مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

السيرة والسنّة  ومصدرهم
 الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني


الامين العام  كلمتان شايعتان دائرتان على لسان المسلمين: "السيرة والسنة" وكلتاهما تضافان وتستندان إلى الرسول (عليه السلام) فيقال "سيرة الرسول" أو "سنة الرسول" فهل هما شيء واحد أو شيئان وماهو الفارق بينهما؟
  السيرة من السَير ويُقصد بها مسيرة الرسول في حياته الشخصية والاجتماعية، والسنّة هي الطريقة ويقصد بها ما سنَّه الرسول ليتخذ أسلوبا للحياة الدينية. ولا شكّ أن سيرته (عليه السلام) فيها قسم كبير من سنّته ففيها فقه وعقيدة وأسلوب للحياة، والنبي(عليه السلام) بسيرته أسوة للناس، وسيرته بعدما جعلت أسوة أصبحت سنّة متَّبعة.
  والفرق بينهما أن السيرة بقيت ولازالت على ماكانت في الصدر الأول مصطلحا بين الأمة أي مسيرة الرسول في حياته، إلا أنَّهم عبَّروا عنها فيما بعد بـ "مغازى الرسول" في كتب السيرة مثل : مغازي محمد بن إسحق، وموسى بن عُقبة والواقدي وغيرهم. وهذه الآثار تحوى في الحقيقة حياة الرسول كلّها من مولده إلى مماته ، قبل الرسالة وبعدها، بل فيها شيء كبير عن أسرته خاصةً إلى ابراهيم (عليه السلام)، وعن العرب والجزيرة العربية  وما حولها عامةً، إلا أنها سميت باسم المغازي إمّا لأنّ معظم حياة النبي بعد الهجرة - التي أصبحت لعظمها مبدأ التاريخ الإسلامي - قضيت في الغزوات ، أو لأجل شدة اهتمام المسلمين بهذه الحقبة من حياته بالذات
إذ فيها اتسعت رقعة الإسلام، وخرج الاسلام بها عن جدران مدينة الرسول إلى فسحة العالم الواسع، كما أنّ الهجرة نفسها أخرجت دعوة الاسلام من العزلة متجاوزة حصار المشركين حولها. وهناك وصلت السيرة مرحلة أخرى، وهي أنها كانت تتداولها الألسن وتنقلها الكتب في ثوبها الأصلي بصورة روايات مستندة عن الرواة، أو مرسلة عن النبي، كما نشاهدها بالفعل في سيرة محمد بن اسحاق، ثم تحوَّلت وتخلّت عن صورة الرواية وعرضت في شكل التاريخ، كما هي عند الواقدي ومن بعده. على أن الطبريَّ مع تأخر زمانه عن أرباب السيرة الأقدمين احتفظ بأسلوب الرواية والتحديث في كثير من سيرة الرسول وفي حوادث التاريخ.
هذا شأن السيرة ، وأما السنّة فبعد ما كانت تطلق على ما سنَّة الرسول، تحوَّلت في مسيرتها وقطعت أشواطا كما سيأتي في هذا البحث المتواضع،  حتّى استقرَّت في نهاية المطاف في الأحاديث المرويّة على لسان الرواة والمدوَّنة في الكتب. ولاشكّ أن المستند لكل من السنّة والسيرة بعد عصر التدوين ، هي السنة في آخر مطافها أي الأحاديث، سواء ماثبت منها في كتب السيرة، أو في كتب السنة فإنها هي الأساس والمعتمد لكل مايرجع إليه المسلمون بعد كتاب اللّه في السيرة والسنّة، وفي العقيدة والشريعة، وفي الآداب والحِكَم وفي المواعظ  والعبر.
  ومن هذا المنطق نركّزفي هذا البحث على السنة بمعنى "الاحاديث" اعتبارا بها كمصدر للسنة وللسيرة معا إلماما إلى دورها في وحدة المسلمين وتوحيد صفوفهم ، وفي التقريب بين المذاهب الإسلامية، لو اتّخذت طبق الموازين والأسس العلميّة ، وتحذيرا عن اتخاذها وسيلة للتفريق والتشتيت بين المسلمين، وذريعة لاختلاف كلمتهم، لولم يطبق عليها تلك الأسس. ولنبدأ بمعنى السنة في مسيرتها وما عرضتها من الأحوال، أو لحقتها من المعاني.معنى السنّة
  السنّة في اللغة الطريقة والأسلوب، وفي عُرف المسلمين ، هي عبارة عن سنّة النبي(عليه السلام) ويُعبَّر عنها وعن القرآن الكريم عند الفقهاء بالكتاب والسنّة، هذه هي
المعنى العام للسنّة الشايع لحد الآن ، وللسنة عند العلماء معاني أخرى ألحقت بها وإليكم التوضيح:أولا: السنة عدل الكتاب
  السنّة عِدل الكتاب تعتبر أحد الركنين الرئيسيين للشريعة الاسلامية، وكلّ ما عداهما مما يعتبره أرباب المذاهب الإسلامية دليلا ومستنداً لهم في الدين وفي مجال الشريعة، فهو مقتبس أو مستنبط من الكتاب أو السنّة ، أو لابدَّ أن  يكون مستنداً إليهما : مثل الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها عند المذاهب السنية، أو ما يعادلها عند الإمامية: مثل حجية قول الإمام المعصوم واجماع الإمامية، وسيرة المسلمين، والشهرة الفتوائيّة أو حجية مطلق الظن في الأحكام. فجميع هذه المستندات لابدّ وأن تنتهي إلى الكتاب و السنَّة وأن يقوم على اعتبارها دليلٌ منهما. وعلم أصول الفقه متكفِّل للتدليل عليها، وموضوع هذا العلم عند بعض العلماء "الحجة في الفقه" والمعروف أن موضوعه الأدلة الأربعة. وهذا العلم يبحث عن أدلة الاستنباط.
  المرحلة الأولى لسير السنة أنها سنَّة الرسول أي ماسنّه الرسول فحسب.
  والمرحلة الثانية للسنَّة أنها انقسمت كما هو المعروف عند الفقهاء والأصوليين إلى قول وفعل وتقرير، فالقول ماقاله الرسول ، والفعل ما عَمِل به ، والتقرير ماثبت لدى الفقيه رضى النبي (صلى الله عليه وآله) به من الأحكام حيث صدر عمل أو قول من أحد فعلم به النبي ولم يردَّ عليه ورضيَ به.
  والمرحلة الثالثة، أن السنَّة بعدما حفظت في الصدور وتناقلت على الألسنة ودُوِّنت في السطور; استقرت أخيرا وانحصرت في نطاق الأحاديث التي تحمل السنَّة، وليست هي السنَّة نفسها، بل الأحاديث على حدّ تعبير الشيخ الانصاري (من كبار فقهاء الإمامية في القرن الثالث عشر الهجري) هي سنة حاكية بعدما كانت التي صدرت عن النبي نفسه هي السنَّة حقيقة ويعبَّر عنها بالسنّة المحكيَّة.
  وقد جمعت هذه الأحاديث كما نعلم في كتب الجوامع والسنن عند كل من السنة
والشيعة : كالكتب الستة والجوامع الأربعة، وغيرها من كتب السنن والمسانيد وهي كثيرة عند الفريقين أي أهل السنة والإمامية، وعند غيرهما من المذاهب المعروفة كالزيدية والأباضية.اعتبار السنّة وحجيته
  ليس هناك خلاف بين المذاهب الإسلامية من السنة والشيعة في حجيّة سنّة النبي بمعناها الأصلي، بل هي من ضروريات الإسلام مثل حجية الكتاب، وقد نصَّ عليه القرآن حيث قال: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(1). ويدل عليها مادلّ من الآيات على وجوب طاعة اللّه ورسوله ووجوب الردِّ إليهما.
  وقد نصّ الفريقان على حجية الكتاب والسنة في علم الأصول واستندا بهما في الفقه. وجاء في كتاب الكافي للشيخ محمد بن يعقوب الكليني (م329) باب تحت عنوان "الردّ إلى الكتاب والسنة وأنه ليس شيء من الحلال والحرام  وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاءت فيه كتاب أو سنَّة"(2) وباب آخر بعنوان "الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب"(3) وثمة روايات عن الإمامين الصادق والباقر (عليهما السلام) مضمونها: "ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة"(4) وجاء في كتب الصحاح والسنن باب أو أبواب مضمونها "الاعتصام بالكتاب والسنَّة"(5).
  نعم، لا خلاف في حجية السنّة بين المذاهب الإسلامية ، وإنما الخلاف بينها في طريق إثبات السنة - وبتعبير أدقّ - الاختلاف واقع في السنة الحاكية والأحاديث التي تحمل السنة لا في السنة نفسها، فإن السنة بهذا المعنى أي الأحاديث ليست شيئا ملموسا بأيدينا ولا معقولا وثابتا بعقولنا، وإنما هي مسموعات بوسائط كثيرة عن النبي ، والأحاديث - كما تعلمون - فيها الصدق والكذب، ومنها الصحيح
1- الحشر / 7 .
2- الكافى ط طهران ج 1 / 59 .
3- نفس المصدر / 69 .
4- نفس المصدر / 59 .
5- التاج الجامع للاصول ط طهران ج 1 / 64 .والسقيم والجيّد والرديء، فلابد إذا من إثبات السنّة بطرق موثوق بها، ولا نقول بطرق قطعية، لأنها قليلة ربما لا تتجاوز الخمسين.
  ومعلوم أن هذه الطرق تختلف قوة وضعفا، وصحة وسقما بحسب الرواة، وبحسب ماعند المذاهب  الفقهية ونقاد الحديث من معايير القبول والرد. والفارق الرئيسي بين السنة والشيعة في هذا المجال، أي في طريق السنة، أن الشيعة تعتمد وتستند في الأغلب الأكثر على ماصحَّت لديها من السنة عن طريق الأئمة من آل البيت(عليهم السلام)، وإخوانهم من أهل السنة يعتمدون غالباً على ما صحَّت لديهم عن طريق الصحابة رضي الله عنهم. هذا هو الفرق الرئيس بين الطائفتين ، فالاختلاف اصطلاحا "صغرويّ لا كبرويّ" و"في المصداق دون الكلّي".
  هذا مع أن علماء الفريقين لا يأبون الأخذ بما ثبت موثوقا به عن طريق الفريق الآخر. وهذا ما نصَّ عليه فقهاء الإمامية ويعملون به في فتاويهم، إذا ثبت حكم بطرق موثوق بها من غير طريق أهل البيت، فالمعيار عندهم وأظنَّ عند غيرهم أيضا هو الوثوق بصدور السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أيّ طريق اتفق.
  ولكل من الطائفتين فيما اعتبروه طرقاً للسنّة دليل من نفس السنة، فأهل السنة يستندون بما تحقّق عندهم من عدالة الصحابة وصحة الأخذ عنهم، والإمامية يعتمدون على ما تحقّق لديهم من عصمة الأئمة ووجوب الأخذ عنهم  استنادا إلى إمامتهم، ومن أهمها الحديث المعروف بـ "حديث الثقلين" المروي بطرق شتى في كتب الحديث والسيرة عن جماعة من الصحابة عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعِترتي" وقد جُمعت طرق هذا الحديث بشتى ألفاظه في رسالة "حديث الثقلين" نشرت مع مقدمة لكاتب هذه السطور..
  هذا مع الاعتراف بأن هذا الحديث جاء في كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس(رضي الله عنه)مرسلا "أنه بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: تركتُ فيكم أمرين لن تضلّوا ما أمسكتهم بهما كتاب اللّه وسنَّة نبيه"(1) وقد اشتهر بهذا اللفظ بين أهل السنة. تتداوله الألسن
1- الموطأ، ط كتاب الشعب، القاهرة / 560.والأقلام ، دون اللفظ الأول مع تظافر طرقه وصحة أسانيده ، وقد أوّلوه تأويلا خارجا عن جعل العترة مرجعا للأنام.
  وقد يجمع بين اللفظين بأن الثابت في الأخير هو اعتبار نفس السنَّة، وفي الأول هو الطريق إلى السنّة، وهي عترة النبي. كما أن من أراد التصالح بين الفريقين. يقول: النبي(صلى الله عليه وآله) أرشد الأمة في الأول إلى أوثق الطرق إلى سنته وهي العترة، ولم يمنع من الأخذ بها عن طريق الصحابة بل أوصى أيضاً في روايات أخرى. ولست أنا الآن بصدد النقض والإبرام والتركيز على القول المرفوض والقول المقبول والفصل بين القولين، وإنّما أريد الوصول إلى نتائج ربما تنتهي إلى الوفاق أو إلى التأليف والوئام ورفض الجدال والخصام، فإذا كان عند كل من الفريقين ما اعتبروه حجّة بينهم وبين اللّه في حقل الشريعة والعقيدة من السنة المطهَّرة ، عن طرق موثوق بها عندهم، فليس لأيّ منهما أن ينسب إلى الآخر القول بالبدعة والخروج عن السنة، مادام كلّ منهما بحسب معتقده يعمل ويلتزم بالسنة ويرفض البدعة.
  كيف يجوز التقول بذلك مع مانعلم ويعلمه الخبراء أن لكل من الفريقين أسلوبا خاصّا في طرق تحصيل الحديث ونقده حيث يحتاطان في أخذ الحديث تماما حسب المعايير العلمية المقبولة لديهما، وعندهما علم باسم "مصطلح الحديث" أو "دراية الحديث"، ولهما كتب ومؤلفات ومصطلحات في أقسام الحديث وأحكامه، وما يعتبر منه ومالا يعتبر. وهناك علم آخر باسم "علم الرجال" لتوثيق الرواة  وللجرح والتعديل وتمييز الصادق عن الكاذب بين الرواة والأصيل واللصيق من الروايات.
  والحق أن ذلك يعدُّ مفخرة للاسلام والمسلمين حيث أنهم يحتاطون ويستوثقون تماما في أخذ الحديث ورده ، وفي تصحيحه وتضعيفه بمالا يوجد عند ملة أخرى عملا بقوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)(1) واعتبارا بما ثبت متواترا عن النبي(صلى الله عليه وآله) :"من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مقعده من النار".
  ونحن نعلم ما تحمَّله السابقون في هذا السبيل من الجهود الجبارة، من غير فرق
1- الحجرات / 6 .بين السنة والشيعة، ومع الاعتراف بهذه الحقيقة نعتقد أن الباب بعد مفتوح أمام الباحثين والخبراء، وأنه بقيت على عاتقهم متابعة السلف في تنقيح الأحاديث، وأن لا يزعموا أن السلف بلغوا نهاية المطاف، وأنه لم يترك الأول للآخر شيئا، كلا.
  كما أن الواجب علينا جميعا أن لا نكتفي ولا نغتر بما ثبت من الحديث لدى طائفتنا، وعن طريقتنا خاصة، تاركين ماجاء عن طريق الآخرين، وما ثبت عندهم. فمن كان له خبرة أو إلمام بعلم الحديث يعلم علما يقينا ويعترف ، أو لابدّ له أن يعلم ويعترف في مجال الحديث بالحقائق التالية:
  1- رواة الحديث من الشيعة والسنّة كانوا مختلطين ومشاركين معا في تحمّل الحديث ونقله منذ عصر الصحابة إلى أواخر القرن الثاني، فكان يأخذ بعضهم عن بعض أو يأخذون معا عن شيخ واحد يوافقهم في الرأي أو يخالفهم ، ولم يكن اختلاف المسلك والهوى يُفرّق بينهم في أخذ الحديث عن الشيوخ وفي تعاطي العلم بينهم.
  2- جماعة كبيرة من رواة حديث أهل السنة أمثال محمد بن شهاب الزهري، والإمام مالك بن أنس، والإمام أبي حنيفة ، والإمام الأوزاعي، والثوري، إلى عشرات بل مئات غيرهم تعلَّموا الحديث عن الأئمة من آل البيت، كعلي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وابنه جعفر الصادق (عليهم السلام)، فقد جاءت أسامي هؤلاء الأكابر في قائمة رجال الأئمة، ولاسيّما رجال الإمام الصادق في (كتاب الرجال) للشيخ الطوسيّ (385 - 460) حيث تجاوز عدد رجال الصادق في هذا الكتاب 3700 شخص وأكثرهم في رأيي كانوا من أهل السنة. والمتتبع في كتب السيرة والسنن والتفسير لأهل السنة يقف على آلاف الأحاديث في شتّى المواضيع، مروَّية عن طريق أهل البيت. وإني قد جمعت مع آخرين من هذه الأحاديث ما ينوف على عشرة آلاف لعلها تنشر بإذن اللّه تعالى ، باسم "حديث العترة عن طريق أهل السنة".
  3- إنّ جماعة كبيرة من رواة الحديث عند الإمامية عن الأئمة من آل البيت كانوا من أهل السنة أيضا مثل: السكونيّ، وأبي صلت الهرويّ، وسفيان الثوري، ومحمد بن شهاب الزهري وغيرهم. وقد عملت الإمامية برواياتهم ، فالسكونيّ وحده روى
معظم الفقه عن الإمام الصادق، وكان له كتاب لم يصل إلينا بعينه ، إلا أن رواياته مبثوثة في أبواب الحديث، ويرجع إليها الفقهاء ويتمسَّكون بها، ويعتمدون عليها في الفتيا.
  4-  إضافة إلى ذلك كلّه لا ريب في أن عليّا (عليه السلام) والذين كانوا معه من الصحابة والتابعين هم في عداد رواة الحديث لدى السنة والشيعة كليهما. ففي مسند أحمد يوجد 820 حديثا رواها الرواة عن عليّ عن النبي(صلى الله عليه وآله) كما أن الشيعة أيضا تروى قريبا من هذا العدد من الحديث ، وربما أزيد منه بأسانيدهم عن هذا الامام . فعلي(عليه السلام) بمثابة "مجمع البحرين" يجتمع عنده حديث الشيعة وحديث السنة، هذا يروي عنه كصحابي جليل بل من أعلمهم ، وكرابع الخلفاء الراشدين ، وذاك يروي عنه كإمام مفترض الطاعة، وكأكبر من حمل علم النبي(صلى الله عليه وآله).
  5- حقيقة أخرى أن المشتركات في حديث الفريقين لفظا ومعنى أو معنى فقط كثير جدا، وعندنا في "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية" مشروع بدأنا به، وهو جمع الأحاديث المشتركة، واذا قدّر الله تعالى إنجاز هذا العمل فسوف يضاف إلى المكتبة الإسلامية ما تقرُّ به الأعين وتطمئن به الأنفس ، والذي يجمع المسلمين حول مائدة واحدة فيجمع الله بها كلمتهم إن شاء الله، وهي حصيلة جهودهم في حقل الفقه والكلام والتفسير والسيرة وغيرها. كما أن عندنا مشروعا آخر لجمع الرواة المشتركين بين الفريقين ، والتعريف بهم ، والاستيثاق من رواياتهم.
  6- وأخيراً من اطلّع على تلك الحقائق لا يشك في أن التفقه لايتم والاجتهاد لا يتكامل ، واستفراغ الوسع - على حد تعبيرهم في استنباط الأحكام - لا يحصل إلا بالرجوع إلى روايات الفريقين  الموثوق بها عندهم، وعرض بعضها على بعض وعرض الجميع على كتاب اللّه. وبدون ذلك لا يحصل الوثوق بالأخبار، ولا يجوز الفتيا بها في الأحكام، ولا تركن النفس إليها في العقيدة والشريعة، ولا في التفسير والسيرة هذا موجز الكلام في السنة باعتبارها عدل الكتاب.ثانيا: السنة قبال البدعة
  وجاءت السنة قبال البدعة في الروايات وعلى لسان علماء الدين. فقد جاء في حديث ابن مسعود عن النبي(صلى الله عليه وآله): "سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة بالبدعة"(1) وهناك حديث معروف: "ما تركت سنة إلا وقد عملت بها بدعة"(2) وعن علي(عليه السلام): "وما أحدثت بدعة الا تركت بها سنة... إن عوازم الأمور أفضلها وإن محدثاتها شرورها"(3).
  والسنة بهذا المعنى هي ماكان له أصل ثابت في الشريعة كتابا أو سنة ، والبدعة ماليس له أصل في الشريعة رأسا. وقد عبرت عن البدعة في الحديث بالأمور المحدثة: "وإياكم ومحدثات الأمور"(4) وفي حديث عايشة عن النبي(عليه السلام) "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد"(5).
  والبحث المستوفى بشأن السنة والبدعة يستدعي مقالا وقد ألقينا خطابا بهذا الشأن في بعض المؤتمرات. وموجز الكلام أن المسلمين جميعا متفقون على الأخذ بالسنة ورفض البدعة، لاخلاف بينهم في ذلك إطلاقا بشكل كليّ وإنّنا لا نجد مسلما يعتقد جواز الأخذ بالبدعة، بدل السنة، إنما الخلاف في مصاديق السنة والبدعة ، وهذا الخلاف قديم وعريق بين الأمة في بعض المسائل الفقهية المعروفة كالقصر والإتمام في عرفات، وتقديم الخطبة في صلاة العيد وغيرها.
  وجاء ابن تيمية في القرن الثامن فحمل على أتباع المذاهب الإسلامية جميعا بشأن التبرك بآثار النبي والأولياء والتوسُّل بهم، وبناء القُبب على قبورهم، وشدّ الرحال إليها، وما إلى ذلك. وقامت القيامة ضده من قبل علماء المذاهب  شيعة وسنة، وتبودلت الكتب والرسائل بينهم وبين ابن تيمية وتلميذه ابن القيِّم وأتباعهما، ولكن
1- جامع العلوم والحكم لابن رجب / 332 .
2- وفي كتاب الوافي ط اصفهان ج 1 / 260 عن علي (عليه السلام) : ما ابتدع أحد بدعة الا ترك بها سنة .
3- نهج البلاغة خ 145 .
4- جامع العلوم والحكم / 335 .
5- نفس المصدر / 81 .الخصام خف ولم يدم وكاد أن يزول، ولكنه اشتد من جديد بعد دعوة محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، ولايزال البحث بين أتباع ابن عبد الوهاب وبين غيرهم وهم جل الأمة يثور بين حين وآخر، تحدوه دوافع عقائدية أو سياسية.
  وقد أرسلت كتابا قبل ثلاث سنوات إلى الشيخ بن باز مفتي المملكة العربية السعودية درست فيه هذه المسائل كما درست فتواه بشأن الصلح مع إسرائيل، ومما جاء فيه نصا: "إن من يجوِّز التبرُّك والتوسل هم جمهور العلماء في قبال جماعة أقل منهم بكثير لا يجوزونها" ولا ريب أن المجوزين اختاروا الجواز بعد الوقوف على الآراء وبعد البحث والفحص عن الأدلة، والإطلاع على ما أبداه الشيخان السلفيان، الشيخ ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعهما، فهؤلاء لم يقتنعوا طوال هذه القرون السبعة إلى يومنا هذا بحجج مخالفيهم، فهم مجتهدون ، ولكل مجتهد مصيب أجران وللمخطئ أجر واحد - كما هو ثابت عند الفقهاء - فالمسألة بعد أن عادت خلافية اجتهادية، فهل تسمحون في مثل هذه المسألة التي جل العلماء على جوازها، وقليل منهم على حرمتها، نسبة الكفر أو الشرك، بل البدعة والفسق والضلال إلى هؤلاء الجم الغفير المعترف بفقههم وتقواهم؟ فما هو الفارق اذا بين القطعيات والظنيات في حقل العقيدة أو في حقل الشريعة؟ إنما الحكم بالكفر ثابت فيمن أنكر ضرورياً من ضروريّات الدين ليس إلا ، دون مسألة خلافية هي معترك الآراء بين الفقهاء، حتى ترجع المسألة قطعيَّة، والاكتفاء ممن لا يجوزه بالوعظ والارشاد، إذا رآها شركا  أو بدعة وضلالا ، فهذا منتهى المطاف في أداء الواجب من مثله...".
  والشيخ بن باز لم يجبنا حتى نشرنا الكتاب في مجلة "رسالة التقريب" فأرسل الجواب وكرَّر ما ذكره الشيخان ابن تيمية وابن عبد الوهاب من دون الالتفات الى ماذكرت بشأن هذه المسائل، ومع السكوت عن مسألة الصلح مع إسرائيل، وقد نشرنا أصل الكتاب والجواب في "رسالة التقريب" وطبع في كراس مستقل.ثالثا: السنّة قبال الواجب والفريضة
  قد تقال السنة بمعنى المستحب في قبال الواجب، ففي الصلاة والوضوء والغسل
كما في سائر العبادات توجد واجبات ومستحبات ، فالمضمضة والاستنشاق في الوضوء مستحبان وغسل الوجه واليدين واجبان، والسنة بهذا المعنى ايضا مأخوذة من الروايات ، وهو مصطلح عند فقهاء المذاهب، كما أن السنة قد تستعمل في قبال الفريضة فيراد بالفريضة ما ثبت فرضه بالكتاب، وبالسنة ماثبت في سنة النبي. وان كان واجبا فيطلق على الأول فرض اللّه كالركعتين الأوليين من الرباعيّة ، والثلاثيّة، وعلى الثاني فرض النبي، كالركعتين الأخيرتين في الرباعية والركعة الثالثة في المغرب. والسنّة بهذا المعنى توجد عند الحنفية.
  ونظراً إلى ذلك، قد تتصف السنة بالوجوب فيقال: "غسل الجمعة سنة واجبة" يراد به أن غسل الجمعة ليس من فرض الله كغسل الجنابة، إنما هو من فرض النبي(صلى الله عليه وآله) أو يراد به أنه سنة مؤكدة لا ينبغي تركها. وبهذا جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام): "السنّة سنتان: سنة في فريضة، الأخذ بها هدىً ، وتركها ضلالة، وسنة في غير فريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيرها خطيئة"(1).رابعا: السنة قبال الشاذّ النادر
  قد يطلق على السيرة المستمرة بين المسلمين أنها سنة، وعلى ماليست كذلك أنه ليس سنة. ولا ريب أن هذا المعنى مستحدث لا أصل له في الكتاب والسنة صريحا إلا أنه لا باس بإرجاعه إلى السنة بالمعنى الأول اعتبارا بأن ماشاع بين المسلمين بما هم مسلمون له أصل من الشريعة، ومن سنة النبي بالذات، وأنه لو كان محرما في الشريعة لما شاع بين الأمة. وعندنا أن الصواب في هذا الإطلاق حمل السنة على معناها اللغوي دون الشرعي، والسنة بهذا المعنى والعرف سيّان، مع فارق بينهما أن السنة هذه تنسب إلى المسلمين بما هم مسلمون، والعرف ما عرفه الناس العقلاء لا دخل للإسلام فيه رأسا.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.
1- الكافي ج 1 باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب. 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية