مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

مستقبل العالم الإسلامي
البشائر والتحدّيات والمسؤوليات(1)
 الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني


الامين العام هذا البحث يندرج ضمن توجّه الى استشراف مستقبل الاسلام والمسلمين في القرن القادم، كي نستطيع نحن باعتبارنا مسلمين تقويم أعمالنا السابقة ولاسيما في القرن العشرين، وكذلك معرفة الأحداث الكبيرة والثورات والتحولات السياسية والاقتصادية والتقنية، والثقافية التي حدثت في العالم أو في العالم الاسلامي خاصة في هذا القرن، وهي من غير شك زاخرة بالخيرات والشرور، وبالحسنات والسيئات، وبالمعطيات العلمية والصناعية، وما اعتور الشعوب من الاحوال.
ثم علينا وضع البرامج والمناهج لواجباتنا ومسؤولياتنا نحن معاشر المسلمين تجاه الله والاسلام والعالم والأجيال القادمة. اعتباراً بالماضي، وتركيزاً على مستجدات المستقبل، وسيراً وتفاعلا مع متطلبات الحاجات ومستدعيات الحالات.
أما بعد: فالبحث يحوي ثلاثة فصول: البشائر والتحدّيات والمسؤوليات وينتهي بخاتمة.
البشائر
والمراد بها ما يزيد رجاءنا، ويضاعف ثقتنا، ويقوي عزمنا، ويبهج أنفسنا، ويشرح صدورنا لما يستقبله العالم الإسلامي من الإشعاع والفلاح، والتقدّم والعطاء من البشائر التي تجمعها وعود الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والاولياء، وما تكمن في جوهر الاسلام من القيم التي ترشدنا إلى الكمال، وما في الشعوب الإسلامية وخاصة في الجيل المثقف الجديد، والشبّان الملتزمين من الشوق إلى التقدم مادّيا ومعنويّاً، إضافة الى ما تستدعيه طبيعة الأحوال الاجتماعية وتفاعلها مع الأحداث فأمامنا ألوان من الثقة:



1- ثقتنا بالكتاب والسنة ووعود الأولياء
القرآن يبشرنا دائما بمستقبل الإسلام في آيات:
1- (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون)(2).
2- (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه وكفى باللّه شهيدا)(3).
3- (وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي أرتضى وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً...)(4).
4- (إن هو الا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين)(5).
وهذه الآيات نزلت بشأن هذه الامة بالذات، وهناك آيات تبشّر الصالحين وأصحاب الحق وأتباع الرسل وحزب الله عامة.. بغلبة الحق على الباطل وبنصر اللّه من ينصره:
1- (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)(6).
2- (كتب اللّه لأغلبنّ أنا ورسلي إن اللّه قويٌ عزيز)(7).
3- (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)(8).
4- (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (9).
5- (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)(10).
6- (فاصبر إن وعد اللّه حق )(11).
7- (فان حزب اللّه هم الغالبون)(12).
8- (الا إن حزب اللّه هم المفلحون)(13).
9- (وإن جُندنا لهم الغالبون)(14).
10- (إن تنصروا اللّه ينصركم ويثبت أقدامكم)(15).
11- (ولينصرنَّ اللّه من ينصره) (16) .
12- (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا ...)(17).
الى أمثالها من الآيات المبشرة بانتصار الحق على الباطل والصالحين على الكافرين وأن الارض سوف يرثها عباد اللّه الصالحون.
ونحن المسلمين لا يختلج الشك في خلدنا أننا حزب اللّه وجنده وعباده الصالحون وأصحاب الحق وأننا بـإذن اللّه ننصر الله ودينه الحق، فالآيات تصدق فينا ونحن من أبرز مصاديقها.
وهناك آيتان تمثلان تزايد المسلمين عدة وعُدّه على مدى الدهر:
1-(... ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكُفّار..)(18).
2- (ألم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربّها...)(19).
فالآية الأولى تمثل تضاعف المسلمين بزرع أخرج شطأه...، والثانية تمثل الكلمة الطيبة - وهي كلمة الاسلام - "بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" أي من دون حد، تؤتي ثمارها كل حين - أي الى يوم القيامة - .
حتى إن القرآن يؤمّننا خوف قلة العدد بقوله: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن اللّه)(20).
وفي الوقت الحاضر نحن بحمد اللّه كثيرون نُمثّل حوالي رُبع سكّان الأرض، ونمتلك أخصب الأراضي وأزخرها بالمعادن والخيرات، وأوسعها مساحة، وأحسنها موقعا.

 

كما يؤمّلنا القرآن بعد اليأس وينهانا عن اليأس:
1- (حتى إذا استيئس الرسل وظنّوا أنهم قد كُذبوا أتاهم نصرنا)(21).
2- (إنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون)(22).
وهاتان الآيتان جاءتا في سورة يوسف التي تحمل مثلا أعلى ونموذجا بارزا من الفوز بعد الخسران ، والفلاح بعد الخذلان لنبي من أنبياء اللّه تعالى وهو يوسف (عليه السلام) الذي ألقاه إخوته في غيابة الجب فأنجاه اللّه منها وأجلسه على عرش العزة والكرامة.
واللّه سبحانه يبثّ فينا روح الامل في نصره حتى لو ارتد عن الاسلام مرتدون. وأنه تعالى سوف يبدلهم بآخرين أولي العزيمة والصمود فيقول:
(يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع عليهم)(23).
فالقرآن مليء بالتبشير بالفتح والنصر وبغلبة الحق على الباطل وأن اللّه لايخلف الميعاد، وكلّه تفاؤل ورجاء أمل بالمستقبل الزاهر من غير تحديد بزمان أو مكان.
وأما السنة فتكفينا تلك الوعود الكثيرة في روايات متظافرة مقبولة عند المحدثين جميعاً بأن اللّه سيملأ الارض برجل من آل البيت قسطا وعدلا بعد ما مُلِئت ظلما وجورا. فالعدل الشامل والصلح العادل في العالم منشؤه الإسلام دون سائر الأديان، ومصدره الشرق المسلم دون الغرب المُلحد.
إضافة إلى ذلك فإن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يصبح متفائلا وكان يطالب أصحابه عند الصباح بقوله: "هل من مبشّرات" يقصد الرؤى الحسنة التي رآها أحدهم. وكان يأمرهم بالفأل الحسن بقوله: "تفاءلوا بالخير تجدوه" أو "تفأل بالخير تنله".
وقد وعدهم بأن دينه سيبلغ المشرق والمغرب، وقد حقّق اللّه وعده رسوله في الماضي، وسيحققه في المستقبل حتى يشمل الإسلام العالم كله، فإن المراد بالمشرق والمغرب - الأرض كلها من غير تحديد.
وهناك بشائر متناثرة في الكتب على لسان الصحابة والأئمة والأولياء بغلبة الإسلام على الأديان ورفع راية الحق على جميع بقاع الارض، لا نطيل الكلام بذكرها ونحن في غنى عنها بعد وعود الكتاب والسنّة.

 

2- ثقتنا بالشعوب الإسلامية
نحن نؤمن ونثق بالشعوب الإسلامية كأمّة واحدة وكجيش رباني يجاهدون في سبيل اللّه صفّا كأنهم بنيان مرصوص، شهد به الكتاب والسنّة والتاريخ والسيرة، فاستمروا على ذلك سواء في حياة النبي(صلى الله عليه وآله) أو بعد رحيله إلى الملأ الأعلى، فقد حملوا راية الاسلام على عواتقهم، وكلمة التوحيد وذكر اللّه على ألسنتهم، وضحّوا بأنفسهم في سبيله، فشرّقوا وغرّبوا، وما كانت قوتهم وسلاحهم إلا كتاب اللّه وسنة نبيه، مع إيمان في قلوبهم، وإخلاص وصدق في نياتهم فكانوا يقتلون ويُقتَلون ، ويجاهدون في سبيله، لا يخافون لومة لائم ولا يخشون إلا اللّه.
هذه الخصال الحميدة الضامنة لا نتصارهم على أعدائهم ظهرت منهم عبر العصور وفي جميع الجبهات فقاموا بواجبهم وقاوموا خصومهم أيّاً كانوا، بدءاً بالمشركين وأهل الكتاب وغيرهم من أهل الملل والنحل الباطلة، إلى صمودهم في الأندلس مدة ثمانمائة عام، وأمام الصليبيين مأتي سنة وضد الماركسية والإلحاد في روسيا وآسيا الوسطى والبوسنة والهرسك وكوسوفو وغيرها من مناطق سلطة الاتحاد السوفييتي المنهار، سبعين سنة، وتحت نير أتاتورك والقوى العلمانية حوالي ثمانين سنة، والآن نرى رأي العين جهادهم وصمودهم "كالجبل الراسخ لا تحرّكه العواصف" أمام الصهاينة في فلسطين منذ خمسين سنة، وفي كشمير منذ أربعين سنة، وكذلك في غيرها من أرض الإسلام. أليست تلك البطولات والتضحيات التي حفظها لنا التاريخ - وهي قليل من كثير - الى جانب هذه التي نشاهدها اليوم في كثير من الشعوب الإسلامية من القيام ضد المستعمرين والمستكبرين وحكّام الجور في كل مكان، أليست هذه كفيلة بثقتنا بأمتنا وبشعوبنا المسلمة؟

 

3- ثقتنا بالعلماء والقادة والحكام
لو استثنينا شرذمة من العلماء هنا وهناك باعوا دينهم بدنياهم، أو بدنيا غيرهم من الحكام والرؤساء، وكذلك ثلة من الحكام والامراء في الأقطار الإسلامية، وفي أوقات متفرقة غلبوا وساموا شعوبهم المسلمة ظلما وجورا، ولم يراعوا كتاب ربهم ولا سنة نبيهم، في ما كانوا يصدرون من أحكام، وما يتداولونه من أعمال، مجاراة لأهوائهم، أو تلبية لمن أجلسهم على منصّة الحكم من الأجانب والقوى الشريرة - لو استثنينا هؤلاء وأولئك فإن جلّ العلماء وجمهور القادة المسلمين في الأعصار والأمصار، كانت قلوبهم متعلقة بالاسلام، وهممهم مصروفة الى إرساء دعائمه وإقامة أركانه، وإن اختلفت آراؤهم ومذاهبهم ومسالكهم واتجاهاتهم السياسية حتى انجرّت إلى التقاتل فيما بينهم، ومع ذلك فنحن نرى أن حسناتهم غلبت سيئاتهم في سبيل الإسلام وإلا لم تبق للإسلام قائمة. فما نقرأه في مطاوي التاريخ عن كثير منهم - لو كانت صدقا - فهي في الأغلب ترجع إلى أحوالهم الشخصية، دون آرائهم الدينية والسياسية - والعلم عند اللّه - فكم من عالم في الشرق الإسلامي وغربه ضحّى بنفسه وأهله وماله في سبيل دينه، وجمهور منهم استشهدوا من أجل إعلاء كلمة اللّه. وقد حفظ لنا التاريخ ذكر نخبة صالحة من هؤلاء، وعلينا إحياء ذكراهم ليكونوا نبراساً للآخرين.
كذلك يوجد من بين الأمراء والحكّام - ولاسيما في صدر الاسلام - جماعة ممن قدّم دينه على هواه. ويا حبذّا لو تُستقصى أخبارهم في كتاب ليكونوا قدوة للشباب والمثقفين والموظّفين والحكام في هذا العصر. وعلينا أن لا ننسى مواقفهم الجميلة وحرصهم على نشر الاسلام، ولا نهتم بالحديث عن سيئاتهم وتعظيم خطيئاتهم، فالمسلم لايكون سيّء الظن بالناس وبأخيه المسلم، فينظر إليه بمنظار التخطئة بدل السماحة والعفو. وهكذا ربنا الرحمن.

 

4- ثقتنا بشبابنا والمثقفين من أبنائن
في تقديرنا أنه لم يمض على جيل من الأجيال المسلمة خلال ألف وأربعمائة وعشرين عاما مضت على انبثاق نور الإسلام، ما جرى على الشباب المسلم في القرن العشرين وفي الآونة الاخيرة منه بالذات من الفوضى في التفكير والعقيدة، ومن تشتت الآراء وتلوّن الأفكار، وما ظهرت من أطوار الفلسفة، والاتجاهات الفكرية. كما تعرّض الشباب لألوان من شبكات الفساد والمعاصي والضلال والمآسي، أخلاقا وسلوكا وتقاليداً والتي جاءت من الغرب وشاعت كامراض سارية بين الشعوب والمسلمين وهذه يُعبّر عنها بالغزو الثقافي أو "التسلل الثقافي" على حد تعبير قائدنا الامام الخامنئي حفظه اللّه. وليس من المبالغة القول أن الشباب اليوم في كل بقعة من الأرض، يعيشون خطرا عظيما وإنهم على شفا حفرة لابل حُفَر من النار، ومع ذلك كله فنحن متفائلون بشبابنا وبالجيل المثّقف ونرى أن معظمهم وقوا أنفسهم من لهيب هذه النار المشتعلة، والمحرقة للرطب واليابس، والذين وقعوا في خندقها يُرجى خلاصهم منها، وقد كثر أولئك الذين نجوا منها بعد الاكتواء بلظاها. ونؤكد على أن أعظم الخطر الذي كان يهدد شبابنا، خاصة المثقف منهم قد نكص وارتد أمام صمود كثير من تلك القلوب الطيبة والأُسر الأصيلة، فغلبتها التقاليد الدينية الموروثة عن الأسلاف. ومع ذلك فلا ننكر أن كثيرا من العائلات في البلاد الإسلامية تأثروا بالتقاليد الأجنبية، وانبهروا بالأجهزة الفتانة التي تتزايد كل يوم، وتُستخدم كل آن للفساد والإضلال.
وعلى كل حال ففي زعمنا أن شطراً كبيراً من الجيل المثقف قد تجاوزوا هذا الخطر، وسلموا من هذا التحدي الحديث، فالتزموا روح التقوى والحميّة الدينية، وهم مستعدون لحمل هذه الأمانة إلى الآخرين. ولو انقطع يوماً من الأيام هذا الرجاء في الشباب - لا قدّر اللّه - لانطفأ نور الإسلام، وفقدت هذه الدعوة المباركة من يحملها إلى الأجيال المقبلة، وهذا ما يبتغيه الأعداء، ويعلقون عليه الآمال ويبذلون في سبيله الجهود ولكنهم بـإذن اللّه حسب ما وعدنا في كتابه وعلى لسان نبيه خائبون.
والشاهد على تلك الثقة بالشباب ما نرى ونسمع من الحركات الإسلامية هنا وهناك التي يقودها الشباب والمثقّفون ، وما نشاهده في مواسم الحج من جمّ غفير من الشباب والشابات بين الحجيج، وكذلك في صفوف الجمعة والجماعة وفي المساجد والمشاهد المشرفة، وحلقات الحديث وقراءة القرآن. كما نشاهدهم في ميادين النضال في فلسطين وغيرها، وقد جرّبنا نحن شبابنا عند انبثاق الثورة الإسلامية، أو في معارك الحرب المفروضة، فهل في الشباب بعد هذا وذاك من ريب؟
5- ثقتنا بالاسلام واستعداده للبقاء والتنامي
أما طبيعة الإسلام فقد أثبتت استعدادها للبقاء وتفاعلها مع الأحوال والمستجدات في كل بلاد الاسلام شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ويكفيك شاهدا على ذلك تاريخ الإفتاء في الاسلام، وتنامي الفقه وتفتّحه عند جميع المذاهب، فلم يعرقله شيء عن ركب الحياة والارتقاء بل عن السبق في ميادين السباق.
ولو تأمّلنا في آية "مَثَل كلمة طيبة" لنراها مثلا بارزا لنموّ الشريعة الإسلامية، ولم أر أحداً لحد الآن تنبه لذلك ، فإن "الكلمة الطيبة" تشمل العقيدة والشريعة والأخلاق - ولها أصولٌ ثابتة في الكتاب والسنة لا تتغير ولا تتبدّل . وفروع ناشئة عن تلك الأصول، مرتفعة في السماء - والسماء مثلٌ من اللامحدودية - متشعّبة ومتغيرة حسب الحاجات.
فالاسلام أصوله ثابتة وفروعه ناشطة حسب الأحوال والمستجدّات، تؤتي أكلها وثمارها كل حين، وفي كل مصر بـإذن ربها ولا يقف عطاؤها عبر العصور.
والإسلام في الماضي استوعب الثقافات والآراء بما في ذلك فلسفة اليونان وعرفان الهند وايران، فقد غذّاها الإسلام ونمّاها من عطائه بما لايكاد يخطر بالبال، كذلك نشاهد العلماء والمفكّرين في هذا العصر يطبقون الاسلام على العلوم الحديثة والأفكار الجديدة في الفن والاقتصاد، والاجتماع والحكم والسياسة، وغيرها، اقتداء بسلفهم الذين أخذوا الفلسفة والعرفان من الاُمم السالفة وطبّقوها على ما استنبطوه من أسرار الكتاب والسنة، وهذا باب واسع لانريد هنا أن نلجه ونخوض فيه.
والحاصل أن الماضي مرآة للمستقبل، ويبشّرنا بكل خير في تقديرنا وتقويمنا عن الإسلام في المستقبل من جهات شتى:
أولا - تقدّم العلوم وتوسّعها يفتح ويكشف لنا أسراراً من شريعتنا ومن كتاب ربنّا كما قال: (إن هذا الا ذكر للعالمين ولتعلمنّ نبأه بعد حين)وقال: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم...)(24).
ثانيا - تقدّم الشعوب المسلمة ثقافة واقتصادا وثقة بالنفس واستقلالا بالحكم.
ثالثا - أفول السلطات العالمية، واستسلامها أمام بطولات الشعوب المستيقظة، وفي طليعتهم المسلمون حيث خلصوا نجيّا من نير الاستعمار أو كادوا أن يخلصوا.
رابعاً - تراجع روح الطائفية والمذهبية في الأوساط العلمية والجامعات الاسلامية ودور العلم، وبذلك ستذهب وتتقلّص وتذوب تلك الخلافات التي تلاشت بسببها قوتنا، وذهبت بها رحينا - على حد تعبير القرآن - فقد عثر العلماء والمفكّرون على هويتهم بعد أن افتقدوها من خلال اشتغالهم بالخلافات التي لا طائل تحتها ولا نائل، وارتفعت الأغلال التي كانت عليهم، وزالت عنهم تلك العراقيل التي حالت دون وحدتهم قرونا وأجيالا، فإن العالم بأسره الآن متفتح أكثر من الماضي، والمفكرون يهتمون بالافادة والإصلاح والعمل الجاد المثمر بدل الخوض فيما لا يعني، والمسلمون أحق وأولى من غيرهم بذلك.
خامساً - ويقع هذا في القمة - ظهور حركات سياسية في العالم الإسلامي منذ بداية القرن العشرين تُنادي بـإقامة الحكم الإسلامي في أرض الاسلام مستمدا من جوهر الاسلام كما كان في الصدر الأول. والمصلح الكبير "السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني هو أول من رفع هذا اللواء من غير نكير في هذا القرن، ثم تبعه الآخرون في أفريقيا وآسيا، لاسيما في مصر وإيران والقارة الهندية وآسيا الوسطى. وهذه الدعوة المباركة مستمرة لحد الآن.
ومعلوم أن زوال الحكم الإسلامي وانعدامه من الساحة من أكبر التحدّيات الهدّامة لكيان الإسلام، وأما الآن فالجمهورية الإسلامية -بحمد اللّه - قد حققت جملة من آمال هؤلاء المصلحين القدامى في هذه الأرض المباركة، وفتحت الطريق السوي والصراط المستقيم أمام الباقين.
التحدّيات
أما التحديات في عالمنا فتستفحل وتتفاقم كل يوم من داخل البلاد وخارجها:
أما التحديات الخارجية، وهي أهمها وأشدها تأثيراً فهي:
1- الغزو الثقافي الآتي من قبل الاتصال المستمر بين الشرق المسلم والغرب المتمرّد، فيطلع الانسان المسلم على سلوك الغربيين ويستسلم لتقاليدهم، سواء عن طريق الرحلات المتبادلة، أو بسبب الصحف والكتب والأفلام والأقمار الصناعية وجهاز الإنترنيت والحاسوب وغيرها من وسائل الإعلام .
2- الغزو العلمي، فان الغرب دائما يتقدم علميا وتقنيا إلى جانب انحطاطه في ناحية السلوك والاخلاق والأهواء، مما جعل لهم علينا سيطرة علمية وتقنية، وهذا بنفسه خطر آخر ربما يفوق خطر الغزو الثقافي.
3- المواثيق والمعاهدات المستحكمة بين دول الغرب ضدّنا، فانهم مع تضادهم واختلافهم فيما بينهم متفقون على التعاون والتعامل والسعي المشترك في سبيل إضعافنا وسلب ثرواتنا والتغلّب علينا سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
4- التبشير والاستشراق، فإنهما كانا حليفين ضدنا في الماضي، وسيستمران على ذلك في المستقبل.
5- احتلال بقاع من بلادنا في فلسطين وكشمير والبلقان وغيرها من قبل خصوم ألدّاء.
6- تواجد بقايا الاستعمار والاحتلال الغربي في بقاع من أرض الإسلام، بل الاستعمار الجديد في كثير منها.
7- ظهور فرق متمردة عن الإسلام - وكثير منها عميلة للأجنبي - واعتناقهم ما يحسبونه دينا - وما أنزل الله به من سلطان - : كالقاديانية والبهائية وغيرهما، ولها نشاط كبير واهتمام بالغ بنشر ضلالاتها بين المسلمين بأسلوب يفتن الشباب.
8- الجاليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية مهدّدون بالعزوف عن دينهم، وبتناسي تقاليدهم وعاداتهم الدينية التي ورثوها عن آبائهم، بالاختلاط والتأثر بالشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، وهذا ما يقال له: التأقلم، أي التأثر بالإقليم.
وأما التحدّيات الداخلية فهي عبارة إجمالا عن:
1- تأثـّر الشعوب المسلمة ثقافيا وتقنيا بأعدائهم.
2- الفقر المزمن والفوضى الاقتصادية، وتتبعه الأمراض الجسمانية والنفسانية.
3- عدم استقلال جملة من الحكومات في الاقطار الإسلامية وتضامنها مع السلطات الاستكبارية، وبالتالي فقدان روح العزة الإسلامية وعدم الاهتمام بالإسلام وبمصلحة الشعوب.
4- وجود الخلافات والنزاعات السياسية بين هؤلاء الحكّام على الثغور والحدود، أو الانتماء الاجنبي، كالانتماء إلى روسيا أو انكلترا، أو فرنسا، أو أميركا، بدل انتمائهم إلى جبهة إسلامية موحدة قائمة على قدميها قبال تلك الجبهات الأجنبية.
5- وجود الخلافات المذهبية التي باعدت بين أتباع المذاهب الإسلامية والتي تستفحل وتتعاظم هنا وهناك، ومن وقت لآخر، حتى تنتهي إلى تفكير أو تفسيق بعضهم البعض، وفي كثير من الأحيان إلى التقاتل فيما بينهم، رغم أنهم إخوة مسلمون، كما قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (25).
وهذا من غير شك شرّ، وشرّ منه عدم قيام المسلمين بـإجراء آية أخرى من القرآن عالجت هذه المشلكة، وهي: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)(26).
هذه الآية تكلّفنا بالإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، فهل قمنا بهذا الواجب في الحروب التي وقعت وتقع بين قطرين من الأقطار الاسلامية، أو كل طائفة منا تقوم بكل قوتها بمعاضدة أحد طرفي القتال، محقا كان أو باغياً، لا لشيء إلا لمنفعة لنا نجدها في هذا الطرف دون ذاك؟!!
6- إشاعة روح العنصرية والقومية بين طوائف المسلمين حتى في البلد الواحد، وهذه بدورها احدى فخاخ الأجانب للمسلمين، فإن الإسلام مع اعترافه باختلاف الشعوب والقبائل كحقيقة اجتماعية، منع من التفاخر بها وأكد بأن أكرمهم عند اللّه أتقاهم، وعندنا أن هذه الظاهرة الخبيثة في هذا القرن لون من الاستعمار الجديد.
7- التفاوت الطبقي في المجتمعات الإسلامية ... إلى غيرها من التحديات.


المسؤوليات والواجبات
وهي كثيرة إذا أردنا التفصيل، وأما القول الموجز فيجمعها:
أولاً: الاهتمام بأمور المسلمين، فإن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم،وهذا الاهتمام يستدعي معرفة الشعوب المسلمة عِدّة وعُدّة وما فيهم من نقاط القوة والضعف ومن حالات وتحولات إيجابية أو سلبية.
ثانياً: التعاضد على القيام أمام تلك التحديات التي عددناها وإزالة في المسلمين من النقص ومالهم من حاجة ملحة مادية أو معنوية.
ثالثاً: الاستفادة التامة من تلك البشائر والإيجابيات التي أحصيناها والاستمرار عليها حتى بلوغ المسلمين الى الغاية التي وعدهم ربهم بها في كتابه من استخلافهم في الأرض، وليكونوا أعزة، فإن العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين وكفى باللّه شهيدا.
  

----------------------------
* - بحث مقدّم إلى مؤتمر "وحدة الأمة الإسلامية ومستقبلها" المنعقد في لبنان في تاريخ 14 و 15 من شهر صفر عام 1420هـ .
2- الصف / 9 ، والتوبة / 33 .
3- الفتح/ 28 .
4- النور / 55 .
5- ص / 88 .
6- الأنبياء / 105 .
7- المجادلة / 21 .
8- الاسراء / 81 .
9- الانبياء / 18 .
10- سبا / 49 .
11- غافر / 77 .
12- المائدة / 56 .
13- المجادلة / 22 .
14- الصافات / 173 .
15- التوبة / 40 .
16- الحج / 40 .
17- غافر / 51 .
18- الفتح / 29 .
19- ابراهيم / 24 .
20- البقرة / 249 .
21- يوسف / 11 .
22- يوسف / 87 .
23- المائدة / 54 .
24- فصلت / 53 .
25- الحجرات / 10 .
26- الحجرات / 9 . 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية