مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

 استثمار موارد الأوقاف (الاحباس)(1)
 الشيخ محمّد واعظ زاده الخراساني


يجمع الفقهاء على مراعاة ما جاء في عقد الوقف من الشروط والقيود ولا يجوز التصرف في مال الوقف إلاّ بإذن الواقف وليس لناظر الوقف حق في أي تصرف من دون هذا الأذن ولو اقتضى الأمر التصرف خلاف شرط الواقف فلابد أن يكون تحت إشراف ولي الأمر. من هنا فلابد من لجنة يشكلها ولي الأمر لمراقبة إعمال الناظرين في أمر الوقف ليكون التصرف وفق أصول مقننة.
المراد بهذا العنوان كما يلوح منه هو استثمار الناظر أو المتولي للوقف منافع الأوقاف والاكتساب بها بغية تنميتها في سبيل مصلحة الوقف والموقوف عليهم قبل صرفها في مصارفها المقررة لها حسب الوقف فهل يجوز هذا العمل أو لا يجوز إطلاقا أم في ذلك تفصيل؟
__________________________________
[1]ـ بحث مقدم إلى مجلس مجمع الفقه الإسلامي (الدورة الثانية عشر) المنعقد بالرياض.(25ج2-1 رجب 1421هـ).  
(12)
تمهيد
لإخلاف في أن الناظر الشرعي في أمور الوقف ملزم بمراعاة ما جاء في عقد الوقف من الشروط والقيود وقد شاع في فقه الإمامية قولهم ( الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) استناداُ إلى ما روي عن بعض أئمتهم وارى انه موضع اتفاق جميع الفقهاء. وهذا هو مؤدى قولـه تعالى:﴿يا أيها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ وقول النبي(ص) (المؤمنون عند شروطهم).
وهذا الحكم شامل لكل ما يرجع إلى الموقوف عليهم والى مصارف الوقف والى إنحاء التصرفات فيه ولا شك أن الاستثمار بموارد الوقف تصرف في مال الوقف فلا يجوز إلاّ بإذن من الواقف حسب ما شرطه في عقد الوقف أذنا عاما بان يرخص للناظر التصرف فيه بما يراه من المصلحة أو أذنا خاصا بان ينص على الاستثمار بموارد الوقف وليس للناظر أي تصرف من دون هذا الأذن على أني لم اقف إلى الآن على دراسة لهذا الموضوع لأحد من الباحثين ولذا فسوف أخوض في هذا البحث حسب القواعد المقررة في الفقه.
صور المسألة
لا ريب أن للواقف الأذن في الاستثمار سواء أكان أذنا عاما أو خاصا فان أذن له بأحد الطريقين جاز للناظر الاستثمار بمال الوقف مراعيا شروط الوقف فلو شرط الاستثمار بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو الإجارة أو غيرها جاز له الاستثمار بذلك فقط ولو عم الاستثمار بكل ما فيه مصلحة فهو حر في اختيار طرق الاستثمار مراعيا للأولى فالأولى إلاّ أن تشخيص المصلحة والأولوية موكول إلى من أوكل الواقف الأمر إليه فلو أوكله إلى الناظر فله التصرف فيه حسب ما يراه من المصلحة وان أوكله إلى أهل الخبرة والمختصين بها فيجب
(14)
العمل برأيهم دون الاستبداد برأيه.
وأما إذا لم يأذن الواقف أذنا عاما أو خاصا في الاستثمار وأراد الناظر التصرف في المال بذلك فله صور:
الأول:أن يبدأ بالعمل بإذن من الموقوف عليهم إذا انحصروا في أشخاص معدودين ورخصوا له الاستثمار متفقين وهذا الفرض يجري عادة في الوقاف الخاصة.
الثانية:أن يباشر الاستثمار بأذن من الحاكم الشرعي إذا كان الوقف على الجهات العامة كالمساجد والمدارس والمستشفيات ونحوها.
الثالثة: أن يتصرف بذلك بحسب ما يراه من المصلحة من دون أذن الحاكم ولا من الموقوف عليهم في كلا القسمين.
ومجرى البحث في الصور الثلاث في موردين: الجواز والضمان:
أما الجواز فمشروط في جميع الصور بان لا تكون هناك حاجة ملحة أو ضرورة لصرف موارد الوقف في مصارفها المقررة بان تكون للموقوف عليهم أو للمساجد والمدارس مثلا حاجة إلى صرف الموارد فيها كان يكون المسجد يحتاج إلى العمارة أو إلى الفرش والضوء ونحوها فلا يجوز صرف أموالها إلاّ في سد تلك الحاجة ولا يجوز التأخير فيه بصرفها في الاستثمار حرصا على زيادة الموارد وليس للحاكم أيضاً الأذن بذلك أما الموقوف عليهم فلو اتفقوا على ذلك فالظاهر الجواز ولا موجب للمنع.
إلا أن يقال الموقوف عليهم لهم حق استيفاء الموارد والمنافع وصرفها في مصالحهم وليس لهم غير ذلك فليس لهم حق الأذن في الاستثمار إلاّ بان يصرفوها بعد القبض فيما رأوها مصلحة لهم ومن جملتها مصلحة الاستثمار وليس للناظر إلاّ دفعها إليهم عملا بالوقف حيث أن الواقف نص على ذلك فأذنهم
(15)
بدخول الناظر بصفته ناظرا في عملية الاستثمار مخالف لشرط الواقف نعم بعد أن استوفوا حقوقهم فلهم أن يضعوها تحت يد من يستثمرها لهم ولو كان هذا الشخص هو الناظر ولكن الناظر حينئذ وكيل لهم ويدخل كوكيل أو أجير لهم في هذا العمل وليس كناظر للوقف ولا موجب لمنعه عن قبول وكالتهم إذا كان أهلا لذلك.
ولقائل أن يقول: أن دخوله في هذا العمل فيه شبهه التهمة فيجب أن يجتنب عنه دفعا للتهمة. وأني لا أرى وجها لذلك إلاّ في حالات خاصة يوجد فيها توجيه لهذه التهمة فالأولى الاجتناب عن مواضع التهم ولاسيما إذا أدى إلى انشغاله عن أداء وظيفته كناظر للوقف. وليس عندنا إلاّ القول بان الاجتناب عن قبول الوكالة أولى ولا إطلاق للقول بالمنع.
هذا في الأوقاف الخاصة وأما في الأوقاف العامة فان كانت هناك ضرورة لصرف موارد الوقف في مصارفها المنصوصة عليها في عقد الوقف فالمتعين صرفها في ذلك ولا يجوز العدول عنها بصرفها في سبيل الاستثمار من قبل الناظر لا من عنده ولا بإذن الحاكم وولي الأمر.
فان اذنهما لا يقدم على مصلحة الوقف وعلى نظر الواقف مع انهما حين العلم بصورة المسألة سوف لا يأذنان بذلك.
أما إذا لم تكن هناك ضرورة لصرفها في مصارفها المنصوصة بل كانت هناك سعة في العمل فهل يجوز للناظر صرفها في سبيل الاستثمار من عنده أو باذن من الحاكم وولي الأمر أو لا يجوز ذلك إطلاقا فهذا الفرض مورد البحث.
بان نقول إذا فرضنا أن الاستثمار يعين الناظر على حفظ مال الوقف وعمارته بحيث لولاه لضاع وخرج عن حيز الاستفادة فالظاهر جواز الاستثمار بل وجوبه على الناظر ومع ذلك يحتاط بالاستشارة والاستئذان من الحاكم
(16)
الشرعي بعد استشارة الخبراء. أما في غير هذا الفرض كأن لم يكن هناك ضرورة ولا يتوقف حفظ الوقف على الاستثمار وانه لا يترتب عليه سوى زيادة المنافع والتوسعة على الناس فالوجوب منتف أصلا أما الجواز فيدور مدار قاعدة فقهية وهي أن الأصل في الأحكام في غير العبادات هو المصلحة فهي مقدمة على سائر القواعد والنصوص وهذه القاعده بهذه السعة غير ثابتة ومآل الأمر إلى نظر الفقيه في كلّ زمان لا باعتباره الحاكم الشرعي فيحكم بل باعتباره فقيها مرجعا للناس في الحوادث الواقعة فيفتي: فان اطلع الفقيه على صورة المسألة ولاحظ الشروط وجوز التصرف فيه بالاستثمار يجوز الدخول فيه للناظر والا فلا.
هذا مقتضي القواعد في اصل الجواز أما الضمان والمراد به أن الناظر والمتولي للوقف الذي يباشر عملية الاستثمار هل يضمن الخسارة إذا واجه الاستثمار ضررا على أموال الوقف ومنافعها أو لا يضمن باعتبار أمانته؟
لا ريب أن الناظر للوقف كالوصي للأيتام أمين في تصرفاته: إذا لم يتجاوز الحدود بإفراط أو تفريط فإذا حدثت خسارة أو آفة في اصل رقبة الوقف أو في موارده من دون قصور أو تقصير من قبل الناظر فلا يضمن أما إذا حدثت من قبله ما يعد قصورا أو تجاوزا عن حدود ما قرر له من فبل الواقف فسوف يكون ضامنا وان صدر ذلك منه رعاية للمصلحة فان غاية ما يترتب على المصلحة هي جواز التصرف أما الضمان فلا يرتفع بذلك إذ ليست هناك ملازمة بين جواز عمله وبين ارتفاع الضمان عنه.
وهذا نظير ما روي عن انس في الوديعة ( قال: استودعت مالا فوضعته مع مالي فهلك من بين مالي فرفعت إلى عمر بن خطاب فقال: انك لامين في نفسي ولكن هلك من بين مالك فضمنته)3 الودعي أمين لكن الذي وضع الوديعة في
(17)
أمواله فهلكت ضمان لها وان كان وضعها في أمواله جائزا له.
والقول الفصل في الضمان انه إذا دخل الناظر في عملية الاستثمار بإذن من الواقف سواء أكان أذنا عاماً أو خاصا حسب ما تقدم فعليه جائز والضمان منفي عنه أما في غير هذه الصورة فلو جوزنا له الاستثمار رعاية للمصلحة فهذا لا ينفي عنه الضمان بل هو ضامن في جميع ما تقدم من الفروض لان فيها خروجا عن شرط الوقف إلاّ في صورة واحدة وهي إذا أمره بذلك الحاكم الشرعي أو ولي الأمر دون ما إذا أذن له أحدهما بذلك فانه لا يسلب عنه المسؤولية والضمان.
والحق أن أمر الأوقاف صعب متشتت الأطراف فلابد لولي الأمر أن يشكل لجنة صالحة تتمتع بالخبرة للنظر فيها ولمراقبة أعمال الناظرين وحل مشاكلهم لو اقتضى الأمر التخلف عما شرطه الواقف وحينئذ يسهل أي عمل يصدر من الناظر من استثمار وبيع وشراء وتبديل الوقف بالأحسن إلى غيرها من التصرفات المشروطة بشروط ومع ذلك فالضمان باق إلاّ في ما استثني من الفروض الضرورية والعلم عند الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.
__________________________________
1 ـ وهو المروي عن أبي محمّد الحسن بن علي العسكري ـ عليه السلام ـ (الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها أن شاء الله) وسائل الشيعة الحر العاملي ط مؤسسة آل البيت ج 19 ـ 175.
2 ـ المائدة:1.
3ـ كنز العمال ج 16 ـ ص 632.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية