مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

موقف أبي حنيفة من ثورة النفس الزكية
الدكتور عبد الحسين علي أحمد (1)


ثورة محمد النفس الزكية دعت الى قيام حكومة تنهج الاسلام كما جاء به رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، كما دعت الى رفض الحاكم الظالم أيا كان نسبه ومحتده وصولته. وأبو حنيفة وقف من هذه الثورة موقفا أملته عليه رؤيته الفقهية، وتحمل من جراء ذلك أنواع العنت والاضطهاد، ولكنه لم ينثن عن موقفه، وهذا البحث عرض للثورة وللموقف. عندما تولى المنصور الخلافة كان الإمام جعفر الصادق، وعبد اللّه بن الحسن وابنه محمد المعروف بالنفس الزكية، من أبرز الشخصيات العلوية.
أما جعفر الصادق فقد أثر الركون إلى الهدوء والاشتغال بالعلم على المطالبة بالخلافة، لأن الظروف لم تكن مواتية، فالدولة العباسية في أول عهدها وفي أوج قوتها. ثم إنه رأى السفاح يبطش بأعدائه في غير رحمة ولا شفقة حتى لم يسلم من بطشه عمه عبد اللّه بن علي.
وكان محمد بن عبد اللّه أفضل أهل بيته وأكبر أهل زمانه في علمه بكتاب اللّه وحفظه له، حتى لم يشك أحد أنه المهدي، وشاع ذلك في العامة وبايعه رجال من بني هاشم من آل أبي طالب وآل العباس. ثم شاع عن جعفر الصادق أنه قال: إن محمداً لا يملك، وإن الملك يكون في بني العباس.
وكان من بين الذين بايعوا محمد بن عبد اللّه أبو جعفر المنصور نفسه، فقد بايع محمداً مرتين.
فلما استقام الأمر لبني العباس حرص السفاح والمنصور على الظفر بمحمد وإبراهيم لما في أعناقهما من البيعة لمحمد(2). وبعد أن قضى السفاح على الأحياء من بني أمية وبني مروان، ولى وجهه شطر الآخرين فسأل عبد اللّه بن الحسن عن ابنيه، فلما علم باختفائهما سكت عن الطلب حيناً ثم عاجلته المنية، وولي أبو جعفر سنة 136هـ فألح في طلبهما فأعجزاه هرباً (3) ، لأن المنصور فكر أنهما لابد أن يخرجا عليه كما أرادا أن يخرجا على مروان، والذي فكر فيه المنصور قد وقع(4) بالفعل.أما ابن هبيرة فاستمر يقاتل العباسيين في مدينة واسط رغم مقتل الخليفة الأموي وسقوط دولته. ثم رأى أن يدعو لزعيم علوي، فبعث برسالة إلى محمد ابن عبد اللّه بن الحسن، ولكنه أبطأ عليه في الرد، ولذا اضطر ابن هبيرة إلى قبول الأمان الذي عرضه عليه أبو جعفر المنصور نيابة عن أخيه أبي العباس(5)، وهذا العهد هو الذي طلب ابن هبيرة من أبي حنيفة أن يقرأه ليتأكد من صحته. فأقر أبو حنيفة بصحته وأنه لا غبار عليه، ولكن السفاح أمر المنصور بقتله، فرفض قائلاً: إن له في عنقي بيعة وايماناً فلا أضيعها بقول أبي مسلم. فأجاب السفاح: ما أقتله بقول أبي مسلم، بل بنكثه وغدره وميله إلى آل أبي طالب، وقد أبيح لنا دمه. فلم يجبه المنصور وقال: هذا فساد الملك. فكتب إليه السفاح: لست مني ولست منك إن لم تقتله. فقال المنصور للحسن بن قحطبة: اقتله أنت. فقال خازم بن خزيمة: أنا أقتله، فدخل عليه في جماعة فقتلوه(6).
ولما أراد المنصور بناء مدينته - أي بغداد - قال الطبيب لبعض أصحابه: إنا نجد في كتاب عندنا أن رجلاً يدعى مقلاصاً يبني مدينته بين دجلة والفرات تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى غرفاً منها أتاه فتق من الحجاز فقطع بناءها، وأقبل على إصلاح ذلك الفتق(7). لذا فبعد خروج النفس الزكية قال في خطبته "أما بعد أيها الناس فإنه كان من أمر هذا الطاغية عدو اللّه أبي جعفر مالم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها معانداً للّه في ملكه، وتصغيراً للكعبة(8)الحرام".
لقد أيقن المنصور أن محمداً سوف يخرج فألح على عبد اللّه في طلب ولديه، فغضب وقال: واللّه لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما، فاغتاظ المنصور وأمر بسجنه ومصادرة أمواله وأملاكه(9). وكان هذا مما عجل بخروج النفس الزكية على المنصور.
كان محمد النفس الزكية وأخوه ابراهيم قد امتنعا عن البيعة لأبي العباس أول الخلفاء العباسيين. وقد سكت الخليفة عن ذلك، فقد كانت الدولة الجديدة في أول عهدها تواجه كثيراً من المشاكل والاضطرابات، فرأى أن يؤجل أمر الزعيمين العلويين إلى أن تتهيأ له الظروف(10).
وفي سنة 136 هـ رحل السفاح والمنصور للحج. وفي المدينة خرج القوم لتحيتهما ولم يتخلف سوى محمد وأخيه. فسأل المنصور عبد اللّه عن ولديه فأنكر علمه بمكانهما، وأغلظ كل منهما للآخر، مما أدى إلى غضب المنصور، ولكن والي المدينة زياد بن عبد اللّه الحارثي هدأ من ثورة المنصور، وتعهد بالبحث عنهما والقبض(11) عليهما، واكتفى المنصور بهذا التعهد، وأقر الوالي في منصبه، وعاد إلى العراق(12). وفي طريقه جاءه نبأ وفاة أبي العباس، فبعث رسولاً إلى الحجاز ليأخذ البيعة له بالخلافة من أهل مكة والمدينة. كما بعث رسالة إلى والي المدينة يحثه ليبذل مافي وسعه للبحث عن محمد وأخيه ويأخذ البيعة(13)منهما. وبعث بعطاء أهل المدينة وكتب إلى عامله أن "اعط الناس في أيديهم ولا تبعث إلى أحد بعطائه. وتفقّد بني هاشم، ومن تخف منهم عن عطائه ومن حضر، وتحفظ على محمد وابراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن، فأجاب الوالي بأنه لم يتخلف أحد سوى محمد وإبراهيم، فكتب أبو جعفر إلى عبد اللّه أوائل سنة 139هـ يسأله عنهما ويأمره باظهارهما ويخبره بأنه لن يغدر بهما. فرد عليه عبد اللّه بأنه لا يدري أين هما ولا أين توجها، وأن مكان اختفائهما غير معروف(14).
وفي عام 140 هـ خرج المنصور إلى الحجاز لأداء الفريضة، وقرر أن يولي أمر الدعوة الفاطمية كل الاهتمام. ولم يكن ما يشغله ويقلق مضجعه سوى محمد وأخيه، فدعا بني هاشم واحداً واحداً، وسأل كلاً منهم على انفراد عن النفس الزكية، فكان جوابهم هو: يا أمير المؤمنين، قد علم أنك قد عرفته بطلب هذا الشأن قبل اليوم، فهو يخافك، وهو الآن لا يريد لك خلافاً ولا معصية، فقال المنصور: لا آمن أن يخرج(15)، وقد أراد محمد أن يخرج على مروان (الحمار) (16).
اضطر المنصور بعد ذلك إلى أن يغير أسلوبه في الحديث مع عبد اللّه بن الحسن حتى يطمئن اليه ويخبره عن ولديه، وكاد الرجل أن ينخدع بكلام المنصور لولا أنه استشار سليمان بن علي العباسي فقال له: يا أخي بيننا من الصبر والرحم، فما قولك فيما نحن فيه مع أبي جعفر؟ إن أخي عبد اللّه بن علي في محنة لأنه ثار عليه، والموت بيننا وبينه في كل ساعة، ولو كان المنصور عافياً عن ابنك لعفونا عن(17) عمه قبله.
والتقى عبد اللّه بالمنصور ثانية وبجانبه المهدي يطلعان على كتاب ورد عليهما، وتكلم المهدي مع أبيه فلحن في الكلام، فقال عبد اللّه: يا أمير المؤمنين، ألا تأمر بهذا من يعدل لسانه فإنه يفعل كما تفعل الأمة؟ فغضب المنصور وصاح في عبد اللّه: أين ابنك؟ فأجاب: لا أدري، فقال المنصور: لتأتيني به، فقال عبد اللّه: لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه، فأمر المنصور من فوره بالقبض على عبد اللّه وأسرته وسجنهم(18).
ولشدة اهتمام المنصور بمحمد وأخيه ابراهيم، وحرصه على القبض عليهما يحكى ابن الأثير أن المنصور اشترى رقيقاً من الأعراب، وأعطى الرجل منهم البعير والبعيرين وفرقهم في طلب محمد في ظهر المدينة، وكان الرجل منهم يرد الماء كالمار وكالضال يسألون عنه(19).
وقد تعرض المنصور لمحاولة اغتياله أثناء الحج سنة 140 هـ وقد تعهد الاشتر عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه بالقيام بالاغتيال ولكن النفس الزكية رفض هذه الفكرة. وانضم إلى هؤلاء المتآمرين قائد من قواد المنصور يدعى خالد بن حسان، ولكن المنصور علم بهذه المؤامرة فقبض على هذا القائد وعذّبه حتى أقر بما كانوا قد تآمروا عليه(20).
أما والي المدينة فقد عجز عن القبض على محمد وأخيه، بل حدث أن قدم محمد وأخوه إلى المدينة فاستقبلهما الوالي ورحب بهما وأعطاهما الأمان(21).
عين المنصور على المدينة والياً جديداً هو محمد بن خالد بن عبد اللّه القسري، وأمره بأن يبذل مافي وسعه للقبض على محمد، وبسط يده في الانفاق فقدم المدينة سنة 141 هـ ورغم الأموال التي أنفقها فقد اخفق فيما كلف به(22).
استشار المنصور بعض رجاله في أمر محمد، فأشاروا عليه بأن يولي رجلاً من ولد الزبير أو طلحة فرفض، وقال: أبعث عليهم صعلوكاً من العرب، فاستعمل رباح بن عثمان بن حيان المري أميراً على المدينة في رمضان سنة(23)144هـ ، فجدّ رباح في طلبهما واشتد في ذلك كل الشدة حتى خافا، وجعلا يتنقلان من موضع إلى موضع. واغتم أبو جعفر وكتب إلى رباح بن عثمان أن يأخذ أباهما عبد اللّه بن الحسن وأخوته من سجن زياد، ويشد وثاقهم كما أخذ معهم نحو أربعمائة من جهينة ومزينة وغيرهم من القبائل، فكانوا مكتفين في الشمس ثم أودعوا السجن(24).
وصعد رباح المنبر يسب محمداً وآخاه إبراهيم، ويصفهما بالفاسقين الخالعين للطاعة، ثم هجا أمهما هند ابنة أبي عبيدة هجاءً فاحشاً مما أثار سخط أهل المدينة فاحتجوا عليه، فقال مهدداً "ألصق اللّه بوجوهكم الذل والهوان أما واللّه لاكتبن إلى خليفتكم فلأعلمنه غشكم وقلة نصحكم" فثار الناس عليه وصاحوا في وجهه: الناس لا تسمع منك يا ابن المحدود ورجموه بالحصى، فلاذ بالفرار والالتجاء إلى دار مروان، واحتشد الناس حول الدار، يوجهون اليه أقذع الشتائم والسباب(25).
فكتب رباح إلى الخليفة يشرح له عصيان أهل المدينة وتمردهم، ويفوض له أمرهم. فكتب المنصور رسالة وجهها إلى أهل المدينة، وطلب من رباح أن يقرأ عليهم من فوق المنبر، ومما جاء فيها:
" يا أهل المدينة، إن واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين يقسم باللّه لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفاً، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالاً غلاظ الأكباد بعاد الأرحام"(26).
وأمر المنصور الوالي رباح بنقل آل حسن من حبس المدينة إلى حبس العراق، وفي أرجلهم القيود، وفي أعناقهم الأغلال(27).
علم المنصور خطورة ما أقدم عليه من سجن كثيرين من آل علي بن أبي طالب، وكان يعرف عن أهل فارس وخراسان تشيعهم لآل علي وتقديرهم العظيم لآل البيت، ولذا كان عليه أن يبرر موقفه من هؤلاء العلويين، فصعد على المنبر بالهاشمية وألقى خطبة طويلة، استعرض(28) فيها مواقف آل علي من الأحداث، ثم انتقل إلى ما لاقاه بنو العباس من اضطهاد الأمويين لهم نتيجة ثورات العلويين، ثم تحدث عن موقف هؤلاء من الدولة العباسية فقال: "فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل اللّه وحكمة العدل، وثبوا علينا حسداً منهم لنا، وبغياً علينا بما فضلنا اللّه به عليهم، وأكرمنا من خلافته... إني واللّه يا أهل خراسان ماأتيت هذا الأمر عن جهالة، ولا عن ظنة".
وقد سبق أن بعث المنصور مسلم بن قتيبة الباجلي إلى عبد اللّه بن الحسن وأمره بأن يتظاهر بتشيعه للنفس الزكية لعله يفلح في العثور على مخبئه ولكنه فشل(29)، ثم بعث عقبة بن مسلم الأزدي(30) فلم يكن حظه بأحسن من حظ سابقه، بل إن أبا جعفر كتب إلى محمد على ألسنة قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول: لو التقينا مال إليّ القواد كلهم(31).
خروج النفس الزكية وأخيه إبراهيم
نجح المنصور في استفزاز محمد ودفعه إلى الخروج من مخبئه حتى يستطيع أن يتصدى له. ولما علم أهل المدينة بخروجه أضطربو(32)، وقام الوالي رباح بالكشف عن ميول الناس فلم يضمن الا بني زهرة(33).
خرج محمد أول يوم من رجب سنة 145هـ فبات بالمذاذ هو وأصحابه ثم أقبل في الليل فحطم السجن وبيت المال، وأمر برباح فحبس في دار ابن هشام (34)، واجتمع معه خلق عظيم، وأتته كتب أهل البلدان وقوادهم.
وأما إبراهيم فقد توجه إلى البصرة،وأقام فيها مستتراً، وأخذ يكاتب الناس ويدعوهم إلى طاعته، فلما بلغ المنصور ذلك فكر في التوجه إلى المدينة، ولكنه خشي أن يترك العراق مع ما بلغه من أمر ابراهيم، فبعث عيسى بن موسى، ومعه حميد بن قحطبة الطائي في جيش عظيم(35)، وكان محمد النفس الزكية قد استولى على المدينة واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها ابن عبد العزيز بن المطلب بن عبد اللّه المخزومي، وعلى الشرطة أبا القلمس عثمان بن عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد اللّه بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة(36).
أحاط عيسى بن موسى بالمدينة في أثناء شهر رمضان، ثم دعا محمداً إلى الطاعة ثلاثة أيام، ثم سار بنفسه في خمسمائة، فوقف بقرب السور فنادى يا أهل المدينة، إن اللّه حرم دماء بعضنا على بعض، فهلموا إلى الأمان، فمن جاء إلينا فهو آمن، ومن دخل داره أو المسجد أو ألقى سلاحه فهو آمن، خلوا بيننا وبين صاحبنا.. فما كان من الناس إلا أن شتموه فانصرف ثم عبأ جيشه في اليوم الثالث فلم يلبث أن ظهر على أهل المدينة(37) واشتد القتال بين الطرفين حتى قتل محمد في منتصف رمضان سنة 145هـ ، وحمل رأسه إلى عيسى بن موسى، ودخل المدينة وأمن الناس كلهم. وكانت مدة خروج محمد إلى مقتله شهرين وسبعة عشر يوماً (38).
وأما إبراهيم فقدم البصرة ودعا الناس إلى بيعة محمد، وذلك قبل أن يبلغه مقتله بالمدينة، فبايعه جماعة منهم، وأجابه جماعة كبيرة من الفقهاء وأهل العلم حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف. وكان أمير البصرة سفيان بن معاوية، فلما رأى اجتماع الناس على إبراهيم تحصن في دار الامارة مع جماعة من رجاله. فقصده إبراهيم وهدده، فطلب سفيان الأمان فأجابه إبراهيم إلى طلبه، ولما استقرت أمور البصرة لإبراهيم أرسل جماعة فاستولوا على الأهواز وواسط، ولم يزل إبراهيم في البصرة يقيم العمال ويوجه الجيوش حتى أتاه خبر مقتل أخيه قبل عيد الفطر بثلاثة أيام، فعزم على المسير إلى الكوفة يريد المنصور، وكان جيش إبراهيم أكبر من جيش المنصور الذي يقوده عيسى بن موسى، ولما التقى الجمعان في باخمرة(39) ثبت رجال عيسى بن موسى فكان النصر لهم، وقتل إبراهيم يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجة سنة 145هـ وقيل في عشرين من ذي الحجة(40).
موقف أبي حنيفة من ثورة النفس الزكية
كان عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب من شيوخ أبي حنيفة. وكان عالماً احتل مكانة محترمة بين صفوة العلماء. وحين قامت دولة بني العباس تقرب أبو العباس السفاح إليه وأكرمه. ولما آل الأمر إلى المنصور توجس خيفة من محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه. وكان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانوا قبل ذلك شيئاً واحداً. وقد ألحق المنصور الأذى بالعلماء الذين خرجوا مع محمد وأخيه، أو أمر بالخروج، فقتل منهم من قتل، وجلد من جلد(41). فغضب أبو حنيفة مما وقع على عبد اللّه بن الحسن وغيره من العلماء للصلة القوية التي كانت تربطه بعبد اللّه(42).
لقد ساهم أبو حنيفة في ثورة زيد بن علي بماله، وهاهو يرى آل البيت يتعرضون للاضطهاد مرة ثانية على يد بني العباس فلا يجد بداً من أن يساهم ، ويعادي بني العباس وعلى رأسهم المنصور. واتخذ وسائل شتى لمساندة الثورة:
أولاً: جاهر أبو حنيفة بوجوب نصرة إبراهيم أخي النفس الزكية حتى قال: إن المساهمة في هذه الثورة تكفر عن الذنوب. وقد اتصل به بعض قواد المنصور ودخل على أبي حنيفة الحسن بن قحطبة وقال له: "عملي لا يخفى عليك، فهل لي من توبة؟" فقال أبو حنيفة "إذا علم اللّه تعالى أنك نادم على ما فعلت. ولو خيرت بين قتل مسلم وقتلك لاخترت قتلك على قتله، وتجعل على اللّه عهداً ألا تعود، فإن وفيت فهي توبتك" قال الحسن: "إني فعلت ذلك، وعاهدت اللّه تعالى ألا أعود إلى قتل مسلم" فكان ذلك إلى أن ظهر إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن، فأمر المنصور أن يذهب إليه فجاء إلى الإمام فقص عليه القصة فقال له: "جاء أوان توبتك إن وفيت بما عاهدت فأنت تائب، وإلا أخذت بالأولى والأخرة، فجد في توبتك وتأهب واستعد للقتل". فدخل على المنصور وقال: "لا أسير إلى هذا الوجه فإن كان للّه طاعة من سلطانك فيما فعلت فلي منه أوفر الحظ، وإن كان معصيته فحسبي" فغضب المنصور. وقال أخوه حميد بن قحطبة: "إنا نكره عقله منذ سنة وكأنه خلط عليه" فسأل المنصور بعض ثقاته: من يدخل من الفقهاء؟ فقالوا: إنه يتردد على أبي حنيفة(43).
ثانياً: اعتبر أبو حنيفة الجهاد مع إبراهيم عبادة، وذلك لقربه من الناس وقضاياهم العامة. فكان لا يعجبه ما فعله المنصور بعبد اللّه وابنه محمد، وكان لا يسكت عن قول الحق. فهذا إبراهيم بن سويد الحنقي يقول: سألت أبا حنيفة، وكان لي مكرماً أيام إبراهيم: أيهما أحب إليك بعد حجة الإسلام: الخروج إلى هذا أو الحج؟ فقال: غزوة بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة(44).
وجاءت امرأة إلى أبي حنيفة أيام إبراهيم فقالت: إن ابني يريد هذا الرجل، وأنا أمنعه، فقال: لا تمنعيه(45).
لم ينكر أبو حنيفة أنه أفتى في الخروج مع إبراهيم. وقد روى أبو إسحاق الفزاري قال: "جاءني نعي أخي من العراق، وقد خرج مع إبراهيم بن عبد اللّه الطالبي، فقدمت الكوفة فأخبروني أنه قتل، وإنه قد استشار سفيان الثوري وأبا حنيفة، فأتيت سفيان أنبئه مصيبتي بأخي، وأخبرت أنه استفتاك، قال: نعم، قد جاءني فاستفتاني فقلت: ماذا أفتيته؟ قال; قلت لا آمرك ولا أنهاك. قال: فأتيت أبا حنيفة فقلت له: بلغني أن أخي أتاك فاستفتاك. قال: قد أتاني واستفتاني، قال: قلت فبماذا أفتيته؟ قال: أفتيته بالخروج، قال: فأقبلت عليه فقلت: لا جزاك اللّه خيراً. قال(46): هذا رأيي.
ثالثاً: بلغ الأمر بأبي حنيفة إلى حد اعتبار أن القتال إلى جانب النفس الزكية ضد المنصور خير من قتال الكفرة، بدليل أنه فضّل القتال ضد الخليفة العباسي على القتال ضد البيزنطيين والمرابطة على الثغور.
قال محمد الفزاري : قتل أخي مع إبراهيم الفاطمي بالبصرة، فركبت لأنظر في تركته، فلقيت أبا حنيفة فقال لي: من أين أقبلت، وأين أردت؟ فأخبرته أني أقبلت من المصيصة(47)، وأردت أخاً لي قتل مع إبراهيم. فقال: لو أنك قتلت مع أخيك كان خيراً لك عن المكان الذي جئت منه. قلت: فما منعك أنت من ذاك؟ لولا ودائع كانت عندي وأشياء للناس ما استثنيت في ذلك(48).
وفي رواية أخرى: أجابه أبو حنيفة قائلاً: قتل أخيك حيث قتل يعدل قتله لو قتل يوم بدر وشهادته مع إبراهيم خير له من الحياة. فقال له: وما منعك أنت من ذلك؟ قال: ودائع الناس كانت عندي(49). وهكذا كان أبو حنيفة يعتبر الوقوف مع النفس الزكية ضد المنصور معادلاً في الثواب للوقوف مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ضد المشركين.
لقد بلغ من جرأة أبي حنيفة في الدعوة إلى الثورة ضد المنصور حداً جعل أصحابه يقولون له: "ما أنت بمنته أو توضع الحبال في أعناقنا" ولم يلبث أن ورد كتاب المنصور على عيسى بن موسى يأمره بأن يحمل أبا حنيفة إلى بغداد، وهناك عاش خمسة عشر يوما ثم انتقل إلى جوار ربه سنة 150هـ (50).
وقال أبو زيد: حدثني نصر بن حماد قال: كان صالح المروزي يحرض الناس على نصرة إبراهيم. وعن عبد اللّه بن ادريس قال: سمعت أبا حنيفة وهو قائم على درجته، ورجلان يستفتيانه في الخروج مع إبراهيم، وهو يقول:(51)اخرجا.
رابعاً: لم يكتف أبو حنيفة بالتحريض على الثورة بالكوفة، بل كتب إلى إبراهيم يشير عليه بالقدوم إلى الكوفة فالزيدية سوف ينضمون إليه، قال: أئتها سراً فإن من ههنا من شيعتكم يبيتون أبا جعفر فيقتلونه أو يأخذون برقبته فيأتونك به. وكانت المرجئة تنكر ذلك على أبي حنيفة وتعيبه من أجله.
وقد حاول بعض المرجئة مساعدة إبراهيم ونصرته. قال أبو نعيم:إن مسعر ابن كدام كتب إلى إبراهيم بن عبد اللّه يدعوه إلى أن يأتي إلى الكوفة ويعده أن ينصره وكان مرجئاً، فلما شاع عنه ذلك عابه(52) المرجئة.
ونلاحظ أن المعتزلة أيضاً ساهموا في هذه الثورة، فقد روى البغدادي أن المنصور قال لعمرو بن عبيد: بلغني أن محمد بن عبد اللّه بن الحسن كتب إليك كتاباً. قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه، قال: فيم أجبته؟ قال: أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا؟ إني لا أراه. قال المنصور: أجل ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي. قال عمرو: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية. قال المنصور: واللّه واللّه أنت الصادق البر(53)، وقد اشترك المعتزلة في الثورة، وقتل منهم كثيرون(54).
وقد تولى عمرو نفسه نيابة عن جماعته المعتزلة مناظرة مع جعفر الصادق، وكان هدفه أن يستدرج الصادق ليعلن رأيه في ثورة محمد، ولكن الصادق أجابه بقوله "من ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضال متكلف" وهذا يدل على أن الصادق لم ينتصر لمحمد حسماً للفتنة، وإنما رآه غير كفء أو على الأقل يوجد من هو أكفأ (55) منه وهو عبد اللّه بن الحسن والد محمد النفس الزكية.
ورغم هذا الموقف فإن الصادق دفع ابنيه موسى وعبد اللّه للمشاركة في الثورة، وقال لهما: ارجعا فما كنت بالذي أبخل بنفسي وبكما عنه، وقد قتلا مع محمد(56).
أخذ الإمام أبو حنيفة يتابع حركات إبراهيم وتنقلاته العسكرية، لذا تجده يكتب رسالة ثانية إلى إبراهيم بن عبد اللّه لماتوجه إلى عيسى بن موسى قائد جيوش المنصور، ومما جاء فيها: "إذا أظفرك اللّه بعيسى وأصحابه فلا تسر فيهم سيره، إليك في أهل الجمل، فإنه لم يقتل المنهزم، ولم يأخذ الأموال، ولم يتبع مدبراً ولم يجهز على جريح، لأن القوم لم يكن لهم فئة، ولكن سر فيهم بسيرة يوم صفين فإنه سبى الذرية، وذف على الجريح، وقسم الغنيمة، لأن أهل الشام كانت لهم فئة، وكانوا في بلادهم"(57).
موقف المنصور ممن أيد الثورة
كان المنصور على يقين بمدى خطورة ثورة النفس الزكية، لذلك بث العيون والأرصاد في كل مكان ليعلم كل أبعاد هذه الحركة. وقد اختلف موقف قبائل الحجاز من الثورة، وكانت أولى القبائل التي منحت ولاءها للثورة هي قبيلة جهينة التي أوت محمداً النفس الزكية وأخفته وحمته. كما أعلنت قبيلة مزينة ولاءها له. وقد جر عليهما سخط المنصور، فأمر بالقبض على أربعمائة من أبنائهما وعذبهم في الربذة في قيظ الشمس بعد أن قبض(58) على آل علي.
كذلك انضم إليهم بنو سليم وبنو بكر، وكان بنو شجاع من جهينة أكثر جنود محمد حماسة(59).
أما في العراق فقد خرج مع إبراهيم: أبو خالد الأحمر، وعيسى بن يونس، وعباد بن العوام، وهشيم ويزيد بن هارون في طائفة من العلماء، ولم يخرج معه شعبه. وخرج خلق كثير من أهل واسط وخالد بن عبد اللّه الطحان(60).
وكان العالم اللغوي المفضل الضبي من أنصار إبراهيم، فلما ظفر المنصور بـإبراهيم والمفضل عفا المنصور عن المفضل واستخلصه لنفسه وقربه فصار نجماً في بلاط الخليفة، وعهد إليه أن يؤدب ولده المهدي(61).
وأما عباد بن العوام فقد طلبه المنصور فسأله المهدي فوهبه له وقال: لا تظهرن ولا تحدثن، فقال الناس: هذا رجل من أهل العلم، خرج مع إبراهيم، فيأخذون عنه الفتيا، فلم يزل متوارياً حتى مات المنصور وأذن له المهدي بالظهور والحديث فظهر وحدّث(62).
أخذ المنصور يخفف من قسوته على من شارك في الثورة، ويحاول أن يسترضي الناس وبخاصة العلماء. فقد استنكر ضرب الإمام مالك من جهة، وأبعد عباد بن العوام واعتبر أن انتصار العلماء للنفس الزكية قائم على أساس مدى صلاحية الزعيم العلوي للخلافة، وهذه الصلاحية تعتمد على تقواه وعلمه. وقد سكت المنصور عن أبي حنيفة مع علمه بدوره في الثورة إلى أن ظفر بكتاب كان أبو حنيفة قد أرسله إلى إبراهيم(63).
ويضيف أبو يوسف القاضي فيقول: "إنما كان غيظ المنصور على أبي حنيفة مع معرفته بفضله أنه لما خرج إبراهيم بالبصرة، ذكر له أن أبا حنيفة والأعمش يخاطبانه من الكوفة فكتب المنصور كتابين على لسانه، أحدهما إلى الأعمش والآخر إلى أبي حنيفة من إبراهيم بن عبداللّه، وبعث بهما مع من يثق به. فلما قرأ الأعمش الكتاب أخذه من الرجل وقرأه، ثم قام فأطعمه الشاة، والرجل ينظر، فقال له: ما أردت بهذا؟ قال: قل له أنت رجل من بني هاشم، وأنتم كلكم له أحباب، والسلام.
أما أبو حنيفة فقبل الكتاب وأجاب عنه فأسرها المنصور في نفسه حتى فعل به ما فعل(64)".
ومعلوم أن أبا حنيفة توفي سنة 150هـ ، والثورة كانت سنة 145 هـ ، ولم تذكر المراجع التي بين أيدينا أن المنصور عاقب أبا حنيفة عقب انتهاء الثورة، بل إن الخليفة حاول أن يكسب عطف العلماء والفقهاء حتى يستقر له الأمر.
والحقيقة أن أبا حنيفة لم يكن يرى السيف في أمة محمد، وإنما كان يرى السيف أداة لمناصرة الحق ووسيلة لازاحة الباطل وسبيلاً للقضاء على الحاكم المنحرف.
ولم يكن أبو حنيفة في أيامه الأخيرة ليتعب من الحملة على المنصور والتشهير به بطريق غير مباشر، فاتهمه بالظلم واغتصاب أملاك الرعية، فقد أوصى أن يدفن في مقبرة بأرض لم يجر فيها ظلم. وكان المنصور يوصف بأنه غصب تلك الأرض، ولذلك فإن المنصور حين سمع كلام أبي حنيفة في هذا قال بما يشبه الاستغاثة: من يعذرني من أبي حنيفة حياً وميتاً.
---------------------------

1- مدرس بجامعة قطر.
2- مقاتل الطالبيين ص 232 ، 234 - سميرة الليثي: جهاد الشيعة ص 113 .
3- الجندي: جعفر الصادق ص 78 .
4- ابن كثير: البداية والنهاية 10 / 80 .
5- سميرة الليثي: جهاد الشيعة ص 107، الطبري 7 ص 454 .
6- وفيات الاعيان ج 6 ص 219 .
7- الاربلي، الذهب المسبوك / 73 .
8- الطبري 7 / 558.
9- ابن كثير، البداية والنهاية 10 / 81 .
10- جهاد الشيعة / 114 .
11- سميرة الليثي / 115 ، والطبري 7 / 517 - الاصفهاني مقاتل الطالبيين / 213.
12- اليعقوبي 2 / 349 .
13- الطبري 7 / 517 - ابن الاثير: الكامل 4 / 270.
14- العقد الفريد 5 / 304 .
15- الذهبي: تاريخ الاسلام 6 / 7 - الطبري 7 / 158 .
16- ابن كثير: البداية والنهاية 10/80 .
17- ابن الاثير الكامل 4/270 .
18- ابن كثير 11/81، الطبري 7/524، مقاتل الطالبيين 215.
19- ابن الاثير 5/514 - الذهبي، تاريخ الاسلام 6/7 .
20- ابن كثير 10/81، الذهبي تاريخ الاسلام 6/8 .
21- الطبري 7/526، 529، ابن الاثير 5/254 ، 255 .
22- الطبرى 7/526 ، ابن الاثير 5/255 .
23- الطبري 7/529 ، ابن الاثير 5/519 .
24- الطبري 7/550 .
25- الذهبي 6/9، اليعقوبي 2/375، الطبري 7/537.
26- اليعقوبي 2/452 .
27- الذهبي 10/81 .
28- المسعودي 3/311.
29- العقد الفريد 5/305 .
30- ابن الاثير 5/16 .
31- الطبري 7/559 .
32- الطبري 7/552 .
33- الطبري 7/554 .
34- الطبري 7/556 .
35- اليعقوبي 2/376 .
36- الطبري 7/559 .
37- الذهبي تاريخ الاسلام 6/16 .
38- الطبري 7/609 .
39- ابو الفدا: المختصر في اخبار البشر 2/4، الوردي: تتمة المختصر 1/694 .
40- اليعقوبي 2/377، الطبري 7/638 .
41- السيوطي : تاريخ الخلفاء / 261 .
42- الطبري 6/183، المسعودي 3/360، سميرة الليثي: جهاد الشيعة / 219.
43- ابو زهرة : تاريخ المذاهب 2/156، الشكعة الائمة الاربعة 121.
44- مقاتل الطالبيين، 378/379.
45- مقاتل الطالبين، 378-379.
46- تاريخ بغداد 13/385، مقاتل الطالبيين 365 أسد حيدر 1/318 .
47- ثغر من ثغور الشام على شاطئ جيجان تقارب طرسوس، معجم البلدان 5/145 البكرى، معجم ما استعجم 4/235 .
48- تاريخ بغداد 13/385 .
49- الشكعة: الائمة الاربعة / 122 .
50- ابن عبد البر /170، الشكعة الائمة الاربعة / 123.
51- مقاتل الطالبين / 365.
52- مقاتل الطالبيين / 366 .
53- تاريخ بغداد 12/296، محمد اسماعيل: الحركات السرية / 98 الجندى: ابو حنيفة / 22 .
54- الاشعري، مقالات الاسلاميين 1/145 ، احمد امين ضحى الاسلام 3/83 .
55- مقاتل الطالبيين / 307، أبو زهرة، الصادق 56 .
56- جهاد الشيعة / 196 .
57- مقاتل الطالبيين / 367 .
58- الطبري 6/190 .
59- جهاد الشيعة / 133 .
60- الذهبي تاريخ الاسلام 6/27 .
61- الجندي ، ابو حنيفة / 220 .
62- مقاتل الطالبيين / 367، جهاد الشيعة / 164 .
63- مقاتل الطالبيين / 367.
64- ابن عبد البر الانتقاء 170/171 .

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية