مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

المجتمع الانساني في القرآن الكريم
 - 5 -
السيد محمد باقر الحكيم

 

 "ملخّص"
الانسان والمجتمع الانساني هدف أساسي في القرآن الكريم لما حظي به الكائن البشري من كرامة عند اللّه، ومكانة في الكون، وقدرة على الخلافة. وسور القرآن الكريم تتناول جوانب شتى مما يرتبط بالانسان والمجموعة البشرية في إطار عقائدي تارة واجتماعي وتاريخي وأخلاقي تارة أخرى.
والباحث تناول في الحلقات السابقة مباحث تمهيدية ودخل في موضوع الاستخلاف وفصّل القول في نظرية خلافة الانسان على ظهر الارض ثم عرج على مصطلح المجتمع وتحدث عن عناصر المجتمع الانساني في نظرية الشهيد الصدر.


النظرية الثالثة للسيد الشهيد الصدر (قدس سره)
تتفق صورة هذه النظرية التي طرحها السيد الشهيد (قدس سره) مع صورة النظرية التي قدمها العلامة الطباطبائي(قدس سره) في كون علاقة الوحدة بين أفراد المجتمع، هي علاقة مصاغة بصيغة فطرية، وكانت هذه الصيغة عند السيد الشهيد (قدس سره)-منذ البداية - صيغة دينية إلهية نابعة من الالتفات إلى البعد الرابع في فهم العنصر الثالث من عناصر المجتمع وهي (العلاقة)، حيث تصورناها بأبعادها الاربعة لا الثلاثة.
لقد كان آدم(عليه السلام) ملتفتاً منذ البداية إلى البعد الرابع وهو أنه خليفة للّه على الأرض وأن مهمته هي المحافظة على الأمانة التي وضعها اللّه تبارك وتعالى على عاتقه التي هي مضمون هذا الإستخلاف، وأن علاقته بالأرض وبالإنسان الآخر محكومة على أساس الخلافة، فدوره ليس دور السيد أو المالك في الأرض أو للإنسان الآخر، بل دوره دور المستخلف المستأمن، وهذا الفهم لهذه العلاقة هو (الدين) الذي فطر اللّه عليه الإنسان، وهو موجود منذ وجود الإنسان وجعله خليفة للّه في الأرض.
فللدين - في تصور السيد الشهيد الصدر (قدس سره)- دور في صياغة هذه العلاقة ومنذ البدء. والأمر الفطري الموجود في الإنسان منذ طليعة وجوده والذي أطر هذه العلاقة هو (الدين) لا أمر آخر، ويمكن أن يفهم ذلك من قوله تعالى: (فأقم وجهك للدّين حنيفاً فطرة اللّه التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق اللّه. ذلك الدين القيم..)(1). ثم بين السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) أن فطرة الإنسان على الإحساس بالخلافة للّه سبحانه وتعالى والتي كانت أساس الوحدة الاجتماعية في الدور الأول من تاريخ الإنسان.. هذه الخلافة تستبطن عدة عناصر فطرية أخرى، وهي:
1- عنصر التوحيد الخالص: إذ يستبطن الإحساس الفطري بالإستخلاف الرباني للإنسان والجماعة البشرية على الأرض، الإحساس الفطري بانتماء هذه الجماعة إلى محور واحد وهو (المستخلِف) أي اللّه سبحانه وتعالى الذي استخلفها على الأرض، وتصبح الإنتماءات الأخرى في طول هذا الإنتماء وفي طول الإيمان بسيد واحد ومالك واحد وخالق واحد للكون وكل مافيه.
وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام على أساسه، الإسلام وحملت لواءه كل ثورات الأنبياء تحت شعار "لا إله إلا اللّه" قال تعالى: (صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغة ونحن له عابدون)(2).
(ياصاحبي السجن ءأرباب متفرّقون خير أم اللّه الواحد القهّار )(3).
2- عنصر الحرية: إذ تعني عملية الإستخلاف الرباني كذلك إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة للّه وتحرير الإنسان من عبودية الآلهة والمسميات الأخرى التي تمثل ألوان الإستغلال والجهل والطاغوت، قال تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان إن الحكم إلا للّه أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر النّاس لا يعلمون)(4).
(أفرأيت من اتّخذ إلههُ هواه وأضلّه اللّه على عِلم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللّه. أفلا تذكرون)(5).
3- عنصر الأخوة العامة والمساواة: وهو عنصر كامن بصورة فطرية في الإنتماء إلى اللّه الواحد الذي لا شريك له، فمادام اللّه سبحانه وتعالى واحداً ولا سيادة إلا له والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه في العبودية، فمن الطبيعي أن يكونوا أخوة متكافئين بينهم في الكرامة الإنسانية والحقوق كأسنان المشط على حد تعبير الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله). فهم متساوون في الإنتماء إليه ولا تفاضل ولا تمييز في الحقوق الإنسانية ولا يقوم التفاضل في مقاييس الكرامة عند اللّه تعالى إلا على أساس السعي إلى اللّه تعالى والتقرب منه بالعمل الصالح ، قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)(6) .
4- التفاصيل بالمقاييس الواقعية التي لها بقاء ودوام واستمرار، وهي:
أ - التقوى من اللّه تعالى في السلوك العام، قال تعالى: (.. إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم..)(7).
ب - العلم بالحقيقة الإلهية والحقائق الشرعية والكونية، قال تعالى: (... يرفع اللّه الّذين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات..)(8).
ج - الجهاد في سبيل اللّه، قال تعالى: (... وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما)(9).
أن هذه العناوين التفضيلية عناوين حقيقية لهابقاء ودوام وتعبر عن حركة الإنسان وسعيه في هذه الحياة من أجل التكامل والوصول إلى مقام القرب من اللّه عزّوجلّ ، فيكون مصداقاً من مصاديق السعي إلى إرضاء اللّه تعالى.
وعندما نرجع إلى بداية التاريخ البشري نرى أن هذه الحقيقة في التفاضل كانت قائمة أيضا آنذاك، فعندما تطرق القرآن الكريم الى الحديث عن ابني آدم وعن سعيهما، بيّن أن اللّه سبحانه وتعالى تقبل من المتقي منهما، قال تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحقّ إذ قرّبا قربانا فتُقبِّل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنّما يَتقبَّل اللّه من المتّقين)(10).
فلم يكن ملاك التفضيل بينهما الإنتماء العنصري لأنهماكانا من أب واحد، ولا القوة البدنية، إذ يبدو أن الآخر كان أكثر قدرة كما يشعِر بذلك التهديد (لأقتلنّك)، بل كان المقياس في التفضيل هو التقوى (قال إنما يتقبل اللّه من المتّقين).
فالناس متساوون بينهم في الكرامة وفي الحقوق ويتفاضلون عند اللّه بالسعي من خلال العمل الصالح.
5- عنصر المسؤولية: وهو عنصر مستبطن في فطرة الإنسان وإحساسه بالإستخلاف ، حيث يشعر الإنسان بالمسؤولية في تلك المرحلة الفطرية من خلال إحساسه بأنه خليفة للّه تعالى، الأمر الذي يجعله مقيداً بأحكام المستخلِف في حكمه وحركته الاجتماعية وفي إعماره لهذه الأرض واستثماره لخيراتها.
والمسؤولية علاقة ذات حدين
إحداهما: أن يكون الإنسان مقيداً بأحكام المستخلِف وهو اللّه تعالى وهي أحكام بالحق، قال تعالى: (يا داود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين النّاس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل اللّه. إنّ الّذين يضلّون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)(11).
فلا يحق له أن يحكم بهواه ولا برأيه واجتهاده الخاص الناتج عن ابتعاده عن الضوابط والموازين التي وضعها للّه سبحانه وتعالى لعملية الإجتهاد، لأن العمل بالرأي والإجتهاد الخاص منهي عنه وهو على حد الكفر، كما ورد في المأثور:
".. من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار" و".. ومن جادل في آيات اللّه كفر.. ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب.. الحديث"(12).
وتشكل هذه المسألة (كون الإنسان مقيداً بأحكام المستخلِف) فرقاً أساسياً بين نظريتي الحكم الإسلامي والحكم الديمقراطي، ففي كلتاهما تقوم الجماعة الإنسانية بحكم نفسها بنفسها، ولكن في النظرية الإسلامية تحكم نفسها بنفسها مقيدة بالحق وبالحكم الإلهي، بينما لا يشترط ذلك في النظرية الديمقراطية(13).
وكثير ما تظلم الأمة جزءاً منها في ظل النظام الديمقراطي ، وذلك حينما تكون هناك مصلحة للأكثرية على حساب مصالح الأقلية.
أما في ظل النظام الإسلامي فأن القانون مقيد بالصلاح والحق الذي تبينه الشريعة الإلهية، لأن الأحكام الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، ولابد للأمة أن تتنازل عن شهواتها ورغباتها غير الحقة لصالح الحق، كثر طلابه أو قلّوا.
وقد عبر القرآن الكريم عن الأمة التي تتنازل عن حقوقها المشروعة وعن الحق بأنها ظالمة لنفسها، قال تعالى: (إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها. فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا)(14).
حيث وجّه القرآن الكريم لهم العتاب وعبّر عنهم بأنهم (ظالمي أنفسهم)عندما استسلموا للظلم وارتضوه ولم يمارسوا حقهم المشروع في مقاومته أو التخلص منه، بل اكتفوا بالتنازل عن الحق والعدل.
كما أوجب اللّه سبحانه وتعالى على الجماعة البشرية مواجهة الطغيان والظلم، وحالة التمرد على الله تبارك وتعالى، لأن الأصل في حركة المجتمع هو تحكيم الحق من أجل الوصول إلى مصالح المجتمعات الحقيقية، لا أن يتنازل الإنسان عن حقوقه المشروعة، قال تعالى: (ومالكم لا تقاتلون في سبيل اللّه والمستضعفين من الرجال والنّساء والولدان الّذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظّالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليّا واجعل لنا من لدنك نصيرا)(15).
والحد الثاني للمسؤولية: هو حد الحرية والإختيار، وهو مستبطن - أيضاً - في فطرة الإستخلاف، ذلك أن الإنسان لما كان مسؤولاً عن التقيد بأحكام المستخلِف وبالحق والمصالح الواقعية هناك، فإن هذه المسؤولية أمام اللّه تبارك وتعالى لا معنى لها إلا بالحرية والإختيار، وهذه الحرية والإختيار يمكن أن تفهم من جعل الإنسان خليفة للّه تعالى الذي يتصف بالإرادة والإختيار، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المسؤولية التي تحملها الإنسان في آية (الأمانة) قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوما جهولا)(16).
فهو مسؤول عن أداء هذه الأمانة ويعاقب أو يثاب على خيانتها أو حفظها، لأنه مختار وبـإمكانه أن يختار الصواب والهدى فيسمو ويتكامل ويثاب، أو أن يسلك سبيل الخطأ والضلال والباطل فينحط ويتسافل ويعاقب. وهذه الإرادة والإختيار من الأمور الفطرية التي أودعها اللّه تعالى في الإنسان، قال تعالى: (إنّا هديناه السّبيل إما شاكراً وإما كفورا)(17).


العنصر السادس: وحدة المصالح والأهداف والمصير
تميز المجتمع البشري في بداية تكوّنه بكونه مجتمعا بسيطاً محدودا، موحد الهدف وهو التقرب من ذات اللّه تبارك وتعالى وتحقيق رضاه وتوحيده ورفض العبودية لغيره عزّوجل.
كما كانت مصالح الناس في حياتهم المادية آنذاك مصالح مشتركة ومحدودة، إذ عرفوا بفطرتهم آنذاك أن عدم تعاونهم وعدم وحدتهم يعني عدم حصولهم على مصالحهم، ومن ثم وصولهم إلى حالة العجز التام وعدم امكانية استمرارهم في البقاء لقلة عددهم ومحدودية مجتمعهم.
وانعكس هذا الواقع والفهم على مصيرهم وحياتهم، فإن تعرضهم لأي خطر خارجياً كان أو داخلياً سوف يؤدي إلى القضاء عليهم جميعاً إن لم يكونوا متعاونين فيما بينهم، الأمر الذي جعلهم يشعرون بوحدة المصير أيضاً .
وهذا الأمر هو أمر فطري يرتبط بموضوع الإستخلاف أيضا، ولاسيما إذا أخذناه بمعناه الواسع الشامل لإعمار الأرض وإستثمارها واستمرار الحياة فيها.
نشوء الإختلاف
ثم يتعرض السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بعد ذلك إلى تفسير كيفية حصول حالة التشتت والتفرق في المجتمع الموحدة، فيرى(قدس سره) أن ذلك يعود لتباين مستويات مواهب الناس الفكرية والعقلية وإمكاناته وقدراته المادية التي تختلف من شخص لآخر وتبلورها خلال حركته الاجتماعية.
وقد يحصل الإنسان في حركته الاجتماعية تلك على حصة أكبر من الموارد والثروات والإمكانات المادية من خلال إعمار الأرض وإستثمارها ، اعتماداً على هذه القدرات والمواهب.
وهذا التباين في المواهب والقدرات أدى بالتالي إلى الاختلاف في النتائج والثروات وظهور حالة (الإستغلال) في المجتمع البشري كنتاج لحركته الاجتماعية.
وظهور حالة الإستغلال ووجود وتنامي الفرص المتاحة أمام الإنسان وحركته الاجتماعية هيأ الظروف المناسبة لتفكير بعض الناس في استغلال الآخرين وساعد على ذلك وجود أُناس مستغَلين غير قادرين على مقاومة المستغِلين أو مستسلمين لذلك، فأنقسم المجتمع بعد ذلك إلى عدة أقسام هي:
الأول: قسم المستغلِين والمستثمرين والطغاة المهيمنين.
الثاني: قسم المستَغَلين والمستضعفين والمستسلمين للطغاة.
الثالث: قسم المستَغَلين والمستضعفين غير المستسلمين للطغاة، الذين يؤمنون بوجوب الظلم ومواجهة الإستغلال.
وبإنقسام المجتمع الى هذه الأقسام الثلاثة، نشب الاختلاف بعد استقرار حالة الوحدة الفطرية، وأصبحت هناك ضرورة لنزول الشريعة لإعادة المجتمع إلى حالته السليمة مرة أخرى.


المقارنة بين النظريتين
وعلى الاستعراض السابق للنظريات يتضح أن الفرق بين نظرية الشيخ محمد عبده والعلمين السيدين العلامة الطباطبائي والشهيد الصدر "قدس سرهما" يكمن في نقطة أساسية أشرنا إليها وهي أن الشيخ محمد عبده يفترض أن الوحدة هي عنصر ثابت في الإنسان وهو اتجاهه نحو الاجتماع المدني في مقابل الحيوانات التي توجهها الغرائز. فالوحدة ليست مجرد مرحلة من مراحل حياة الإنسان، بل هي حالة فطرية عبر عنها القرآن الكريم بالوحدة.
وأما نظرية العلمين فأنهما يفترضان الوحدة مرحلة فطرية في تاريخ المجتمع الإنساني.
وقد عرفنا الإشكال والملاحظة الأساسية في هذا الفهم للوحدة عند الشيخ محمد عبده، حيث يتضح من آيات القرآن الكريم أن المراد من الوحدة مرحلة في مقابل الاختلاف.
وأما أوجه الاختلاف الأساسية بين نظريتي السيد الشهيد الصدر والعلامة الطباطبائي "قدس سرهما" فهي:
أولاً: في تحديد دور الدين في حياة الإنسان ومتى وجد؟
فبينما ينفي العلامة(قدس سره) وجود الدين في مرحلة الوحدة وأن الفطرة الإنسانية المتمثلة بقضية (الإستخدام) ، هي التي كانت توجّه حركة الإنسان الاجتماعية آنذاك، ذهب السيد الشهيد(قدس سره) إلى إثبات وجود الدين ومنذ بداية وجود الإنسان من خلال استبطان معنى الخلافة لذلك وإعطاء العلاقة بين الإنسان والإنسان والأرض بعدا رابعا يرتبط باللّه تعالى وهو الاستخلاف والاستئمان.
ويمكن أن نضيف على ذلك مايمكن أن نفهمه من إستعراض قصة الإستخلاف التي تنتهي إلى فرض وجود الدين منذ بداية وجود الإنسان على الأرض، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:(قُلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(18).
ويوضح الشهيد ذلك بأن وجود الدين كان على مستويين خلال مسيرة البشرية هما:
الأول: مستوى مواكبة عوامل الفطرة في حركة الإنسان
وقد وجد هذا المستوى منذ بداية وجود الإنسان ، حيث واكب الدين في هذا المستوى العوامل الفطرية الستة من خلال شهادة الأنبياء. فالناس كانوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم بتوجيه الفطرة الإنسانية وبإشراف الأنبياء، وكان للدين دور التوجيه العام لهذه الفطرة، قال تعالى: (فأقم وجهك للدّين حنيفاً فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها. لا تبديل لخلق اللّه. ذلك الدّين القيم...)(19).
الثاني: المستوى الذي واكب حركة الإنسان في دور الاختلاف
وهو مستوى أعلى من المستوى الأول، إذ تميّز بمجيء الكتاب والشريعة والأحكام التفصيلية التي تنظم حياة الناس في دور الاختلاف، إذ لم تعد الفطرة كافية لذلك.
وأول شريعة أنزلت، شريعة نوح(عليه السلام) قال تعالى: (شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا...)(20).
ثم توالى نزول الشرائع على الأنبياء (عليهم السلام) بعد ذلك.
ثانيا: أن العامل التوحيدي الفطري من وجهة نظر العلامة الطباطبائي كان هو الإتجاه للتسخير الذي كان عامل توحيد على أساس العدالة التصالحية، ثم تحول بعد ذلك إلى عامل إختلاف.
وأما بنظر الشهيد الصدر فأن العامل التوحيدي الفطري هو إحساس الإنسان بالبعد الرابع للعلاقة وهو الإستخلاف.
ثالثاً: إن الشهيد الصدر يؤكد في أهداف حركة الإنسان في الحياة الدنيا في دور الوحدة على هدف تحقيق رضا اللّه إلى جانب هدفه في إدارة شؤون حياته المادية، خلافاً لما يذهب اليه السيد الطباطبائي الذي تحدث عن العامل الفطري وهو التسخير وارتباط مصيره بالمصالح المادية للإنسان.
ونلاحظ هنا أيضاً أن الشهيد الصدر يكاد يتفق مع العلامة الطباطبائي في عامل الاختلاف، الذي افترضه تضاد الارادات بعد نمو الفرص واختلاف مستويات المواهب والنتائج والآثار من خلال الحركة الاجتماعية.


النتيجة
ويمكن أن نخرج من هذه المقارنة بهذه النتيجة، وهي أن الصورة التي قدمها الشهيد الصدر في نظريته أكثر إنسجاماً مع الآيات الكريمة وفي فهم دور الدين في الحياة الإنسانية، وأكثر دقة وتفصيلاً في بيان عوامل الوحدة وركائزها في الدور الأول للوحدة.
ولكن مع ذلك قد نحتاج إلى تكميل هذه الصورة بإضافة بعض الخطوط والعوامل الأخرى، على ما أشرنا إليه .
1- أن الآيات الكريمة قد يبدو منها أن (الدين) الذي بدأ مع حياة الإنسان ليس هو مجرد استبطان مضمون الخلافة، بل هو إلى جانب ذلك يتضمن نوعاً من البيان والشرح لمعالم الطريق الذي لابد للإنسان أن يسلكه في هذه الحياة، كما يظهر من قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(21).
حيث أن الإتيان بالهدى - حسب الظاهر - يعني شيئا أوسع من مجرد الهداية الفطرية التي فرضت منذ بداية خلق الإنسان، بل هو أمر تفرضه طبيعة الصراع بين الإنسان وإبليس (.. بعضكم لبعض عدوٌ...)(22)، وتوعّد وتربص إبليس للإنسان بالغواية منذ بداية الطريق (... لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم)(23).
نعم قد يكون مراد الشهيد الصدر من توجيه الأنبياء للفطرة الإنسانية وإدارتها لشؤون الإنسان تحت إشرافها معنى واسعاً يشمل مثل هذا الهدى من مناهج العبادة والأخلاق الفاضلة والقسط بين الناس.
2- أن الشهيد الصدر ومن قبله العلامة الطباطبائي لم يُبرزا في هذا الإستعراض دور الهوى والصفات الذميمة لدى الإنسان وطغيان الغرائز في سلوكه، في إيجاد الاختلاف والنزاع، وإن كان قد يستفاد ذلك من بعض الإشارات في حديثهما، مع أن من الواضح أن الخروج عن عوامل الفطرة وركائزها التي كان يقوم عليها المجتمع الموحد، إنما كان بسبب الهوى وليس مجرد نمو الفرص والمصالح لدى الإنسان وظهور قابلياته ومواهبه في حركته، لأن ذلك مما يمكن السيطرة عليه واحتوائه بعوامل الفطرة وركائزها.
وفي قصة ابني آدم يبدو من الواضح أن الحسد كان هوالعامل الأساس للقتل، وهو صفة ذميمة من صفات الهوى والطغيان، ولم يكن لحساب المصالح المادية والتسخير أي دور في هذه الحادثة.
وسوف نشير إلى مزيد من التفاصيل والتوضيح لهذه الأفكار عندما نتناول المرحلة الآتية وهي دور الاختلاف.
ثانياً: دور الاختلاف
إنتقل المجتمع البشري بعد دور الوحدة إلى دور الاختلاف، ويشير القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى هذا الاختلاف في تاريخ البشرية بعد وحدتها، منها قوله تعالى: (وما كان النّاس إلا أمّة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون)(24).
وتدل هذه الآية والعديد من الآيات القرآنية الأخرى، على أن موضوع الاختلاف كان مطروحا أمام المجتمع البشري منذ بداية خلق الإنسان لحكمة إلهية. قال تعالى: (ولو شاء ربُّك لجعل النّاس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك ولذلك خلقهم. وتمّت كلمة ربك لأملأن جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين)(25).
(وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء...)(26).
حيث طرح الملائكة من خلال تساؤلهم موضوع إفساد الإنسان في الأرض وسفكه للدماء، وهو ما يعبر عن وجود حالة الاختلاف في حياة الإنسان بشكل واضح.
ولم ينف الجواب الإلهي عدم حدوث الإفساد منه ولا نفى دور الاختلاف ، وإنما ذكر المصلحة في تعيين آدم(عليه السلام)ومن ثم الجنس البشري كله خليفة للّه تعالى في الأرض.
كما أن القرآن الكريم في نهاية القصة يشير إلى عداوة إبليس للإنسان وهبوطه معه إلى الأرض، ليعبر عن تربصه وعداوته وانقسام الناس إلى متبعين للهدى وإلى كافرين بآيات اللّه، وكل ذلك يؤكد أن قضية الاختلاف قضية موضوعة أمام حركة الإنسان وفي صلب تاريخه.
وهنا لابد لنا:
أولاً: أن نذكر تفسيراً لأصل وجود هذا الاختلاف في المجتمع البشري والحكمة في ذلك.
وثانيا: بيان الكيفية والعوامل التي أدت إلى وجوده.
الحكمة في وجود الاختلاف
يؤكد القرآن الكريم أن هناك سنة إلهية فرضها اللّه تعالى في حياة الإنسان، وهي سنة الإبتلاء والإمتحان والفتنة، حيث رُبطت عملية تطور الإنسان وتكامله بهذه السنة الإلهية، قال تعالى: (الّذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً...)(27). (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا)(28).
(ألم أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون)(29). (... ولو شاء اللّه لجعلكم أمّة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات. إلى اللّه مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)(30).
(إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملا)(31).
(فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإما منّا بعد وإمّا فداء حتّى تضع الحرب أوزارها. ذلك ولو يشاء اللّه لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض...)(32).
(وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم...)(33).
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضّرّاء وزلزلوا حتى يقول الرّسول والّذين آمنوا معه متى نصر اللّه ألا إن نصر اللّه قريب)(34).
فقانون الإبتلاء مفروض منذ خلق اللّه السماوات والأرض، وجعل اللّه تعالى ما على الأرض زينة (... من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث...)(35)، وآتاها الناس ليبتليهم بها ويختبرهم في حسن عملهم وليتسابقوا في الخيرات، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة دون هذا الإبتلاء والاختلاف .
كما أنه تعالى رفع بعضهم فوق بعض درجات عند جعلهم خلائف الأرض ليبلوهم في ماآتاهم وفُرِض القتال والقتل والمن والفداء واندلعت الحروب لتحقيق هذا القانون الإلهي.
فالإنسان لا يمكنه أن يدعي الإيمان وأن يتطور ويتكامل ويصل إلى هدفه المقدس وهو كسب رضا اللّه تبارك وتعالى والتسابق في الخيرات ودخول الجنة، إلا بعد أن يمتحن ويفتتن وتمسّه البأساء والضراء حتى تصل الحالة به أحياناً الى حد الزلزال تعبيرا عن عظم الفتنة وشدة البلاء، ثم يخرج من ذلك الإمتحان وتلك الفتنة بنجاح وقد سلك الطريق الصحيح وقام بالعمل الصالح الحسن باختياره وإرادته.
وكلما يقترب الإنسان من اللّه تبارك وتعالى، يكون امتحانه أصعب وبلاؤه أشد، وقد روي عن الصادق(عليه السلام) أنه قال "أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل"(36). وشأن الابتلاء في مسير التكامل شأن من يريد أن يرتقي في درجات العلم، فعليه أن يتحمل التعب والنصب والسهر وتحمل المشاق والامتحانات والاختبارات المتوالية التي تتدرج في الصعوبة والشدة وبذلك يتطور ويتكامل مستواه العلمي، أو شأن من يريد أن يتكامل في (قوة بدنه) فيعرض نفسه إلى التمارين الشاقة والأحمال الثقيلة والمنازلات الشديدة القاسية والاختبارات العسيرة من أجل الوصول إلى الكمال البدني المادي.
نعم، قد يخفق بعض الناس في طريق الامتحان والابتلاء، ولكن هذا لا يضر الحكمة الإلهية مادام أن هذا الطريق هو الطريق الوحيد لتسامي الإنسان وتكامله، وباخفاق البعض وبـاختلاف درجات رقي البعض الآخر يقع الاختلاف في المجتمع البشري وتتكامل حالة الوحدة الفطرية السابقة.
فالحكمة الإلهية اقتضت وجود ظاهرة في المجتمع البشري، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (.. ولا يزالون مختلفين)(37).
وذلك بـاعتبار - كما تشير الآيات - كان يمكن في القدرة الإلهية أن يكون الناس أمة واحدة ويبقون أمة واحدة، لا اختلاف بينهم ولا فساد ولا سفك للدماء ولا تفاضل أو تمايز لبعضهم على بعض في الدرجات.


الامتحان والحرية في الإدارة الإنسانية
وفي عملية الابتلاء والامتحان يبقى الإنسان مريداً ومختاراً في عمله الذي يحاسب ويثاب عليه أو يعاقب به، وبذلك يتحقق التكامل للإنسان في حركته. فالامتحان لا يشل الإرادة ولا يقهر الإنسان على العمل والالتزام بالطريق الصحيح أو غيره، ولا يوقف لديه الاختيار، فهو امتحان وابتلاء وشدة وعسر في إطار الاختيار وحرية الإرادة الإنسانية. ولذا كان سبباً للتكامل ،وبدون هذه الحرية في الإرادة والاختيار يفقد الامتحان أثره ونتائجه. ولذا أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة بعد إشارته لقانون الامتحان (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا)(38).
ومن أجل أن تكون إرادة الإنسان متوازنة في قدرتها على الانتخاب والاختيار في الامتحان والالتزام بالنهج والطريق المستقيم الموصل إلى اللّه تعالى، خلق اللّه في الإنسان أمرين إلى جانب الإرادة وهما:
الأول: العقل، الذي يهديه إلى معرفة الحق والصواب والأهداف التكاملية في مسيرة الإنسانية، ويوصله إلى طريق الهدى ويدله على العمل الصالح والمنهج الموصل إلى اللّه.
الثاني: الهوى، الذي يدفعه نحو الطغيان في الأخذ بالزينة والخروج عن الحدود الصحيحة في حركته، ويتجاوز الالتزامات التي وضعها اللّه تعالى له في فطرته أو شرعها له بعد ذلك في شرائعه.
وقد جعل اللّه برحمته فطرة الإنسان إلى جانب عقله في حركته نحو اللّه سبحانه وتعالى في المرحلة الأولى (مرحلة الوحدة الفطرية) ، ثم لما اشتد الخلاف وأصبح الإنسان غير قادر على أن يحسم هذا الخلاف بعقله وفطرته تفضل اللّه سبحانه وتعالى عليه بـإرسال الأنبياء(عليهم السلام) وإرسال الكتب والشرائع السماوية، لدعم حركة العقل البشري نحو اللّه سبحانه وتعالى ودعوة الفطرة الإنسانية للتوجه إليه، وللوقوف بوجه (الهوى) الذي يعتبر السبب الأساسي في انحراف الإنسان وتسافله وسقوطه.


الهوى هو العامل الأصلي في الاختلاف
وبذلك نعرف أن (الهوى) هو السبب الرئيسي والعامل الأكثر تأثيراً في وجود الاختلاف في المجتمع الإنساني. وقد كان له دور كبير وتأثير مهم على العناصر الفطرية لوحدة المجتمع التي تحدثنا عنها سابقا، ومن خلال هذا التأثير حصل الاختلاف في المجتمع الإنساني، وهذا ما نفصله في بحوث آتية إن شاء الله تعالى.
-------------------------------
1- الروم / 30 .
2- البقرة/ 138 .
3- يوسف / 39 .
4- يوسف / 40 .
5- الجاثية / 23 .
6- النجم / 39 .
7- الحجرات / 13 .
8- المجادلة / 11 .
9- النساء / 95 .
10- المائدة / 27 .
11- ص / 26 .
12- وسائل الشيعة 18 / 140، ب 13 صفات القاضي، ح 35، عن كتاب التوحيد، و37، عن الخصال، وأحاديث عديدة أخرى.
13- قد تحكم النظم الديمقراطية نفسها بخلاف الحق وبما يضرها، كما حدث في الولايات المتحدة الإميركية ذات النظام الديمقراطي، حيث اتخذت المجالس المنتخبة فيها قراراً بمنع الخمور عام 1919م، لما وجدت فيه من مضار بالغة بمصالح الأمة والشعب، ثم حصلت مشكلات ناشئة من الإدمان والشهوات والهوى، فاضطرت هذه الجماعة إلى التسليم للهوى ورفعت الحظر المفروض على استخدام الخمور.
14- النساء / 97 .
15- النساء / 75 .
16- الأحزاب / 72 .
17- الإنسان / 3 .
18- البقرة / 38 .
19- الروم / 30 .
20- الشورى / 13 .
21- البقرة / 38 .
22- البقرة / 36 .
23- الأعراف / 16 .
24- يونس / 19 .
25- هود / 118 - 119 .
26- البقرة / 30 .
27- الملك / 2 .
28- الإنسان / 2 .
29- العنكبوت / 1 - 2 .
30- المائدة / 48 .
31- الكهف / 7 .
32- محمد / 4 .
33- الأنعام / 165 .
34- البقرة / 214 .
35- آل عمران / 14 .
36- الكافي 2 / 252 - 253 ، حديث 1 و 2 .
37- هود / 118 .
38- الإنسان / 2 - 3 .
 

 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية