مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الاجتهاد عند الشيعة الإمامية
مصادره وضوابطه *
الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني


اجماع المسلمين على الكتاب والسنّة واحد من أهم مساحات اللقاء بين علماء الامة. والاجتهاد عملية فهم الموقف العملي للفرد المسلم والجماعة المسلمة في كل زمان ومكان، وضمن إطار هذه العملية تلبي الشريعة متطلبات التغيير الاجتماعي، ولها عند علماء المسلمين أصول وضوابط اختلف أهل السنة والشيعة فيها، كما اختلف علماء السنة بينهم وعلماء الشيعة بينهم فيها أيضا، ومع هذا الاختلاف فالجيمع يتحرون الطريق الصحيح لفهم حكم الشريعة في الامور. وهذا البحث يعرض جانبا من اهتمام علماء الشيعة في تحرّي الدقة من أجل الوصول إلى حكم اللّه مستنبطا من كتابه وسنة نبيه. تمهيد:
مادة الفقه بحسب اللغة تحتوي في ذاتها معنى فهم الأمور الخفيّة وكشف الخبايا أو كما قيل: "معرفة الباطن من الظاهر"، وأطلقت أولا بشكل عام على الرسوخ في علم الدين وفهمه عميقاً، انطلاقا من قوله تعالى: (وماكان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(1).
والتفقه بصيغة التفعل يؤكد عمقا في الفهم ثم اقتصر استعماله - في وقت لا يُعرف بالضبط، ولعله في عصر الصحابة والتابعين - على استنباط الأحكام خاصة، فكان يقال للمختصين بمعرفة الأحكام عن بصيرة وفقه: "الفقهاء". وقد اشتهرت طائفة قليلة من الصحابة، وطائفة أكثر من التابعين بوصف الفقهاء.
فالتعبير عن فهم الدين عموما وعن استنباط الأحكام خصوصا بـ "التفقه في الدين أو في الأحكام" من حيث المادة والصيغة مشعر بما يتطلبه فهم الدين وخاصة قسم الأحكام منه من الدقة والتعمق، الأمر الذي عبّر عنه القرآن الكريم - ثم الفقهاء - بـ "الاستنباط". قال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)(2).
والاستنباط في اللغة هواستخراج الماء من البئر، ثم استعير لإخراج ماخفي من الأحكام وغيرها من مصادرها. ومن هذا المنطلق شاع إطلاق "الفقه" على علم الأحكام الشرعية وكذلك "التفقه" على عملية استنباط الأحكام.
ثم عبّروا عنها في وقت سابق لا يعلم مداه بـ "الاجتهاد" باعتبار أنها تتطلب جهدا كبيراً واستفراغا للوسع - وقد عرّفوا به الاجتهاد أيضا - فقالوا: "الاجتهاد هو استفراغ الوسع لمعرفة الاحكام".
ولعلهم حينما عبّروا عن الاجتهاد كمصدر من مصادر الفقه، ثم أطلقوه على عملية استنباط الاحكام تبعوا في ذلك معاذ بن جبل الصحابي (رضي الله عنه) حينما أراد النبي(صلى الله عليه وآله) أن يبعثه إلى اليمن قاضيا، فسأله - كما جاءت في كُتب الحديث(3): مامعناه: "بماذا تقضي؟ فقال: بكتاب الله ، فقال (صلى الله عليه وآله): فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول اللّه، فقال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي..." وهذا الحديث كالنص على أن الاجتهاد عند معاذ كان مصدرا من مصادر القضاء بعد فقدان الحكم في الكتاب والسنة.
ولكنه مالبث أن أُطلق على نفس استنباط الاحكام من مصادرها. وكيف ماكان فقد استمر الاجتهاد في جميع العواصم الإسلامية العلمية كالمدينة ومكة والعراق والشام ومصر وغيرها عند فقهاء البلاد استنادا إلى الكتاب والسنة وما ألحق بهما من الإجماع والقياس والرأي والاستحسان وغيرها على خلاف بينهم في غير الكتاب والسنة من الأدلة.
وكلما توسّعت رقعة الإسلام، وتنوّعت الأعراف والعادات، وازدادت وتضاعفت الحاجات في صعيد الشريعة والأحكام، أو في حقل الأقضية والفتاوي، توسع واستكمل نطاق الاجتهاد، كما اختلفت الآراء والأقوال وبرزت المذاهب والمدارس الفقهية في البلاد، حتى أصبح علم الفقه والاجتهاد من أوسع العلوم وصار ذا شقوق وفروع وأصول وأركان، وارتبط بجملة من العلوم الأدبية واللغوية والقرآنية والحديثية وغيرها.
وقد تكفّل علم، برمته - وهو علم أصول الفقه - ببيان أصوله وضوابطه وأسسه وقواعده.
هذا هو مصير الاجتهاد عند الجمهور، وأما الشيعة الإمامية فكانوا يكتفون إلى أواسط القرن السابع الهجري - رغم استكمال الفقه عندهم وتوسّعه - بالتعبير عن هذا العلم بلفظ "الفقه" وعن عملية الاستنباط بلفظ "التفقه" جرياً على طريقة السلف واتباعاً لأئمتهم من آل البيت (عليهم السلام) مجتنبين التعبير بـ "الاجتهاد" لأنه كان عندهم مساوياً للرأي والقياس اللذين نهى عنهما الأئمة، وقد جوزهما كثير من فقهاء الجمهور.
قال الشيخ الطوسي - المعروف بشيخ الطائفة الامامية - (385 - 460هـ) في كتاب "عُـدّة الأصول"(4) بعد ذكر أصول الأحكام عنده: "وقد ألحق قوم بهذا القسم الكلام في الإجماع والقياس والاجتهاد ..." - إلى أن قال: و"ذلك غير صحيح على قاعدة مذهبنا ... وأما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا بدليلين، بل محظور استعمالهما...".
فالشيخ الطوسي، الذي عاش في أواسط القرن الخامس الهجري بقي الاجتهاد عنده على معناه الأول مرادفاً للقياس كمصدر للفقه عند الجمهور، لما ثبت عنده في المذهب أنه محظور من قبل الأئمة من آل البيت، ولاسيما الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) الذي كان يؤكد على تحريم العمل بالقياس والرأي، ويناقش أصحاب الرأي وعلى رأسهم الإمام أبا حنيفة كما جاء في المصادر(5).
والظاهر أن المحقق الأول، أو المحقق الحلي (م 676هـ) نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي - وهو من كبار فقهاء الإمامية في القرن السابع - أول من أطلق لفظ "الاجتهاد" من الإمامية على استنباط الأحكام في كتابه "معارج الوصول في علم الأصول".
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الفقه عند الإمامية في القرون الثلاثة الأولى محصورا فيما روي عن الأئمة من الأحاديث والفتاوي مع مافيها من معالم ونماذج من الاستدلال والاستشهاد بالكتاب والسنة، حيث أن الأئمة كانوا مهتمين بتدريب أصحابهم على ذلك فقد قال الإمام أبو جعفر محمدبن علي الباقر(عليه السلام) (48 - 114هـ) وهووالد الإمام الصادق وخامس الأئمة من آل البيت ـ لأبان بن تغلب (42هـ) وكان من فقهاء أصحابه حيث كانت له مكانة مرموقة عند أهل السنة: "اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك"(6).
وروى زرارة بن أعين وهو من كبار أصحاب الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام): ما معناه قلت لأبي عبد الله - أي الصادق (عليه السلام): من أين علمت أن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين، فأجابه بأن الله قال: (فاغسلوا وجوهكم) فعرفنا أن الوجه يُغسل كله، وقال: (وأيديكم إلى المرافق) فعلمنا أنه يجب غسل اليدين إلى المرافق. ثم فصل بين الكلام فقال: (وامسحوا برؤوسكم)فعلمنا أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: (وأرجلكم إلى الكعبين) فعلمنا أن المسح على بعض الرجلين..."(7) وكلّنا نعلم أن مسألة مسح الرجلين وغسلهما في الوضوء كانت ولازالت مسألة تضاربت الآراء حولها بين الفريقين، وهناك شيء كثير من الحوار والمحاجة بين الطرفين في هذه المسألة، وغيرها من مسائل الفقه، كمسائل العقيدة والكلام، جاءت في كتب مسائل الخلاف.
وهكذا كان الفقه عند الإمامية في غالب الحديث نقلا عن الائمة بأسانيد شتّى إلى أوائل القرن الرابع الهجري، فكل الاسماء التي وردت للكتب في فهارسهم ولاسيما في فهرست الشيخ الطوسي، وفهرست الشيخ النجاشي (م 450هـ) منسوبة إلى فقهائهم ومحدّثيهم الذين عاشوا قبل ذلك فهي مجموعات من الأحاديث الفقهية وهي قسمان:
قسم منها أصل، وهو ما رواه الراوي عن الإمام مباشرة، أو بواسطة واحدة وعددها عند بعضهم أربعمائة أصل.
وقسم منها "جامع" وهي التي جمعت ماكان في الأصول وهذه هي "الجوامع الأولية" عند استاذنا الامام البروجردي(رحمه الله) ، بـإزاء الكتب الأربعة وهي الجوامع الثانوية عنده. وكان في الجوامع قليل من الشرح والبيان والاحتجاج، إلى أن برز فقيه من أسرة علمية عريقة في بلدة "قم" -وكانت من أهم عواصم العلم يومذاك عند الإمامية - وهو علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (م 329هـ) - فحوّل هذا الفقيه الفقه من الفقه الروائي الذي كان في ثوب روايات مسندة، إلى تجريد ألفاظها وحذف أسانيدها، فعرض الفقه في صورة متن فقهي مستخرج من الروايات مع الحفاظ على ألفاظها قدر المستطاع.
فدوّنها في رسالة له إلى ولده، محمدبن علي المعروف بـ "الشيخ الصدوق" (م381هـ) ولم تصلنا هذه الرسالة كاملة، سوى قطعات منها أدرجها ابنه في كتاب "من لا يحضره الفقيه" - وهو أحد الكتب الأربعة المعتبرة في الحديث عند الإمامية - وكذلك في غيره من كتبه الفقهية. ويسمى هذا النوع من الفقه "مجرد الفقه" أو الفقه المنصوص. فهذا يُـعَـدُّ أول تحول في الفقه الإمامي.
ثم نهض في القرن الرابع فقيه معاصر للشيخ الصدوق باسم "محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي" المتوفي عام 381هـ (8) (نفس العام الذي توفي فيه الصدوق) بتأليف كتب استدلالية في الفقه الإمامي، على طراز ماكان عند أهل السنة من ذي قبل، ولكن كتبه - مع الأسف - لم تصلنا، بل وصلنا بعض فتاويه متفرقة في الكتب المتأخرة من زمانه. ويبدو أنها تُركت وأُعرض عنها حين ظهورها من قبل العلماء، لأنها كانت مظنة الرأي والقياس - وقد نسب الى ابن جنيد العمل بالقياس - وحينئذ قام تلميذه وتلميذ الصدوق معا الشيخ المفيد (م413هـ) أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان، بتأليف الفقه والأصول بنفس الأسلوب مع الاحتراز عن القياس. وتبعه أصحابه في هذه الطريقة، ولاسيما الشريف المرتضى علم الهدى (م436هـ) وأبو جعفر الطوسي وغيرهما، فألف المرتضى كتاب "الذريعة" والطوسي كتاب "العُـدّة" كلاهما في علم الأصول وهما لحد الآن من أفضل وأقدم المؤلفات في هذا العلم عند الإمامية. ولم يكتف السيد والشيخ بتأليف علم الأصول بل قاما بتفريع الفروع على طراز ماشاع بين المذاهب الأخرى قبل ذلك. - كما قاما بتأليف الكتب في مسائل الخلاف في الفقه - فللطوسي كتاب كبير باسم "المبسوط" في الفقه التفريعي، وقد نص في أوله على أن أصحابنا الإمامية كانوا حتى ذلك الحين يكتفون بالفقه المنصوص مجتنبين التوسع في الفروع حذراً من الوقوع في القياس والرأي. وقال: إني أطرح كل مافرّع الفقهاء حسب قواعدهم في التعويل على القياس، وأعالجها من دون القياس تعويلا على أصولنا.
وهذا الكتاب يُـعَـدَّ أول كتاب في الفقه التفريعي عند الإمامية. ولكن ليس معنى ذلك أنه لم يكن قبله تفريع في الفقه عندهم أصلا، فكيف يكون ذلك وفي كثير مما روي عن الأئمة (عليهم السلام) يوجد التفريع، بل يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام)(م148هـ) أنه قال: إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعو(9).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) (م203هـ) - وهو ثامن الأئمة - أنه قال: علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع(10). إلى غيرهما من الأحاديث. ولكن الإمامية لم يتوسّعوا في التفريع إلا قليلاً ووقفوا عند النصوص حسب ماقاله الطوسي.
وهذا النوع من الفقه شاع بعد الطوسي بين الإمامية وتوسّع عبر العصور إلى هذا الزمان، ولم يتوقف في وقت من الأوقات، ولهم في الفقه والأصول مطولات ومختصرات وكتب الفتاوي لاتعد ولا تحصى وبأساليب شتّى. ذلك لأن باب الاجتهاد عندهم مفتوح، لايتبعون فقيها معيّنا كما يقلد أهل السنة أئمتهم . وأنّ أئمة آل البيت أقوالهم من مصادر الفقه والاجتهاد، وليس الناس يقلدونهم كمجتهدين ، بل يتبعونهم كأئمة من العترة الذين قال فيهم النبي(صلى الله عليه وآله) : "إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي" على ماجاء في أكثر نصوص الحديث. وهذا هوالفارق بين مذهب أهل البيت والمذاهب الأخرى، وبين أئمتهم وأئمة المذاهب.
ومع ذلك لم تنقطع بتاتا طريقة الفقه المنصوص، أو الفقه الروائي ، فكان يوجد بين الفقهاء من يميل إليه تاركا الفقه التفريعي إلى أن قام بتجديده ونشره في القرن الحادي عشر عالم باسم "محمد أمين الإسترابادي" (م 1036هـ) وله كتاب باسم "الفوائد المدنية" وتبعه آخرون سُمّوا باسم "الإخبارية" لاعتمادهم على الروايات والأخبار، فشكّلوا جماعة في قبال جمهور الإمامية، الذين يعبر عنهم بـ "الأصوليين" لاعتمادهم على علم الأصول. ولهؤلاء الإخباريين آراء خاصة، وكان أكثرهم يقطنون "البحرين" وما جاورها من البلاد في الجزيرة العربية، ثم هاجروا إلى سائر البلاد ونشروا مسلكهم. والإخباريون بين الإمامية كأهل الحديث والسّلفية عند أهل السنة.
وهم بين مفرط في الإنكار على الأصوليين وعدّهم من أتباع طريقة أهل الرأي والقياس، وبين معتدل في الموقف. ومن أبرزهم وأعدلهم موقفا الشيخ يوسف البحراني الذي كان ساكناً في الحائر الحسيني (كربلاء) صاحب كتاب "الحدائق الناضرة" وغيرها من المؤلفات (1107 - 1186هـ).
والإخباريون كان لهم دور كبير في الدولة القاجارية وقبلها، ولاسيما في عصر هذا العالِم، إلا أنه قد نهض عالم فذّ من الأصوليين - وكان معاصرا له قاطنا معه في كربلاء ايضا - وقاومه بشدة ، وهو آقا محمد باقر الوحيد البهبهاني المعروف بـ "الأكبر" و"الوحيد البهبهاني" (1118 - 1208هـ) فتغلب علميا عليه وكسر صولة الإخباريين، وله مع البحراني قضايا مشهورة. وكان له تلاميذ وأصحاب من جلة المجتهدين، أخذوا زمام أمر الشيعة الإمامية بيدهم، وتبعهم أكثر الناس، فانعزلت الأخبارية وتركوا الساحة للأصوليين إلى عصرنا هذا.
وللأصوليين الذين تأخروا عن الوحيد البهبهاني آراء وإبداعات في علم الأصول لم يسبق لها نظير من ذي قبل، لا في الإمامية، ولا في غيرهم من أتباع المذاهب الفقهية الأخرى. كان هذا عرضاً موجزاً لمسيرة الفقه عندالشيعة الإمامية وقد آن الأوان لبيان مصادر الفقه وضوابطه عندهم.مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية
بعد أن أخذ الفقه بكامله موقعه عند الإمامية، أعلن الفقهاء أن مصادر الفقه هي الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وإليكم التفصيل:
 
1- الكتاب:
ويراد به القرآن، وهو الحجة الأولى عندهم، وغيرها من الأدلة تُعرَض عليه حتى لا تخالفه. والبحث عن حجية الكتاب كغيره من الأدلة من أهم المباحث الأصولية ولاسيما بحث ظواهر ألفاظ الكتاب، وحمل متشابهه على محكمه، ورفع التعارض بينه وبين ماثبت من السنة. ثم قسم كبير من علم الأصول يبحث في مفاهيم ألفاظ وردت في الكتاب والسنة من الأمر والنهي، والعام والخاصّ، والمطلق والمبيّن ، والمفهوم والمنطوق. كما أن بحثا جاء في الأصول حول الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة، ونسخ بعضهما ببعض.
وهناك بحث حول عدم تحريف الكتاب بعد ماشك فيه بعض الأخبارية استناداً الى روايات ضعيفة، فرفضه الأصوليون بتاتاً، وبينوا خطأهم، وضَعَّفوا وأبطلوا ، أو أوّلوا ما تمسّكوا به لرأيهم ، بحيث لم يبق مقال لقائل ولامصال لصائل. وكثيرا ما يسند هذا الخطأ الى الإمامية جمعاء، ولا يصّح ذلك إلا ما شذّ عن هؤلاء الأخبارية قديما وقد انصرفوا عنه بعد ذلك والحمد لله تعالى. فظهر أن نص الكتاب عند الإمامية كغيرهم متواتر قطعي كاد أن يكون من الضروريات عندهم.

2- السنّة
والمراد بها سنة الرسول (عليه السلام) وقد ألحق بها ما صح عن الأئمة(عليهم السلام). توضيح ذلك أن الكتاب والسنة هما الركنان المعتمد عليهما عند الإمامية كغيرهم من المسلمين، وقد جاء باب في كتاب الكافي بعنوان "الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ما من شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة"(11). وأيضا باب "الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب"(12) وفيهما روايات تصرح بأن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يستندون في أقوالهم إلى الكتاب والسنة، وهذا لا كلام فيه عند الإمامية، وقد ألحقوا ما استند إلى الأئمة بالسنة النبوية، ذلك لماثبت لديهم أنها حجة كسنة النبي، لروايات صحت عندهم من أشهرها حديث الثقلين المستفيض بل المتواتر عن طريق الفريقين، أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال في غير موقف: "اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي" وقد روي عن حوالي ستة وعشرين صحابي(13) وجمعت طرقه ومتونه مع اختلاف ألفاظها في رسالة باسم "حديث الثقلين" ونشرتها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة قبل حوالي خمس وثلاثين سنة، وقد جددنا طبعها مع تذييل منا من قبل "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية".
فالشيعة الإمامية يعتقدون حجية ماصح عن واحد من أئمة آل البيت من الروايات والأقوال والفتاوي كمصدر للشريعة استناداً إلى هذا الحديث وغيره من الروايات. ومن هذا المنطلق وسّعوا في مفهوم السنة إلى سنة المعصوم لتشمل سنة النبي والإمام كليهما. كما أن أهل السنة ألحقوا آثار الصحابة بالسنة وعملوا بها بشروط عندهم.
ومعلوم أن الإمامية كغيرهم من فقهاء المذاهب لا يقبلون الحديث إلا بشروط وقد قسّموا الأحاديث الى أقسام حسب ماجاء في "علم مصطلح الحديث" بتفاوت بينهم وبين الجمهور، فقد قسّموا الحديث إلى متواتر وغير متواتر، وغير المتواتر إلى خبر الواحد والمستفيض أو المشهور أو ما قطع بصحته بقرائن، وقسموا خبر الواحد إلى صحيح وموثّق وحسن وضعيف. ولمعرفة رجال الحديث عندهم علم خاص وقد ألفوا فيه كتبا مطولة ومتوسطة وموجزة، سموه "علم الرجال" كما سموا علم مصطلح الحديث "علم الحديث" أو "علم الدراية".
والبحث الذي استوعب قسما من علم الأصول هو حجية خبر الواحد الذي ليس قطعياً - وأكثر الأحاديث عندهم من هذا القبيل - فاحتجوا لها بآيات من الكتاب وبما ثبت عندهم من السنة أو الإجماع - وقد طال البحث حوله نقضاً وإبراما، لما ثبت عند القدماء من الامامية "أن خبر الواحد لا يجدي علماً ولا عملا" أي لا اعتبار به لا في حقل العقيدة ولا في حقل الشريعة. وهناك في مقابل ذلك رأي للاخبارية أن كل مافي الكتب الأربعة أي: "الكافي" للكليني (م329هـ) و"من لا يحضره الفقيه" للشيخ الصدوق (م 381هـ) و"تهذيب الأحكام" و"الاستبصار فيما اختلف من الأخبار" كلاهما لابي جعفر الطوسي (380 - 460) فهو قطعي الصدور، ولم يثبت هذا عند الأصوليين، فلابد لهم من إقامة الحجة على اعتبار ماجاء فيها أو في غيرها من كتب الحديث من الأحاديث غير القطعية. وهذا ما أوقعهم في الحرج إذ ليس عندهم كتاب يسمى بـ "الصحيح" كما عند الجمهور، بل كل حديث في هذه الكتب الأربعة أو في غيرها قابل للنقاش حتى تثبت صحته. ثم هذه الروايات قسم كبير منها متعارضة في بدو النظر، فلا تُقبل إلا بعد رفع التعارض. وقد تصدّى أبو جعفر الطوسي في كتابه "تهذيب الاحكام" لبيان رفع التعارض بينها وهو أول كتاب روائي في هذا الباب، لكنه كان حاويا للأخبار الموافقة والمتعارضة كلتيهما فخصّ الطوسي الأخبار المتعارضة بكتاب سماه "الاستبصار فيما اختلف من الأخبار" تعرّض فيه للجمع بين هذه الروايات بوجوه ذكرها في مقدمة هذا الكتاب. ومن هذا المنطلق فكتاب الاستبصار يحوي قسما من التهذيب فقط من دون زيادة عليه، وهو كتاب منتظم الأبواب خاص بالروايات المتعارضة، بخلاف "تهذيب الأحكام" الذي يعبر عنه الطوسي كثيرا بـ "الكتاب الكبير" فهو شرح لكتاب أستاذه الشيخ المفيد باسم "المقنعة" من غير انتظام ولا ترتيب أنيق وفيه أبواب للزيادات اللاتي ألحقها الطوسي بالكتاب ومكررّات من الأخبار أيضا. فقام في القرن الحادي عشر عالم باسم السيد هاشم البحراني (م 1107هـ) بترتيبه في كتاب سماه "ترتيب التهذيب" طبع على الحجر. ونحن وإن لا نعتبر تلك الكتب الأربعة صحاحا بالمعنى المصطلح عند أهل السنة، إلا أنها من أهم كتب الحديث عند الإمامية وما جاء في غيرها من الأحاديث أكثرها دون ماجاء فيها اعتباراً.
وقد كانت تلك الكتب مرجعاً للفقهاء إلى أن دونت في القرن الحادي عشر ثلاثة كتب مطولات: وهي "وسائل الشيعة في أحكام الشريعة" لمحمد بن الحسن الحر العاملي ( 1032-1104 ) وعليه المعوّل في الفقه منذ تأليفه و"الوافي" لمحمد محسن الفيض الكاشاني (م 1091) و"بحار الأنوار" لمحمد باقر المجلسي (1027 - 1111) فضُمّت هذه الموسوعات الثلاث إلى تلك الكتب الأربعة، مع تفاوت بينها كما بين تلك الأربعة، فإن الكافي من بين الأربعة اختص بجمع الروايات في حقل العقيدة والشريعة، فيعتبر جامعاً كصحيح البخاري ومسلم والترمذي عند الجمهور، والثلاثة الباقية خاصة بالسنن والأحكام. ومن بين الثلاث المتأخرة كتاب "الوسائل" أيضا خاص بالسنن والأحكام، و"الوافي" جامع لأحاديث الكتب الأربعة فقط، فهو باعتبار اشتماله لروايات "الكافي" يعد جامعا، و"البحار" جمَع روايات غير الكتب الأربعة في جميع الأصعدة من الأحكام والعقائد والتاريخ والمغازي والأخلاق والآداب وغيرها، فهو يعد جامعا أيضا، إلا أن اصطلاح "الجامع" و"السنن" الشائع عند أهل السنة ليس متداولاً بين الإمامية، وباعتبار أن المشايخ أرباب الكتب الأربعة كان أسماءهم "محمدا" وكذلك أسامي مؤلّفي المجاميع الثلاث الأخيرة فاشتهروا بـ "المحمدون الثلاثة الأول" و"المحمدون الثلاثة الأُخر".
وقد ضمت إليها في القرن الرابع عشر الهجري موسوعة باسم "مستدرك الوسائل" للشيخ ميرزا حسين النوري (م 1320) استدرك فيه مافات صاحب "الوسائل" أو مالم يرد ذكره عمداً من الأخبار، وموسوعة أخرى باسم "جامع الأحاديث الفقهية" ألـفت باشراف أستاذنا الإمام البروجردي رضوان الله عليه وبمباشرة جماعة ممّن تتلمذ عليه - وكنت أنا من جملتهم - وقد جمع فيها كل مافي تلك المجاميع مما يرتبط بالأحكام ، مع الجمع والإدغام بين الأسانيد والمتون. وفي هذا الكتاب مزايا هي عون للفقيه على الإحاطة بأخبار كل باب والإفادة منها مما لايوجد في غيره من كتب الحديث قبله.
أما بعد، فهذا عرض سريع للسنة عند الإمامية والتفصيل فيها يتطلّب مجالاً واسعاً جداً.
3- الإجماع
وقد كان الإجماع بشروط أحد مصادر الفقه عند الجمهور مستندا إلى حديث "لا تجتمع أمتي على خطأ" وإلى أدلة أخرى لم يثبت شيء منها عند الإمامية كدليل مقنع إلا أنهم عدّوا الاجماع في القرن الرابع من مصادر الفقه بمعنى آخر غير ما عند الجمهور، فالإجماع عند الجمهور عبارة عن اجتماع الأمة أو فقهاء الأمة على حكم في عصر من العصور، أما الاجماع عند فقهاء الشيعة فهو اجتماع جماعة يكون الإمام أحدهم على حكم من الأحكام. فمآل إجماعهم إلى السنة وليس دليلاً برأسه. ولهم أبحاث كثيرة في أقسام الإجماع من المحصّل والمنقول وفي كيفية كشفه عن قول الإمام المعصوم. وإن الإمامية حسب قاعدتهم في اعتبار الإجماع قد نصّوا على أنه لو اتفق اثنان أحدهما الإمام على حكم، واتفق جماعة غيرهما على ما يخالفه، فالعبرة بالأول دون الثاني. وقد تمسكوا بالإجماع في كثير من الأحكام، ونوقش بعضها من قبل الآخرين، وقد توجد دعوى الإجماع على حكم وعلى ضده من قبل فقيهين، بل من قبل فقيه واحد في كتابيه، ومن أجل ذلك لايعد الإجماع عندهم إلا مؤيداً لغيره من الأدلة، إلا في قليل من المسائل.
وقد ألحقوا بالإجماع "الشهرة" فبعضهم يفتي بما هو المشهور عند فقهاء الإمامية ولا يتعداه. وقد بحثوا في علم الأصول حول "الشهرة" وما أريد بها، هل هي شهرة فتوائية، أو شهرة روائية، وكان أستاذنا البروجردي له رأي خاص في الشهرة، فكان يعتبر شهرة حكم من الأحكام عند أصحاب الأئمة العارفين بأحكامهم هي الحجة. ومن هنا كان (رضي الله عنه) يهتم بجمع الفتاوي المشهورة بين الإمامية في عصر الأئمة (عليهم السلام)، أو ما قارب عصرهم، وقد جمعت بأمره فتاوي ابن أبي عقيل العماني الذي كان يعيش في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري، وكذلك فتاوي ابن جنيد الإسكافي (م 381هـ) المتقدم ذكره ويعبّر عنهما بـ "القديمين".
وكذلك ألحقوا بالإجماع "سيرة المسلمين" أو "سيرة المتشرعة" منهم بشروط. ونحن نعرف أن شيئا من ذلك كالإجماع ليس حجة ودليلا، الاّ بكشفها عن قول الإمام الذي هوالحجة عند الإمامية كما سبق.4- الدليل العقلي
ربما يظن من لا خبرة له بمصطلحات الإمامية أنهم يفتون بالعقل ويجعلونه دليلا من أدلة الأحكام، كالكتاب والسنة، وليس ذلك على إطلاقه، فإنهم إنما يلتجئون إلى ما استقل به العقل بعد الفحص واليأس عن وجدان الدليل: أي الكتاب والسنة والإجماع المعتبر، في ظروف الحيرة والشك في حكم من الأحكام الكلية أو الجزئية مثل الشك في أن "التدخين" حرام أو مباح، والشك في أن هذا السائل "خمر أو خل" فحينئذ يعوّلون على ماحكم به العقل من الوظيفة العملية لرفع الالتباس، وليس لاستنباط حكم شرّعه الله في ذلك، إذ لا طريق إليه. وقد قسّموا موارد الشك إلى أربعة أقسام:
أولا: ماله علم سابق، فجعلوه مجرى الاستصحاب، وهو دليل عند سائر الفقهاء أيضا فيحكمون بما ثبت سابقا لموارد الشك، وله فروع وأقسام كثيرة عندهم واستوعب قسماً كبيرا من علم الأصول.
وثانيا: ماليس فيه علم سابق فله ثلاثة أحوال:
أحدها ما يكون الشك فيه مقروناً بالعلم الإجمالي مثل أن يعلم أن الصلاة الواجبة يوم الجمعة إما الظهر أو الجمعة ولم يعلمها بعينها، أو يعلم أن أحد الإنائين نجس ولم يعلمه بعينه فالحكم فيه عقلاً الاحتياط، إذا كان الاحتياط ممكنا، لأن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي يستدعي الامتثال اليقيني، ولا طريق إليه سوى الاحتياط فيأتي بالصلاتين معا، ويرفع اليد عن الإنائين معا،وصولا إلى امتثال أمر المولى جل شأنه امتثالا قطعيا إجماليا.
ثانيها نفس الفرض فيما لا يمكن الاحتياط فيه، فالحكم التخيير عقلا، كما اذا دار الأمر بين شيئين لا يمكن الجمع بينهما كالواجب والحرام.
ثالثها مالا يكون الشك فيه مقرونا بالعلم الإجمالي - ويعبر عنه بالشك البدوي - كأن شك في وجوب عمل أو عدم وجوبه، أو في حرمة شيء أو إباحته، وليس لهما حالة معلومة سابقا، فالأصل فيه البراءة عقلا - وكذلك نقلا - عند الأصوليين، والاحتياط عند الأخباريين في الشبهات التحريمية خاصة، وهذا أحد موارد الخلاف بين الفريقين، وقد قسّموه الى الشك في الوجوب أو الحرمة وفي الحكم أو في الموضوع إلى غيرها مما جاء في الأصول.
هذه هي الأصول العملية الأربعة، الجارية في عامة أبواب الفقه. وهناك أصول أخرى خاصة ببعض الأبواب ولها أدلة خاصة: كأصل الطهارة، وأصل الحلّية فيما شك في طهارته أو في حلّيته. كذلك هناك قواعد فقهية غير ماذكر جارية في موارد خاصة من الفقه، ويدور أمرها بين كونها من الأمارات أو من الأصول مثل قاعدة اليد وقاعدة الصحة وغيرهما.
ومن ذلك يعلم أن حقيقة الدليل العقلي عند الإمامية، يبحث في الموقف العملي عند الشك في الحكم أو في موضوع الحكم. هناك طور آخر من الدليل العقلي مبني على استقلال العقل بحسن أو بقبح بعض الأعمال كحسن العدل وقبح الظلم، ويتفرع عليه الحكم شرعا، لما ثبت عندهم من أن كلّما حكم به العقل حكم به الشرع، وكذلك كلما حكم به الشرع حكم به العقل. وعند الإمامية في الدليل العقلي كلام طويل في علم الأصول، ويكفي الطالب بحث "المستقلات العقلية والدليل العقلي" في كتاب "اصول الفقه" للشيخ المظفر (رحمه الله).
ويجب التنبيه على أن عمدة المباحث الأصولية مشتركة بين الإمامية وأهل السنة، وإنما الفارق بينهما أمران:
الأول: الترتيب في الذكر، فإن أهل السنة يبدأون علم الأصول بالأحكام وأقسامها التكليفية والوضعية ثم يبحثون عن أدلة الأحكام من الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس وما ألحق به من الاستحسان والمصالح المرسلة وغيرهما. ثم يطرحون مباحث الألفاظ ثم مقاصد الشريعة ولها دخل مستقيم في القياس وما ألحق به.
أما الإمامية فيبدأون بمباحث الألفاظ، ثم حجية الأدلة واحدا بعد واحد، ثم الأصول العملية وما ألحق بها من الأصول والقواعد ويختمون بباب التعارض والتراجيح ومباحث الاجتهاد والتقليد. وفي خلال مباحث الألفاظ وغيرها أبحاث في الملازمات العقلية، كمقدمة الواجب والأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ واجتماع الأمر والنهي وغيرها. كما أن لهم بحث مستوف في خلال باب التعارض يعبّرون عنه بالتزاحم فيما إذا تزاحم أمران في مقام العمل -وهو بحث عقلي أيضا - مثل أن يبتلي المكلف في وقت واحد بأداء الصلاة وانقاذ الغريق، ولا يتّسع الوقت لهما معا، فعند ذلك العقل يحكم بتقديم الأهم على المهم، ومالا قضاء فيه على مافيه القضاء، فيجب إنقاذ الغريق وإن فات وقت الصلاة. وهذا باب من الأصول فيه حل لكثير من المستجدات والنوازل.
الثاني: التمييز بين الأمارات والأصول، وبين الأحكام الظاهرية والواقعية، وأيضا بين الأحكام الأولية والثانوية والأحكام الولائية، وتوضيحها: أن ما يتمسّكون به من الأدلة عند استنباط الأحكام يسمونها أمارة لكونها طريقا إلى الأحكام، وما يأخذون به عند الشك في حكم من الأحكام، كالاستصحاب، والبراءة، والاحتياط والتخيير، مما يحكم به العقل غالبا - وبعض منها دل عليه النقل أيضا - يسمونها الأصل، ومجموعها "الأصول العملية" - كما سبق - ذلك لأن مؤداها وظائف عملية فحسب، وليست طرقا إلى ماشرّعه اللّه في نفس الأمر. وقد يعبر عن الأمارات بـ "الأدلة الفقهية" وعن الأصول بـ "الأدلة الاجتهادية".
ثم مؤدّى الأمارات إن طابق الواقع الذي شرعه اللّه، فهي الأحكام الواقعية، وإن خالف الواقع لخطأ حدث في الاجتهاد، فهي أحكام ظاهرية يجب العمل بها على المجتهد وعلى من يُقلّده، وهي مجزية عند الله مادام لم ينكشف الخطأ. وعند الأصوليين بحث مبسوط في كيفية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية، ومن هذا المنطلق نشأ رأي لأحد كبار الأصوليين في القرن الرابع عشر، ألا وهو الشيخ ملا محمد كاظم الخراساني (م 1329هـ)، وهو صاحب كتاب "كفاية الأصول" أهم كتب الأصول الدراسية لحد الآن، وهو محور المحاضرات الأصولية المعبّر عنها بـ "البحث الخارج" - وهو رأي خاص في ترتيب الأحكام بحسب نشأتها عقلا، فرتبها إلى "الحكم الاقتضائي" - وهو الملاكات التي روعيت في إنشاء الأحكام، ثم الحكم الإنشائي الذي هو مجرد إنشاء من دون تحديد حدوده وتقييد قيوده، ثم الحكم الواقعي المشروط والمعلق ثم الحكم الواقعي المطلق، فحصر الأحكام الواقعية فيما بلغ المكلّفين وقامت لديهم الأدلة عليه من دون خطأ في الاستنباط، وأما مالم يصل إلى هذه المرحلة فهو حكم إنشائي أو حكم واقعي مشروط.
والحق أن علم الأصول عند الإمامية، في القرنين الأخيرين وُجد له طابع فلسفيًّ، فكثير من مسائلها اختلطت بالفلسفة، فلا يفهمها من لا يعرف الفلسفة الإسلامية، وقسم آخر منها من فرط غموضه هو بنفسه نوع من الفلسفة. وقد سرى ذلك إلى كثير من المسائل الفقهية الفرعية، فلها لون فلسفي أيضا.
وأما تثليث الأحكام إلى الأولية، والثانوية، والولائية، فقد نشأ من ملاحظة أن الأحكام التي شرّعها اللّه لموضوعاتها من دون عروض حالة خاصة عليها، كوجوب الصلاة والصوم وغيرها من الواجبات، وكحرمة الخمر ولحم الخنزير وغيرهما من المحرمات، هي الأحكام الأولية باعتبار تشريعها أولا، فإذا عرض ماغير الأحكام الأولية من الضرورات والأضرار ونحوها مثل الاضطرار الى أكل لحم الميتة، أو شرب الخمر لرفع العطش أو للتداوي إذا انحصر االأمر فيه، وما شابه ذلك ، فالحكم العارض بحسب الحالة العارضة هو حكم ثانوي لا يعارض الحكم الواقعي الأول ، لأنه ليس في عرضه وإنما هو في طوله، لأنه إنما جاء بعدتبدّل الموضوع بطروء الحالة العارضة، وهو باق إلى أن تزول تلك الحالة العارضة. والفقهاء يرفعون التضاد والتناقض بين كثير من الأحكام من هذا الطريق، ومنها رفع التضاد بين الأحكام الواقعية والظاهرية كما مر.
ومن هذا المنطلق يدخلون في علاج التعارض بين الأدلة والأصول، فوضعوا مصطلحات: التخصيص - وهو مصطلح عام - والتخصّص، والحكومة والورود، فإن الأدلة والأصول المتعارضة ليست على طراز واحد بل على أشكال متفاوتة في نسبة بعضها إلى بعض، وأعتقد أن أعمق المسائل الأصولية، وأشدّها غموضا هو معرفة إجراء هذه المصطلحات في مجاريها المقرّرة وعدم الخطأ فيها.
وأما الأحكام الولائية فهي ما يحكم بها الإمام القائد العام، المعبر عنه بـ "ولي أمر المسلمين" وهو ما اصطلح عليه المسلمون عموما، مع فارق بينهم في المصاديق، فعند الجمهور كل من تصدّى للحكم واتّفق عليه الناس فهو ولي الأمر، بشروط عند بعضهم، وعند أتباع آل البيت هذا المنصب خاص بأشخاص معنّيين من آل البيت، وهم الأئمة الإثني عشر، ثم من ينوب عنهم من الفقيه العادل الجامع للشرائط. وهذه الأحكام كثير منها من قبيل الأحكام الثانوية وهي تنشأ من عروض عارضة توجب تغيير الأحكام الأولية، وقسم كبير منها مفوّض إلى وليّ الأمر بما يراه من المصالح العامة للمسلمين فيحكم ويصدر لما لا حكم له فيه من المباحات (ويعبر عنها العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)بمنطقة الفراغ) حكما جديداً لايوجد فيما شرعه الله. وهذا ما اشتهر بـ "ولاية الفقيه" التي كان الإمام الخميني (رضي الله عنه) يعوّل عليها كثيرا في أحكامه وآراءه، وكان يقول إن هذه الولاية في نفسها من الأحكام الأولية، لكن ما يحكم به الولي الفقيه استناداً إلى هذه الولاية هي من الأحكام الثانوية، أو كما شاع التعبير عنها من "الاحكام الولائية".
وفي ذيل باب التعارض - كما سبق - باب بعنوان "التزاحم" وهذا يرجع إلى ملاحظة المصالح وملاكات الأحكام والترجيح بينها، وترجيح الأهم على المهم، وهذا المبحث مصيره إلى بحث "مقاصد الشريعة" وإلى استنباط وجه الشبه في الأقيسة والأشباه والنظائر ونحوها عند الجمهور. والولي الفقيه له مجال واسع في الإفادة من جميع ذلك. وهذه هي نقطة اتصال الاجتهاد عند الفريقين وللمشاركة الفعالة والجهود المماثلة بين فقهاء الفريقين في هذه وفي غيرها من طرق الاجتهاد ومسائل الفقه مجال واسع سوف يكون فيه حل لكثير من المسائل الفقهية، ولاسيما في صعيد الحكم والسياسة، والاقتصاد، والصحة، والصناعة، وغيرها بـإذن الله تعالى.
وكذلك فيه تعايش فقهي بين أئمة المذاهب الإسلامية وخير كبير للمسلمين. والتعايش العلمي والتعاون الثقافي من أهم طرق التقريب بين المذاهب، وربما يكاد يعتبر سببا وحيدا، للوحدة الإسلامية المنشودة من قبل المصلحين من علماء الأمة في القرن العشرين، وأخصّ بالذكر تلك النخبة من العلماء الكبار الذين قاموا بتأسيس "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" بالقاهرة منذ الخمسينات ، فبذلوا جهودا مشكورة في سبيل إرساء قواعد التقريب بين الآراء في مجال المسائل الفقهية المختلف فيها، (ولله الأمر من قبل ومن بعد).

ضوابط الاجتهاد عند الإمامية
بعدما مرت علينا من الأبحاث، لايكاد يخفى على أحد أن الاجتهاد يتطلب شروطا وأسبابا يجب اجتماعها عند المجتهد - نذكرها بـإيجاز:
الأول: معرفة جملة من العلوم: كالعلوم الأدبية من اللغة والصرف والنحو والاشتقاق والبلاغة ونحوها وكالعلوم القرآنية وخاصة التفسير عموما وتفسير آيات الأحكام خصوصا، وكثير من الباحثين حصروه في معرفة آيات الأحكام، والصواب التعميم لكل آيات القرآن، لأن في معرفتها بصيرة بالأحكام الإلهية وبسر التشريع، ثم بما شرعه الله تعالى للأمم الغابرة.
وأيضا معرفة السيرة النبوية - وغفلوا عنها غالباً - والسنة النبوية والأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت بعد تمحيصها وتوثيقها سندا ومتنا، وكان لأستاذنا الإمام البروجردي رأي خاص في وجوب الرجوع إلى روايات الجمهور وأقوالهم وفتاويهم الشائعة في عصر أئمة أهل البيت، لإن كثيرا من أقوالهم وآراءهم ناظرة إلى ماشاع بين المسلمين من الفتاوي والأحكام في عصرهم، كما أن جملة من السائلين عنهم كانوا من فقهاء أهل السنة، ثم انتقلوا إلى مذهب الإمامية، أو بقوا على مذهبهم ورووا روايات أهل البيت وجمعوها في كتاب وهم جملة من أصحابهم. فهؤلاء السائلون والرواة أنست نفوسهم بما شاع عند الآخرين فرجعوا إلى أهل البيت ليعرفوا موقفهم أمام الآخرين - فكان يقول: إن فهم كثيرمن أقوال الائمة مبني على معرفة تلك الآراء، ومن هذا المنطلق كان يؤكد على أصحابه معرفة المسائل الخلافية في صعيد الفقه ومعرفة ما دارت على المسائل من الأحوال عند المذاهب الفقهية، وطالما كان يقول: إن قدماء أصحابنا كانوا حافظين لمسائل الخلاف عن ظَهر القلب.
وكذلك يُشترط معرفة علم مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وتاريخ القضاء والفقه بل وشيء كثير من التاريخ السياسي وسيرة الخلفاء والحكام، ودورهم في إصدار الفتاوى من قبل القضاة ورجال الفتوى، بل تاريخ نشأة المذاهب الفقهية على العموم.
وأيضا معرفة الفقه والفقهاء البارزين في المذهب، ومعرفة علم الأصول تفصيلا، وعلم الكلام ومباحث من الفلسفة وعلم المنطق والنجوم والأوزان، والنقود ونحو ذلك مما يحتاج إليه الفقيه في بعض الأحيان.
وأيضا معرفة الأعراف والعادات، فان للعرف دخلا كبيرا في تشخيص الحاجات ومعرفة الحوادث، ومعرفة متطلبات الأعصار ولاسيما في هذا الزمان بالذات. ومن ذلك يعلم أن الاجتهاد قد تعددت أسبابه ومقدماته مما لا يحيط بها عادة مجتهد واحد، ومن أجل ذلك اقترح بعض الباحثين تنويع الاجتهاد وإيكال كل نوع إلى من اختص به، او إيكال قسم من المسائل النوازل والمستحدثة إلى لجنة فتوائية جمعت بين أحضانها الأخصائيين في كل نوع من أنواع الفقه من الفقهاء، بل وغير الفقهاء من الخبراء في ما يحتاج إليه من العلوم الحديثة، والفنون المستجدة، والمفاهيم الجديدة.
الثاني، يرى كثير من الفقهاء الكبار شرط الاجتهاد في جميع هذه العلوم ولا يكفي التقليد فيها، وهذا الشرط في معرفة الكتاب والسنة وضوابط الاستنباط وعلم الأصول ونحوها كاد أن يكون مجمعا عليه، فاذا أفتى المجتهد بشيء اتكالا على فهم غيره من الكتاب والسنة، أو توثيق غيره للخبر، أو رأي غيره في قاعدة أصولية من دون اجتهاده هو فيها، فهذا نوع من التقليد، او قل: هو اجتهاد في نطاق المذهب، وليس اجتهادا مطلقا، وفي أقسام الاجتهاد كلام كثير عند الفقهاء من جميع المذاهب.
الثالث: العقل السليم، وحسن التشخيص واستقامة الرأي، والحذاقة التامة التي لا تحصل إلا بالممارسة الدائبة، واستفراغ الوسع ليل نهار ونحوها مما يجب حصوله في جميع العلوم والصناعات. وبعض فقهاء الإمامية زادوا شرطا آخر ربما يرجع إلى بعض ماذكر، وهو أن يملك المجتهد قوة قدسية، وذوقا فقهيا وشما تشريعيا، وهي مما يهبها الله تعالى لأهل التقوى والهداية (فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام...)(14) وتتطلب جهادا كبيرا، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)(15).
الرابع: الإخلاص والتقوى والتعهد والالتزام بما شرعه اللّه، والتحفظ والتماسك عن التساهل في الفتوى، والاجتناب عن الأهواء والآراء وعن التأثر بما يبدعه المبدعون في كل عصر ولاسيما في هذا العصر الذي غلبت فيه الأهواء .
الخامس: رعاية الترتيب بين الأدلة حسب ما أومأنا إليه، فلا يقدّم ماحقه التأخير، ولا يؤخّر ما حقه التقديم، وهذا يرجع إلى الحذاقة التامة والخبرة الكاملة في الاستنباط والتفقه بكل معنى الكلمة، وكذلك عرض بعض الأدلة على بعض ولاسيما عرض السنة على الكتاب، وهو موضع اتفاق عند أولي الالباب.


-----------------------------
* - بحث مقدّم الى "ندوة الحوار بين المسلمين عن الاجتهاد في الإسلام" المنعقدة بمدينة مسقط في سلطنة عمان في تاريخ 23 شعبان 1419 هـ الموافق 12 ديسمبر 1998م.
1- التوبة / 122 .
2- النساء / 83 .
3- التاج، كتاب الإمارة والقضاء، الفصل الخامس في الاجتهاد، نقلاً عن الترمذي وأبي داود.
4- ط قم ج 1 / 37 .
5- لاحظ تاريخ بغداد ترجمة الإمام أبي حنيفة.
6- رجال النجاشي: ترجمة أبان بن تغلب.
7- الكافي للكليني، ط طهران، ج 3 / 39 .
8- حاشية فهرست الطوسي ص 161 نقلا عن "الشيخ عبد اللطيف في رجاله".
9- الوسائل، كتاب القضاء، الباب 6 من أبواب صفات القاضي: الرواية 51 .
10- نفس المصدر: الرواية 52 .
11- اصول الكافي، ط لبنان، ج 1 / 110 .
12- نفس المرجع / 121 .
13- لاحظ كتاب جامع الاحاديث الفقيهة، ج 1 : باب حجية فتاوى وروايات أئمة اهل البيت(عليهم السلام).
14- الانعام / 125 .
15- العنكبوت / 69 . 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية