عدا الوحي والنبوّة بشراً، له ما للبشر من الصواب وعليه ما عليهم من الخطأ ونقول لهم: ومن هذه الحجّة يستفيد الأعداء المتربّصون، فيكيلون لنا الضربات ويوقعون بنا الأذى.
وربما تبدو هذه الثغرة هيّنةً بسيطة، إذا هي وُضعت بجانب غيرها من الثغرات; فأين هي من تلك الثغرة التي أحدثها شرحهم لإلقاء الشيطان في أمنية كلّ رسول ونبيّ إذا تمنّى، كما هو معلوم في محلّه من سورة الحج، أو هذه الثغرة التي لا يمكن الاعتذار عن خلقها ونسبتها الى الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وهي ما يروونه من مدحه لأصنام كبار مشركي قريش وتعظيمه آلهتهم وخلطه ذلك بالقرآن وهو يقرأ عليهم سورة النجم!
والحق، أنّ ما ورد من مرويّات وأقوال تشرح وتفسّر هذه الثغرات وأمثالها الكثيرة، أو تعلّل الشرح وتحلّل التفسير، وكأنّها تحاول طمس هذه الثغرات وتسويتها، أصبحت هي نفسها ثغرات اُخرى، وسوف تتحوّل كلُّ محاولة تلامس هذه الثغرات إلى ثغرة جديدة، إذا هي لجأت الى المنطق الذي لجأت اليه المحاولات السابقة، أو إذا لم تخترع لنفسها أداةً كاشفةً، تكشف بها عن الحقيقة الضائعة في غابة كثيفة من الأقوال والمرويّات.
ومن يماري في أنّ دراسة ظاهرة الوحي دراسة شاملة معمّقة، والدخول إلى أسرار النبوّة على ضوء معطيات العلوم المتطورة والفنون، تسمح لنا بأن نسير خطوة طيّبة على هذا الطريق الطويل، وأن نتلمّس العناصر الاُولى التي تمكّننا من
الوقوف على أسباب نشوء هذه الثغرات، وتمدّنا بأسباب تفي بطمسها، أو قل تُهيّئُ لنا استعداداً لفهمها على وجهها الصحيح؟! ومتى فهم الشيء الغامض على وجهه الصحيح، فإنّ الغموض الذي هو سبب الثغرة فيه ينطمس ويزول، ومتى استقرّ الشيء المضطرب على حال بيّنة، فإن الوضوح هو الذي يُشرق من هذه الحال، لأن الاضطراب هو مادّة كل قلق وحيرة، وفي كلّ هذه الأعمال، ومع كلّ تلك المحاولات. اذا لم يترك العقل الكاشف وحرّيته في البحث والكشف ، فإنّ نقصاً واضحاً سيظل يعذبنا ويقلقنا، وربّما يحول بيننا وبين الوصول.
وما أعمق تلك الشروح وأوسع تلك الثغرات التي نواجهها في سيرة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، ونحن نقرأ ما أسندوه إلى السيدة عائشة من أقوال ومرويات وقصص وحكايات، لا يدري العقل معها كيف يصدّق وكيف يكذّب. فموقعها من الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) يدفعك الى التصديق، وموقع الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) من ربّه يدفعك إلى التكذيب، لا سيما تلك القصص والحكايات التي يرتجف القلم فلا يكاد يكتبها، ويتعثّر اللسان فلا يكاد ينطق بها... لو أنّ بعضها رُوي عن أدنى مسلم موجود بيننا لاستكبرنا عليه أن يفعلها وأبينا أن نصدّقها ومن أراد أن يدافع عنها بقوله: إنّها علمتنا فقهاً وأحيت لنا سُنة بهذه الأقوال والمرويات نقول له: سامحك اللّه بهذا الفقه وهذه السنّة، فاتركنا نفتّش في سيرة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) عن فقه آخر، هو أجدى لنا، وسنّة اُخرى هي ألصق وأليق بتلك السيرة الشريفة الطاهرة.
وهذا الذي خطر ببالي وأردت أن أقوله لكم عن الشروخ والثغرات في السيرة النبوية، لم يكن أكثر من إشارات صغيرة تقودنا إلى أخطار كبيرة، أرى المكان هنا يسمح لي بأن ألفت أنظاركم إليها على وجه الإجمال. ومنها أن ما نقلته الصحاح والأسانيد من أحاديث حدّثت بها السيّدة عائشة عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، عندما ندرسها دراسة عميقة، ونقارن بينها وبين أحاديث حدّث بها غيرها من كبار الصحابة، من حيث المعنى والتناسق ومن حيث حرارة علاقتها بروح القرآن وروح الرسالة الخالدة التي هي حياة الرسول الأعظم وكيانه، اذا فعلنا ذلك فإننا واجدون ما يدعونا إلى ضرورة الاحتراس في قبول كثير من الأحاديث المرويّة عنها ووجوب
الأخذ بالشدّة والتمحيص ، قبل الاطمئنان إليها والتسليم بها.
ما دمنا قد وصلنا إلى هنا، لماذا لا نوقظ الخواطر إلى ما يواجهنا في الأحاديث النبوية نفسها من شروخ وثغرات؟ ومنها أننا نرى أنفسنا أحياناً أمام طائفة من الأحاديث تختلف فيما بينها ولا تتفق، وأحياناً أمام طائفة اُخرى من الأحاديث تختلف والقرآن، ولا سبيل لها إلى الاتفاق معه. وهذا أمرٌ ليس بخاف على المفكرين والدارسين، فقد تفاوت اهتمامهم به بين من أجمل فيه وبين من فصّل بعض التفصيل، ومن حقّه علينا جميعاً، أن يأخذ منّا الاهتمام الأشدّ وأن تُسلّط عليه أشعة البحث والتفكير حتى لا تخفى منه خافية.
ومن الأمثلة التي نقدّمها على النوع الأوّل، أي الأحاديث التي تتناقض بعضها مع بعض، ما رواه عبد اللّه بن عمرو بن العاص : "قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من النبي(صلى الله عليه وآله) ، وأريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كلّ شيء تسمعه، ورسول اللّه بشر يتكلّم في الغضب والرضا. فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول اللّه، فأومأ بـإصبعه إلى فيه، فقال: أكتب ، فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق". رواه أبو داود. فهذا الحديث يناقض عدداً من الأحاديث الاُخرى التي ينهى فيها الرسول الأعظم أن يكتب عنه أي شيء غير القرآن، ومنها حديث أبي سعيد الخدري: "لا تكتبوا عنّي سوى القرآن، فمن كتب عنّي شيئاً سوى القرآن فليمحه". أخرجه ابن أبي داود ومسلم. كما أن الحديث في جانب آخر منه، وهو قسم الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)بأنه لا يخرج من فيه إلا حق، يختلف مع أحاديث اُخرى تقول، بأنه يخرج من فيه غير الحق، لكن في اُمور الدّنيا، كحديث تأبير النخيل، وهو ذائع الشهرة وكقول الخليفة عمر بن الخطاب، حينما طلب الرسول الأعظم قلماً ودواة في احتضاره، ليكتب للمسلمين كتاباً لن يضلّوا بعده: "إن النبي ليهجر". وقول عمر هذا وإن لم يكن حديثاً، لكنّ فريقاً من الباحثين يحتجّون به على أن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)لم يكن مأمون الخطأ في اُمور الدّنيا.
ومن الأمثلة التي نقدّمها على النوع الثاني، أعني تلك الأحاديث التي تناقض القرآن المجيد ولا تتّفق معه، وهي كثيرة، نكتفي بأن نذكر منها الحديث الذي يقول:
"ان اللّه يقبل توبة العبد مالم يغرغر" . رواه الترمذي وأحمد والحاكم. أي قبل أن يدخل في النزع ويصير في الغيبوبة واللّه يقول في محكم التنزيل: ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن...)(1) ونذكر منها الحديث الذي يقول: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار..." رواه الثلاثة. واللّه يقول: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه...)(2) فالقتال مشروع لصاينة الحق وإعلاء كلمة الحق، ويستوى الأمر فيه مع المسلم ومع غير المسلم، إذا بلغت الخطورة حدّاً لا يمكن معه صيانة الحق إلا بقتال الطرف الآخر أو قتله، وهذا الذي ترمي إليه الآية وتدعو، من غير احتيال في التفسير ولا لعب في التأويل، وهي تنفي الحديث وتطرحه، لأنّه لا يعدو أن يكون لعبة لاعب لم يوفّق في لعبه.
ومهما قلنا وأكثرنا من القول والأمثلة في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل الكبرى التي يُعاني منها المسلمون ويكابدون، فإنَّ الحديث سيظلّ دون أهميّة خطورتها وبؤس آثارها التي تغلغلت في كلّ زاوية من زوايا تراثنا وفكرنا. ولا نعني بذلك أنّنا نقلّل من دور القول، وأننا ندعو إلى إهماله، بل نحن لا نستطيع أن نذهب إلى مثل هذا المعنى، ولكننا نريد أن يأخذ القول دوراً أبلغ في النفوس وأشدّ تأثيراً في حياة المجتمع الاسلامي وفكره، وأن يكون هو القائد والموجّه الى الأفعال المبدعة والتطوّر الخلاق، فالقول مالم يقترن بالتأثير في النفوس، ويقرن الى الأعمال التي تغيّر الواقع وتطوّره، سيتحوّل إلى معضلة اُخرى تُضاف إلى ما عندنا من معضلات.
وإذا كنت أؤمن بالحريّة في القول، والإغراء بها والحضّ عليها إلى حدّ الاسراف والمبالغة، فانّني لا أستطيع أن أؤمن بأي قول من الأقوال يخلو من مسؤولية، وأعني بالمسؤولية هنا قوّة الإقناع وسهولة التأثير لاستنهاض النفس البشرية، واستخراج مافيها من الطاقات الفكرية والروحية، كما أعني بها البذل والتضحية دون خوف ولا حساب. وبغير ذلك فإنّ القول يتحوّل الى عبث لا جدوى فيه والى هُراء، ويكفيه ذلك
1- النساء / 18 .
2- الحجرات / 9 .عقوبة، ويكفي صاحبه امتهاناً فلنقل جميعاً ما نشاء في أيّة مسألة من مسائلنا الكبرى كما نشاء، ولنأخذ حرّيتنا في القول بأقصى ما تستطيع الحرية أن تأخذه من أبعاد، لكن لنعلم قبل كلّ شيء، أننا لن نجني إلا على أنفسنا، إذا لم يكن في قولنا ما يؤثر في النفس ويحرّكها، ويردّ اليها الوعي الضائع منها ويمدّها بطاقة قوية تسمح لها بأن تخرج من مكمنها الضيّق ومحبسها المظلم إلى الاُفق الواسع والمدى الرحيب. ولنعلم أيضا ، أنّ عدوّنا يتربّص بنا وبأقوالنا، فإن وجدها خالية من هذه المعاني، ولا مسؤولية فيها ولا قدرة لها ولا روح، فانّه يفرح بها، ويصنع منها سلاحاً يشهره علينا. وهكذا فإن من سيأتي بعدنا من الأحفاد والأجيال، سيكون لهم من الحرية في الحكم على أقوالنا أكثر ممّا كان لنا، وبأساليب تختلف عن أساليبنا. فلنرحم نحن أنفسنا، قبل أن ندعو غيرنا إلى أن يرحمنا، ولنعرف ماهي المسؤولية في القول؟ وكيف نحملها ونتحملها؟
وإنّا وإن كنّا نعلم ماللوعظ والارشاد من دور في التوعية والإيقاظ، فنحن نحبّ أن نلتفت التفاتة طويلة موجعة الى العلماء والمفكّرين في هذه الاُمة، ونحرّضهم على أن يأخذوا من موقعهم الذي هم فيه دورهم المسؤول بهذا المعنى الذي سقناه للمسؤولية; فنحن منذ عهد بعيد، عرفنا الوعظ والارشاد، وجرّبناه، ووجدنا أنّه يعود بالقوة والفائدة والتأييد على الحكّام ورجال السلطة أكثر ممّا يعود على جماهير المسلمين، وذلك لأنّه في أكثره يخلو من المسؤولية، والعلماء والمفكّرون هم المسؤولون عن تعبئته بالمسؤولية، وهم المسؤولون، على وجه الدقّة عن كلّ حركة وسكون في حياة الجماهير الاسلامية، ولا ضرورة في إعادة الحديث عن هذه المسألة والتوسيع فيها مرّة اُخرى، إلا في خاطرة صغيرة لكن لها أهميتها الكبيرة.
وهذه الخاطرة، هي أن يعود العلماء والمفكرون إلى أنفسهم لينقّوها ويفرغوها من الخوف كلّ الخوف عند معالجة معضلات الاسلام والمسلمين، وليعودوا شجعاناً، فلا يكتفوا بلمس الجراح لمساً خفيفاً، إشفاقاً عليها من إثارة الآلام وتأزمها. ولماذا لا يكشفون عن وجوههم هذه الأقنعة المصنوعة من الملاينة والمجاملة، إذا لم أقل المراوغة؟ ولماذا يطلون كلامهم بطلاء من العسل تعقب حلاوته مرارة الخيبة؟
إن كل هذه الأشكال من المواجهة والمحاورة لا تقودنا إلى حلول، ولا تؤدي بنا إلى مكان نأمن فيه على أنفسنا من الانحدار والسقوط.
فلنقل كل ما نريد أن نقوله بحرية ولكن بمسؤولية، ولنتحدث عن همومنا وآلامنا بشجاعة، ولكن كشجاعة الملاح والطبيب فمسائل الخلاف بين المسلمين; في التفسير، والفقه، والعقائد، والتاريخ، و أشكال الحكم، وأوجه التباين بين المذاهب صغيرها وكبيرها، وما يتصل بهذه الأوجه وتلك المسائل من قريب وبعيد، كلّ هذا يحتاج إلى شجاعة في البحث وإقدام في المواجهة وجرأة في التحليل وإيجاد العلل، لكي نتعاون على وضع حلول لمعضلاتنا المتأزّمة، ونزيح المعوّقات التي تعوق تقدّمنا، ونستريح من الضعف الذي يُغري بنا عدوّنا. وليس لكي نوقظ الفتن النائمة من جديد، ونؤرّث الأحقاد والضغائن، ونزداد ابتلاء على ابتلاء وتقهقراً على تقهقر.
ألا يعجب معي السادة العلماء والمفكرون، حين ننظر كلنا إلى بلدان القارة الاُوروبية، وهم ملل متفرقة وأحزاب متنوعة ولغات شتى وأديان متعدّدة وسياسات متباينة، كيف يدأبون الليل والنهار والصيف والشتاء على الاجتماع والمواجهة في القول والمجابهة في الرأي والاقتراح لكي يتفحّصوا أمراضهم ويمحّصوا معضلات حياتهم، ثم لكي يصنعوا لكلّ مرض دواءً ولكلّ معضلة حلاً. وهاهم قد قطعوا مسافات بعيدة على درب الوحدة والاتحاد، بل إنّهم حقّاً قد توحّدوا، فسياستهم واحدة، واقتصادهم واحد، وفي كلّ يوم لهم دعوة جديدة الى تطوير هذه الوحدة وتوسيع بجديد آخر يضاف إليها ويزيد في قوّتها وتأييدها ; فما بال المسلمين - وأسباب الوحدة بينهم أكبر وأقوى ممّا هي بين بلدان أوروبا - لا يهتدون إلى وضع خطّة، تخفف من حدّة العداء بين طوائفهم ومذاهبهم، وتلطّف من شراسة القطيعة بين بلدانهم، إذا لم نقل خطّة تؤلّف بين دروب سياساتهم وتوحّد بين أشكال اقتصادهم؟
وإذا كنت أشعر بالفرحة تغمرني وأنا أرى حولي العقلاء من رجال الديانتين الاسلامية والمسيحية، وقد نهضوا وألفوا جسراً من التواصل بينهم، يسمح لهم بالتلاقي والتعاون، فهم على موعد مع مؤتمر موسّع، مرة أو مرتين في كلّ عام،
ولهم ندوات دائمة، ونشاطات مختلفة في التأليف والترجمة والنشر، ولتواصلهم أثرهُ البعيد في فضّ خلافات كثيرة وإطفاء نزاعات! أقول: إذا كنت أشعر بالفرحة لذلك، فأنا أشعر بالمرارة تغزوني وأنا أرى المسلمين أنفسهم لا يبالون بصنع مثل هذا الجسر; فإذا تنادوا إلى الترابط والتواصل فيما بين طوائفهم ومذاهبهم، فإنّ الاستجابة تكون ضعيفة لاتكاد تسمع أو تبين، كأنهم غير معنيين إلا بالتقاطع والفرقة وتمزيق الوحدة. وما الذي يضرُّهم لو أنهم يقيمون فيما بينهم من التواصل والتلافي كما يقيمون بينهم وبين المسيحيين، فيكون لهم في كلّ عام أكثر من لقاء في أكثر من بلد اسلامي، يتصارحون فيه، ويتبادلون الآراء والنظرات ، ويقيمون فيما بينهم ندوات خاصة، يعرضون فيها الخبرات والمقترحات ، وينشئون وسائل خاصة بهم للنشر والإعلام؟
ولست أدري ما الذي نتوقّعه للمسلمين في غدهم، إذا تمادى علماؤهم في التقاعس والإهمال، وإذا أسرف مفكّروهم في التراخي والتوكل، أقول هذا، وأنا لا أنظر إلى ما سيفعله العدوّ المتربّص بهم ، فذلك أمر لا نجهله، ولكن أقول هذا وأنا انتظر ما ستفعله السماء، وذلك أمر لا نجهله، ولكنّنا أيضاً لا نعلمه، ولعلّه قد اقترب، فبأيّ حديث بعده يؤمنون؟


 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية