مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

دراسات في السيرة     
مدخل لدراسة السيرة النبوية وتاريخ العصر النبوي(1)
السيد منذر الحكيم(2)

  استكشاف المنهج القرآني في استقراء التاريخ عامة والسيرة خاصة عملية علمية هامة وحسّاسة وضرورية، ويحاول الباحث في هذا المقال أن يعطي صورة موجزة لهذا المنهج ويطبقها على بعض نصوص السيرة.  1- التاريخ الذي نحن بصدد الحديث عنه ظاهرة بشرية عملية يوظفها القرآن الكريم لاكتشاف الحقائق التي ترتبط بالانسان الفرد وبالمجتمع الانساني، ثم الاستهداء بها في الحياة ليتسلق الانسان من خلالها قمم الكمال.
  قال تعالى بعد استعراضه لمجموعة من الحوادث التأرخية مشيراً الى وجود حقائق تأريخية لابد من توظيفها لخدمة الانسان والاستهداء بها في حياته العقلية:
  1- (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا اللّه...)(3).
  2- (...ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه...)(4).
  3- (فلنقصنَّ عليهم بعلم وما كنّا غائبين . والوزن يومئذ الحق...)(5).
  ويفصح القرآن الكريم عن مجالات الاستهداء بالقصص التي تعبّر عن مقاطع من
1- هذا البحث جزء من مشروع موسّع لدراسة التاريخ في ضوء المنهج القرآني.
2- باحث في مدينة قم.
3- آل عمران / 62 .
4- يوسف / 111 .
5- الاعراف / 7 - 8 .تاريخ الانسان (الفرد والمجتمع).
  1- (...فاقصص القصص لعلّهم يتفكّرون)(1).
  2- (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب...)(2).
  3- (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك...)(3).
  إذن; ينطلق القرآن الكريم من الحق والعلم معاً . الحق الثابت والعلم المستوعب لحقائق التاريخ، ولايدع مجالاً للافتراء والريب فيما يحدّث عنه، من أجل ايصال الانسان الى حقائق إيمانية لا يستطيع أن يتجاوزها في حياته العملية، وهي التوحيد ورسالات الانبياء التي تعتبر القنوات الصالحة والسليمة لربط الانسان بربه وإيصاله الى توحيد الالوهية وتقنين الحياة اليومية والسلوك البشري الارادي على أساس الحق.
  وأما كيفية هذا التوظيف فيكون من خلال توفير المواد اللازمة لاثارة الفكر، واستعمال العقل، وتهيئة المقدمات الكافية للاستنتاج الصحيح ولاكتشاف القوانين العامة التي يكون العلم بها هو السبيل الوحيد للاهتداء الى دستور الحياة.
  وحين يقص الله على رسوله أنباء الرسل فإنه يبتغي من ذلك تثبيت فؤاده والذي يشكل ركناً أساسياً في حركة الرسول الواعية التي تتطلب الصبر والصمود والثبات على الحق في كل أشواط المسير الشائك حتى يتحقق الحق ويبطل الباطل ولو كره المبطلون.
  لقد ضاعف القرآن الكريم اهتمامه بالتاريخ - بمختلف حقوله وعلومه - وانعكس هذا الاهتمام في بعدين; بل ثلاثة:
  البعد الأول: المساحة التي شغلها البحث التاريخي في القرآن الكريم وهي تبلغ حوالي ثلث القرآن الكريم.
  البعد الثاني:  الموقع الذي أعطاه القرآن الكريم للحقائق التاريخية من حيث
1- الاعراف / 176 .
2- يوسف / 111 .
3- هود / 120 .الآثار والوظائف التي رسمها للبحث التاريخي بمختلف حقوله ومستوياته.
  البعد الثالث: المنهج القرآني في التعامل مع البحث التاريخي وكيفية دراسته للتاريخ على أسس علمية وموضوعية رصينة ومقبولة لدى العقل والعقلاء.
  ويختلف حقل التاريخ عن الرياضيات والعلوم التجريبية البحتة من حيث إمكان التمويه والتحريف وتغطية الحقائق التأريخية لفترة زمنية طويلة أو قصيرة.
  إذن; طبيعة البحث التاريخي تناله يد التحريف وقد يغطيه الابهام والغموض وقد تستره سحب داكنة ريثما تتكشف الحقيقة بالتدريج وينمو الانكشاف حتى يبلغ حدًّا لايستسيغ المجتمع الانساني التغافل وتجاوز الحقائق فيه.
  وأشارت الآيات المباركة الى إمكان الافتراء والتلاعب بحقائق التاريخ أو المبالغة والبحث عن غير علم وسدل الستار على الحق الذي لابد أن يظهر في ظرف ما.
  ومن هنا; كان على المدرسة القرآنية أن تسلح الباحث عن الحقيقة بسلاح موضوعي قادر على اكتشاف الحقيقة بشكل كامل .
  لقد طرح القرآن الكريم نظرية الثوابت التي لا يمكن للفكر الانساني أن يتجاوزها في حال من الاحوال وسماها بالمحكمات واُم الكتاب. وهي الحقائق الثابتة والبينة للفكر الانساني، وهي لا تقبل الريب أو الترديد أو التشكيك بحال من الاحوال.
  والثوابت دائماً تشكل الخطوط العريضة والمعالم الاساسية للفكر الانساني الذي يستوعب مالا يستوعبه عالم المادة، ولكنه لا يستسيغ أن يقف مكتوفاً أمام المبهمات وما يختلف فيه بين أبناء الانسان.
  ويسوق القرآن الكريم للقارئ الواعي موقفين واُسلوبين من التعامل مع المبهمات أو ما يختلف فيه بنو آدم، ويحاكم هذين الاسلوبين ليخرج الى نتيجة بينة تصبح معياراً وتقدم قاعدة عامة للتعامل مع كل خبر يرد على الفكر الانساني.
  ويعود كل نوع من أنواع التعامل الى جذور نفسية واضحة تنسحب على نوع التعامل وتنعكس في اُسلوب المواجهة مع كل حديث ينقل الى الانسان ويراد من الفكر الانساني أن يتخذ منه الموقف المناسب والجدير به.
  قال تعالى بعد أن أشار الى أن القرآن هو الفرقان الذي نزله اللّه على رسول الامين:
  (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُـنَّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا اُولو الالباب. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)(1).
  إن سلامة النفس من الزيغ تحول بين الانسان وبين ابتغاء الفتنة. ومن هنا يتوقف الانسان الذي يتحرى الحقيقة عن اتباع المتشابه من الآيات، بل يُرجع الأمر الى ربه. فالعقل يقف حائلاً بينه وبين أي تفسير غير علمي أو غير مستند الى دليل صحيح وحقائق ثابتة، بل العقل هو الذي يرشده الى الركون الى المحكمات والالتزام بأم الكتاب حيث يشكل الاطار العام والخطوط الثابتة التي لايمكن تجاوزها بحال من الاحوال، وحينئذ من الطبيعي أن نلاحظ الآيات الاخرى في ظل هذه الثوابت وهذه المعالم التي لا يمكن تجاوزها. وهنا تتفتح آفاق النفس لآفاق الفكر لتتأمل فيما لايكون صريحاً أو واضحاً في بداية الامر، وبهذا سوف يضمن العاقل الذي آمن بربه عدم الزيغ وعدم التسرع في تفسير وتحليل ما يشاهده من الآيات المتشابهة، بل يقف منها موقف اللبيب الحكيم، وإن لم يفلح في اكتشاف الحقيقة فإنه لا ينكرها ولا يستنكرها، وإنما يرجع الامر الى مصدره ويوكل الامر الى ربه الذي نزل الآيات هذه ويستفهم منه ما يبتغيه طالباً منه استمرار الهداية ونزول الرحمة، إنه الموقف السليم الذي يمثل النضج والتعامل المنطقي مع النصوص إذ لا يتسرع العاقل في التوجيه والتحليل.
  ومن هنا; قد نفهم الوجه في قوله تعالى في مطلع سورة هود : (الر. كتاب اُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)(2) فإن التفصيل إنما يكون بعد الإحكام وبعد أن تتعين الآيات التي تكوّن اُم الكتاب، والتي تعدّ هي الاساس والخطوط الثابتة كما أفصحت بذلك سورة آل عمران (منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب)(3).
1- آل عمران / 7  .
2- هود / 1 .
3- آل عمران / 7 .  والآية (39) من سورة الرعد تلقي بظلالها على هذه النقطة أيضا إذ تقول: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب) فإن مالا يتعرض للمحو والتغيير هو أم الكتاب. وما دونه قد يتعرض للمحو والتغيير تبعاً لاختلاف الظروف والحالات والطوارئ.
  وتكفي هذه الآيات لرسم المنهج العام الذي يسير عليه القرآن الكريم بشكل عام والذي يمكن استخلاص منهج التعامل مع نصوص التاريخ من خلاله، فإن الاختلاف في التفاصيل لا يسمح لنا بانكار الأصل والتغافل عنه وإدانة ما ثبت لدينا وتحققنا من وجوده. وهكذا سوف نواجه كل ما ورد في كتب السيرة النبوية أو التاريخ الاسلامي أو تأريخ ماقبل الاسلام مما يرتبط بالانبياء واسمهم. فإن الثوابت التأريخية هي محطات الاشعاع وهي المحكمات التي لايمكن تجاوزها بحال من الاحوال واليها نحتكم في تفسير أو قبول أوردّ ما أثبتته كتب التأريخ من نصوص قد تصح وقد تخطأ في كشف بعض الحقائق أو تمام الحقيقة الواحدة.
  إذن; حقل التاريخ - وهو حقل اختلاط الحقائق بالأباطيل - يتطلب منا استعمال أدوات تسعفنا لكشف تمام الحقيقة الثابتة. وثوابت التاريخ التي أيدتها محكمات العقل والنقل هي المنطلق لأي تفسير أو تأويل أو محاكمة أو إدانة.
  وقد طبق القرآن الكريم هذا المنهج على سيرة الانبياء واُممهم بالذات حينما رسم لنا صورة واضحة يشترك فيها كل الانبياء واعتبر النبوة والاصطفاء فرع وجود مواصفات أساسية في شخصية كل نبي، وهذه هي التي أهلته لأن يجتبى أو يختار كنبي يراد هداية الخلق على يديه، كالصلاح والصبر والوعي واكتمال العقل والعبودية لله القائمة على الوعي والبصيرة: (قل إني على بينة من ربي...)(1).(قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني...)(2)
  هذا هو المنطق القرآني الذي يمثل الاحكام والثبات.. فكيف يبعث الله نبيّا لا يعي ولا يدرك أنه مبعوث أو مرسل من ربه ولا يطمئن الى مايراه من آيات ربه إلا أن
1- الانعام / 57 .
2- يوسف / 108 .يطمئنه الآخرون؟  فلا يعقل أن يبعث ويهيّأ للنبوة وهو لا يعلم أو يتردد أو يشك في مهمته فضلاً عن أنه يستلهم الحقيقة من غيره الذي يراد منه هدايته:  (...أفمن يهدي الى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدّي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)(1).
  إن الصورة الواضحة التي يرسمها القرآن الكريم عن شخصية أنبياء اللّه وتؤيدها محكمات العقل هي التي تصبح موئلاً ومرجعاً محكماً وثابتاً لمحاكمة كل صورة جاءت من التوراة والانجيل أو الصحاح الستة أو كتب التاريخ عن أنبياء الله، سواء كان ذلك النبي إبراهيم أو موسى أو عيسى أو محمد(صلى الله عليه وآله). وسواء كان الناقل لنا هذه الصورة خديجة أوعائشة أو الزهري أو الزبير أو من يمت الى الرسول بصلة.
  لاحظ هذا النص الذي جاء في مصادرنا الحديثية والتاريخية لنقف على متشابهاته ومحكماته:
  قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن الزهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أول ما بدئ به رسول الله(صلى الله عليه وآله) من الوحي الرؤيا الصادقة في النوع، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب اليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه... ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
  الى هنا ليس في هذا النص مايدعو للغرابة سوى أن عائشة لم تكن في زمن الرواية، والنص لا يفصح عمّن  استقت هذه المعلومات؟ ونستبعد أنها روت عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) مباشرة لأنها لم تذكر ذلك، ولأن في بقية النص ماهو مثير ومدعاة للاستغراب. ولنتابع الحديث من حيث توقفنا عنده:
  "ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية كان يكتب الكتاب العربي وكتب العبرانية من الانجيل - ما شاء الله أن يكتب - وكان شيخاً
1- يونس / 35 .كبيراً قد عمي ، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي. ما ترى؟ فأخبره رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بما رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى، ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيّاً حين يخرجك قومك ، فقال رسول اللّه: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة: نعم . لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي.
  إن ورقة الذي لم يسلم بعد هو عالم بما سيجري على النبي فضلاً عن علمه بنبوته، بينما صاحب الدعوة والرسالة نفسه بعد لم يتضح له الامر، وكأن ورقة هو الذي يفيض عليه الطمأنينة ويستشهد له بما يقنعه!! هذا والقرآن يقول:(قل إني على بينة من ربي...)(1).
  الى غيرها من الآيات القرآنية الحافلة بهذه الحقيقة، وهي أن الرسل هم مصدر الهداية للناس وهم أصحاب البينات وليس العكس هو الصحيح، بينما يشير هذا الحديث الى أن ورقة هو الذي وقع على رسالة النبي فبعث فيه الطمأنية بأنه مرسل من الله سبحانه. وهذا هو الذي فتح الطريق للغمز برسالة النبي محمد(صلى الله عليه وآله) من قبل أهل الكتاب إذ قالوا بأن رسولكم بموجب نصوصكم  قد اطمأن الى أنه رسول من الله بواسطة تطمين ورقة المسيحي له، وقد تجرأ البعض حتى ادعى أن محمداً قسيس من القساوسة الذين ربّاهم ورقة بموجب هذا النص الذي حفظته كتب الحديث وتداوله المؤرخون. وهل هذا سوى ثغرة من ثغرات الابتعاد عن محكمات العقل والكتاب والسنة؟! وهل يصدق عاقل عرف المنطق القرآني وشخصية الانبياء في المنطق القرآني ثم يؤمن بمضمون هذا النص إيمانا مطلقاً على أنه حقيقة لمجرد ادعاء انتسابه الى عائشة زوجة النبي(صلى الله عليه وآله)؟
  وثمة نصّ في الطبري هو أكثر فظاعة من هذا وأدعى للريب في محتواه. يذكر أن النبي كان نائماً وجاءه الملك  وعلمه مطلع سورة العلق.. ويقول النص بعد ذلك:
  "وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتاباً، قال: ولم يكن من خلق الله أبغض
1- الانعام / 57 .علي من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر اليهما، قال: قلت: إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون! لا تحدّث بها عني قريش أبداً! لأعهدنّ الى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن. قال: فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول:يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبريل"(1).
  إن اضطراب النبي وخوفه يبلغ به النهاية حتى يريد الانتحار بينما يريد الله اختياره للنبوة وهداية الناس ودعوتهم الى الحق، فهل يتناسب مافي الرواية مع هذا الافق الذي هو من الوضوح بمكان؟!
  وهكذا نستطيع أن نعرض نصوص التاريخ على محكمات العقل والكتاب والسنة لنخرج بنتائج واضحة وندع مالا يصمد أمام النقد العلمي البناء. 
1- تاريخ الطبري، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، ط دار سويدان - بيروت، 2 / 301. 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية