مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

دعوة إلى العلماء والباحثين

وأما إذا أشبعها بعبادة غير الله فقد انحرف عن الاستقامة، ووقع في الكفر أو الشرك، فالله تبارك وتعالى لم يطلب من الإنسان أن تكون عنده غريزة التدين، وإنما طلب منه أن يشبع هذه الغريزة الموجودة عنده فطرياً إشباعاً صحيحاً.
أما الحديث: فيقرر كذلك أن غريزة التدين موجودة عند كل إنسان:(كل مولود...)، وبين أن الانحراف والضلال إنما يحصل عند إشباع الإنسان هذه الغريزة الإشباع الخاطئ، أو الإشباع المحرم تبعاً لإرادة أبويه وإرشادهما له إلى الطريقة التي يريد أن يشبعا ولدهما غريزة التدين بها. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
هناك عهد أكبر وميثاق رباني أخذه الله على الناس جميعاً وهم في ظهر الغيب، وفي ظهور آبائهم في اللحظات الأولى عند بدء الخليقة، وعند ظهور البشرية؛ لتؤمن البشرية بوجوده وتعترف بالوهيته:( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهور هم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)(1).
فالفطرة توحيد جبلي لله، ومعرفة أولية؛ ولأنها أمر غريزي يولد بولادة البشر، وجزء كامن في نفس البشر، وهذا ما تؤكده آية الفطرة نفسها:(فأقم وجهك...)، وشطر الآية:(فطرة الله ) يدل على أن الفطرة غير قابلة للتبديل، بل هي حاضرة أبداً في النفس الإنسانية ويشعربها الفرد وإن سلك سلوكاً يخالفها، فهي إذا شديدة الالتصاق، ولكن الغفلة عنها بعد الكبر أمر ممكن الحدوث، ولهذا قال سبحانه وتعالى:(وإذ أخذ ربك) حتى لا نغفل عن ذلك، وأخذ الميثاق علينا؛ لأن الحواس لا تتأمل ولا تشاهد ولا تسمع ولا تعي، ولا تهتدي إلى التوحيد، ولا شك أنها تسبب للفرد غفلة كبرى عن حقيقة محسوسة نشاهد آثارها بالسمع، والبصر، والعقل، والقلب. ولهذا قال سبحانه (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون((2).
وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم...((3).
وقد تكون الغفلة بعدم استعمال الحواس عقوبة الهية للذين ينحرفون عن طريق الإيمان كما في قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب اليم..((4).
وقد وصف القرآن الكريم أكثر الناس بأنهم لا يعلمون؛ لغفلتهم عن الحقائق، وتعلقهم بالظواهر، حيث يقول عز شأنه: (وعد الله لا يخلف الله وعده...((5).
ومن الناس ـ أيضاً ـ من لا يستخلص العبر والنتائج من الحوادث التاريخية التي تكون آثارها شاهدة على سلوكهم كما حدث لفرعون:(فاليوم ننجيك..)(6)، وقوله تعالى:(إن الذين لا يرجون لقاءنا...)(7).
فبالإضافة إلى الفطرة التوحيدية ـ والتي هي غريزة وجبلة في الإنسان ـ فإنه سبحانه وتعالى أرسل الرسل ونزل الكتب التي تؤكد ما يشعر به غريزة وفطرة، وما يلاحظ بعقله وحواسه، ولا تكمل مسؤولية الإنسان إلاّ بعد إرسال الرسل مبشرين ومنذرين:(رسلا مبشرين ومنذرين...)(8).
ووصف الله سبحانه وتعالى الغافلين عن استعمال الحواس واعترافهم بذنبهم:(وقالوا لو كنا نسمع...)(9).
يقول الشيخ محمد عبده:(إن غرائز البشر وحدها ليست كافية في توجيه
أعمالهم إلى ما فيه صلاحهم، فلابد لهم من هداية أخرى تعليمية تتفق مع القوة المميزة لنوعهم، وهي: قوة الفكر والنظر، وتلك الهداية التعليمية هي: هداية الرسل منهم، والكتب التي ينزلها الله عليهم)(10).
مادة "فطر" في القرآن الكريم:
لقد استعملت مادة "فطرة" في القرى، الكريم في معرض الإشارة إلى خلق السماوات والأرض والإنسان،ففي خلق الإنسان نجد الآيات التالية:
قال تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها..)(11).
وقال تعالى: (فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة...)(12).
وقال تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا..)(13).
وقال تعالى: (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجرِيَ إلاّ على الذي فطرني)(14).
وقال تعالى: (ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون)(15).
وقال تعالى: (إلاّ الذي فطرني فإنه سيهدين)(16).
وفي مجال خلق السماوات والأرض نجد الآيات التالية:
قال تعالى: (قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن..)(17).
وقال تعالى: ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض..)(18).
وقال تعالى: (فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة...)(19).
وقال تعالى: (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض..)(20).
وقال تعالى: (الحمد لله فاطر السموات والأرض...)(21).
وقال تعالى: (قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة...)(22).
وقال تعالى: (فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً...)(23).
ومن خلال النظر في آيات المجموعتين السابقتين نرى: أن كلمة "فطر" و"فاطر" وردتا وصفاً لفعل الله تعالى الذي لا يقدر أحد من خلقه على مثله، بل يستدل في مثل هذا الفعل على وحدانيته تعالى؛ لأن فيه ما بشيء بقدرته وتفرده، وبديع صنعه، وحسن صبغته.
في البدء كان الله، ولا شيء مع الله، ولا شيء غير الله، قائم بنوره وكبريائه وحده.
استغنى بذاته عمن سواه، وافتقر إليه ما عداه، وما كان هناك سواه، ولا كان هناك ما عداه.
يقول العارفون بالله: ذكرنا الله قبل أن نذكره، وعرفنا قبل أن نعرفه، وأعطانا قبل أن نسأله، ورحمنا قبل أن نتضرع إليه... كيف نسمح لقلوبنا أن يكون فيها سواه ؟ أما كلمة "يتفطرن" في قوله تعالى: (تكاد السموات يتفطرن منه...)(24) وقوله تعالى: (تكاد السموات يتفطرن من فوقه..)(25). وكلمة "انفطرت" في قوله
تعالى: (إذا السماء انفطرت)(26). وكلمة "فطور" في قوله تعالى: (.. فارجع البصر هل ترى من فطور)(27) وكلمة "منفطر" في قوله تعالى: (السماء منفطر به...)(28)، فإنها في كل هذه الآيات تدل على عكس ما تقدم من حسن الخلق وإتقان الصنع لأنها وردت في مجال الدمار والهلاك.
روي عن الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه قال: "أفضل ما يتوسل به المتوسلون: كلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وأقام الصلاة فإنها الملة" / مجمع البيان من تفسير القرآن 1: 80 مقدمة الكتاب
_____________________
1 ـ الأعراف: 172.
2 ـ النحل: 78.
3 ـ الأعراف: 179.
4 ـ النحل: 104 ـ 108.
5 ـ الروم: 6.
6 ـ يونس: 92.
7 ـ يونس: 7.
8 ـ الأعراف: 136 و 146.
9 ـ الملك: 10 ـ 11.
10 ـ تفسير المنار لمحمّد عبده 2: 287.
11 ـ الروم: 30.
12 ـ الإسراء: 51.
13 ـ طه: 72.
14 ـ هود: 51.
15 ـ يس: 22.
16 ـ الرخرف: 27.
17 ـ الأنبياء: 56.
18 ـ الأنعام: 14.
19 ـ يوسف: 101.
20 ـ إبراهيم: 10.
21 ـ فاطر: 1.
22 ـ الزمر: 46.
23 ـ الشورى: 11
24 ـ مريم: 9.
25 ـ الشورى: 5.
26 ـ الانفطار: 1.
27 ـ الملك: 3.
28 ـ المزمل: 18.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية