مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

قضية الخلافات المذهبية ووحدة المسلمين
  الشيخ ناصر بن محمد الشيباني(1)

  أهل القبلة جميعاً إخواننا: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة...)(2).
  فلا خصومة أبداً بيننا وبين أي طائفة من طوائف "أهل لا إله الاّ اللّه" سواء كانوا حنفية أو مالكية، أو شافعيين، أو حنابلة أو زيديين أو أمامية، أو ظاهرية، أو أباضيين، أو غيرهم، فان الاختلاف في الفروع ضرورة طبيعية، ويستحيل  جمع الناس على مذهب واحد، أو رأي واحد، في مسائل ظنية هي موضوع نظر واجتهاد الى يوم القيامة: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً...)(3).
  ومادام مرجع الجميع كتاب اللّه وسنة رسوله، والخلاف على الفرعيات إنما هو في الفهم والتوجيه، والترجيح وطلب الحق ، فلا خصومة قط، وإنما هو التناصح على بساط الحب في اللّه، والاقتراب مما هو أهدى وأجدى إيماناً واحتساباً.
  وقد اختلف الصحابة (والنبي(صلى الله عليه وآله) حيّ والوحي ينزل) كما اختلفوا بعده في صلاة العصر في بني قريظة، ومصير أسرى بدر، واختلفوا من بعده في مثل مسائل: العول، والكلالة، وعدّة الحامل المتوفى عنها زوجها، وموضوع القبض والسدل في الصلاة، وسكنى المبتوتة، وزواج المتعة، والطلاق الثلاث بلفظ واحد، وبعض مسائل المواريث، وقراءة المأتم، ورفع اليد قبل وبعد الركوع، والجهر
1- نائب رئيس جمعية العلماء - اليمن .
2- المؤمنون / 52 .
3- هود / 118.
بالبسملة، بل اختلفوا في صورة حركة الاصبع في التشهد، و... وكلها فرعيات خلافية، لا نفس أصول الدين، ولهذا احترم كبار أئمة المذاهب آراء بعضهم، بل قلد بعضهم بعضاً أحياء وموتى، فصلّى الامام الشافعي عند قبر أبي حنيفة بمذهب أبي حنيفة أدباً، وقلّد أبو يوسف الامام مالكاً، وقرّظ الشافعي الليث بن سعد، وقرّظ أبو حنيفة سفيان الثوري والاوزاعي، ونظم الشافعي شعراً في تقريظ الامام أحمد، بل صلّى الإمام أحمد بن حنبل خلف بعض أئمة القدرية المغالين وأمثالهم.
وهكذا، لا يعرف عن كبار الائمة من طعن أخاه أو انتقصه، إذ ليس في الدنيا مذهب كله خطأ أو كله صواب.
  وكان أبو حنيفة يقول: "رأيي على  صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري على خطأ يحتمل الصواب".
  وهكذا الشافعي قد وضع مذهبه القديم بالعراق في ظروف وأحوال خاصة فلما جاء الى مصر، وواجه ظروفاً وأحوالاً أخرى، وضع مذهبه الجديد; كلاهما من الكتاب والسنة، وكلاهما صواب في موضعه: (... وما جعل عليكم في الدين من حرج...)1.
  وهذا هو الامام مالك لم يقبل من المنصور الخليفة العباسي أن يحمل الناس على كتابه "الموطأ" وبيّن له أن بعض الصحابة سمع مالم يسمع الآخر، أو علم مالم يعلم. فنشر ما علم، وكل منهم على حق، ومن ثم اختلفت الوجوه في المسألة الواحدة، وكلها على الاغلب صحيح.
  ونحن مع إمامنا جعفر الصادق في قاعدته العملية: "حسبنا من المسلم ما يكون به مسلما" وسيبقى الخلاف مادام هناك اختلاف في العقول والتحصيل والفهم والبيئات والوراثات وغيرها:(... ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم...)(2).
  والانسان مكلف شرعاً بالعمل بما وصل اليه اجتهاده واستقرّ عنده نظره، إن
1- الحج / 78 .
2- هود / 1 - 119 .كان من أهل ذلك، وحسبه الدليل الظني عند أهل العلم، ويكون هذا هو حكم اللّه في حقه، وحق من قلّده حتى يتبين له خطأ ماذهب اليه بيقين على مثل ضوء الشمس.
  وعلى هذا الاساس ننظر الى مذاهب المسلمين، فنقرب ما بينها، ونربطها جميعاً برباط لا فتنة فيه، ولا تفرقة ولا ضلال إن شاء الله، وندعو المتعنّتين والمغرضين والمبتلين بضحالة العلم وضيق الافق والغرور الى الصواب وندعو لهم ولنا بالهداية، فحال المسلمين لم يعد يحتمل النزاع.
  وقد أدرك هذا الشيخ "شلتوت" شيخ الازهر فأفتى بصحة مذهب الامامية، وأذن بتدريسه بالازهر، والعمل به بين المسلمين ووافقه الجمّ الغفير من علماء المسلمين المنفتحين، والعاملين لجمع الصفوف ووحدة الاسلام، واستعادة مجده وسيادته.
  وبالفعل أخذ واضعو قانون الاحوال الشخصية ببعض ما جاء في كتب الإمامية وبخاصة كتاب "المختصر النافع" الذي طبعته ووزعته وزارة الاوقاف المصرية بالمجّان، وقدم له بعض علماء السنة، ومنهم الشيخ "محمد الغزالي(رحمه الله)"، واعتمد مجمع البحوث بالأزهر المذهب الإمامي المأذون بتدريسه والفتوى به من مصادر الفقه الاسلامي، وكانت قد تألفت في مصر دار التقريب بين المذاهب، كان صاحب دعوتها الشيخ محمد تقي القمي وكان من أعضائها الشيخ شلتوت والشيخ محمد محمد المدني والشيخ عبد المجيد سليم، (رضي الله عنهم) وما يزال في الازهر وفي العالم الاسلامي من العلماء والعقلاء من يقولون بقولهم. ومادامت أصول الدين وقواعده الكبرى محفوظة، فالأمر في الخلافات على الفروع هيّن، وسيبقى الى يوم القيامة، وأمره مفوّض الى الله. وهذا الخلاف الفروعي كما نرى، هو سرّ من أسرار مرونة الاسلام وخلوده وعالميته وصلاحيته للبشرية في كل زمان ومكان.
  ولست هنا بصدد التعرض لأوجه الخلاف الفرعي، فليس من المناسب التعرض لها في هذه الآونة التي آن للمسلمين فيها أن يجتمعوا حول مايوحّدهم بعد أن عانوا طويلا مما يفرقهم، وللأسف توجد لدى بعض رغبة في تضخيم الشقاق والنزاع بين الطائفتين الكبريين في الاسلام: السنة والشيعة، فنحن نرى أنه يجب أن نكف عن
تجاهل أوجه الشبه والوفاق بيننا وبين الآخرين، ونكف عن التركيز على أوجه الخلاف وعن الشعور بالتفوّق والثقة الزائدة بالذات، ويجب أن نعلم عن يقين أن مظاهر الاختلاف في المسائل الكبرى بين الفكرين الشيعي والسني ليست من الاتّساع والحدّة بما قد يبدو لنا للوهلة الاولى، فاستثناء مسائل معينة مثل موقف الشيعة من الخلفاء الثلاثة، ومثل مسألة الزواج الى زمن محدود (المتعة) لاتوجد سوى اختلافات صغرى ثانوية، لايمكن أن تؤكّد بحال وجود الشقاق والتفرقة بينهما.
  ومن وجهة نظر موضوعية نستطيع أن نقول: إن الفكر الديني الشيعي يملك ميزة التفكير العقلي المجتهد، كما أنه لا يكف عن التجديد واتخاذ مواقف واضحة إزاء كثير من المسائل الحديثة التي يتردد الفكر السني عادة - بما عرف عنه من الحيطة والحذر والاتزان- في الحسم بشأنها . ويستطيع هذا الفكر أن يلتقي في تكامل رائع مع الفكر السني بنزعته الانسانية الشاملة، وتساميه عن الخلافات وألوان التعصب، واتجاهه دائماً الى تهذيب مابين الطوائف الدينية من علاقات وصبغها بصبغة إسلامية وإنسانية، وما أجدر بنا في عصرنا الحاضر الذي يمتاز بسيادة فكرة العالمية والانسانية فيه، أن نرسم النموذج ونقدم المثل بديننا القويم الذي طالما عانى من سيطرة الافكار المسبقة على الآخرين في نظرتهم اليه، وسيطرتها على طوائفه الدينية نفسها في نظر بعضها الى بعض. ومن حسن الحظ أن هذا التكامل أو التقارب قد بدأ فعلاً منذ زمن وبدأ يؤتي ثماره في هذه الآونة من تاريخنا، وتقدمت إيران الاسلامية لتحتل مكانتها الجديرة بها في صنع التاريخ الاسلامي المعاصر، كما شاركت هي في صنعه بالأمس البعيد.. إيران "سلمان الفارسي" الذي ورد على رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوماً ممثلاً لحضارة أجنبية عريقة، ليعلم الاسلام الوليد حرب الخنادق والتحصينات، وليحمل اليه بذلك أول خبرة من إيران... وكم تلتها بعد ذلك من خبرات! .. إيران العلماء الافذاذ، الذين نالوا العلم ولو تعلق بالثريا، ووطأوا أكنافه للاجيال المتعاقبة من المسلمين في كل مكان. 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية