مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

دراسات اجتماعية
معوقات الوصول إلى مجتمع إسلامي حـرّ
المحامي الشيخ مصطفى ملص (1)

  يتخوف البعض من حرية الرأي في المجتمع بحجة أنها تؤدي الى الفرقة والتنازع، والباحث يرى أن ذلك وهم لأن هذا التخوف يقوي إمكانية ظهور الظلم والاستبداد، فالفرقة في الدين غير "التعددية" في السياسة، وإذا كانت الفرقة في الدين مذمومة فان شؤون سياسة الامة وعمران المجتمعات لا تستقيم عادة بوحدانية الفكر والفردية في الاجتهاد.. وفي القرار.. وفي التنفيذ. مقدمة
نقف على أعتاب القرن الميلادي الواحد والعشرين، ونرمق القرن الذي يؤذن بالرحيل، لا نستطيع أن ننظر الى القرن العشرين على أنه قرن عادي، لأن أحداث هذا القرن لم تكن عادية، لقد افتتح بصورة لها أبعاد معينة، وها هو يغلق أبوابه على صورة مختلفة جداً، وقد شهد حربين عالميتين لم يشهد التاريخ لهما مثيلاً.
وشهد حروباً أصغر حجماً ولكن لبعضها آثار كبيرة، وشهد أيضاً حرباً باردة تركت على الشعوب آثاراً أشد من آثار حروب المدافع والدبابات. شغل العالم الإسلامي حيزاً كبيراً جداً من أحداث هذا القرن، وسلطت عليه فيه أضواء ونيران، تم فيه القضاء على آخر امبراطورية اسلامية، وهدمت الخلافة التي كانت تشكل جامعاً اسمياً للمسلمين. وأقيم على أنقاضها دول بمعايير مختلفة قومية ووطنية ودينية وعرقية. مزقت الأمة الإسلامية إلى شعوب وأوطان. ووجدنا أن فاعلية الأمة قد شلت، حيث أن الإرادة بالوحدة لم تضعف، ولكنها عجزت عن إنفاذ تلك الإرادة، وعجزت عن تحقيق التماسك المطلوب، لقد شهد العالم الإسلامي حركة غير مجحودة تفرض على الجميع الاعتراف بها، أظهرت هذه الحركة أن الأمة هي أمة حيّة ومتفاعلة، وأنها لم تستسلم للواقع المفروض عليها، وهي طامحة لتحقيق مجدها وعزتها، فمن ثورة هنا وانتفاضة هناك من الجزيرة إلى افريقيا إلى الهند وباكستان وإيران. من الخطابي وابن باديس ومحمد عبده والأفغاني والبنا والمهدي والسنوسي والكواكبي وصولاً إلى إمام هذا القرن الإمام الخميني (رضي الله عنه) الذي حقق على مشارف القرن العشرين الأخيرة أهم وأعظم انتصار للإسلام، وأقام الجمهورية الإسلامية على أرض إيران الإسلام، وحطم أحلام أعداء الإسلام الذين ظنوا أن الدين قد انتهى وهو في طور الاحتضار، فإذا بالإسلام قوة كامنة لديه من القدرة على إعادة شحن النفوس بالقوة والطاقة والقدرة التي تستطيع أن تقلب الموازين رأساً على عقب، ولا يمكن لأحد أن ينكر على الأمة صبرها وجهادها وقوة احتمالها.
والأمة أمة الحياة، وهي تناضل وتحلم وتبذل وتعطي، ولكننا على أبواب القرن المقبل، إذا نظرنا إلى واقعنا كأمة، هل نحن على المستوى الذي نستطيع أن نواجه هذا القرن، من جميع النواحي؟
مما لاشك فيه أن مواجهة مشكلات القرن المقبل تحتاج منا إلى جهود كبيرة قائمة على العلم والمعرفة والإيمان، وتحتاج إلى إنسان حر عزيز كريم واع لماضيه ولحاضره ولمستقبله، ليس على صعيد الفرد وحسب، وإنما على صعيد المجتمع الإسلامي ككل.
ولكن الوصول إلى ذلك المستوى من العلم والمعرفة والإيمان، والى ذلك المجتمع الحر العزيز الكريم الواعي ليس متيسراً، ولا هو بالأمر السهل، ذلك أن دونه معوقات كثيرة تحول دون إدراكه، ومالم نتمكن من إزالة المعوقات، فسنبقى نراوح في نفس المكان الذي نحن فيه.
وهذه المعوقات منها ما هو ذاتي، أي ناتج عن مسائل متعلقة بنا، بفهمنا وتاريخنا ونظرتنا إلى الماضي والحاضر والمستقبل، ومنها ما هو خارجي، أي أنه ناتج عن فعل الآخرين تجاهنا ونظرتهم الينا، وفهمهم لما نحن عليه.
وسنحاول في هذا البحث أن نعالج بعض المعقوات الذاتية المتعلقة بفهمنا لبعض المسائل التاريخية والفقهية والأخلاقية.أزمة الحرية في المفهوم والتعريف
الحريّة، تلك العبارة التي تبعث الخوف في النفس كما تبعث الاطمئنان، هي الكلمة المختلف في تحديد أبعادها، وهي المفهوم الذي يختلف باختلاف الأفراد والمجموعات، فيمكن تبسيط تعريفها إلى حد بعيد، ويمكن تعقيده حتى يصبح مثاراً للخلاف والجدل.
الحرية في تعريف القدماء البسيط تعني أن لا يكون الإنسان عبداً أو مسجوناً. وهذا التعريف متناسب مع عصره حيث كان الرق أو السجن هما القيدان اللذان يحدان من حرية الإنسان.
ولكن مع تقدم الزمن وتطور الوسائل وتغيير الحياة وظهور أنماط جديدة من العلاقات، تعددت وتوسعت إلى مدى ليس من السهل الإحاطة به، بدأت الحرية كمفهوم تأخذ صوراً وتعريفات متعددة ومتنوعة.
فهي بالمعنى العام حالة الإنسان الذي لا يتحمل أي قسر والذي يتصرف وفقاً لإرادته وطبيعته(2).
وهي بالمعنى الاجتماعي "المقدرة على القيام بكل ما لا يمنعه القانون".
أما بالمعنى السياسي: "فالحرية هي مجموعة الحقوق المعترف بها للفرد والتي تحدّ من سلطة الحكومة".
وبالمعنى النفسي والأخلاقي تكون الحرية حالة ذلك الإنسان الذي لا يقدم على أي عمل، خيراً كان أم شراً، الا بعد تفكير عميق وبـإدراك كلي للأسباب والدوافع التي جعلته يقوم بهذا التصرف.
ويرى ديكارت أن الحرية تتلخص بالمقدرة على القيام أو عدم القيام بشيء معين، وهذا يعني أن الإنسان لا يكون حراً إلا إذا امتلك إمكانية معينة لتقرير موقفه.
وينظر كانت Kant إلى الحرية على أنها خيار أخلاقي مع الشيء أو ضده فيقول في كتابه: "نقد العقل العملي" critipue de la raixon pratiqueبأن الحرية: "هي خيار أخلاقي مع الخير أو ضده، مع العقل أو ضده، مع الكونية أو ضدها".
بينما يعتبر سبينوزا أن الحرية الأخلاقية تعني خضوع الإنسان للعقل وأن الإنسان الحر هو ذلك الإنسان الذي يعيش وفقاً لتوجيهات العقل(3).
ويذهب هنري برغسون الفيلسوف الفرنسي الشهير (1859 - 1941) إلى أن الحرية هي واقعة، إن لم تكن أكثر الوقائع الملموسة وضوحاً وتحديداً، ولكن.. عبثاً يحاول المرء أن يبرهن على وجود الحرية، فما الحرية بشيء يمكن تحديده بل هي في الحقيقة إثبات للشخصية، وتقرير لوجود الإنسان. إنها ليست موضوعاً يعاين، بل هي حياة تعاني.
وهكذا نرى بسردنا لهذه النماذج من التعريفات، مدى الاختلاف في تحديد معنى الحرية المجرد. غير أن ما يميز كل هذه التعريفات أو معظمها أنها تنظر الى الحرية على أنها مفهوم إرادي عاقل ومدرك، فهي ليست فوضى على الإطلاق. ولكن هل يمكن أن تكون الحرية حالة فردية، أو هل يمكن للفرد أن يكون حراً في مجتمع ليس حراً، وماهو الرابط بين حرية الفرد وحرية المجتمع.
يرى العديد من الفلاسفة والمفكرين ان الحرية كمفهوم تنبع أساساً عبر وعي المجتمع لها في مراحل محددة من وجوده، وفي هذا الإطار يقول الفيلسوف والاقتصادي البريطاني جون ستيوارت ميل John S.Mill "إن النطاق المناسب للحرية الإنسانية هو حرية الضمير بأشمل معانيها، وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي والوجدان المطلقة في كل الموضوعات، سواء كانت عملية أم تأملية أم علمية أم أخلاقية أم لاهوتية. وإن أي مجتمع لا يكفل لأفراده كل هذه الحريات، لا يمكن أن يكون مجتمعاً حراً بمعنى الكلمة، أياً كان شكل الحكومة القائمة فيه، والحرية الوحيدة التي تعد جديرة بهذا الاسم إنما هي تلك التي تؤكد بمقتضاها مصلحتنا بالطريقة التي نؤثرها، طالما كنا لا نحاول أن نستلب الآخرين مصالحهم، أو أن نقف حجر عثرة في سبيل حصولهم على تلك المصالح، أو أن نعرقل جهودهم التي يبذلونها ابتغاء تحقيقه(4).
فالحرية بحسب هذا المفهوم ليست مجرد شعور خاص وحسب، وإنما هي نتيجة لتفاعل اجتماعي، يتبادل فيه الأفراد بالوسائل المناسبة تسهيل حصول كل منهم على مصلحته وحقوقه، فيحققون بذلك المجتمع الحر الذي يستطيع أفراده أن يكونوا أحراراً.
وإلى هذا المنحى يذهب العديد من الفلاسفة أمثال مالينوفسكي(5)، الذي يرى بأن "الحرية هي تلك الأحوال الاجتماعية التي تتيح للإنسان أن يحدد غاياته بالفكر، وأن يحققها بالفعل، وأن ينال حصيلة تحقيقها".
وبتحديد أكثر دقة يرى الفيلسوف البريطاني هارولد لاسكي(6) أن الحرية هي تلك الأحوال الاجتماعية التي تنعدم فيها القيود التي تكبل قدرة الإنسان على تحقيق سعادته.
فالحرية بحسب رؤيتي هارولد لاسكي ومالينوفسكي إنما هي مفهوم حيّ مرتبط بالمجتمع، وعلاقة من علاقاته التي يؤسسها، وليست شيئاً خارجاً عنه، وهي تتطور بتطور العلاقات وتنمو بنموه(7).
إن هذا المفهوم للحرية الذي يجعل منها مسألة شعور وسلوك جماعي أو اجتماعي، هو المفهوم الأوضح والأرقى تعبيراً عن حالة الحرية التي تفقد كل معانيها إذا انتفت عنها صفة الجماعة، فما قيمة حرية إنسان يعيش خارج إطار المجتمع؟

المبحث الأول - الحرية ومفهوم العبودية
العبودية في المصطلح اللغوي هي نقيض الحرية. فإذا أطلق وصف العبد على إنسان، فهذا يعني أنه خاضع لإرادة سواه.
ولكن الأمر يختلف كثيراً عندما ننطلق لنبحث في مسألة العبودية للّه عزّ وجل، فعندما يكون الإنسان عبداً للّه، هل يمكن أن يكون حراً؟
إن العبودية تعني خضوع الإنسان لكائن أو لقوة قادرة على التدخل في كل لحظة لتمنع هذا الإنسان من الخروج على رغباتها وإرادتها، فهو لا يملك إزاء هذه القوة إلا أن يخضع لها، لأن الخضوع لها أخف ضرراً، فيما يراه.
أما العبودية للّه فإن لها معنى مختلفا اختلافاً كلياً، لأن العبودية للّه تهدف فيما تهدف إلى تخليص الإنسان من الخضوع لأي قوة أو شهوة أو إرادة باغية.
فاللّه تبارك وتعالى في خطابه للإنسان يدعوه إلى رفض الخضوع لأية قوة مهما كانت، ويعطي الدليل على أن الخلق متساوون في القدرات التي حباهم اللّه بها ومتساوون في العجز والنقص: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون)(8). لذلك على الإنسان أن يرفض الخضوع وأن يهيء نفسه لكي لا يكون هدفاً سهلاً لمن يريد إخضاعه أو إذلاله، ولو أدى ذلك إلى المواجهة وحينئذ يكون الجهاد مشروعاً لمواجهة البغي والعدوان.
واللّه سبحانه وتعالى حينما يخاطب الإنسان بعبوديته له، يتوجه بالخطاب لعقل هذا الإنسان، ولإرادته الحرة الواعية، يعرض عليها الأدلة والبراهين، ويقدم الحجج والبينات، فإن اقتنع الإنسان بمحض إرادته وتفكيره، وإلا (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)(9) واللّه لا يمارس الضغط المادي على الإنسان، ولا يربط بين الإيمان به وبين حاجات الإنسان الضرورية، وحتى غير الضرورية، فالرزق والحياة مقسومان، لا ينقص منهما كفر ولا يزيد فيهما إيمان.
وحتى المؤمن المتيقن فيما لو خالف سلوكه مقتضى إيمانه، فإن معصيته أيضاً لا تؤثر في مسألة رزقه وأجله، لذلك فإن اللّه يخاطب الإنسان ويأمره وينهاه، ويتركه بعد ذلك لعقله، والحساب والجزاء ليس في هذه الدنيا وإنما بعد انتهائها، وإنما الذي يظهر من الأعمال الصالحة أو الأعمال الفاسدة آثارها في الحياة على المجتمع والفرد.


المبحث الثاني - أزمة الحرية وأسبابه
كما قلنا; كانت الحرية فيما مضى مفهوماً بسيطاً، وكانت كلمات بسيطة تكفي لتعريف الحرية.
ولكن مع تطور الأيام صار للحرية جوانب مختلفة، ولم تعد واحدة وإنما تعددت وصارت حريات منها ماهو شخصي، ومنها ماهو سياسي، ومنها ماهو اجتماعي، ومنها ماهو ثقافي، ومنها ماهو اقتصادي، حتى لقد صارت جملة النشاط الإنساني تدخل تحت تسمية الحريات. فهناك حرية الاعتقاد، وحرية التعبير، وحرية التعليم، وحرية الصحافة أو الكتابة، وحرية اختيار المنزل، واختيار العمل، إلى آخر ما هنالك.
ولكننا اليوم نعيش وتعيش الحرية في أزمة، فنحن على كل الصعد لا نستطيع ممارسة قناعاتنا، ونخضع لإملاءات كثيرة في حياتنا على كل الصعد الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وكل إنسان يعجز عن ممارسة قناعاته ويخضع للاملاءات ليس حراً، وكذلك كل مجتمع تنطبق عليه هذه الحالة ليس مجتمعاً حراً، والدولة التي يكون الحكم فيها مخالفاً لقناعات شعبها ليست دولة حرة إلا إذا اعتبرنا أن الإنسان "حرّ" في اختيار الإذلال والقهر واختيار الدعة والسكون، والتسليم بما لا يراه. أو بمعنى أوضح: أن الإنسان حرّ في اختيار التعاسة!!
فما هي أسباب هذه الأزمة، وكيف السبيل إلى استعادة الحرية؟
لا نظن أن جيلنا الحالي استطاع يوماً أن يعيشها فنحن وعينا على هذا القسر وهذا القهر، ومايزال الحلم أن نخرج منه إلى واحة الحرية الرحبة.
إن لأزمة الحرية في بلادنا أسباب: منها ما هو مرتبط بنا، ومنها ماهو خارجي، غير أنه لا يعطي آثاره في حياتنا إلا إذا صادف الاستجابة من أنفسنا.
وسنعمد في هذا البحث إلى الحديث عن الأسباب الذاتية المتعلقة بنا كمسلمين والتي نرى أن لها دوراً في هذه الأزمة، هذه الأسباب الناجمة عن فهم خاطئ أو غير دقيق للحرية ولعدد آخر من المفاهيم المتعلقة بها.


المبحث الثالث - الحرية والانتقائية التاريخية
نحن نعتقد أن أزمة الحرية التي نعيشها تنعكس على نواح متعددة من حياتنا، بل تطال كل مفاصل هذه الحياة، إذ أن مردود هذه الأزمة يظهر في حياة سياسية تقوم على الخداع والاستبداد والاستخفاف، وفي حياة اجتماعية قلقة ومضطربة إلى أبعد الحدود، وفي حياة اقتصادية هامشية ولا مجدية ولا منتظمة وحياة فكرية وثقافية متردية ومتراجعة وانهزامية.
بكل اختصار لا نستطيع أن نمارس ما نقتنع به، ولا نقتنع بما نمارسه، وعبارات عدم الرضى والقلق صارت من مفردات حديثنا اليومي في كل مناسبة، وعند كل لقاء. أضف إلى ذلك أن عامل عدم الثقة هو المتحكم في العلاقات جملة، فالشك بتصرفات الآخرين، يشكل الفرضية التي لابدّ من استحضارها عند تقويم أي عمل أو رأي أو فكرة أو موقف.
إن حالة عدم الثقة هذه ناتجة عن تراث كبير جداً من الإحباط والفشل والتآمر، والصراع أو التصارع، والوشاية والخذلان، إلى آخر ما في قاموس الخيبة من عبارات.
ومما يزيد في الخيبة أن هناك من يتوجه إلى الناس بخطاب يقدس كل ما كان في الماضي، ويرذل كل ماهو كائن في الحاضر. كالحديث عن استقامتهم وانحرافنا، وجهادهم وقعودنا، وإنفاقهم وبخلنا وطاعتهم ومعصيتنا وصلاحهم وفسادنا.
إن هذا الخطاب الذي يعمد إلى تفليس الحاضر لإغناء الماضي، يزرع الخيبة والإحباط ويؤسس لفشل دائم وضعف ثابت وواقع مكروه.
وإننا إذ لا نفترض سوء النية أو خبث الطوية عن من يتحدثون بهذا الخطاب، لأن من مقاصدهم حثّ الخلف على التمثل بالسلف والاقتداء بهم، إلا أن هذه السلفية قد عادت على المجتمع بأسوأ العواقب وزرعت في عقول الناس فهماً مفاده أن السابقين أبطال أما اللاحقون فعجزة، وذلك ناتج عن تضخيم الصورة وتكبير الهالة، وهذا ليس بالأمر الصحيح. فالصورة لم تكن كما كان الأصل وإن النقل من الماضي إلى الحاضر في هذا الخطاب، هو نقل انتقائي، مغيّر للواقع ومغيب للوقائع. فالواقع لم يكن كما يتحدثون عنه، والوقائع كما كان فيها المستحسن كان فيها المؤلم والمذموم.
إن هذه الانتقائية في النقل قد شوهت الصورة لدى العامة وأنصاف المثقفين، وأظهرت أن المجتمع الإسلامي الأول، مجتمع مابعد الرسول (صلى الله عليه وآله) قد تفوّق على بشريته ووصل إلى مستوى فوق بشري ودون الملائكي مع أن ذلك لم يكن صحيحاً، فإذا كان فيهم من استطاع الارتقاء بنفسه إلى مستوى تمثل القيم والاهتداء والاقتداء، فإن المجتمع والأفراد، لم يتفوقوا على بشريتهم ولم يكونوا على مستوى العصمة التي ينفي عنهم اسمها ويثبت لهم مضمونها، ولا على مستوى التجرد الكلي عن الأهواء والشهوات، وبالمراجعة للوقائع والأحداث ندرك ذلك، وندرك أن هذا الدين الإسلامي هو دين يخاطب البشر، ويصلح للبشر، ويهدف إلى تهذيب الطبائع البشرية وليس إلى تحويلها إلى طبائع فوق بشرية أو ملائكية أو كما يقال عقل دون شهوة.
لذلك نحن نرى أن من المسيء إلى مسيرة هذا الدين، تصويره وكأنه اقتلع من نفوس معتنقيه كل سيئات النفوس وحولهم إلى ملائكة أو اشباه ملائكة، ونعتقد أن رؤية الماضي بما كان فيه من أخطاء وحسنات جسدت واقعاً بشرياً حقيقياً، كان من الممكن أن يدفع بالفرد والمجتمع إلى تقييم مختلف، فيفرق بين الدين وأعمال البشر وبين الدين والفهم البشري للدين، لأن ربط الدين بالبشر، والقياس على أعمالهم، يجعلنا متعلقين بالأشخاص لا بالدين، وهذا ماهو حاصل، وهو الذي يؤدي إلى إضعاف تدبر الآيات، والى توارث الفهم للدين، تحول دون تطوير الفهم وتعميقه، وتقتل في الأمة ملكة الاجتهاد والتدبر والتفكر.
ثم إن هذه الانتقائية التجميلية تساهم بشكل كبير في تعميق أزمة الحرية لدى المسلم، لأنها في حقيقتها تخفي الحوار الحي الذي عاشته هذه الأمة، أي تخفي حوار الأعمال كما تخفي حوار الأقوال والآراء، عندما لا تنقل لنا منه إلا ما هو مهذب.
من هنا سادت لدى العامة وأنصاف المثقفين آراء فهمت أن هذا الإسلام الذي حول اتباعه من أجلاف غلاظ الطباع إلى أسود في النهار ورهبان في الليل، وإلى دعاة إلى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يصلح الناس تلقائياً، وأنه ليس علينا إلا أن نجر الناس إليه بشتى الطرق والوسائل، فالغاية هي المهمة وليس الوسيلة، والإسلام كفيل بـإصلاحهم، سواء اقتنعوا به أم لم يقتنعوا، فهو كالدواء المر للمريض قد يؤذي ولكنه يشفي.
وقد بلغت رغبة البعض ممن تروقهم هذه الانتقائية حد المطالبه بـإعادة كتابة التاريخ، ليحذف منه كل ما يطعن في قداسة الماضي، وليبدل بما يتوافق مع أهوائهم ونظرتهم المبنية على وهم النزاهة والنقاء.
وكأن إعادة كتابة التاريخ أمر سهل ومتيسر ومشروع، إن الدعوى لإعادة كتابة تاريخ هذه الأمة هي دعوة لتزوير التاريخ ليس إلا، وكم يكون أكثر صوابا لو اننا أعدنا قراءة التاريخ بأحداثه جميعا ثم عملنا على تحليل هذه الأحداث وعلى استفادة العبرة والموعظة والحكمة على كافة الصعد، الاجتماعية والسياسية والفكرية وغيرها. إذن لتكون لدينا فهم للتاريخ يعيننا على تجاوز أزمات الحاضر وعلى التخطيط لبناء المستقبل.
إن قمع التاريخ هو قمع للحاضر والمستقبل، وهذا القمع هو بعض مما يساهم في إيجاد وتعقيد أزمة الحرية، هذه الحرية التي لا تكون إلا مع العقل والإرادة المدركة الواعية.
إن هذا الموروث الذي أضفيت عليه القداسة جراء هذه الانتقائية بثقله على واقع المسلمين، يعيق كل حركة للفكر باتجاه استجلاء الحقائق، ونقد التجارب. لأن المفكر عندما يقترب في حركته الفكرية إلى حد توجيه النقد، أو إعادة محاكمة الأحداث، فسيرمي بالتهم المختلفة التي تجعله في حالة عداء مع مجتمع يسيطر عليه ذلك الموروث "المقدس" وفي حالة عداء أيضا مع مؤسسات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، تستند إلى ذلك الموروث في وجودها واستمراريتها، فهي ترتزق على ذلك الموروث التاريخي بكل مالكلمة الارتزاق من معنى، ولأن هذه المؤسسات لها من القوة في المجتمع المسلم ما يجعلها قادرة على تحريكه في كل اتجاه، فإنها تشكل بتدخلها حاجزا يحول دون جرأة العديد من المفكرين والعلماء في طرق أبواب هذا الموروث ووضعه على مشرحة الحقيقة، مشرحة الكتاب والسنة. وعرضه أمام الجمهور من أجل نقل حالة الوعي إليه، بهدف دفعه إلى التحرك والعمل من أجل واقع إسلامي يستفيد من وقائع التاريخ عبرا وأحكاما بعيدة عن التعصب لأشخاص وأفراد وأحداث ووقائع.
ولعل ساحة النخبة من المفكرين والعلماء قد أدركت حقيقة هذا الواقع وما يحمله التعرض لذلك الموروث التاريخي أمام العامة، فوجهت الخطاب إلى داخل ساحة النخبة وتركت ساحة العامة تحت تأثير وعاظ السلاطين أو طلاب السلطة والوجاهة والمكانة في المجتمع، يمارسون انتقائيتهم التي تحقق مصالحهم وتزيد في تعقيد الواقع الإسلامي بمذهبيات منغلقة على ذاتها وبتحويل بعض رموز الصدر الأول من حياة الدعوة في أذهان الناس إلى حالة وثنية.
إن هذه العصبيات تحول دون الوصول إلى حالة من الحرية، في قراءة ونقد التاريخ لأنها كما تكبل صاحبها وتمنعه من رؤية الحقيقة حيثما كانت، فهي تكبل الآخر عندما تشكل حاجزاً يحول دون التلاقي والحوار، وتسد على الطرفين المنافذ، كما أن بقية الأمور التي ذكرناها لا تقل أثراً في نفي الحرية بما هي التزام بالقناعة.


المبحث الرابع - القرآن الكريم ورفض الانتقائية
لقد تحدث القرآن الكريم عن جملة أحداث حصلت إبّان عهد التنزيل، وأنزلت في تلك الأحداث آيات عالجت الموقف، وبينت مدى صحة الفعل، أو انطباقه على المصلحة، أو المبادئ التي نادى بها الإسلام.
وتلك الأحداث إما أن تكون عملاً قام به الرسول(صلى الله عليه وآله) وإما أن تكون عملاً قام به المسلمون عامة أو أفراداً.
لقد عالج القرآن الكريم الأحداث وبيّن أنها أخطاء ما كان ينبغي لمن فعلها أن يفعلها، ولم يتجاهل الخطأ ولم يغض الطرف عنه. وقد جاءت هذه المعالجة لتؤكد بشرية هؤلاء المسلمين، وبشرية الرسول (صلى الله عليه وآله)، فكما كانت لهم مواقف عظيمة ورائعة، كانت لهم مواقف علّق عليها القرآن الكريم بما يتناسب وبشرية اصحابها.
فعندما أعرض الرسول(صلى الله عليه وآله) عن ابن أم مكتوم "الأعمى" والتفت إلى كبار القوم يطمع بـإسلامهم، منطلقاً من اجتهاد بشري بأن إسلام عليّة القوم يجر معه إسلام أتباعهم، جاء التنزيل الحكيم ليقول: (بسم اللّه الرحمن الرحيم. عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزّكى، أو يذّكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى. فأنت له تصدّى. وما عليك ألاّ يزّكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهّى. كلا إنها تذكره. فمن شآء ذكره. في صحف مكرّمة. مرفوعة مطهرّة. بأيدي سفرة. كرام بررة)(10).
لقد فهمنا من هذه الآيات الكريمة أنه لا اعتبار عند اللّه للغنى والفقر في مسألة الإيمان، لأن المهم هو ذات الإنسان بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو الصحي أو البدني، فالإنسان الذي يُقبل على الإيمان، ويسعى إليه، هو المقدم على من أعرض واستغنى، لأن فعل الإيمان إنما هو تزكية للنفس، وهذه الرسالة هي رسالة تذكرة النفوس، "فمن شاء من الناس ذكره".
فعلاج القرآن للمسألة جاء ليفيد الواقع الرسالي بتثبيت هذا المفهوم، وليفيد كل داعية إلى اللّه على مرّ العصور والدهور، بأن يتعامل مع الناس على أساس إيمانهم وليس على أساس العوارض الأخرى الاجتماعية أو المالية أو السياسية، فرب فقير أعمى أنفع للدعوة وأنفع لنفسه وللناس من غني مبصر.
كذلك جاء التنزيل القرآني في تعليقه على ماحصل يوم حنين ويوم أحد، قال تعالى: (أولمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم. إن اللّه على كل شيء قدير)(11).
وفي حنين قال: (ولقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة. ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)(12).
وقد قيل إن أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فكأن الذي سرى في نفس أبي بكر وعبّر عنه بلسانه قد سرى في نفوس الجيش، فأراد اللّه تبارك وتعالى أن يبين للمسلمين أن مسألة الكثرة والقلة في المواجهة مسألة جزئية، وأن الاعتماد على كثرة كثيرة الوهن، كما كان حال المؤلفة قلوبهم يوم حنين، لا يعطي نصراً، ولعل مقارنة بين قلة بدر وكثرة حنين، وما تمتع به كل طرف، تظهر أن كتلة يوم بدر قليلة العدد كثيرة الإيمان، هي أقوى من كثرة حنين التي اختلط فيها الغث بالسمين.
فكان إثبات ذلك في آيات القرآن الكريم ليكون درساً للواقع أيام الرسالة ولما يأتي بعدها إلى قيام يوم الدين.
لماذا لم يغفل القرآن الكريم هذه الأحداث، وأشار إليها وعالجها وبين الوجوه فيها من خطأ وصواب؟
الجواب، واللّه أعلم، أن القرآن يريد للأمة أن تتعلم من أخطائها ومن تاريخها لتصحح مسارها، ولتستفيد العبرة والحكمة، فلا تكرر أخطائها.
وهذا ما يجب أن نستفيده من تاريخنا عندما نعيد قراءته على أساس أنه تجربة بشرية لهذا الدين، والمعروف أن تكرار التجارب مع تقنينها يعطي نتائج أفضل في كل تجربة جديدة، فإنسان مسلم يستفيد من التجارب السابقة يجمع من حسناتهم إلى حسناته ويتفادى الوقوع فيما وقعوا فيه من أخطاء، أليس يفترض أن يكون أكمل التزاماً؟
لعله من المفيد أن لا نخفي أننا نختزن في أفهامنا وموروثنا الفكري والثقافي أن النسخة الأولى من المسلمين هي النسخة المثلى والأعظم والأرقى، وهي التجربة السليمة، بل الأسلم، وربما كان ذلك لأنها تعتبر القدوة، ونحن مأمورون بأن نقتدي بالرسول (صلى الله عليه وآله) هو القدوة المثلى دون أدنى ريب، ولكن فيما يتعلق بالأمة بعده، وبغض النظر عن مكانة الأفراد، هل نستطيع أن نعتبرها قدوة؟؟؟
هناك حديث ينسب لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بقوله: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم" ولعل هذا الحديث هو المستند الأكبر للقول بأن أول الأمة خير من آخرها، وهذا المتبادر من ظاهر الحديث، ولكن أليس هناك أحاديث أخرى تشير إلى فضل للآخرين على الأولين(13)، لعل هذا يحتاج إلى مزيد نظر وتمحيص، وإعادة قراءة، وتدبر وفهم، وخصوصاً قول اللّه تبارك وتعالى: (ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين)(14).
المبحث الخامس - طبيعة الاستبداد
مع أن الإسلام دين السماحة واليسر، وأنه دين رفع الحرج ودفع المشقة، إلا أن تاريخ الإسلام السياسي ليس على ذلك القدر من السماحة واليسر، بل على العكس من ذلك إذا ما تجاوزنا مرحلة الخلافة الراشدة التي تميزت بنوع أو بأنواع مختلفة من الشورى، وبخلفاء آثروا أن يسترشدوا بالهدي النبوي في تسيير شؤون الأمة والدولة، إلى العهود التالية من أموية أو عباسية أو عثمانية بكل ما وشى تلك الدول من فسيفساء القبلية والعرقية والطوائفية، فسنجد أن السمة البارزة لكل تلك العهود، هي سمة القهر والاستبداد، حيث انقلبت الخلافة إلى ملك عضوض، وانتهى كل أثر للشورى وصارت البيعة رهينة حدين حدّ السيف أو حدّ الذهب، فمن لا يقهر بالمال يقهر بالسيف والقتال.
وهكذا سارت الأمور، ثم وجد من يبرر كل هذا الانحراف والابتعاد عن الهدي النبوي والتجربة الراشدية، حتى لقد أعطى أبو الحسن الماوردي صفة الشرعية لكل طريقة من طرق الوصول الى الحكم منذ وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) والى آخر خليفة في عصره، رغم أنه ما من خليفة أو أمير أو ملك وصل إلى الحكم إلا بطريقة تختلف عمن كان قبله، إلا أن الجميع بعد عصر الراشدين قد وصلوا بطريق الغلبة والقهر إلا النفر اليسير منهم الذين كانوا كومضات مضيئة في هذا التاريخ الكثير السواد.
لذلك صار راسخاً في أذهان عوام المسلمين وأنصاف المثقفين أن القهر والاستبداد سبيلان مشروعان للوصول إلى السلطة.
بالإضافة إلى ذلك فقد ساهم التفسير الرائج لمسألة الشورى وهل هي ملزمة أم لا، والذي يجيب على المسألة بأن الشورى غير ملزمة، ساهم هذا التفسير في ترسيخ أن من حق الأمير أو الحاكم أن يستبد وأن ينفرد بتقرير ما يراه مناسباً، وأن الخروج على الحاكم الباغي المستبد غير مباح.
وهذا الرضى باستبداد الحاكم الناشئ عن هذا التراكم التاريخي من الاستبداد والظلم، يجد مبرره في شعور الناس بأن الحاكم هو الذي يدافع عن أرض الإسلام، ويحمي بيضته، لذلك من الواجب الرضى، من أجل أن لايكون رفض الحاكم أو رفض أفعاله معطلاً لمسيرة الجهاد في سبيل اللّه التي لا تنطلق ولا تستمر إلا بوجود الحاكم.
من أجل هذا أعطى شرف الأمة للمقاتلين من الحكام وللفاتحين من القادة، وكم من حاكم ارتكب من الظلم والقهر بحق الأمة مالايحتمل، غفرته له مواجهاته مع الغزاة وانتصاراته عليهم.
هذا الطبع الاستبدادي يمنع من إقامة حوار مثمر داخل هذه الأمة ويعرقل مسألة إيجاد سبل من أجل الخروج من أزماتها، لأن المستبد لا يرى رأياً غير رأيه ولا فكراً غير فكره، وعندما يدخل في حوار مع الآخرين فإنه لا يدخله بداعي البحث عن الحقيقة للوصول إليها مع الآخرين، بل يدخل الحوار بزعم أن الحق عنده وماعليك إلا أن تفتح عينيك لتمسك به، لذلك هو يسعى ليرشدك الى الحق الذي عنده لا ليرى الحق الذي عندك.
وليس بخاف أن أنظمة الحكم في معظم البلاد الإسلامية هي أنظمة استبدادية، تمارس القمع ضد القوى السياسية والاجتماعية التي تشكل خطراً أو لتكون بديلاً في يوم من الأيام، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر ومنها تركيا: الجنرالات وحزب الرفاه ثم الفضيلة وقبله السلامة الوطني. الجزائر: الجيش والجبهة الإسلامية للإنقاذ. باكستان: الحزب الإسلامي + الجيش وبي نظير بوتو. ماليزا: مهاتير محمد وأنور إبراهيم.. مصر: السلطة والجماعة الإسلامية.. الخ.
هذا الإستبداد السياسي يضع هذه الأنظمة على خط العداء مع القوى السياسية، وتنطلق المنظمات والجماعات في مواجهات مع هذه الأنظمة لمحاربة استبدادها.
ولكن بالرجوع إلى أدبيات هذه المنظمات والجماعات والى الأفكار التي يطرحها قادتها وأمراؤها تجد أن معظم المنظمات الساعية لمحاربة الاستبداد لاتقدم طروحات تحمل وعوداً بالحرية، وإنما وعداً باستبداد آخر، يختلف عن الأول في المنطلق ولا يختلف معه في النتيجة، لأن طلاب التغيير هؤلاء، لا يرون طريقة لإيصال قناعاتهم إلى الناس إلا بفرضها عليهم، على سبيل الثأر مما كان، والانتقام ممن سلف، وهذا بعيد جداً عن الفهم الإسلامي المنسجم مع الفعل النبوي والهدي القرآني.
فأزمة الحرية في هذا الواقع أنها وسيلة إلى الاستبداد، وليست هدفاً بحد ذاته، ومجتمع تسيطر عليه طبيعة الاستبداد لا يمكن أن يصل إلى الحرية، وأفراد يطمح كل واحد منهم ليكون "مستبداً عادلاً" لا يمكن لهم أن يصيروا من أبناء الحرية.
إن مقولة: "المستبد العادل" هي مقولة تستند إلى مفهوم مفاده أن هذا المجتمع مجتمع منحرف، وانه لا يمكن أن يستقيم على الصراط إلا بقوة حاكم مستبد، يجبرهم على الاستقامة بهيبته وقوة سيفه، ويكرههم على الطاعة بسلطانه، ويكون عادلاً فيهم، كالراعي في الغنم. وهنا يخطر السؤال: أهذا هو المجتمع المسلم الذي دعا إليه القرآن الكريم والذي أسس له محمد(صلى الله عليه وآله)، أم أنه مجتمع العبيد والأرقاء.
إن اللّه تبارك وتعالى قال: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)وهذه المقولة أو الدعوة ليست من الإسلام في شيء، بل هي دعوة مخالفة لكل آية من آيات كتابه ولكل حديث من أحاديث نبيه. ولهذا لا معنى لأمة تكره على دينها وعلى أخلاقه ومبادئه. فالإيمان تسليم قلبي خالص والإسلام تسليم بالجوارح مستند إلى ذلك التسليم القلبي، والمسلم الذي نريده، نريده حراً يقبل على الإسلام بقلبه وعقله، لا المسلم الذي يجلبه إلى الإسلام رهبة حاكم أو طمع في مصلحة دنيوية.
إن الذين يريدون الوصول إلى إسلام يقيمه مستبد عادل، هم في الواقع من يريدون اختصار الطرق، وحرق المراحل، وهم العاجزون في حقل الدعوة، الضعفاء عن القيام بها، لفقر في الهمّة والجهد والعلم والصبر.
قال تعالى: (فذكّر إنّما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)(15).
وقال أيضاً: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)(16).
ألا تدلنا هذه الآيات على أن اللّه لا يريد من الناس إيماناً أو استسلاماً قائماً على الاستبداد ولو كان هذا المستبد هو أعدل الخلق، رسول اللّه(صلى الله عليه وآله).
المبحث السادس - الحرية والفوضى
إن الحرية لا تكون حرية إلا في حال اتساق الفعل مع القيم الاجتماعية، إذ انه لابد من الاعتراف بنوع من القيود، وهذه القيود يجب أن تكون من ضمن القناعات أو متوافقة معها، أي أن الإنسان يرى في هذه القيود مصلحة بالمعنى الكلي للمصلحة، وهذا المعنى لا يمكن أن يكون ناتج فكر فردي، وإنما هو ناتج الفكر الجماعي أو الجمعي، وهو ما يتجسد في القيم التي تكون محل احترام وتقدير المجتمع.
أما الفوضى فهي ممارسة إرادة مخالفة للقيم، بحيث تدفع هذه الإرادة صاحبها للخروج على القيم الاجتماعية، بما يؤدي إلى اضطراب الواقع الاجتماعي، والإحساس بخروج الفرد على إرادة المجتمع. فالفرق بين الفوضى والحرية أن الأولى ممارسة إرادة مخالفة لقيم المجتمع المحترمة، وأما الثانية فهي ممارسة للقناعة ضمن احترام قيم المجتمع.
وبمعنى آخر إن الحرية قد تؤدي إلى مخالفة إرادة المجتمع، ولكنها لا تخالف قيمه. أما الفوضى فهي التي تخالف إرادة المجتمع وتخالف قيمه.
وبهذا المنطق فإن كثيراً من الممارسات التي تحصل تحت عنوان الحرية هي في الواقع فوضى، لأنها بخروجها على قيم المجتمع تؤدي إلى اضطراب الواقع الاجتماعي وتهدد بنيان القيم، ويدخل تحت هذا العنوان ممارسة الشذوذ الجنسي واتّباع الصرعات التي تقوم على التمرد لمجرد التمرد.
ومما لاشك فيه أنه بسبب عدم قدرة البعض على تمييز الفرق بين الحرية والفوضى يلتبس عليهم الأمر، فيؤدي هذا الالتباس إلى رفض الاثنين معاً، وهذا سبب من أسباب أزمة الحرية في مجتمعنا المسلم.
المبحث السابع - الحرية والتقوى
ربما كان للالتباس الذي ذكرناه آنفاً بين الحرية والفوضى، أثر في اعتبار البعض أن هناك تعارضاً بين مفهومي التقوى والحرية.
فإذا كان مفهومنا للحرية هو ممارسة القناعة ضمن احترام القيم الاجتماعية، فقيم المجتمع المسلم هي قيم الإسلام دون أدنى ريب.
فما هو مفهوم التقوى؟ إن مفهوم التقوى من المفاهيم الإسلامية الأساسية ولا يكاد يوجد اختلاف حول مفهوم التقوى، فإذا رجعنا إلى تعريف القرآن للمتقين نجد أن المتقين هم الذين يؤمنون باللّه وما أخبر عنه من غيب ويلتزمون بأوامر اللّه وينتهون عن نواهيه، ويتخلقون بالأخلاق التي يحبها، قال تعالى: (ليس البر أن تولّوا وجوهكم قِبل المشرق والمغرب. ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب. وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)(17).
ولعل حديثاً منسوباً للإمام علي (كرم اللّه وجهه) يحدد ماهي التقوى، فقد سئل عن التقوى فقال: "التقوى هي مخافة الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
وحديث آخر منسوب لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يسأل فيه عن التقوى فيقول للسائل: "أرأيت لو كنت تسير في حقل فيه أشواك ماذا كنت تفعل؟ فيجيبه السائل أجمع ثوبي هكذا وهكذا وأشار إلى كيفية سيره بين الأشواك، فقال له عمر(رضي الله عنه): كذلك هي التقوى". ومعناه أن المتقي هو الذي يسير في هذه الحياة ويحذر أن تصيبه أشواك المعصية.
ويعرّف د. محمد خاتمي التقوى فيقول: "فالتقوى سلوك إنساني تجاه اللّه سبحانه وتعالى، ولها حينئذ دلالتها ومعناها، ولكنها أيضاً توجد على مستويات أخرى، فهي في المجتمع سلوك الإنسان تجاه الإنسان"(18).
ونستطيع القول: إن التقوى بما هي سلوك إنساني يبتغى به رضى اللّه فإن لها أبعاداً تطال ذات الإنسان وتطال الإنسان الآخر، فرداً ومجتمعاً، وتطال بقية المخلوقات، فهي بهذه الأبعاد تتحقق، والانتقاص من بعد واحد منها يؤدي إلى تقوى ناقصة مشوهة، والتقوى الناقصة المشوهة تساوي اللاتقوى، لأنها تعني أخذاً ببعض الكتاب وترك بعضه الآخر، وهذا جزاؤه خزي في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
فإذا كان هذا هو مفهوم التقوى فهل هناك تعارض بين التقوى والحرية؟
إن الذي نعتقده أن التقوى هي كمال الحرية، لأن المتقي عندما يمتنع عن فعل المعصية، أو يفعل الطاعة، فإنه يمارس قناعته التي يؤمن بها وبأنها خير له من سواها، وهذا هو عين مفهومنا للحرية.
أضف إلى ذلك أن التقوى حرية ذات بعدين; بعد داخلي وبعد خارجي، أما البعد الخارجي فهو التزام القناعة وممارساتها تجاه الآخرين دون الخضوع لضغوط الخارج أو قيوده المخالفة للقيم.
وأما البعد الداخلي فهو التزام القناعة وممارستها دون الخضوع لضغوط الداخل أي دون الخضوع لضغوط النفس من أهواء ورغبات ونزوات وغرائز، إلى آخر ما هنالك، وهذا ما يطلق عليه مصطلح الفلاح(19).
فإذا كانت الحرية كما يراها الآخرون تعني عدم وضع حد للميول والغرائز من الخارج، فإن الفلاح هو عكس الحرية، لأنه يضع القيود على الميول والغرائز من الداخل، وبمعنى آخر فإن مفهوم التقوى والفلاح هو مفهوم واحد، يعني الوصول إلى الحرية أو التحرير من ضغوط الخارج والداخل، من الغضوط التي يمارسها الآخرون، ومن الضغوط التي تمارسها النفس على صاحبها.
إن التقوى هي التزام بالإسلام أمراً ونهياً، وأخلاقاً وآداباً، فهل يعتبر الالتزام الصادر عن إكراه أو ضغط تقوى؟ بالتأكيد لا يعتبر تقوى إلا الالتزام النابع من القناعة الذاتية للفرد، ومن هنا نقول إن التقوى بدون حرية، إنما هي مراءة أو تقية.
المبحث الثامن - حاكمية اللّه والديمقراطية والأغلبية
الحاكمية للّه، مسلّمة اتفق عليها معظم الفقهاء وأهل الاختصاص من المسلمين، وأدلتهم على ذلك من الكتاب كثيرة ومنها قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليما)(20).
ويتفق المسلمون على أن اللّه هو المشرّع وأنه ليس لأحد أن يشرع سوى اللّه.
وبالمقابل تشتد المعارضة للديمقراطية في صفوف هؤلاء، باعتبار أن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، فالحاكمية بحسب هذه النظرية هي للشعب، وبالتالي فإن الشعب هو المشرّع، وهو الذي يقرر المبادئ التي يحتكم إليها ويحكم بها.
وبتعريف شامل للديمقراطية نجد أنها "هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية، والمساواة السياسية بين الناس، وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر، له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه"(21).
وفي نظر هؤلاء فإن السيادة للّه وليس للشعب، لهذا فإنهم يرون أن الديمقراطية تتعارض مع الإسلام، وفي الوقت ذاته يجمع المسلمون على أن الإسلام يدعو إلى الأخذ بمبدأ الشورى في كل شأن عام.
فهل تتعارض الديمقراطية مع مبدأ حاكمية اللّه؟ وما هي أبعاد مبدأ حاكمية اللّه؟
إن مبدأ حاكمية اللّه يستند إلى أن الحكم في الدولة الإسلامية يخضع للشرع الإسلامي، ولكن الشرع الإسلامي، وكما هو معروف قسمان، وهذا التقسيم مرجعه اختلاف النص، لأن النص وكما يعرفه الأصوليون منه ما هو قطعي الدلالة وهو الذي لا يحتمل التأويل لعدم احتماله لأكثر من معنى واحد في الوضع اللغوي. ومنه ماهو ظني الدلالة، وهو المشترك في المعنى، أي أن النص يحتمل أكثر من معنى، وهذا ما يتفق الأصوليون على أنه يقبل الاختلاف وتعدد الآراء فيه، بالإضافة إلى أن هناك أسبابا عديدة أخرى تشكل عذراً لاختلاف الفقهاء لامجال لذكرها في هذا البحث، وهذا يعني أن الشرع الإسلامي كان عرضة في القسم الأكبر منه لتدخل الفهم البشري، ولهذا كان الفقه في الإسلام من الاتساع والتنوع بحيث يعتبر مادة غزيرة جداً، بسبب كثرة الفقهاء واختلاف الافهام.
ويدعو كثير من العلماء المعاصرين إلى التمييز بين الدين وبين فهمنا للدين، أي بين النص وبين فهمنا للنص، على اعتبار أن فهمنا للنص تدخل فيه كثير من العوامل الشخصية أو المصلحية، مما قد يحرف فهم النص عن مقصد النص، وهذا احتمال ممكن الحصول، كما أن إصابة مقصد النص أمر ممكن أيضاً، ولكن تبقى مسألة البت بالتصويب والتخطيء، حيث لا يستطيع بشر ادّعاء المرجعية في ذلك.
وقد اختُلف كثيراً في مسألة هل أن الحكومة شأن ديني ينظمه الشرع; أم هي شأن دنيوي موكول إلى الناس. أضف إلى ذلك أنه ليس هناك شكل واحد متفق عليه بين الفقهاء والمفكرين الإسلاميين للحكم الإسلامي، ولا شرائط مخصوصة متوافق عليها، لأن الفهم الموحد والرؤية الموحدة للإسلام غير موجودين(22) .
فالتوصل لحل هذا الإشكال مرهون بتوحيد الفهم والرؤية للإسلام.
ولكن الجميع يسلمون بأن الإسلام قد وضع قواعد عامة يمكن من خلالها وضع التفاصيل لمجمل المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدستورية، وأن النصوص الأساسية من قرآن وسنّة لم تعالج كثيراً من التفاصيل، ويرون أن ذلك هو سبب مرونة هذا الدين، المؤدية إلى القول بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
ويعتقد بعض المفكرين أن الحكومة أمر مفوض للناس، والدين قد رسم القواعد الكلية والضوابط العامة للنظام السياسي، إلا أن تحديد ما يناسب هذه الأمور أو مالا يناسبها موكول إلى الناس، كما وأن قيام الحكومة واستمرارها يتبعان إرادة الناس ورغبتهم. أما إذا اعتقدنا بأن لا دور للناس سوى أن يكونوا تابعين، أي لو قلنا بأن اللّه قد عين شكل الحكومة والحاكم أيضا، وأن الناس مكلفون بالطاعة حصرا، فإن شكل الحكومة وظروفها والحاكم أيضا، كل ذلك سيختلف، كما سيختلف الميزان الذي يزن حقوق الناس وستتفاوت الحريات أيضاً (23).
إن الديمقراطية ليست دينا، إنها نظرية تكفل آلية تحاكم، تظهر من خلالها إرادة المجتمع. وتضمن الخضوع لهذه الإرادة، ومع الإقرار بأن هذه الآلية غالبا ما تكون مضطربة في الافهام ويشوبها الخلل في التطبيق بسبب تدخل المصالح والضغوط المختلفة، إلا أنها إذ سلمت من العيوب، ليست متعارضة مع مبادئ الإسلام التي تأمر بالشورى والمساواة والعدالة، كآلية لتحديد اتجاه الأغلبية في كل قضية، مع الإشارة إلى أن الأسس الفلسفية للديمقراطية التي يتعلل بها الرافضون للديمقراطية في رفضهم، لا تشكل خطرا في مجتمع مسلم يستند الى الإيمان في فهمه للحياة.
فما هو مبرر خوف الخائفين من المسلمين من ترك الإرادة لعامة الناس تختار ما يناسبها ضمن الضوابط الإسلامية في ظل مجتمع مسلم.
إن خوف هؤلاء يستند إلى نظرة سائدة مفادها أن المجتمع عادة أو غالبا ما يختار لنفسه ما يرضي الشهوات ويتعارض مع القيم السليمة، ويفسرون قوله تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)(24) على أنه رفض لمبدأ الأغلبية، وكذلك أيضا قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللّه)(25).
ولكن هل يسري هذا التفسير على جماعة المؤمنين خصوصا في مسألة السياسة والحكم؟
إن تعميم هذا التفسير بحيث إنه يجعل كل أغلبية أميل إلى الكفر منها إلى الإيمان، أو أنها مضلة هو أمر خطير جدا، لأن مؤدى ذلك الحكم بفسق أو كفر أو ضلال أكثرية المؤمنين. ونحن نرى أن أغلبية المؤمنين على صواب، وهناك فارق بين أغلبية المؤمنين وأغلبية الناس، لأن كلمة الناس تشمل المؤمن والكافر.
فإذا كان المجتمع مؤمنا بالإسلام فلن يختار سواه شرعا، أما إذا كان المجتمع يرفض الإسلام ولا يؤمن بمبادئه، فإن الواجب عندئذ السعي من أجل دعوة هذا المجتمع لقبول الإسلام والإيمان بمبادئه، بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحجة المقنعة، والبرهان الواضح، ولهذا تكون الأولوية، وفرض إسلام أو حكم إسلامي على الناس بالقهر والإكراه لا يؤدي إلى إقامة مجتمع مسلم، لأن المجتمع المسلم هو المجتمع الذي يختار طوعا أن يكون تحت حاكمية اللّه تعالى.
وإن من أسباب أزمة الحرية عندنا هو عدم إيماننا بصواب حكم الأغلبية المؤمنة وهذا ما يدفع القائلين بعدم صوابية حكم الأغلبية، للعمل على مصادرة الحرية من أجل الإمساك بالقرار والتحكم بالمصير، قرار الأمة ومصيرها.
ونعود إلى مسألة التشريع; فاللّه تعالى هو المشرع، وهذا قول لاجدال فيه، ولكن لابد من طرح سؤال هام وهو: هل أن اللّه هو المشرّع، بمعنى أنه يملي على الناس حتى التفاصيل الصغيرة لكل أمر؟ أم أنه مشرع بمعنى أنه تبارك وتعالى قد بيّن القواعد العامة الكلية للناس، في آيات كتابه وأن على الناس أن يضعوا التفاصيل بالاستناد إلى هذه القواعد؟
إن القول بأن اللّه تبارك وتعالى لم يترك للناس حق التشريع هو كلام بحاجة إلى بحث ومناقشة.
إننا نتفق مع القائلين بأن المشرّع هو اللّه، بمعنى أن اللّه تبارك وتعالى قد شرّع الأسس والقواعد العامة الكلية التي تندرج تحتها كل القضايا الإنسانية، بل والكونية بشكل عام، ومنها العدل والمساواة والشورى والتعاون ورعاية المصلحة.. إلى آخره، ولكنه ترك للناس أن تجد الوسائل الناجعة لتحقيق هذه الغايات الكبرى.
 فالعدل غاية كبرى، ولكن آليات إقامة العدل غير محددة وغير محدودة، وتستطيع الأمة أن تشرّع، أي أن تضع التشريعات والقوانين التي تحدد الآليات التي يمكن من خلالها إقامة العدل على الوجه المطلوب، كإنشاء المحاكم وتحديد هيئاتها، ودرجاتها، وأيضا إيجاد الهيئات التي تكفل تحقيق العدالة في النواحي الأخرى، غير القضائية.
وإقامة الشريعة بشكل عام هدف أسمى، وعلى المجتمع أن يجد الوسيلة التي تعين على إقامته، ولابد لذلك من إقامة الدولة بكافة أجهزتها وسلطاتها، ولكن ليس هناك شكل محدد للدولة يجب الالتزام به والأمر في هذه الناحية متروك للأمة، التي تقع على عاتقها مسؤولية تحديد الشكل الأكثر مناسبة، والأكثر ضمانا من أشكال الدولة.
فلابد هنا أيضا من إيجاد التشريعات التي تحدد شكل الدولة وهيئاتها وصلاحياتها، تحت العناوين التي تشكل الغايات الكبرى وهي: العدل والمساواة والشورى والتعاون ورعاية المصالح وحفظ الكليات الخمس التي تحدث عنها الشاطبي وغيره وهي: حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل.
ونحن نرى أن التشريع قسمان:
القسم الأول: تشريع الكليات، ويتضمن ماورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة، من مبادئ كبرى، وغايات عظمى، والحلال والحرام، وهذه ثوابت لا يستطيع أحد أن يغير حكمها، كائنا من كان.
القسم الثاني: تشريع فرعي وهو المتعلق بالقضايا المتغيرة والمتحولة، التي تخضع لظروف الزمن والبيئة، كتحديد آليات تحقيق المبادئ الكبرى والغايات العظمى، ومنها شكل الحكم والمؤسسات وصلاحياتها. وهذا القسم من التشريع أمره موكول للأمة، تقوم به مع المراعاة التامة للقسم الأول، بحيث يكون الأول حاكما على الثاني.
وهذا ليس بدعا في عالم التشريع، إذ ان معظم دساتير العالم تنص على عدم جواز مخالفة القواعد القانونية العادية للقواعد الدستورية العامة.


المبحث التاسع - مفهوم المعارضة السياسية
إن الحاكم أو السلطة من الأمور التي يتنافس الناس للإمساك بها، وهي مصنفة بالنسبة إلى الفرد من الشهوات، أي أنه ما من إنسان إلا وتطمح نفسه لنيل هذه الشهوة، والبعض قد يريد السلطة للتحكم بالناس ولأنها خير مساعد له على الوصول إلى بقية الشهوات، أما البعض الآخر فمنهم من يريدها لنشر فكرة أو رأي أو نظرية أو لتسويد دين أو مذهب، ومنهم من يرى في الإمساك بالسلطة سبيلا لنشر العدالة ومنع الظلم وإقامة المساواة وحسن توزيع الثروات وتأمين الحقوق والحريات.
غير أنه ما من طالب للسلطة إلا ويدعي أنه يسعى لإحقاق الحق، وإزهاق الباطل، وإقامة العدل بين الناس.
وتعترف أنظمة الحكم الديمقراطية المعاصرة بحق المعارضة في الوجود، ويذهب معظم السياسيين من مفكرين وعاملين إلى القول بأن المعارضة إذا لم تكن موجودة فإن من الواجب إيجادها. وفي البعد النظري فإن الدفاع عن حق المعارضة في الحضور السياسي هو مسؤولية كل فرد يؤمن بالديمقراطية، ذلك أن المعارضة هي المراقب الدائم والمستمر لأداء الحكّام القائمين على السلطة، فهي تدرس خططهم وتقوّم أعمالهم وتنتقد الممارسات التي تتعارض مع القوانين والأنظمة ومع مصالح الدولة والمجتمع. أو بعض فئات الشعب، فهي بهذا تمثل مؤسسة في الدولة والمجتمع. أو بعض فئات الشعب، فهي بهذا تمثل مؤسسة في الدولة والمجتمع تحد من الممارسة الخاطئة للحاكم، وتحد من طغيانه وتفرده.
والمعارضة في حقيقتها طبع بشري، يميل إليه الفرد في كل حالة يكون فيها بعيدا عن مركز القرار، أو عن الاستفادة من واقع قائم، كما أنها سبيل من سبل الدفاع عن الذات والمصالح، وفي النهاية هي التعبير عن عدم الرضى، سواء كان حقيقيا أو مصطنعا.
وقديما قيل: "نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام، هذا إن عدل" ومفاد هذا القول الشائع أن الأحكام إذا جاءت لمصلحة فئة فهي على حساب فئة أخرى، ففئة رابحة راضية وفئة خاسرة ساخطة.
فهل المعارضة مقبولة إسلامياً؟ أم أن الإسلام يرفض مبدأ المعارضة السياسية؟
يذهب البعض إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة المسلم في هذه الحياة، وأن المسلم يجب عليه النصح للّه ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
كذلك من واجب المسلم أن يرفع الصوت في وجه الحاكم الجائر مهما كانت النتائج، وقد حث على ذلك حديث النبي (صلى الله عليه وآله): "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى ذي سلطان جائر فنصحه فقتله".
يذهب بعض أمراء الجماعات الإسلامية إلى أن المعارضة في الدولة الإسلامية من الأمور المحظورة، ويستدلون على ذلك بحديث رواه عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما عن الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) يقول: "من خلع يدا من طاعة، لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية". رواه مسلم.
وتدل الوقائع التاريخية على تهافت هذا الزعم لجهة أن المعارضة محظورة في الدول الإسلامية، ولجهة أن المقصود من الحديث الذي رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما إنما هو بيعة كل حاكم يتولى الإمارة في الدولة الإسلامية.
فبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) اختلف المهاجرون والأنصار فيما بينهم حول أحقية كل فريق منهم بالخلافة، كما اختلف المهاجرون فيما بينهم حول من هو الأحق بأن يكون خليفة منهم، ولم تنته تلك الخلافات ولا آثارها بتولي أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) للخلافة.
فقد رفض علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مبايعة أبي بكر والتف حوله رهط من بني هاشم يريدونه الخليفة على المسلمين، واستمرت هذه المعارضة زهاء ستة أشهر وقد جرت حوارات عديدة بين علي (رضي الله عنه) وبين أبي بكر (رضي الله عنه) والمؤيدين له، لم تفلح في ثني علي عن موقفه وحسم أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) الأمر بتسليمه بحق علي (رضي الله عنه) في المعارضة وعدم البيعة وذلك عندما قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، لعلي (رضي الله عنه): لست متروكا حتى تبايع، فتدخل أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) قائلا لعلي(رضي الله عنه): "إن لم تبايع فلا أكرهك".
واستمر علي في معارضته، ولم يبايع إلا عندما هدد خطر القبائل المرتدة عن الإسلام وحدة الدولة وهدد مدينة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، فنهض بدوره في تحصين المدينة وحراستها وحمايتها، فكانت بيعته ذات بعد سياسي، ينم عن فهم راق لطبيعة المعارضة ومدى إمكانية التمسك بها عندما يتهدد الخطر الأصل الذي قامت المعارضة من أجل صلاحه والحفاظ عليه وهو الدولة المسلمة، المعبرة عن المجتمع المسلم الذي يحتضن الإسلام، وهذا هو المستفاد من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(رضي الله عنه): "لأسالمن ما سلم الإسلام".
وإذا كانت معارضة علي (رضي الله عنه) لخلافة أبي بكر (رضي الله عنه) قد انتهت بعد مدة وجيزة، فإن هناك من المعارضين من وافاه الأجل وهو رافض لأن يبايع خليفة، وهذا هو الصحابي الجليل سعد بن عبادة (رضي الله عنه) يرفض اعطاءه البيعة لأبي بكر(رضي الله عنه) ومن بعده لعمر (رضي الله عنه) ولم يحدث أن أكرهه أحد على البيعة أو حكم بخروجه من ربقة الدين2.
وصور المعارضة لا تتوقف عند هذين الصحابين، بل تتعداهما إلى سواهما، فهذا أبو ذر الغفاري يثير معارضة جادة لممارسات الخليفة وبعض ولاته خصوصا في الناحية المالية ويصل الأمر إلى حد نفيه داخل الدولة الإسلامية من مكان إلى آخر، ولم يستطع الخليفة أن يحكم على أبي ذر بالمروق أو الخروج عن الإسلام.
والمعارضة كما تصح من الفرد، فإنها تصح من الجماعة، بمعنى أنه ليس من المحظور قيام الجماعة المعارضة المنظمة. بل إن الآية الكريمة تحض على أن تكون هناك جماعة تمارس هذا الدور بقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)(27)، وهذا هو مفهوم المعارضة الجادة والهادفة وليس المعارضة العبثية أو الصورية، كالتي نراها ونسمع عنها في كثير من الدول، والتي تهدف إلى إعطاء الشرعية للأنظمة الحاكمة المستبدة، لا إلى الإصلاح والتغيير نحو الأفضل.
وما الخوف الذي يظهره البعض من أن تلك هي طريق الفرقة والتنازع، إلا وهم، وتقوية لإمكانية ظهور الظلم والاستبداد، فالفرقة في الدين غير "التعددية" في السياسة، وإذا كانت الأولى مذمومة لوحدة الدين وثبات عقائده، وأصوله، واكتمالها، ولحرمة القول فيها بالرأي، وإخضاعها للتطور والاجتهاد، فإن شؤون سياسة الأمة، وعمران المجتمعات، لا تستقيم عادة بوحدانية الفكر والفردية في الاجتهاد، وفي القرار.. وفي التنفيذ(28).
-----------------------------
1- المسؤول الثقافي لتجمع العلماء المسلمين في لبنان.
2- مدخل إلى الحريات العامة وحقوق الإنسان. د. خضر خضر. ص 19 .
3- د. خضر خضر - المرجع السابق ص 20 .
4- مدخل إلى الحريات العامة وحقوق الإنسان ص 23 .
5- برونسلاف مالينوفسكي. صاحب كتاب الحرية والحضارة - راجع منيف الرزاز الحرية ومشكلتها في البلدان المتخلفة، ص 22 .
6- هارولد لاسكي. صاحب كتاب الحرية في الدولة الحديثة - راجع منيف الرزاز، المصدر السابق.
7- د. خضر خضر. المرجع السابق، ص 24 .
8- البقرة / 56 .
9- البقرة / 256.
10- عبس / 1 - 16 .
11- آل عمران / 165 .
12- التوبة / 25 .
13- روى البخاري في خلق أفعال العباد من حديث أبي جمعة ولفظه: كنا مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول اللّه هل من أحد أعظم منا أجراً. آمنا بك واتبعناك؟ قال(صلى الله عليه وآله): وما يمنعكم من ذلك ورسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً. ومنها قوله(صلى الله عليه وآله): مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره. ومنها ما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول اللّه أأحد خير منا، أسلمنا وجاهدنا معك، قال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني، وقد صحّح الحاكم هذا الحديث.
14- الواقعة / 39 - 40 .
15- الغاشية / 21 - 22 .
16- يونس / 99 - 100 .
17- البقرة/ 177.
18- مطالعات في الدين والإسلام والعصر. د. محمد خاتمي. ص 122. صادر عن دار الجديد - بيروت - الطبعة الثالثة، 1999 .
19- لمزيد من الاطلاع راجع مطالعات في الدين والإسلام والعصر. د. محمد خاتمى. المصدر السابق / ص 122 وما يليها.
20- النساء / 65 .
21- الشورى والديمقراطية د. علي الاغا، صفحة 113 - صادر عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1983 .
22- مطالعات في الدين والإسلام والعصر. د. محمد خاتمي، ص 85 .
23- مطالعات في الدين والإسلام والعصر، د. محمد خاتمي، ص 84 - 85 .
24- يوسف / 103 .
25- الانعام / 116 .
26- راجع كتاب د. محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان.. ضرورات لا حقوق. ضمن سلسلة عالم المعرفة الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت. رقم 89 صفحة 87 وما يليها.
27- آل عمران / 104 .
28- د. محمد عمارة، المرجع السابق، ص 87 . 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية