مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

"أكبر" والمذاهب
 الدكتور محمد علي آذرشب(1)

  التعصّب الطائفي والمذهبي ضيّع على المسلمين دائما فرصا كثيرة في النموّ السياسي والاقتصادي والاجتماعي. والامثلة على ذلك كثيرة، والمثال الذي نقدمه في هذاالمقال من شبه القارة الهندية ومن أواخر القرن العاشر الهجري حيث كانت الاسرة التيمورية قد أقامت دولة عظيمة هناك هي ثالث دول العالم الاسلامي آنئذ بعد الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وحيث النزاع بين الصفويين الشيعة والعثمانيين السنة قد امتدّ الى شبه القاهرة الهندية، فدارت بين الفريقين معارك طائفية حادّة، وعلى حساب هذه المعارك قوي الهندوكيون وبدأوا يتوسعون سياسيا واجتماعيا، وعلى حساب هذه المعارك أيضا توغّل المبشرون البرتغاليون داخل الهند وكثّفوا نشاطهم، وامتدّ نفوذهم الى داخل البلاط الحاكم، في عهد "أكبر خان" وبذلك توفّرت كل الظروف لانحدار هذه الامبراطورية الى السقوط بيد الاستعمار الاوربي.
  
من هو أكبر
  أبو الفتح جلال الدين محمد ثالث أباطرة الاسرة التيمورية بعد "بابر" و"همايونشاه". ولد في امركت umarkot من أعمال السند سنة 949هـ . واعتلى
1- أستاذ في جامعة طهران.السلطنة في البنجاب سنة 963هـ ، وتوفي في اكرا سنة 1014هـ تاركا الامر لابنه سليم (جهانگير).
  استولى على كجرات وبنغاله وكشمير والسند فوسّع ملكه(1)، واهتمّ باللغة الفارسية وهي اللغة الادبية لتلك الاصقاع آنذاك(2)، وأمر أن تترجم كل كتب الهند الادبية والدينية القديمة الى اللغة الفارسية. وسجّل وزيره أبو الفضل تاريخ حياة أكبر في كتاب هام بالفارسية سماه "اكبرنامه"، ثم أمر أن تكتب تكملة لهذا الكتاب تتضمن جغرافية الهند سمّيت "آئين اكبري".
كان عصر أكبر آخر عصر من عصور القوة الاسلامية في الشرق. إنه عصر السلطان سليمان القانوني العثماني، وعصر الشاه عباس الثاني في ايران. وكان عصر هؤلاء يقابل عصر النهضة الاوربية ، عصر اليزابيث الاولى في بريطانيا، وفرديناند الثاني في إسبانيا. غير أن أوربا شقت طريقها نحو التقدّم والنمو بينما دول الشرق الكبرى مزّقتها النزاعات حتى سقطت بيد الطامعين.
  ويتميز أكبر بسعيه لانهاء العصبيات الدينية في بلاده، وخاض في هذا المجال تجربة كانت تقوم على أساس خصائصه الذاتية، ففشلت فشلا ذريعا، وتركت لنا تجربة تستحق الوقوف عندها.خصائصه الذاتية
  ذكرنا أن تجربة أكبر في المسألة المذهبية ترتبط بخصائصه الذاتية فما هي هذه الخصائص:
  1- كان أكبر حادّ المزاج عنيدا لا ينتصح ولا يعير لرأي أهمية، بل يعمل بما خطر في فكره وارتضاه، وبدت عليه هذه الحالة منذ صباه، إذ أحضر اليه والده همايون أعلى الاساتذة كعبا، ولكن فشل المدرسون حتى في مجرّد تعليمه مبادئ القراءة والكتابة، وظل أميا طول حياته رغم أنه كان يعيش في جوّ مليء بالادباء والعلماء، بل كانت عمته جلبدان في طليعة المثقفات والاديبات وزوجته السلطانة سليمة من الاديبات ومتذوقات الادب. وكان في بلاطه أعظم الادباء والشعراء.
  2- كان الى جانب أميته مهتما بجمع الكتب وفهم ما تحتويه، ويقال إن مكتبته الضخمة حوت24 ألف مخطوط من أنفس المخطوطات(3)، كما ذكرنا أنه أمر بترجمة كتب الهند القديمة الى الفارسية ليفهمها. وكانت الكتب تقرأ عليه فيستوعبها بذاكرته الخارقة، ويناقش مافيها من عويص المشكلات الادبية والفنية!!
  3- كان يهمّه جدا أن يجمع شبه القارة الهندية تحت سلطان واحد، وذلك لا يتحقق في رأيه إلا إذا قضى على الاختلافات الدينية والطائفية في هذه المنطقة الصاخبة بألوان الاديان والمعتقدات(4).
  4- تركت الحروب الضارية التي خاضها في فتوحاته التي أدت الى مقتل الآلاف المؤلفة من المسلمين والهنادكة حالة نفسية كارهة لكل نزاع دموي ولكل إزهاق لارواح الناس. وكانت هذه الحالة ذات تأثير في مشروعه المذهبي.
 
مشكلة تعدد الاديان والمذاهب
  بدافع من رغبته في توحيد الهند تحت سلطانه، ومقته للنزاعات راح أكبر يفكر في حلّ لمشكلة التعددية في مملكته. وكان تفكيره ممتزجا بأميته وحدّته وكثرة المعلومات في ذهنه.
  رأى أن اللغة الاوردية استطاعت أن تسود في الهند منذ عهد المغول، وهي خليط من اللغة الفارسية وهي لغة الادب والمثقفين في الهند، واللغة التركية وهي لغة الجيش المغولي، واللغة الهندية. فهل يمكن جمع كلّ الاديان في مزيج موحّد وتحويلها الى معتقد واحد؟!
  راحت هذه الفكرة تنضج في ذهنه على مرّ الايام وكلما خطا على هذا الطريق خطوة وجد أن العقبات كثيرة، ولكنه لم ينثن عن مواصلة الطريق. لم يكن يفكّر في الصواب من الافكار والمعتقدات بقدر ماكان يفكّر في توحيدها ودمجها وصهرها في بوتقة واحدة.
  كان أكبر مسلما ومن الطبيعي أن يتجه في بداية أمره الى أن يتبين الطريق السوي بين الفرق الاسلامية، ولكنه لم يستطع أن يتبين الطريق من شدة الاضواء التي كانت على جانبيه وفي وسطه ولاختلاف ألوانها. ولكنه كان في نفس الوقت طريقا مضرجا بالدماء مليئا بالمآسي التي خلفها صراع متطاول بين الفرق الاسلامية.
  وخلال تفكيره بحل لقضايا الاختلاف المذهبي يصاب بأزمات نفسية حادّة حتى لتجده فجأة قد امتطى صهوة جواده "حيران" فيطلق له العنان الى أيّ اتجاه شاء الحصان، ويظل حيران منطلقا، ويظلّ اكبر يحثّه على المضي، حتى يعجز عن الركض، وإذا أكبر في مكان موحش، فيجلس يعيش مع أفكاره وخيالاته ساعات طوالا.
  ولقد بلغت باكبر الحيرة في تحقيق فكرته أن جمع عددا من الاطفال وربّاهم بعيدا عن تأثيرات المجتمع ليعرض عليهم الاديان والمذاهب والعقائد، لعل فطرتهم تهديهم الى الدين الفطري الاصيل. ولكنه فوجئ أن هؤلاء الاطفال بسبب عزلتهم تحولوا الى جماعة من البكم لا تعي شيئ1.عبادة خانه
  في خطوة لفتح باب النقاش بين أصحاب الملل والنحل بنى اكبر "عبادة خانه" ليجمعهم فيه، وليتجادلوا في أمور الدين ويتحاججوا وليدافع كل واحد عن معتقده. أسسها في "فتحپور" ودعا اليها علماء المسلمين سنة وشيعة ودعا اليها أيضا رجال الدين البراهمة والزرادشتيين، كما دعا اليها المبشرين البرتغاليين القادمين الى الهند(6)، وكان يجلس هو الى جانبهم ويستمع الى مناقشاتهم ويطرح عليهم الاسئلة تلو الاسئلة.
  لم تكن هذه طبعا طريقة صحيحة لاستبيان الحق، بل إن مثل هذه المحافل عادة تثير خلافات وهمية وجدلا عقيما، ولا تسفر إلا عن مزيد من اللجاج والخصومة، لأن كل طرف من الاطراف لا يستهدف الا إفحام خصمه بأية وسيلة حتى ولو عن طريق السفسطة اللفظية واللف والدوران. ومن الطبيعي أن لا يتحقق ما أراده أكبر من هذه الجلسات.المذهـب الالهـي
  حين يئس أكبر من الوصول  الى وحدة في الآراء عن طريق "عبادة خانه" وقع في خطأ فادح آخر هو دعوته الى مذهب يضم - على رأيه - حسنات كل الملل والنحل ، وأطلق عليه اسم "المذهب الالهي"(7).
  و"المذهب الالهي" الذي دعا اليه أكبر يطالب الناس بأن يعبدوا ربا واحدا، وأكبر ظلّه على الارض. وأن يعيشوا نباتيين لا يشربون الخمر، ولا يكذبون . كما منع بموجب هذا المذهب بعض العادات المنافية للانسانية مثل : "الساتي"، وهو أن تنتحر الارملة التي لا أطفال لها في أعقاب وفاة زوجها. وأحلّ أكبر زواج الهندوكيات الأرامل ، وكان محرما. ومنع الزواج مع وجود تفاوت سنّي فاحش بين الزوجين، كما منع الزواج من الفتيات الصغيرات، والتزاوج بين الاقرباء(8).
  والواقع أن هذه التعليمات لايمكن اعتبارها مذهبا مستقلا، وكان بامكانه أن يطلب من كل المذاهب العمل بها، ولكنه فرضها باعتبارها المذهب الذي يجب أن يدين به الجميع، مما أثار حساسيات المسلمين بشكل خاص، لايمانهم بأن مصدر الاسلام هو القرآن والسنّة، ولا يستطيع أكبر أن يغيّر شيئا، وبذلك دخل في خصومة مع المسلمين. وهذه الخصومة استغلها الهندوكيون والمبشرون البرتغاليون ، فتقربوا الى أكبر، وأصبحوا موضع اعتماده أكثر من المسلمين.التآمـر الصليبـي
  كان عصر أكبر مقرونا بعصر النشاط التجاري البرتغالي في البحار، واحتلال الموانئ وطرق الملاحة البحرية. وكانت البرتغال مهتمة بنشر المسيحية في هذه الموانئ والطرق، فأرسلت الآباء الجزويت الى هذه المناطق، وانتشروا في شبه القارة الهندية، ونالوا حظوة عند أكبر،  ولفتوا نظره بما يحملونه من علوم عصرية إضافة الى علومهم الدينية، مما جعله يعيّن أحد هؤلاء الآباء لتدريس ابنه سليم.
  والآباء الجزويت كانوا معروفين بتعصبهم ضد المسلمين، بل كانوا في الواقع يقودون تحت راية البرتغال في كل العالم حملة صليبية معادية للاسلام والمسلمين. وهذا ماجعل "سليما" يفرغ من أي إيمان بمجتمعه وبحقوق والده عليه، فأعلن على والده ثورة كادت أن تدمّر الامبراطورية، وحاول أن يستعين بالبرتغاليين على والده. غير أن والده عالج الموقف وأعاد الابن العاق الى جادّة الصواب.
  وكان الآباء الجزويت يطمعون أن يميل أكبر الى المسيحية ويعتنقها، وفي مذكراتهم يصرحون بأن أكبر لو فعل ذلك للعب دورا رائعا في تاريخ المسيحية لايقل عن الدور الذي لعبه قسطنطين الاول(9) حين اعترف بالمسيحية فانتشرت بسرعة في الدولة الرومانية. ثم تتحول هذه المذكرات الى حديث غير ودي عن أكبر حين يئسوا من كسبه ولم يظفروا منه بطائل.
نهاية اكبر
  يظهر أن أكبر في آخر حياته وقف على أخطائه، فعاد الى حضيرة الاسلام(10)، وهدم عبادة خانه التي لانجد لها أثرا في "فتحپور" . غير أنه فوّت على المسلمين فرصة عظيمة من فرص قوتهم. صحيح أن هدفه في توحيد الامة الهندية كان ساميا، لكن منهجه كان خاطئا، فلم يوحّد، ولم يدفع بلاده على طريق النمو.
  كما أن الثغرة التي فتحها اكبر - ضمن مشروعه - أمام تدخل الآباء المسيحيين البرتغاليين اتسعت بمرور الأيام وأسقطت شبه القارة الهندية بأجمعها في قبضة المستعمرين.استخلاص العِبرَ
  حالة التمزق والصراع الديني لايمكن أن يقبلها أي إنسان حريص على كرامة أمته وعزّتها ورفعتها، إذ لا يتحقق شيء من هذا إلا في ظلّ الوحدة. من هنا لابدّ من مشروع علمي إسلامي للوحدة وتقريب فصائل الامة ومذاهبها. وإن لم يدخل هذا المشروع ساحة العالم الاسلامي فان مشاريع منحرفة أو علمانية ستحلّ محلّه. سيرتفع الصوت من أفراد يعيشون الوحدة على مستوى العاطفة لا العلم فيقدمون مشاريع ناقصة أو منحرفة مثل وحدة المذاهب ووحدة الاديان، ويثيرون زوبعة سرعان ما  تخمد لتخلف وراءها مزيدا من التمزق والتعصب. أو يرفع الدعوة الى الوحدة علمانيون يقدمون مشاريع قومية أو وطنية أو طبقية لتكون بديلة للمشروع الاسلامي، فيلغون بذلك حقيقة راسخة في أعماق هذه الامة هي حقيقة "الدين"، ويصطدمون بالفطرة والواقع وبالمحتوى النفسي والفكري للامة التي ينشدون توحيدها، فلا يجنون الا الخيبة والفشل.
  وكل هذه الظواهر السلبية: ظواهر طرح المشاريع الناقصة والمنحرفة والعلمانية نسمع بها ونراها في الساحة الاسلامية، وكلها تؤكد ضرورة تقديم أطروحة التقريب على قاعدة علمية رصينة مدروسة واقعية.
1- عن حروب اكبر انظر: Powell - Price: op. cit.pp247-274 .
2- عن اهتمام اكبر باللغة الفارسية انظر: لغتنامه دهخدا، مادة اكبر شاه.
3- Powell- Price:op.cit.p 282 .
4- والحق ماقاله احمد الساداتي: إنه كانت السياسة دنيه، ووحدة أهل الهند تحت سلطانه عقيدته (تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية 2 / 143 ).
5- احمد الساداتي 2/143 .
6- Smith: op.cit.p.357 .
7- كان المبشرون الذين دعوا الى عبادة خانه ثلاثة. اثنان من الاوربيين وثالث فارسي ارتد عن الاسلام، وشهر سلاح التبشير في وجه المسلمين في الهند بالتعاون مع الاستعمار البرتغالى. انظر: Binyon:op.cit.p.93 .
8- احمد الساداتي 2/ 139 ومابعدها.
9- الامبراطور الروماني الذي أسس القسطنطينة. ويقال إنه اعتنق الديانة المسيحية فانتشرت على أثر ذلك بسرعة في الدولة الرومانية. انظر: The Cambridge Nedieval History. vol.1
PP.5-6 (Cambridge 1936) .
10- Binyon: op. cit.p.157 . 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية