مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

 القصص القرآني
القسم الخامس
السيد محمد باقر الحكيم

 على الساحة القرآنية الرحبة تلتقي كل الأفكار والآراء والمشاعر الخالصة لربها والمخلصة لدينها ورسالتها.. وما أجدر برسالة التقريب وهي تركز على مساحات الالتقاء أن تقف طويلا عند مائدة القرآن الكريم لتقدم الزاد الذي لا يختلف فيه جميع أبناء المذاهب الإسلاميّة.

الاهتمام بالدراسات القرآنية يجمع العقول والقلوب ويشدها نحو هدف واحد سام رفيع يسمو على الصغائر والاختلافات الجانيبة .. خاصة إذا كانت هذه الدراسات تنطلق من فهم معمق منفتح لأهداف رسالة القرآن في مجالاتها البناءة المعطاءة . وهذا البحث الذي نقدم حلقته الخامسة في هذا العدد نموذج لهذه الدراسات الهامة. في الحلقات السابقة تحدث الباحث عن الفرق بين القصص القرآني وغيره وعن أغراض القصص في القرآن الكريم وطبق الأفكار والمعلومات السابقة على مفردات القصة القرآنية وفي هذه الحلقة يستعرض قصة موسى ـ عليه السلام ـ بحسب تسلسلها التاريخي كما جاءت في القرآن الكريم ، مع تحليل للقصة واستخلاص معطياتها ودروسها.
 
2 ـ قصة موسى في القرآن
بحسب تسلسلها التاريخي (1)
الإسرائيليون في المجتمع المصري
لقد عاش الإسرائيليون في المجتمع المصري وتكاثروا فيه منذ هجرة يوسف وأبيه يعقوب وبقية أولاده إلى مصر ، وقد اضطهد الفراعنة الإسرائيليين في الفترة السابقة على ولادة موسى ، وبلغ الاضطهاد درجة مريعة حين اتخذ الفراعنة قراراً بذبح أبناء الاسرائيلين واستحياء نسائهم من أجل الخدمة والعمل ، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يتفضل على هؤلاء المستضعفين وينقذهم من حالتهم هذه ، فهيأ لهم نبيه موسى فعمل على إنقاذهم من الفراعنة (2)
وهدايتهم من المجتمع الوثني إلى المجتمع التوحيدي.

ولادة موسى وإرضاعه
وحين ولد موسى ـ عليه السلام ـ أوحى الله سبحانه إلى أمه أن ترضعه وحين تخاف عليه من الذبح العام فعليها أن تضعه في مايشبه الصندوق وتلقيه في اليم ، وهكذا شاءت إرادة الله أن يلقيه اليم إلى الساحل وإذا بآل فرعون يلتقطونه فيعرفون أنّه من أولاد بني إسرائيل ، فتتدخل امرأة في شأنه وتطلب أن يتركوه لها على أن تتخذه خادماً أو ولداً تأنس به مع فرعون.
وقد عاشت والدة موسى لحظات حرجة من حين إلقائه في اليم ، فأمرت أخته أن تقص أثره وتتبع سير الصندوق فتتعرف على مصيره . ففعلت ، وحين عرض الطفل على المرضعات أبى أن يقبل واحدة منها ، فانتهزت أخته هذه الفرصة ، فعرضت على آل فرعون أن تدلهم على امرأة مرضعة تتكفل رعايته وحضانته وإرضاعه ، وكانت هذه المرأة بطبيعة الحال هي أم موسى ، وهكذا رجع الطفل إلى أمه ليطمئن قلبها وتعلم أن ما وعدها الله سبحانه من حفظه وإرجاعه إليه حق لا شك فيه . ولقد شب موسى في البلاط الفرعوني حتّى إذا بلغ أشده وهبه الله سبحانه العلم والحكمة (3).
 
خروج موسى من مصر
ودخل موسى المدينة في يوم ما على حين غفلة من أهلها (متنكراً) فوجد فيها رجلاً من شيعته (من الإسرائيليين) يقاتل رجلاً آخر من أعدائه (الفرعونيين) فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ، فوكزه موسى فقضى عليه ولم يكن ينتظر موسى أن تؤدي هذه الضربة إلى الموت ، ولذلك ندم على هذا العمل المتسرع الذي انساق إليه ، فاستغفر ربه عليه.
وأصبح موسى في المدينة خائفاً يترقب أن ينكشف أمره فيؤخذ بدم الفرعوني ، فينزل إلى المدينة مرة أخرى فإذا به يواجه قضية أخرى مشابهة ، وإذا بالذي استنصره بالأمس فنصره يستصرخه اليوم أيضاً فعاتبه موسى على علمه ووصفه بأنه غوي مبين يريد توريطه وإحراجه . ثم لما أراد أن يبطش (موسى) بالذي هو عدو لهما (الفرعوني) ظن الإسرائيلي أن موسى يقصد البطش به لا بالفرعوني. فقال لموسى : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ؟ إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض . وبذلك كشف الإسرائيلي عن هوية قاتل الفرعوني الأول وفضح قتل موسى له ،فعمل الملأ ـ وهم عليه القوم ـ على قتله بدم الفرعوني.
وجاء رجل من أقصى المدينة وأعاليها يخبر موسى بالأمر يقول له : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، وطلب منه المبادرة إلى الخروج والهروب من الفرعونيين.
فخرج موسى من المدينة خائفاً يترقب أن يوافيه الطلب أو تصل إليه أيدي الفرعونيين فدعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين (4).
 
موسى في أرض مدين
وانتهى السير بموسى إلى أرض مدين، فلما وصلها أحس بالأمن وانتعش الأمل في نفسه فقال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل . ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس وهم الرعاة يسقون ، ووجد دونهم امرأتين في حيرة من أمرهما تذودان الأغنام وتجمعانها ولا تسقيان ، فأخذه العطف عليهما فقال لهما : ما خطبكما ولماذا لا تسقيان ؟ قالتا له : لا نسقي حتّى يصدر الرعاء وينتهوا من السقي لأننا امرأتان وأبونا شيخ كبير لا يتمكن من القيام بهذه المهمة الشاقة . فتولى موسى عنهما هذه المهمة فسقى لهما ثم انصرف إلى ناحية الظل وهو يشكو ألم الجوع والغربة والوحدة ، فقال : ﴿رب إني لما أنزلت الي من خير فقير﴾.
ولما رجعت الامرأتان إلى أبيهما الشيخ وعرف منهما قصة هذا الإنسان الغريب الذي سقى لهما بعث إلى موسى إحداهما لتدعوه إليه ، فجاءته تمشي على استحياء فقالت له : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا . فأجاب موسى الدعوة وحين انتهى إلى الشيخ طلب منه أن يخبره عن حاله فقص موسى عليه قصة هربه وسببها ، وحينئذ آمنه الشيخ وقال له : لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
وقد طلبت إحدى ابنتي الشيخ من أبيها أن يستأجر موسى للعمل عنده وليقوم عنهما ببعض المهام الملقاة على عاتقهما نتيجة عجز الشيخ وضعفه ، وذلك نظراً لقوم موسى وقدرته على القيام بالعمل مع أمانته وشرف نفسه.
فقال له الشيخ : إني أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين شريطة أن تأجرني نفسك ثماني حجج (سنين) فإذا أتممتها عشراً فذلك من عندك . فوافق موسى على هذا الزواج وتم العقد بينهما (5).
 
بعثة موسى ـ عليه السلام ـ ورجوعه إلى مصر
وبعد أن قضى موسى الأجل (السنوات العشر) بينه وبين صهره وقد سار بأهله، إذا به يشاهد ناراً من جانب الطور الأيمن وهو جبل صغير . وقد كان بحاجة إليها، فقال لأهله : امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى . فلما أتاها وجد شجرة وجاء نداء الله سبحانه من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من جانب الشجرة : إني أنا الله رب العالمين فاخلع نعليط إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك (لوحيي ورسالتي) فاستمع لما يوحى إليك.
ثم قال الله له : ما تلك بيمينك يا موسى ؟ قال : هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ، قال الله له : ألقها يا موسى ، فإذا هي تتحول إلى حية تسعى ، فلما رآها تهتز كأنها جان ولى هارباً ولم يعقب ، فناده الله : يا موسى أقبل ولاتخف إنك من الآمنين ، إني لا يخاف لدي المرسلون سنعيدها سيرتها الأولى.
ثم قال له : أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ومرض ، فأدخل يده وإذا بها تخرج بيضاء ، ثم ردها فعادت كما كانت .
وبعد ذلك أمره الله سبحانه أن يذهب بهاتين الآيتين المعجزتين إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى الله سبحانه. فخاف موسى من تحمل هذه المهمة ، فقال : ربي إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي وذلك من أجل أن يصدقني إني أخاف أن يكذبوني .
قال الله له : سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما فأتياه (فرعون) فقولا : إنا رسول ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك (6).
وحينما عاد موسى إلى مصر توجه مع أخيه هارون إلى فرعون فقالا له :إنا رسولا ربك رب العالمين ولا يمكن أن نقول على الله غير الحق الذي أرسلنا به وقد جئناك ببينة من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل وارفع عنهم العذاب الذي تنزله فيهم ، وقد قالا له ذلك بشكل لين وبأسلوب استعطافي هادئ (7).
وكان فرعون استغرب هذه الرسالة من موسى وأخيه لأنه كان يعرف موسى وأحواله، فقال لموسى: ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين ثم بعد ذلك فعلت فعلتك التي فعلت بأن قتلت رجلاً من الفرعونيين؟ فأجابه موسى: نعم لقد فعلت ذلك ولكني لما خفتكم على نفسي فررت منكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين(8).
 
فرعون يجادل موسى في ربوبية الله
وبعد أن رأى فرعون إصرار موسى وهارون على الرسالة قال : فمن ربكما ؟ قال له موسى : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وهو رب السماوات والأرضين وما بينهما وما تحت الثرى . قال فرعون : فما بال القرون وما هو مصيرها ؟ فأجابه موسى : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ، وهو الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فهيا سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجاً من نبات شتى مختلف ألوانه وأشكاله.
وقد استنكر فرعون هذه الدعوة الجديدة وهو يعتقد بنفسه الألوهية ، فتوجه لمن حوله مستنكراً وقال : ألا تسمعون ؟ ولما رأى الإصرار من موسى وأخيه اتهم موسى بالجنون وهدده بالسجن إذا اتخذ إلهاً غيره(9). ولم يستسلم موسى وأخوه أمام هذه التهمة والتهديد، وإنما حاولا أن يسلكا إلى فرعون طريقاً آخر لإقناعه أو إحراجه ، وهذا الطريق هو استثمار السلاح الذي وضعه الله بيد موسى (معجزة العصا واليد) فقال موسى لفرعون : إني قد جئتك من ربي بآية تبين لك الحق الذي أنا عليه . قال فرعون : إذا كنت صادقاً فائت بهذه الآية والحجة، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين . ولم يتمالك فرعون وملأه أنفسهم أمام هذا الموقف إلا أن اتهموا موسى بالسحر والشعوذة وأنه إنّما جاء بهذا السحر من أجل أن يخرجهم من أرضهم ويجلوهم عنها (10).
 
مباراة موسى مع السحرة
وقد أشار قوم فرعون وخاصته عليه بأن يواجه موسى بالسحرة من بلاده فيجمعهم في يوم يشهد الناس جميعاً ليتباروا وسوف يغلبونه وهم كثيرون فيفتضح أمره ويترك دعوته ، وعمل فرعون بهذه النصيحة فطلب من موسى وأخيه أن يعطياه مهلة إلى وقت معين لمواجهته بالسحرة.
وجمع فرعون كيده وحشد جميع السحرة من بلادهم وعرض عليهم الموقف وطلب منهم أن يحرجوا موسى ويغلبوه وجمع الناس لهذه المباراة ظناً منه أنّه سوف ينتصر ، وقد شجعه على ذلك تأكيد السحرة أنهم سوف يغلبون موسى وما طلبه منه السحرة من أجر وأعطيات إذا كانوا هم الغالبين.
وحين اجتمع موسى بالسحرة وخيروه بين أن يلقي قبلهم أو يكونوا هم الملقين قبله ، اختار أن يكونوا هم الملقين. فألقى السحرة حبالهم وعصيهم وإذا بها تبدو لأعين الناس ـ من سحرهم ـ أنها تسعى كالحيات . وعندئذ أوجس موسى في نفسه خيفة ، إذ لم يكن ينتظر أن يواجه بالأسلوب الذي اتبعه في معجزته مع فرعون. فأوحى الله سبحانه له أن لا تخف فإنك أنت الذي سوف تنتصر عليهم وإنّما عليك أن تلقي عصاك وحينئذ تتحول إلى حية تلقف جميع ما صنعوا لأن ما صنعوه ليس إلا كيد ساحر ولا يفلح الساحر.
وعندما رأى السحرة هذا الصنع من موسى انكشفت لهم الحقيقة التي أرسل بها وأن هذا العمل ليس عمل ساحر وإنما هو معجزة إلهية . فآمنوا وقالوا : آمنا برب هارون وموسى.
وأمام هذا الموقف الرائع من السحرة في هذا المشهد العظيم من الناس وجد فرعون نفسه في وضع مخز ومحرج ، الأمر الذي اضطره لأن يلجأ إلى الإنذار
والوعيد والتهديد باستخدام أساليب القمع والإرهاب . فقال للسحرة : آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ، ولم يكن موقف السحرة ـ بعد أن انكشفت لهم الحقيقة وهداهم الله إليها ـ إلا ليزداد صلابة وثباتاً واستسلاماً لله رجاء مغفرته ورحمته (11).
 
إصرار فرعون وقومه على الكفر ومجيء موسى بالآيات
وقد أصر فرعون وقومه على الكفر وصمموا على مواصلة خط اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم ، حيث قال الملأ من قومه : أتذر موسى وقومه يفسدون في الأرض ويذرك وآلهتك ؟! قال : سنذبح أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون.
وواجه موسى وبنو إسرائيل ذلك بالصبر والثبات انتظاراً للوقف الذي يحقق الله سبحانه فيه وعده لهم بوراثة الأرض .
ولكن الله سبحانه أمر موسى أن يعلن لفرعون وقومه بأن العذاب سوف ينزل بهم عقاباً على تكذيبهم له وتعذيبهم لبني إسرائيل وامتناعهم عن إطلاقهم وإرسالهم ، فجاءت الآيات السماوية يتلو بعضا بعضاً فأصابهم الله بالجدب، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم . وكانوا كلما وقع عليهم العذاب والرجز ، قالوا : يا موسى أدع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ، فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون(12).
 
الائتمار بقتل موسى وطغيان فرعون
وأمام هذه الآيات المتتاليات التي جاء بها موسى لم يجد فرعون وقومه أسلوباً يعالج به الموقف ، غير الائتمار بقتل موسى وادعاء القدرة على مواجهة آلهته ، فنجد فرعون يأمر هامان بأن يتخذ له صرحاً ليطلع منه على أسباب السماوات ويتعرف على حقيقة إله موسى.
ولكن فرعون يفشل في كلا الجانبين ، فلم يتمكن من أن يحقق غايته من وراء بناء الصرح كما لم تصل يده إلى موسى ، لأن أحد المؤمنين من آل فرعون يقف فيعظهم ويؤنبهم على موقفهم من موسى ويبادر إلى إخباره بنبأ المؤامرة فينجو موسى (13).
 
خروج موسى ببني إسرائيل من مصر
وحين واجه موسى محاولة اغتياله ورأى إصرار فرعون وقومه على اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم ، ووجد أنّه لم تنفع بها الآيات والمواعظ ، صمم على الخروج ببني إسرائيل من مصر والعبور بهم إلى جهة الأرض المقدسة ، وقد نفذ موسى هذه العملية وسار ببني إسرائيل متجهاً إلى سيناء .
ولم يقف فرعون وقومه معه أمام هذه الهجرة مكتوفي اليدين ، بل جمع جنده من جميع المدائن وقرر ملاحقة موسى وبني إسرائيل وإرجاعهم إلى عبوديته بالقوة.
ووجد موسى وبنو إسرائيل نتيجة هذه المطاردة أنفسهم والبحر من أمامهم وفرعون وجنوده من خلفهم ، وارتاع بنو إسرائيل من هذا الموقف وكادوا أن يكذبوا ما وعدهم به موسى من الخلاص . ولكن موسى وبإيمانه الوطيد أخبرهم أن الله سبحانه سوف يهديه طريق النجاة. وتحقق ذلك ـ فعلاً ـ إذ أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وإذا به ينفلق كل فرق كالطود العظيم ويظهر بينهما طريق يبساً يعبر من خلاله بنو إسرائيل ويحاول فرعون وجنوده أن يتبعوهم من هذا الطريق أيضاً ، وإذا بجانبي البحر يلتقيان فيغرق مع جنده (14).
 
موسى مع بني إسرائيل
وتتوالى بعد ذلك الأحداث على موسى ، وإذا به يواجه المشاكل الداخلية منفرداً مع قومه بني إسرائيل ، فيسمع طلبهم وهم يمرون على قوم يعبدون الأصنام بأن يتخذ لهم أصناماً يعبدونها كما لهؤلاء الأصنام ، ثم بعد ذلك يتفضل الله سبحانه على بني إسرائيل عندما استسقى موسى قومه فيأمره بضرب الحجر فتتفجر منه العيون كما ينزل عليهم المن والسلوى ويبدلهم عنه ببعض المآكل الأخرى ، ويواجه موسى ردة من بني إسرائيل عند ذهابه لميقات ربه لتلقي الشرعة في ألواح التوراة فيخبره الله تعالى بعبادتهم للعجل الذي صنعه السامري ، فيرجع إلى قومه غضبان أسفاً ويعتب بقسوة على أخيه هارون ، حيث كان قد استخلفه عليهم فترة ذهابه ، ويطرد السامري ويفرض عليه عقوبة المقاطعة ويحرق العجل وينسفه .. ثم يتوب الله على بني إسرائيل بعد أن فرض عليهم عقاباً صارماً.
وعلى هذا المنوال يذكر لنا القرآن الكريم أحداثاً مختلفة عن حياة موسى مع بني إسرائيل كقضية البقرة ونتق الجبل والدعوة للدخول إلى الأرض المقدسة وذهابهم للمواعدة عندما طلبوا رؤية الله جهرة ، وقصة قارون وتآمره مع المنافقين على موسى . وفي بعض هذه الأحداث لا نجد القرآن الكريم يحدد المتقدم منها على الأحداث الأخرى بشكل واضح.
وبهذا القدر نكتفي من سرد القصة حسب تسلسلها الزمني (15).

 
3 ـ دراسة تحليلية عامة للقصة

بعد أن انتهينا من بحث قصة موسى بحسب ذكرها في القرآن الكريم ، وكذلك عرضها بتسلسلها التاريخي . يجدر بنا أن ندرسها من جانبين يختلفان عن جانب دراستنا السابقة للقصة:
الجانب الأول : هو بيان المراحل العامة التي مرّ بها موسى ـ عليه السلام ـ في حياته وتوضيح الميزات والخصائص التي اتصفت بها هذه المراحل.
الجانب الثاني : هو بيان وإبراز أهم الموضوعات التي أشارت إليها أو تحدثت عنها القصة بشكل عام.
الأولى ـ مراحل حياة موسى ـ عليه السلام ـ :
وبصدد الجانب الأول نجد موسى ـ عليه السلام ـ قد مر بمراحل ثلاث رئيسية خلال حياته . المرحلة الأولى : وهي التي تبدأ بولادته وتنتهي ببعثته إلى فرعون وقومه .
والثانية : وهي التي تبدأ من البعثة وتنتهي بعبور البحر ببني إسرائيل.
والثالثة : وهي التي تبدأ بالخروج وتنتهي بنهاية حياته.
ويعتمد هذا التحديد في هذه المراحل الثلاث على المقدار الذي تحدث القرآن الكريم فيه عن حياة موسى ـ عليه السلام ـ. حيث نلاحظ فيه وجود تحولين رئيسين في مجموع حياة موسى الفردية والاجتماعية :
أولهما: بعثة موسى بالرسالة وما استتبعه ذلك من مواجهة بين المجتمع الإسرائيلي والمجتمع الفرعوني.
وثانيهما : عبور موسى البحر والخلاص من الحكم الفرعوني والاستقلال في إدارة أمور الإسرائيليين نسبياً..
وتتمثل المرحلة الأولى من حياة موسى في دورين مهمين يشتركان ببعض الخصائص ويمتازان عن بعضهما الآخر:
الأول : الدور الذي عاش فيه موسى طفلاً ثم فتى في أحضان البيت الفرعوني ، والذي ينتهي بخروجه من مصر خائفاً بعد قتل الفرعوني .
الثاني : الدور الذي أصبح فيه موسى مشرداً ومطارداً يعتمد في حياته على نفسه ، حيث ينتهي برؤيته النار عند بعثته.
وحين نلاحظ الظواهر والصفات العامة التي اتصف بها موسى في مجموع هذين الدورين يبرز لنا موسى في شخصيته ذلك الإنسان الذي يريد الله سبحانه أن يعده لتحمل أعباء مهمة تخليص بني إسرائيل من الظلم الاجتماعي الذي حاق بهم وتخليص شعب مصر من عبودية الأوثان وهدايتهم لوحدانية الله سبحانه ، بحيث يكون موسى بمجموع هذه الصفات والظواهر الشخص الوحيد الذي يصلح لتحمل هذه المسؤولية الإلهية الكبيرة وهي مسؤولية الإمامة وقيادة المجتمع نحو النجاح والفلاح.
أما الدور الأول ، فيمتاز بالأمرين التاليين:
الأول : الإمداد الإلهي والعناية الربانية في نجاة موسى من الذبح الذي كان قد اتخذه فرعون قانوناً تجاه مواليد بني إسرائيل ، من خلال الإيحاء الإلهي لأم موسى بإلقائه في اليم.
ثم لم تكتف العناية الإلهية بخلاصه فحسب ، بل أصبح موسى يعيش في البيت الفرعوني معززاً ومكرماً ومشمولاً بحب زوجة فرعون ورعاية فرعون له.
ولاشك أن هذا العامل النفسي وضع موسى في إطار وهالة من الأجواء النفسية والروحية والاجتماعية متميزة ، بحيث ينظر إليه في المجتمع الإسرائيلي على الأقل بنظرة القدسية والاحترام الروحي والاجتماعي بسبب هذه القدسية والعناية .
الثاني : المركز الاجتماعي المتميز الذي كان يتمتع به موسى دون بني إسرائيل كلهم نتيجة لتبني العائلة المالكة في مصر تربيته ورعايته ، وهو مركز اجتماعي لم يكن يتمتع به الفرعونيون أيضاً ويعطيه الكثير من الاحترام والتقدير في أوساط الأمة المستضعفة الإسرائيلية وفي أوساط الفراعنة أنفسهم ومكنه من إيجاد علاقات اجتماعية واسعة ومتميزة.
وهذا المركز الاجتماعي الفريد وإن كان قد فقد تأثيره ـ إلى حد كبير ـ بعد هروب موسى من مصر بسبب قتله الفرعوني ، ولكننا يمكن أن نتصوره عاملاً مهماً
في إظهار موسى ـ في المجتمع بشكل عام والمجتمع الإسرائيلي بشكل خاص ـ كشخصية تتبنى قضية الدفاع عن بني إسرائيل وتعمل من أجلها ، وكذلك في بقاء نسبة من الاحترام والتقدير له بسبب تاريخه السابق.
ولعل ضياع هذا المستوى من المركز الاجتماعي المهم بسبب قتل الفرعوني هو الذي يفسر لنا نظرة موسى إلى قتل الفرعوني نظرته إلى ذنب يستحق الاستغفار والتوبة منه إلى الله تعالى.﴿.. فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغر له إنه هو الغفور الرحيم﴾(16) حيث يكون موسى قد ضيع بهذا العمل الارتجالي ـ الذي صدر منه بدوافع نبيلة وصحيحة وهما الدفاع عن المظلومين ـ فرصة ثمينة كان من الممكن استثمارها في سبيل استنقاذ الشعب الإسرائيلي ، ولعله لذلك وصفه بأنه من عمل الشيطان لأنه خلاف الحكمة .
وأما الدور الثاني : فيمتاز بالأمرين التاليين أيضاً :
الأول : الهجرة والتشريد والمعاناة الشخصية في الحياة الفردية والاجتماعية ، والهجرة من الميزات والصفات التي تميز بها الأنبياء الخاصون أمثال نوح وإبراهيم عليهما السلام ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وأما المعاناة والابتلاء فهي صفة لازمة لجميع الأنبياء والأولياء . فقد روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قال : «إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل».
وهذه صفة من الصفات التي يتربى من خلالها الإنسان ويتكامل في شخصيته.
الثاني : المعايشة الشخصية للحياة الإنسانية العادية التي يمارسها الناس العاديون ، حيث أصبح موسى في هذا الدور أجيراً للشيخ والد البنتين والذي زوجه إحداهما بهذا الأجر وتحول إلى راع للغنم والى دور الكاد على عياله بيمينه وعرق جبينه . وهذا مما عرف عن النبي إبراهيم وعيسى عليهما السلام ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ . وهي من الصفات التي يمكن للإنسان أن يقترب فيها من تجارب الحياة الإنسانية الاجتماعية ويدرك عمق مشاكلها ومحنتها .
وفي الدور الأول وإن كان موسى قد حاول أن يحقق هذه المعايشة من خلال النزول إلى المدينة متنكراً إلا أن غاية ما يحققه ذلك هو الاقتراب من هذه الحقيقة بمشاهدتها عن كتب وقرب ، وهذا غير من يعيش ظروف الفقر والفاقة والعمل والكد والجهد .
وبالإضافة إلى هذا الميزات الخاصة بكل من هذين الدورين نلاحظ مجموعة أخرى من الصفات المشتركة في هذه المرحلة بدوريها:
الأولى : اتصاف موسى بالعلم والحكمة ، وهما من الصفات المهمة في الإمامة والقيادة؛ سواء في المنظار الإلهي أو في المنظار البشري:﴿ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين﴾(17).
والظاهر من سياق الآيات أن هذا الاتصاف كان قبل حادثة قتل الإسرائيلي.
الثانية : الأخلاق الإنسانية الكاملة والشعور العالي النبيل الذي كان يتصف به موسى ـ عليه السلام ـ ، ويتمثل لنا هذا الخلق الإنساني في عدة مواقف لموسى.
الأول : قتله الفرعوني .
والثاني : محاولته لضرب الفرعوني الآخر.
والثالث : تبرعه بمعاونة ابنتي الشيخ ـ الذي أصبح صهراً له بعد ذلك ـ في سقي الماء وما يشعر به وصف ابنة الشيخ له في حديثها مع أبيها بأنه (قوي أمين).
بالإضافة إلى ما أخذه على نفسه من عدم معاونة الظالمين : ﴿قال رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين﴾(18).
فإن هذه المواقف تعبر عن المحتوى الداخلي والشعور الإنساني الذي كان يعيشه موسى ـ عليه السلام ـ فهو يبادر لنجدة المظلوم بالرغم من تربيته في البيت الفرعوني المالك ، هذه التربية التي تعطي عادة الشعور بالتميز الطبقي على الإسرائيليين . وقد يصاب بعض الناس بعقدة النقص فيحاول الهرب من أصله المستضعف بالتنكر لذلك الأصل. ولكن موسى ـ عليه السلام ـ لا يكتفي بقتل الفرعوني مصادفة ، بل يندفع ليقوم بنفس العمل حين يجد من يستصرخه مرة أخرى إليه مع إدراكه وشعوره بحراجة موقفه الاجتماعي نتيجة لهذا العمل .
ولم يكن هذا الموقف من الفراعنة حمية جاهلية وتعصباً لأبناء قومه الإسرائيليين الذي يعبر عنهم القرآن بشيعته ، بل كان انتصاراً للمظلوم على الظالم وهو ما يؤكد بقوله : ﴿رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين﴾.
وكذلك وفي موقفه من ابنتي الشيخ نجد موسى تدفعه ذاته الخيرة وخلقه النبيل للسؤال عن تلكؤهما في السقاية ويعرض المعاونة عليهما في حالة الحاجة إليها ونجده يخف إلى تنفيذ ذلك دون أن ينتظر منهما أجراً أو مثوبة مادية ، على الرغم من ظروفه الموضوعية الخاصة والصعبة.
الثالثة : القوة البدنية والشجاعة العالية التي كان يتمتع بها موسى ، ويكشف لنا عن ذلك موقفه من الفرعوني وقضاؤه عليه بوكزة واحدة ومحاولته الثانية للتدخل في كف أذى الفرعوني عن الإسرائيلي.
وكذلك وصف ابنة الشيخ له بأنه (قوي) ، خصوصاً إذا أخذنا بالتفسير الذي يقول إن موسى حين سقى لابنتي الشيخ طرد السقاة عن البئر من أجل أن يعجل بالسقاية لهما.
وهذه الميزات الثلاث تحقق شروطاً ضرورية لحمل أعباء الرسالة التي أراد الله سبحانه لنبيه موسى القيام بها .
ولعل فكرة الاصطفاء للأنبياء تنطلق من الواقع الموضوعي الذي يحيط بالنبي والمواصفات الذاتية التي يتصف بها بحيث يختاره الله تعالى من بين عباده كأفضل وأصلح إنسان يعرفه المجتمع الإنساني ، مضافاً إلى العناية واللطف والتوفيق الإلهي ، فهي ليست فكرة منقطعة عن الواقع الموضوع والحياة الإنسانية ، بل هي عناية الله ورعايته لهذا الواقع الإنساني ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآلعمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم﴾(19).
العناية الربانية شملت موسى بن عمران فأصبح أفضل إنسان له هذه المواصفات التي تؤهله للقيام بهذه المسؤولية.
وبهذا نعرف أن الهدف من بيان هذه المرحلة بيان هذا الاصطفاء والتأهيل للقيام بدور الرسالة والبعثة.
وأما المرحلة الثانية : فهي مرحلة الرسالة والدعوة ، وبها تتميز هذه المرحلة.
والدعوة والرسالة : مسؤوليات وأهداف ، ووسائل ، وظروف مواجهة ، ونتائج وآثار.
 
الأهداف
1 ـ أما على مستوى الأهداف والمسؤوليات العامة فنلاحظ وجود مسؤوليتين أمام موسى ـ عليه السلام ـ في هذه المرحلة .
إحداهما : هداية قوم فرعون إلى وحدانية الله والإيمان بربوبيته وترك عبادة الإنسان والأوثان.
والثانية : دعوة بني إسرائيل للخلاص من الاضطهاد والظلم الذي كانوا يعانونه في مصر ، حيث إن الإسرائيليين كانوا من المؤمنين بالله تعالى وبالنبوات والرسالات الإلهية.
وبهذا يمكن أن نعرف أن رسالة موسى لم تكن رسالة قومية كما قد يتبادر ذلك إلى الذهن أو تشعر به بعض الآيات التي يفهم منها أن موسى كان يطالب بإنقاذ بني إسرائيل وقد خرج بهم من مصر وعبر بهم البحر ، حيث إن خطاب موسى لفرعون من ناحية ، ووجود مؤمنين لموسى في الوسط الفرعوني كما سوف نشير من ناحية ثانية ، ومضمون حديث مؤمن آل فرعون من ناحية ثالثة يؤكد هذه الحقيقة.
 
الوسائل
2 ـ وأما على مستوى الوسائل والأساليب ، فقد توسل موسى من أجل تحقيق هذين الهدفين البارزين في حياة دعوته والقيام بهاتين المسؤوليتين بأساليب مختلفة ومتعددة ، كانت تبتدئ بالمناقشة الهادئة والكلام اللين والحجة التي تعتمد على المنطق والعقل كما استخدم أيضاً في الإقناع المعجزة كالعصا واليد البيضاء ودخل في مباراة حامية مع السحرة المحترفين الذين جمعهم فرعون وانتصر عليهم . ثم تطورت الأساليب إلى استخدام الآيات ونزول العذاب على الفرعونيين والمجتمع الفرعوني حتّى أصابهم الخوف والرعب وطلبوا كشف العذاب عنهم ووعدوه بالتسليم له ولكنهم نكثوا الوعد بعد ذلك ﴿ولما وقع عليهم  الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون﴾(20).
هذا في جانب ، وفي جانب آخر كان يدعو بني إسرائيل إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه والصبر على المكاره وتحمل الأذى والانتظار ، ويفتح أمامهم باب الأمل ، ومواصلة الطريق من أجل الخلاص .
كما أن موسى اتخذ لقومه بيوتاً وجعلها قبلة لهم يقصدونها ويجتمعون فيها ويتدارسون فيها أمور الدعوة.
 
المواجهة
3 ـ وأما على مستوى المواجهة وظروفها ، فإن القرآن الكريم يشير إلى أن المواجهة مع فرعون كانت قاسية ومحفوفة بالمخاطر والتهديدات.
فمنذ البداية يقوم فرعون بتهديد السحرة بالقتل والتعذيب بسبب إيمانهم بالله وبرسالة موسى ويتهمهم بالمكر وبالتآمر عليه والاتفاق مع موسى في اتخاذهم لهذا الموقف ، بهدف إخراج الناس من المدينة.
 
كما أنّه يهدد موسى وبني إسرائيل بالقتل والتعذيب والمطاردة ، ويوجه تهم السحر والجنون ومحاولات الإفساد في الأرض والإخراج منها والفتنة في الدين وتغيير طريقة المجتمع ، وكذلك الاتهام بالطمع في السلطة والهيمنة.
كما أن فرعون يبقى مصراً على موقفه طيلة هذه المدة ويتظاهر بالقوة والقدرة، فينزل العذاب بالفرعونيين ويتراجعون في كل مرة ثم ينكثون ذلك حتّى ينتهي الأمر إلى أن يتآمر الفرعونيون على قتل موسى.
والقرآن الكريم وإن كان لا يتحدث عن المدة التي عاشها موسى وبنو إسرائيل في هذه المواجهة ، ولكن من الممكن أن نتبين أن هذه المدة كانت طويلة نسبياً ؛ خصوصاً إذا لاحظنا الآيات القرآنية التي تشير إلى المعجزات التي جاءت على يد موسى وأنها كانت في سنين متعددة : ﴿ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون﴾(21).
وكذلك قوله تعالى : ﴿فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين﴾(22).
حيث يفهم من قوله تعالى : ﴿بالسنين﴾ وكذلك من طبيعة أن هذه الآيات عادة لا تجتمع في سنة واحدة، بل كانت في سنين متعددة ، وأن المدة كانت طويلة.
 
عناصر الحماية في المواجهة
وهنا يوجد سؤال ؛ وهو كيف تمكن موسى أن يحمي نفسه من قتل فرعون له مع أن فرعون كان الطاغية المتجبر والحاكم بلا منازع ، وموسى ينتمي إلى الشعب الإسرائيلي المستضعف؟
يبدو أن هناك عدداً من العناصر والعوامل كانت بمجموعها تشكل عنصر الحماية لموسى من القتل الفرعوني .
الأول : العامل الغيبي المتمثل بالمعاجز وآيات العذاب التي جاء بها موسى ـ عليه السلام ـ خصوصاً في المجتمع الفرعوني الذي كان يتفاعل مع هذا النوع من العوامل والمؤثرات ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك ، وكما هو مقتضى الثقافة العامة لهذا المجتمع.
وقد أعطي هذا العامل دوراً أكبر عندما تمكن موسى أن يحقق الانتصار على جميع السحرة الذين جمعهم فرعون فآمنوا موسى وأقروا له بالحقية على مرآى ومسمع من الناس .
الثاني : المركز الاجتماعي والعائلي الذي كان يحتله موسى سابقاً في البيت الفرعوني والأوساط العامة والعلاقات الواسعة التي كان يملكها بموسى في وسط الفرعونيين . الأمر الذي يجعل التعامل مع موسى تعاملاً مع شخص ينتسب إلى البيت الفرعوني قد انشق وتمرد عليه فهو ـ وإن كان قد فقد مركزه المذكور ـ بقي يمتلك ما لهذا المركز من مخلفات نفسية واجتماعية ، ويتضح ذلك من طريقة مخاطبة فرعون موسى كما يحدثنا عنها القرآن الكريم : ﴿قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين﴾(23).
الثالث : الإيمان بدعوة موسى ـ عليه السلام ـ بين صفوف الفرعونيين أنفسهم . كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم من وجود مؤمن آل فرعون ، ووجود المخبر الذي أخبره بتآمر الفرعونيين على قتله ، وكذلك وجود زوجة فرعون التي آمنت بموسى ورسالته وقامت برعايته ، حيث يمكن أن نفترض أن يقوم هؤلاء بنشاطات لتخفيف ردود الفعل ضد موسى أو كشف محاولات الانتقام والقتل .
الرابع : التفاف بني إسرائيل حول دعوة موسى ـ عليه السلام ـ ووقوفهم إلى جانبه ، فإن الإسرائيليين بالرغم من أنهم أمة مستضعفة ولكنهم كانوا يمثلون القوة العاملة في مختلف مجالات الخدمات للمجتمع الفرعوني ، وعندما يكون لهذه الأمة الكبيرة موقف واحد فلا شك انه سوف يساهم في حماية موسى من الفرعونيين.
كما يؤيد ذلك أيضاً ما ذكرناه من أمر الله سبحانه لموسى بأن يتخذ بيوتاً مع قومه يجعلها قبلة تنطلق منها الدعوة.
 
النتائج والآثار
وأما على مستوى النتائج والآثار ؛ فيبدو أن موسى لم يصل إلى نتيجة «واضحة» بصدد تحقيق الهدف الأول مع فرعون وقومه ، وإن كان قد توصل نتيجة لذلك إلى تحقيق بعض أهدافه ، حيث نجد الدعوة تحقق نجاحاً في صفوف بعض الفرعونيين أيضاً كإيمان السحرة له ووجود ظاهرة مؤمن آل فرعون وإيمان زوجة فرعون.
لذا قرر الهجرة ببني إسرائيل والعبور بهم إلى الجانب الآخر من البحر.
ولا يشير القرآن بشكل قاطع إلى أن هذه الحركة في بدايتها هل كانت برضى فرعون بعد أن شاهد المعجزات وآيات العذاب ، أو أنها كانت بدون رضاه في البداية ثم تبدل موقفه بعد ذلك ؟ ولكن قد يكون في قصة مطاردة فرعون بجنوده لموسى وبني إسرائيل .. ما يوحي بأن الحركة كانت بالرغم عن فرعون وبدون رضاه.
ولكن بالنسبة إلى الهدف الثاني ، فإن موسى ـ عليه السلام ـ كان قد حقق هدفه في إنقاذ بني إسرائيل من الاضطهاد الفرعوني من خلال المبادرة إلى الخروج والتدخل الإلهي بإنقاذه من المطاردة.
وهذا يمكن أن نلاحظ أيضاً أن بني إسرائيل كانوا يلتفون حول موسى دون أن يكون هناك خلاف في صفوفهم أودون أن يبرز هذا الخلاف على السطح الاجتماعي على الأقل . والقرآن ـ وإن كان لا يصرح بشيء من ذلك ـ ولكن يدعونا إلى هذا الحكم طبيعة الأشياء ، حيث كان الإسرائيليون بالأصل أهل كتاب ونبوات فمن الطبيعي أن يؤمنوا بنبوة موسى ـ عليه السلام ـ دون خلاف.
كما أنهم كانوا يتعرضون لأشد ألوان العذاب ، وبذلك هم ينشدون الخلاص .
مضافاً إلى أن سكوت القرآن عن إبراز أي خلاف بين بني إسرائيل وبين موسى في هذه المرحلة ، واستجابة بني إسرائيل إلى متابعة موسى في الهجرة من مصر ، قد يشير إلى هذه الحقيقة أيضاً .
نعم ؛ يشير القرآن إلى نقطتين ، قد يفهم الخلاف منهما ، هما : قلة الأشخاص الذين آمنوا بموسى من قومه ، كما قد يشعر به قوله تعالى : ﴿فما آمن لموسى إلاّ ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإيهم أن يفتنهم﴾(24).
وكذلك اعتراضهم على موسى بنزول الأذى فيهم قبل موسى وبعده الذي يشعر بأنهم كانوا يرون اشتداد العذاب عليهم بسبب هذه الدعوة : ﴿قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون﴾(25).
وتمثل المرحلة الثالثة : جانب استقلال الجماعة والحكم وما يستتبعه من مضاعفات وخلافات ، ذلك لأن الدعوة في مرحلتها الأولى ـ عندما تكون في مواجهة أعدائها وفي ظل الحكم والعلاقات الاجتماعية الأخرى ـ تعمل من أجل تحقيق أهداف عامة وترفع شعارات معينة ، وفي هذه الأهداف والشعارات ـ مثل شعار الخلاص من العبودية والظلم أو تحقيق العدالة الاجتماعية أو العودة إلى الأرض المقدسة ـ قد تلتقي آمال الشعب كله وتتجمع تدريجياً فتصبح في موقف واحد وحركة واحدة ، وأما حين يأتي دور تحديد هذه الأهداف في صيغ معينة وطريقة خاصة وتطبيق هذه الشعارات في نهج وأسلوب خاص وتجسيدها عملياً ، فقد نجد بعض الأعضاء في الجماعة لا يلتقي مع هذا التحديد أو التطبيق لأحد سببين:
1 ـ الاختلاف بين التصورات السابقة لدى هؤلاء الأعضاء والمصاديق الخارجية التي يواجهونها في مرحلة التطبيق.
2 ـ التضاد بين المصالح الخاصة التي برزت في مرحلة التطبيق أو التي كانت موجودة إلا أنها لم تكن متناقضة في المرحلة السابقة وأصبحت الآن في حالة الضد مع التطبيق.
بل قد تتعارض المصالح الخاصة أو المنافع التي يحصل عليها الإنسان في مسيرة علمه أو المواقع التي ينتهي إليها مع هذه الأهداف والشعارات وحيث إن الأهداف والشعارات الإلهية الرسالية تنطلق من المبادئ ومتبنيات الفطرة الإنسانية التي أودعها الله تعالى في الإنسان فهي في البداية لا تبدو متناقضة مع رغبات الإنسان وميوله ، بل هي محبوبة وحسنة في نظر الإنسان خصوصاً المظلومين من الناس .
ولكن في دور التطبيق والتجسيد تتحول هذه المبادئ إلى واقع خارجي وحدود وقيود لهذه الحركة أو ذلك الموقف أو لتلك المصلحة ، فعندئذ تتناقض مع الهوى والشهوات والطموحات الذاتية للإنسان.
ولذلك نجد في هذه المرحلة من قصة موسى ـ عليه السلام ـ بوادر الخلاف تبدو في الشعب الإسرائيلي وتطفو على السطح شتى الاتجاهات الفكرية والمصلحية والنفسية ، وحتى إنها تتحول أحياناً إلى المروق عن الدين أو إلى التمرد على الجماعة والنظام .
ونلاحظ هنا ثلاثة أبعاد لمظاهر الخلاف من خلال هذه القصة:
الأول : في جانب الفكر والعقيدة ، حيث نجد تأثيرات المجتمع الوثني الفرعوني الذي كان يعيش فيه الإسرائيليون تظهر على الإسرائيليين أنفسهم بشكل واضح ، حيث يطلبون من موسى ـ عندما مروا على جماعة يعبدون الأوثان ـ أن يتخذ لهم أصناماً وآلهة كما لهؤلاء القوم آلهة ، مع أن الإسرائيليين كانوا ذرية إبراهيم ـ عليه السلام ـ وإسحاق ويعقوب الذين حملوا الرسالة الإلهية وتميزوا برفض عبادة الأوثان وهاجروا إلى فلسطين من أجل ذلك .
وكذلك تبرز هذه الرواسب والمخلفات مرة أخرى عندما يواجهون فتنة السامري الذي اتخذ لهم من الحلي عجلاً، فيعبدون هذا العجل لمجرد أن يروا فيه ظاهرة غير طبيعية ، وكذلك نلاحظ هذا الموقف منهم في قضية الميقات عندما انتخب واختار موسى سبعين رجلاً من قومه ليستغفروا من عبادة العجل فإذا هم يطلبون منه أن يريهم الله جهرة.
الثاني : في جانب المصالح ، حيث نجد موقف قارون وجماعته الذي بغى بسبب وجود الأموال الطائلة لديه وكذلك ما كان يتعرض له موسى من إيذاء وتمرد عليه من قومه وغير ذلك من الإشارات القرآنية التي تشير إلى وجود عوامل النفاق والمعارضة بسبب هذه المصالح.
الثالث : في جانب الواقع الروحي والنفسي ، حيث نجد أمامنا قصة دعوة موسى لدخول الأرض المقدسة ، وتخلفهم الروحي والنفسي عن دخولها مع أنها كانت أملهم وأمنيتهم فإنهم كانوا ينتظرون أن يحقق لهم موسى ذلك بطريقة غيبية كما تحقق لهم العبور.
وظهر على الإسرائيليين بشكل عام مخلفات ورواسب فترة الإرهاب والاضطهاد التي كانوا يعيشون فيها الإحساس بالعجز والضعف .
فالميزة الرئيسية لهذه المرحلة هي ظهور هذه الخلافات المتعددة ومعاناة النبي موسى منها على اختلاف مظاهرها ودوافعها.
وهذه الظواهر هي من مستلزمات المجتمع الذي تتحكم فيه عقيدة جديدة ونظام جديد.
ونجد موسى في كل هذه الخلافات مثال القائد الحكيم والنبي العطوف الذي يأخذ قومه بالشدة في مروقهم عن الدين كما في قضية العجل ، واللين في جوانب أخرى فيدعو الله سبحانه لهم بالرحمة والمغفرة كما في قضية الميقات.
كما أن من ميزات هذه المرحلة هي ظاهرة التشريع والتقنين للعلاقات الاجتماعية كما يفهم ذلك من إلقاء الألواح إلى موسى وفي نسختها كل شيء.
وكذلك ظاهرة أخذ العهود والمواثيق في مواصلة المسيرة التي تحتاج إلى تضحية وبذلك وعطاء.
 


 

1  ـ نذكر من أحداث القصة بمقدار ما يتعرض له القرآن الكريم . وقد اعتمدنا إجمالاً في ذكر هذا التسلسل على كتاب قصص القرآن لعبد الوهاب النجار مع شيء من التصرف والإصلاح.
2  ـ الأعراف 49 ـ إبراهيم 141 ـ 6 القصص 3 ـ 6 .
3  ـ القصص : 7 ـ 13 ـ طه : 37 ـ 40 ـ القصص 14 .
4  ـ القصص : 15 ـ 21 ـ طه : 40 .
5  ـ القصص : 22 ـ 28 ، طه 40.
6  ـ الإسراء : 2 ـ 3 طه: 9 ـ 47 الفرقان: 35 ـ 36 القصص: 29 ـ 35 الشعراء : 10 ـ 16 النازعات: 15 ـ 19.
7  ـ الأعراف : 104 ـ 105 الشعراء : 17 ـ 22.
8  ـ الشعراء : 18 ـ 21.
9  ـ الشعراء : 24 ـ 29 طه : 49 ـ 55.
10  ـ الأعراف : 106 ـ 109 ، الشعراء : 30 ـ 35 يونس : 75 ـ 78.
11  ـ الأعراف : 110 ـ 126 ، يونس 80 ـ 89 طه : 57 ـ 76 ، الشعراء : 34 ـ 52.
12  ـ الأعراف : 127 ـ 135 ، غافر : 23 ـ 27 ، الإسراء : 101 ـ 102 طه : 59 النمل : 13 ـ 14 القصص : 36 ـ 37 ـ الزخرف : 46 ـ 50 القمر : 41 ـ 42 ، النازعات : 20 ـ 21.
13  ـ القصص : 38 ـ غافر : 28 ـ 46.
14  ـ الأعراف : 136 ـ 137 يونس : 90 ـ 92 ، الإسراء : 103 ـ 104 طه : 77 ـ 79 ، الشعراء : 52 ـ 68 القصص : 39 ـ 40 الزخرف : 55 ـ 56 الدخان : 17 ـ 31 الذاريات : 38 ـ 40.
15  ـ من الحسن مراجعة قص الأنبياء لعبد الوهاب النجار في شأن الأحداث التي وقعت لموسى مع قومه بني إسرائيل وإن كنا لا نتفق معه في بعض الخصوصيات التي يسردها.
16  ـ القصص : 15 ـ 16.
17  ـ القصص : 14 .
18  ـ القصص : 17.
19  ـ آل عمران : 33 ـ 34.
20  ـ الأعراف : 134 ـ 135.
21  ـ الأعراف : 130.
22  ـ الأعراف : 133.
23  ـ الشعراء : 18.
24  ـ يونس : 83.
25  ـ الأعراف : 129.
 

 


 


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية