مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الاقليات المسلمة في الغرب
التحديات الثقافية
الشيخ محمّد على التسخيري*


 

المحافظة على هوية الاقليات المسلمة في الغرب وحمايتها من الاغتيال الثقافي جزء من مسؤوليات الأمة الإسلاميّة. ولمنظمة المؤتمر الإسلامي تجربة رائدة في هذا المجال خاصة بعد مؤتمر طهران عام 1997.
والتحديات التي تواجه هذه الاقليات منها: التربوي والتعليمي ومنها الاجتماعي والحقوقي ومنها الثقافي والإعلامي والمواجهة ينبغي أن تهتم بالبناء والتحصين الداخلي ومواجهة عمليات الاغتيال والتأثير في الوسط المحيط. والمدخل الهام لصيانة الاقليات المسلمة هو وحدتها ووضع برنامج عملي فاعل لحياتها يتجاوز الإطار المذهبي والانتماء الجغرافي واللغوي فالتعددية لابد أن تتحول إلى نقطة تقارب وقوة ووحدة.
__________________________________
* ـ رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية.
(53)
الحديث عن الاقليات المسلمة يستبطن الكثير من معاني الألم والحزن لأنه يرتبط بمساحة شاسعة من المسلمين الّذين يعيشون في بحر من الأكثرية غير المسلمة الأمر الذي يعرضهم إلى ألوان متعددة ومعقدة من المشاكل والتحديات التي تهدد وجودهم وهويتهم وواقعهم.
ونقصد بالاقليات المسلمة المسلمون الّذين يعيشون في البلدان غير العضوة بمنظمة المؤتمر الإسلامي وعددهم حوالي (450) مليون مسلم يتوزعون على قارات العالم الست أي ما يقرب من ثلث عدد المسلمين.
وميدان بحثنا هو جزء مهم وأساس من هذه الاقليات وهي الاقليات المسلمة في الغرب التي يزيد عدد نفوسها على (25) مليون نسمة منهم (16) مليون مسلم يعيشون في أوربا (عدا ألبانيا والبوسنة حيث المسلمون أكثرية) و(8) مليون مسلم في الأمريكيتين وحوالي نصف مليون مسلم في استراليا بينهم سكان أصليون وآخرون مهاجرون ويشكلون بمجموعهم نسبة 2% من عدد المسلمين في العالم و 6/5% من عدد نفوس الاقليات المسلمة. ورغم أنها نسب بسيطة كما إلاّ أنها من الناحية النوعية تحظى بخصوصيات متميزة في مقدمتها موقع الغرب وتأثيره على المستويات العالمية كافة وتتعرض هذه الاقليات - وبشكل يومي – إلى ألوان بشعة من الاغتيال الثقافي ومحاولات خطف الهوية.
والمحافظة على هوية هذه الاقليات وحمايتها من الاغتيال جزء من المسؤولية الإسلاميّة العامة التي يتحملها الفرد والمجتمع وتتحملها المؤسسات والتيارات الإسلاميّة وكذلك الدول والحكومات المسلمة والمنظمات الدولية الإسلاميّة وفي مقدمتها منظمة المؤتمر الإسلامي على اعتبار أن عملية الاغتيال الثقافي عملية معقدة وغير معلنة في الغالب وهي اكبر
(54)
تحد يواجه الاقليات المسلمة لأنه يستهدف سلب هويتها وتذويبها في البيئة العامة.
واعتمدنا هنا مصطلح (الاغتيال الثقافي) بدل (الغزو الثقافي) لاعتبارات موضوعية فالغزو يتم عادة من قبل مجتمع ضد آخر أي انه عبارة عن هجوم وزحف خارجي أما الاغتيال فيتم عادة من قبل عناصر داخل المجتمع ضد عناصر أخرى في المجتمع نفسه. وبما أن الاقليات المسلمة تعيش في دائرة المجتمعات الغربية وتتعايش معها بمستويات معينة فأنها تشكل مفردة متميزة داخل هذه المجتمعات وبالتالي فهي جزء منها. من هنا فهي تتعرض لعامل داخلي يستهدف اغتيالها ثقافيا وليس لعامل خارجي يستهدف غزوها ثقافيا. على العكس من المجتمعات المسلمة التي تعيش في البلدان الإسلاميّة والتي تتعرض للغزو الثقافي من الخارج رغم انه مدعوم بعناصر محلية.


تجربة منظمة المؤتمر الإسلامي في دورتها الجديدة
منظمة المؤتمر الإسلامي هو التنظيم الدولي الرسمي الأساس الذي يضم جميع البلدان الإسلاميّة وقد أخذت المنظمة على عاتقها – في حدود أهدافها وإمكاناتها – الاهتمام بقضايا المسلمين خارج الدول العضوة في المنظمة إلاّ أن منظمة المؤتمر مرت بتجربة متميزة في هذا المجال بعد تسلم الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية رئاسة المنظمة في أعقاب قمة طهران عام 1418هـ 1997م فقد شكلت هذه القمة نقلة كبيرة في تاريخ المنظمة دفعت الكثير من المراقبين إلى وصفها (القمة القرن) و ( قمة التاريخية). وأناطت هذه القمة بلجنة تنسيق العمل الإسلامي التابعة للمنظمة مهمة متابعة شؤون الاقليات المسلمة. ولا أزال أتشرف بمسؤولية رئاسة هذه اللجنة التي عبرت عن حساسية ملحوظة تجاه
(55)
قضايا الاقليات المسلمة في العالم في أعقاب قمة طهران.
وكانت قمة طهران قد أصدرت قرارا برقم 47/8 س (ق.إ) بشأن الدفاع عن حقوق الجماعات والاقليات المسلمة في الدول غير الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي ونص على «الطلب من المنظمات والهيئات الإسلامية الأعضاء في لجنة تنسيق العمل الإسلامي التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي عقد اجتماع مبكر لدراسة وضع خطة عمل للحفاظ على حقوق الجماعات والاقليات المسلمة في أجزاء مختلفة من العالم». وتنفيذا للتوصية هذه قام الأمين العام للمنظمة بتشكيل لجنة خاصة لمتابعة هذا الموضوع عرفت بـ«لجنة الخبراء المكلفة بوضع خطة عمل للحفاظ على حقوق الجماعات والاقليات في الدول غير الأعضاء».
ثم أكد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلاميّة المنعقد في قطر 1418هـ:1988 ما جاء في قرار قمة طهران بشان الاقليات المسلمة فقد اصدر قرارا برقم 46/25- س ذكر فيه أن المجتمعات والاقليات المسلمة التي تعيش في الدول غير الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي تمثل من حيث العدد ما يزيد على ثلث الأمة الإسلاميّة وأكد ضرورة تبني آليات علمية لرعاية شؤونهم وأبدى ارتياحه لنشاطات منظمة المؤتمر في أعقاب قمة طهران ولا سيما بعد اطلاعه على تقرير الأمين العام بشان وضع المجتمعات والاقليات المسلمة والذي تحول إلى وثيقة رسمية حملت رقم (Lcfm/25-98/mm/D.1).
وبعد مرور حوالي شهرين على مؤتمر الدوحة عقدت لجنة الخبراء التي شكلها الأمين العام مؤتمرا في طهران وكلفت بمهمة رئاسة اجتماعها وكان أهم قراراتها عقد مؤتمر في العاصمة الأسبانية تستضيفه رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية بالتعاون مع منظمة المؤتمر الإسلامي. وهكذا عقد
(56)
المؤتمر في أواسط عام 1419هـ 1989/م وحظي بأهمية خاصة بالنظر لنجاحه في تحقيق الأهداف المرسومة وفي إيجاد آليات تمكن المنظمة والدول الأعضاء فيها من رعاية شؤون الاقليات المسلمة على النحو المطلوب وركز المؤتمر في توصياته على الجانب الثقافي وطالب الجهات والمؤسسات العضوة في لجنة تنسيق العمل الإسلامي تكريس نشاطها في هذا الجانب فمن مجموع (16) توصية أصدرها المؤتمر اختصت (11) توصية بجانب المحافظة على الهوية الثقافية للاقليات المسلمة اختصاصاً مباشرا إضافة إلى (3) توصيات بشكل غير مباشر أي (14) توصية من مجموع (16) توصية.
وكرر مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية المنعقد في بوركينافاسو عام 1420هـ/1999 مطالبة الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بعقد اجتماع في وقت مبكر لدراسة خطة عمل للحفاظ على حقوق المجتمعات والاقليات المسلمة واصدر قراراً بهذا الشان يحمل الرقم 51/26- س وبناء على هذا القرار دعا أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي لجنة الخبراء المذكورة لعقد اجتماع آخر حدد مكانه في مدينة ساوباولو بالبرازيل. وكان لرئاسة لجنة تنسيق العمل الإسلامي ورابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة بالجمهورية الإسلاميّة الإيرانية دور فاعل في التحضير للمؤتمر.
وهكذا عقد مؤتمر ساوباولو في شهر محرم الماضي (1421هـ/2000م) بالتعاون بين رابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة ومركز الدعوة الإسلاميّة في أمريكا اللاتينية وبأشراف لجنة تنسيق العمل الإسلامي ورعاية منظمة المؤتمر الإسلامي وبمراجعة لتوصيات المؤتمر الإحدى والعشرين سنجد أن (11) توصية منها ذات علاقة مباشرة بالحفاظ على الهوية الثقافية للاقليات المسلمة ومواجهة محاولات الاغتيال الثقافي و (5) توصيات ذات علاقة غير مباشرة
(57)
أي (16) توصية تختص بموضوع الهوية.
ومن خلال هذا الاستعراض السريع لموقع منظمة المؤتمر الإسلامي وتجربة لجنة تنسيق العمل الإسلامي في عملية حماية المسلمين خارج العالم الإسلامي من محاولات الاغتيال الثقافي، وقفنا على طبيعة النشاط المكثف للمنظمة في هذا المجال في أعقاب قمة طهران. وبصرف النظر عن نسبة نجاح المنظمة في تنفيذ توصيات لجانها ومؤتمراتها، فإن الدراسات التي تقدمها هذه اللجان والمؤتمرات وتوصياتها بشأن الأقليات المسلمة، تعد مادة نافعة جداً لا يمكن تجاوزها لأي جهد آخر يسعى للاهتمام بشؤون الأقليات المسلمة، وهو ما دعاني للحديث عن تجربة المنظمة في هذا المجال ومن هنا أستثمر الفرصة لأدعو جميع الاخوة أصحاب الاهتمام للاطلاع على هذه الدراسات والتوصيات، وقد بادرت رابطة الثقافة إلى طباعتها في كتب وملفات لتسهيل عملية الانتفاع بها.
 

تحديد إطار المشكلة
يتمثل إطار المشكلة ـ موضوع الدراسة ـ في التحديات التي تواجه المجتمعات والأقليات المسلمة في الغرب، على المستويات الثقافية والاجتماعية والإعلامية والتربوية والتعليمية، أو ما يشكل بالمجموع تحدي استلاب الهوية والاغتيال الثقافي.
وفي الحقيقة أن واقع المشكلة مركب من بعدين: ذاتي وخارجي يكملان بعضهما، أو بكلمة أخرى: وجود أرضية مساعدة توفرها الأقلية المسلمة لاستقبال التأثيرات الخارجية وتفعيلها ولعل أهم مظاهر هذه الأرضية المساعدة هو حالة الانبهار بالغرب وأساليب الحياة فيه، التي يعيشها بعض
(58)
المسلمين هناك، وهي حالة خطيرة جداً تلاحظ لدى المهاجرين أكثر من السكان الأصليين، ولاسيما حديثو العهد بالإسلام، إذ تبدو حالة الانبهار والتماهي هذه أضعف لدى حديثي العهد بالإسلام ويمكن أن نسمي هذه الحالة بالقابلية على الاغتيال الثقافي أو القابلية على استئصال الهوية، أي تقبل أي نوع من القصف والتصفية الثقافية، بل والمساعدة عليه، وهو مفهوم فيه محاكاة لمفهوم القابلية على الاستعمار الذي أطلقه المرحوم مالك بن نبي.
ونجمل هذه التحديات ـ التي يفرزها تكامل العاملين الداخلي والخارجي ـ في ثلاثة مجالات رئيسية، وعلى النحو التالي:
 

1 ـ التحدي التربوي والتعليمي
إن ثقافة أي مسلم تعتمد على المصادر الثقافية الإسلاميّة وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة الشريفة، ومفتاح هذه المصادر هي اللغة العربية، وهذه المشكلة يترتب عليها جهل حقيقي في فهم الإسلام، فعدم المعرفة باللغة العربية والاختلاف بين لغة الأقلية ولغة القرآن يتسبب في فجوة كبرى في الهوية الثقافية لهذه الأقليات، بل قد ينتج عنه نمط خاص من التفكير خلال البحث عن المصادر الثقافية للفكر الإسلامي، الأمر الذي يتسبب في خطر أكبر يهدد هذه الفئات من المسلمين في عقيدتهم نفسها وحتى الأقليات التي تنحدر من أصول عربية أو شرقية تفهم اللغة العربية، فأنها تفقد علاقتها باللغة العربية بمرور الزمن، وخاصة بالنسبة للجيل الثاني والثالث، مما يتسبب في الذوبان في نمط التفكير الذي تخلقه اللغة الأجنبية الجديدة، وهي حالة خفية معقدة من حالات الفقدان التدريجي للهوية.
وسلطات البلدان الغربية تعمل بأساليب مدروسة ودقيقة بهذا الاتجاه بل إن
(59)
بعض دول أوربا الشرقية ـ بلغاريا مثلاً ـ ظلت تسعى للقضاء على الأسماء العربية ومنع استخدامها ؛ لأنها تعتقد أن الشخص الذي يحمل اسم أحمد أو علي ـ مثلاً ـ حتّى لو كان لا دينياً، فإن مجرد حمله هذا الاسم العربي يعني بقاء ارتباطه بالرمز الإسلامي الذي يمثله الاسم، أي المحافظة على الحدّ الأدنى من الانتماء الثقافي للإسلام فتعمد تلك السلطات إلى تغيير هذه الأسماء وتعريض من يخالف للعقوبة وفي الأحوال المثالية، فأنها تفرض على المسلمين وضع لاحقة سلافية لأسمائهم العربية مثلاً: أحمدوف أو علييف وهذه القضية تكمل حروب الاستئصال العرقي إلى حدثت وتحدث في منطقة البلقان، والتي تهدف ـ أساساً ـ إلى مواصلة محاولات الاغتيال الثقافي.
كما أن النظام التعليمي الوطني للدول الغربية (وتحديداً مناهج الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية)، يعمل على تعميق الاتجاهات القومية والوطنية والتاريخية ويربط الإنسان المسلم بواقع ومظاهر وتاريخ لا يمت إلى هويته بصلة، وهو من الخطورة بمكان، بحيث يشكل العامل الخارجي الأساس للاغتيال الثقافي وتبرز هذه الخطورة أكثر من خلال مناهج الجغرافية والتاريخ والتربية الوطنية وعلم الاجتماع والأديان والفلسفة.
وفي الجانب التربوي الذي يقترن بالتعليم أيضاً، فإن الأقليات المسلمة من خلال تعايشها مع مجتمعات غير إسلامية تختلف عنها في العادات والتقاليد والمشاعر والسلوك والثقافة، فأنها بعبارة أخرى ـ تعيش في رحم غير الرحم الإسلامي، على اعتبار أن المجتمع هو الرحم الذي تنشأ وتتربى فيه شخصية الإنسان ويقترن هذا الأمر بخطرين:
الأول: إنه يؤدي إلى إحباط مفعول التربية الإسلاميّة وجعلها غير مجدية.
الثاني: إنه يؤدي إلى تعرض الأبناء إلى ضغوط وتجاذب شديد من قبل
(60)
نمطين من التربية، أحدهما ما يريده منه دينه، والثاني ما يفرضه عليه الواقع الاجتماعي الذي يعيشه. وستكتمل المشكلة التربوية بدراسة هؤلاء الأبناء في المدارس غير الإسلاميّة وتحت إشراف معلمين غير مسلمين، فضلاً عن اختلاطهم بزملاء من الدراسة غير مسلمين يعايشونهم يومياً، وربما فاق تأثير هؤلاء على الطلبة المسلمين وعلى تبلور شخصياتهم.
 

2 ـ التحدي الاجتماعي والحقوقي
تتسع مساحة هذا التحدي لكل ماله علاقة بواقع الأسرة المسلمة وعلاقات أبنائها مع بعضهم، والعلاقات الاجتماعية داخل الأقليات، وعلاقتها بالوسط الذي تعيش فيه، ومقدار الحرية الذي يسمح لها بامتلاك واقع اجتماعي مستقل يحظى بالحقوق المدنية والدينية والسياسية التي تميز هويته الاجتماعية والثقافية والدينية عن البيئة العامة.
لعل من أولى هذه التحديات هو النقص في عدد المساجد، إذ لا توجد في كثير من مناطق المسلمين مساجد تكون بمثابة مراكز دينية واجتماعية ومحاور لحركة الأقليات والجانب الديني هذا تتبعه مشاكل أخرى ترتبط بصعوبة ممارسة العبادات الأخرى، كصلاة الجمعة والصوم.
وتتسبب الأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة في البلدان الغربية في سلوكيات غير شرعية لدى الأقليات المسلمة فيها محاكاة وتماهي مع تلك الأعراف، وفي مقدمتها موضوع الاختلاط والانفتاح بين الرجال والنساء في كلّ الأماكن والأزمان في المجالس الخاصة والعامة في العمل، في مراكز التعليم من الابتدائية وحتى الدراسات العليا، في الرحلات الجماعية، في أماكن الترفيه
(61)
كالبلاجات وغيرها، وما يعنيه ذلك من علاقات بين الرجل والمرأة والأخطر من ذلك أن هذه الأقليات ـ حتّى الملتزمة منها ـ قد تصل إلى مرحلة من تسويغ هذا الواقع، بحيث يصعب عليها الفرز بين الحلال والحرام، لأنها تعودت عليه تماماً وأصبح جزءاً من حياتها.
ويدخل في السياق نفسه موضوع التبرج والسفور والأزياء الشاذة لدى النساء المسلمات، وكذا تسويغ الكثير من المحرمات الأخرى، كشرب وأكل الأشربة والأطعمة واللحوم غير الحلال وبشكل عام فإن هذا الواقع تخلقه اللاأبالية تجاه الأحكام الشرعية، سواء عن عمد أو جهل بها، ويخلقه أيضاً عدم التحسس من سلوكيات البيئة العامة (غير الإسلاميّة) التي يعيشون فيها.
وهناك حالة أخرى تؤدي إلى هذا الوضع أيضاً، وهو محاولة بعض أفراد هذه الأقليات التكيف الكامل مع البيئة العامة كي يتعايشوا معها بسهولة ولا يلفتوا الأنظار المريبة إليهم، ويتجنبوا التمييز الاجتماعي فيما لو أبرزوا هويتهم بصورة واضحة.
ومن الظواهر الاجتماعية السلبية لدى بعض الأقليات المسلمة هو التفكك الأسري، وفي ذلك تشبه بالبيئة العامة، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف الأبناء دينياً وسلوكياً، وتمردهم على الأعراف الأسرية والاجتماعية الإسلاميّة بالنظر لضعف سلطة الأم والأم وسلطة البيت عموماً، أما بعجز الوالدين عن ردع الأبناء نتيجة الضعف والفشل، أو لعدم مبالاتهم بهذه الظاهرة وقد يجد الأبناء في الصداقات مع أبناء غير المسلمين ملجأ للهروب من ضغوطات البيت ومما يزيد ـ أحياناً ـ من إهمال الآباء المسلمين لأبنائهم هو الضائقة المالية التي تضطر الآباء لتخصيص كلّ أوقاتهم للعمل لتوفير لقمة العيش.
وهناك ظاهرة قد تكون خاصة بالمسلمين المهاجرين، وهي عدم وجود لغة
(62)
وفهم مشتركين بين الجيل الأول والثاني والثالث منهم،فالجيل الثالث الذي ولد وتربى في الغرب ولا يعرف غير لغاته وأساليب تفكيره، يشعر بغربة شديدة من الجيل الأول وقد لا يفهمه أبداً، بالنظر لاختلاف الحاجات والمشاعر والنوازع واختلاف الرؤية للحياة. وهذا الأمر لا يرتبط بالأسرة الواحدة فقط، بل بجميع مفردات الواقع الاجتماعي والديني للأقليات.
وكذلك الجوانب الحقوقية المتمثلة في قضايا الزواج (الشرعي) والإرث وغيرها مما يرتبط بالقوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية فكثير من البلدان الغربية تفرض على مواطنيها (ومنهم المسلمون) القوانين المدنية الوضعية التي يتعارض الكثير منها مع الشرع الإسلامي، الأمر الذي يقود إلى مشاكل حقوقية كبيرة للمسلمين ودون شك فإن الانتماء بالجنسية للبلد الغربي سيترتب عليه الالتزام بقوانين هذا البلد بمختلف ألوانها ومضامينها، الأمر الذي يخلق هذه الإشكالية، أي إشكالية الانتماء بالجنسية للبلد الغربي والانتماء بالعقيدة للإسلام وما يترتب على ذلك من خصوصيات. وفي المجال نفسه تدخل إشكالية الانخراط في العمل السياسي والحكومي والحزبي الغربي بالنسبة للمسلمين.
 

3 ـ التحدي الثقافي والإعلامي
من الناحية النظرية والفكرية، فإن وجود الأقليات المسلمة في بيئة فكرية نقيضة، تتميز بسيادة الآيديولوجية العلمانية ومختلف الأفكار الوضعية والإلحادية، سيؤثر بشكل وآخر على البنية الفكرية لهذه الأقليات وعلى رؤيتها للدين ووظيفة الدين ويتكامل هذا الجانب النظري والفكري مع الجانب السلوكي والعملي الذي يتميز ـ هو الآخر ـ بسيادة آيديولوجيا المادة والمنفعة
(63)
واللذة التي أفرزت أشكال مختلفة من السلوكيات اللاأخلاقية واللاإنسانية، وأعطت لمفاهيم الصلاح والفساد، والسعادة والشقاء، والحب والبغض، والاستقامة والانحراف، والعدالة والظلم، والحق والباطل، والاستبداد والحرية، مضامين أخرى تناقض المفاهيم الإسلاميّة التي تتساوق مع الفطرة الإنسانية.
وخلق هذا التكامل في الغرب ثقافة خاصة طبعت الحياة هناك بلونها. ولاشك فإن التأثير الذي تتركه ثقافة الغرب على الأقليات المسلمة، لا يأخذ دائماً طابع الهجوم أو الغزو المحدد في وجهته، بل إن العملية كثيراً ما تأخذ طابع التأثر اللاواعي الذي ينتج عن خلل عميق في الذات المسلمة، بسبب انهيار الحصون الذاتية للفرد والأسرة والمجتمع المسلم، وهو ما أطلقنا عليه «القابلية على اغتيال الهوية».
والأقليات المسلمة ـ ككل الفئات الاجتماعية الأخرى ـ تعيش دون إرادتها تحت وطأة الإعلام الغربي الذي يأخذ على عاتقة مهمة نشر تلك الثقافة وتعزيزها وتكريس حضورها الاجتماعي، بالصورة التي تمكنه من التلاعب بمضامين الوعي الاجتماعي وتياراته، وتوجه الرأي العام بالاتجاه الذي يخدم مصالح سدنة السياسة والمال.
والأخطر من ذلك ظهور بعض الاتجاهات الثقافية والإسلامية في وسط الأقليات المسلمة المهاجرة، التي تتناغم مع نوعية الإعلام الغربي وتحاكيه وتتشبه به، وهي اتجاهات مستلبة ولا تقل خطورة وبشاعة في محاولاتها اغتيال هوية المسلمين الثقافية عن وسائل الأعلام الغربية ومعظم هذه الاتجاهات يستقر في الولايات المتحدة الأمريكية. إضافة إلى ظهور حركات اجتماعية غير مستقرة على المعتقدات الإسلاميّة ولاسيما في أوساط المسلمين السود في أمريكا.
(64)

المعالجات... خطوط عامة
لاشك أن الحلول التي تطرح لعلاج أية مشكلة، تفرض دراسة واعية ودقيقة لواقع المشكلة وتفاصيلها وخلفياتها، لتأتي المعالجات منسجمة مع حقائق المشكلة ولعل المناهج التي تطرحها الدراسات المستقبلية في استشراف المستقبل والتخطيط له وبلوغ الأهداف الموضوعة، تشكل أدوات نافعة لاكتشاف المعالجات اللازمة لمثل هذا المشاكل المركبة ففيما يرتبط بمشاكل الأقليات المسلمة في الغرب، فإن استشراف مستقبل هذه المشاكل وما ستشكله من ضغوطات على الواقع، سيحدد نوعية الأهداف التي ينبغي الوصول إليها، كما يحدد البدائل والخيارات التي تفرضها حقائق الحاضر، لكي تبتعد المعالجات عن حالة التوصيات العامة، ولغة ما يجب وما ينبغي، وهي اللغة التي تقف عادة خارج إطار الزمان والمكان وأرقامه، وهذا ما يستدعي فرصاً أخرى للبحث والدراسة.
الحديث عن المعالجات التي يمكن من خلالها مواجهة التحديات التي سبقت الإشارة إليها، تسبقه مداخل أساسية، يتمثل أهمها في ضرورة وقوف الأقليات المسلمة على حقيقة التحديات التي تواجهها ووعي هذه التحديات ومعرفة مضامينها ونوعياتها، دون تهويل أو إلغاء أو تبسيط حينها ستكون هذه الأقليات ـ كمدخل ثان ـ مهيأة للقيام بثلاث عمليات أساسية تكمل بعضها، بهدف صيانة هويتها وحمايتها من الاغتيال الثقافي:
الأولى: البناء والتحصين الداخلي (تحصين الجبهة الداخلية).
الثانية: مواجهة التأثيرات المحيطة وعمليات الاغتيال.
الثالثة: التأثير في الوسط المحيط (غير المسلم).
والعملية الثالثة التي مرّ ذكرها، تستدعي أن يتحول المسلمون إلى محاور
(65)
للتأثير في الوسط المحيط، أي عناصر تبليغية، من خلال السلوك الحسن والأخلاق الفاضلة، والكلمة الطيبة والدعوة الحسنة، وبث التعاليم والمفاهيم الإسلاميّة والتواصل الإيجابي مع غير المسلمين، ليخلقوا صوراً مشرقة عن الإسلام والمسلمين في أذهان الآخرين. وهناك الآلاف من المسلمين الّذين يعيشون في الغرب من أصحاب الكفاءات والاختصاصات، وهؤلاء بإمكانهم ـ في الوقت الذي يعملون فيه على صيانة هويتهم وهوية إخوانهم في العقيدة ـ التأثير في مجتمع النخب الفكرية والعلمية والثقافية الغربية الّذين يمارسون تخصصاتهم في أوساطها، بل ويضيفوا البعد الإسلامي إلى الحالة الثقافية والحضارية الغربية. فمن الخطأ الانعزال والتقوقع والانكفاء إذا حقق بعض الإيجابيات المؤقتة، فإن سلبياته على المديين القصير والبعيد هي أكبر بكثير.
أما المدخل الآخر،فهو وحدة هذه الأقليات في كلّ بلد، فمدخل توحيد الصفوف والكلمة هو أساس كلّ تخطيط أو نجاح يراد تحقيقه ولعل المؤتمرات العامة الدورية والاتحادات والبرلمانات ومجالس الشورى هي مظاهر ضرورية لهذه الوحدة، وبإمكانها استيعاب كلّ المسلمين في أي بلد، لكي يخرج الحديث عن الآلام والآمال والتحديات والحقوق من فم واحد يمثل المسلمين جميعاً والطموح أن تتجاوز هذه الكيانات المحلية إلى كيان أوسع يستوعب كلّ الأقليات المسلمة في أوربا وهكذا في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأستراليا. والوحدة والتنسيق والتقريب هنا يشتمل على كلّ حالات الاختلاف بين المسلمين في المذهب.. في اللغة.. في الجنسية.. في القومية.. في المستوى الاقتصادي.. في التوجه الاجتماعي.. في المشرب السياسي وغيرها.
ويمكن لمنظمة المؤتمر الإسلامي وأعضائها ممارسة دور كبير في مجال 
(66)
دعم الأقليات المسلمة في الغرب ودعم حقوقها وتنظيم شؤونها. ومن خلال العديد من اللقاءات والقراءات، وضعت المنظمة جملة من الأهداف والمخططات والتوصيات، التي نأمل أن تتحول بموجبها إلى واقع عملي.
وقد حثّ القرار 47: 8 س الصادر عن قمة طهران الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى إيلاء عناية خاصة بالجماعات والأقليات المسلمة التي تتعرض للقمع والاضطهاد بسبب معتقداتها الدينية، والتعرف على احتياجاتها وإبلاغها إلى الدول الأعضاء الأخرى، من أجل العمل على توفير الامكانات المادية والبشرية والعينية اللازمة، مع العمل على تكثيف النشاطات الإسلاميّة المختلفة: ثقافية وتعليمية، وكذا المساعدات الإنسانية المتنوعة، من أجل تقديم المزيد من الرعاية لتحسين الأوضاع العامة للجماعات والاقليات المسلمة كما طالب القرار الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر بإجراء اتصالات مع حكومات الدول التي فيها جماعات وأقليات مسلمة، من أجل التعرف على مشكلاتها واحتياجاتها، وعلى رؤية هذه الدول لكيفية وضع صيغة للتعاون مع منظمة المؤتمر الإسلامي لتوفير الاسهامات المطلوبة لتحسين أحوال هذه الجماعات والاقليات المسلمة، والحفاظ على هويتها الدينية والثقافية، مع إعطاء أولوية للاتصال بحكومات الدول غير الأعضاء التي تواجه الأقليات المسلمة فيها مشكلات ملحة ثم أعاد المؤتمر الطلب من إدارة الأقليات الإسلاميّة في الأمانة العامة للمؤتمر بمتابعة حالة الأقليات المسلمة، وخاصة ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان وتقديم تقرير سنوي عنها لمؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلاميّة.
وذهب مؤتمر مدريد في توصياته إلى دعوة منظمة المؤتمر الإسلامي والدول الأعضاء في المنظمة إلى مطالبة الدول الصديقة بتطبيق المواثيق
(67)
الدولية إزاء الأقليات الإسلاميّة ورعاية حقوقها الدينية والثقافية ولاشك فإن الثقل الاقتصادي وربما السياسي والموقع الاستراتيجي الذي تحظى به كثير من البلدان الإسلاميّة وعلاقة حكوماتها النوعية مع حكومات الدول الغربية، سيمكنها من استثمار هذه العوامل للتدخل الإيجابي المتوازن والمدروس لصالح الأقليات المسلمة في هذه الدول، ولاسيما ما يتعلق بحقوقها الدينية والثقافية.
كما طلب المؤتمر من الحكومات والمؤسسات الإسلاميّة تسهيل زيارة أبناء الأقليات المسلمة إلى الأقطار الإسلاميّة لتعميق انتمائها بالدول الإسلاميّة ورسالتها الحضارية العالمية ووضع خطة لاحتضان المتفوقين من أبناء وبنات الأقليات المسلمة، ودعوة (الايسيسكو) بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية وصندوق التضامن الإسلامي لتنظيم منح دراسية لهم سواء في داخل البلاد أو خارجها إضافة إلى دعوة مجمع الفقه الإسلامي والمؤسسات العلمية الأخرى لإقامة ندوات تركز على المشاكل الفقهية والفكرية التي تواجهها الأقليات المسلمة نتيجة أوضاعها الخاصة وإيجاد حلول مناسبة لها ثم مناشدة الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي القيام بتجميع نتائج الندوات التي عقدت عن الأقليات المسلمة، والتأكيد على إيجاد مركز معلومات خاص بهذا الأمر.
وأكد مؤتمر ساوباولو بالبرازيل هذه التوصيات والقرارات، وخاصة ما يرتبط بدراسة موضوع انضمام اتحادات الأقليات الإسلاميّة لعضوية لجنة تنسيق العمل الإسلامي المشترك التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
كما أكد ضرورة استمرار إقامة اللقاءات الإسلاميّة الدولية في الدول غير العضوة بمنظمة المؤتمر الإسلامي، لاستمرار النظر في حماية حقوق الأقليات
(68)
الإسلاميّة ومتابعة تنفيذ توصيات هذه اللقاءات وكرر مؤتمر ساوباولو دعوة وزراء إعلام الدول الإسلاميّة والمؤسسات الإعلامية فيها لمتابعة الدعاية المغرضة أو الطرح المشوه للإسلام في وسائل الإعلام، مثل السينما والتلفزيون والانترنيت، والاهتمام بملاحقتها والرد عليها، لتصحيح الصورة في أذهان المتلقين، وتوسيع مجال بث القنوات الإسلاميّة، والتنسيق فيما بينها لخدمة المسلمين في كلّ مكان.
وكنت في مؤتمر ساوباولو قد طالبتُ منظمة المؤتمر الإسلامي بوضع البرامج والخطط الكفيلة باستثمار الكفاءات المسلمة في أوساط الأقليات لأغراض تعليم أبناء الأقليات أنفسهم، وأشرت إلى وجود حوالي ألفي إيراني في الولايات المتحدة وحدها يحملون شهادة الدكتوراه في مختلف الاختصاصات العلمية، بإمكانهم المساهمة في تحقيق هذا الهدف. وطالبت أيضاً بتفعيل دور دائرة الأقليات في الأمانة العامة للمنظمة، للتمكن من النهوض بواجباتها المهمة في حماية الأقليات المسلمة من الاغتيال الثقافي وصيانة هويتها المدنية. على اعتبار أن تنشيط دائرة الأقليات سيزيد من اهتمام المنظمة بقضايا الأقليات وسيجعلها هماً دائماً ولعل من الخطوات الأساسية التي لابد أن تتدخل منظمة المؤتمر من أجل الأقدام عليها، موضوع إقامة اتحاد دولي للاقليات المسلمة يجمع كلّ الاتحادات القارية والقطرية لغرض دراسة شؤون الأقليات بصورة شاملة، والاطلاع على أوضاعها ومعرفة مشكلاتها واحتياجاتها، وتبادل الخبرات والتجارب فيما بينها، وتوثيق الأواصر بينها وبين العالم الإسلامي، والمطالبة بحقوقها على الصعيد الدولي وفي الأوساط والمحافل الدولية، والتخطيط لدعمها وحماية هويتها من الذوبان وسط الأكثرية غير المسلمة التي تعيش في وسطها.
(69)
وسنطرح هنا مجموعة تصورات في سياق المعالجات العملية، وعلى أساس نوع التحديات وموضوعها:
 
1 ـ الجانب التربوي والتعليمي
تعليم كتاب الله تعالى يقف في مقدمة المجالات التعليمية التي تفرض عملية التحصين الذاتي الاهتمام بها وأساليب تعليم القرآن الكريم... قراءة وفهماً وتفسيراً، مفتوحة وغير محدودة، ابتداءً من الأسلوب التقليدي (حلقات المساجد) أو في المراكز الإسلاميّة والبيوت أو المعاهد. وتستتبع هذه الضرورة ضرورة أخرى تتمثل في تعليم اللغة العربية ؛ لتكون مدخلاً لفهم القرآن الكريم والنصوص الإسلاميّة والتراث العلمي الإسلامي ؛ ولكي تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية في المؤتمرات والندوات التي تعقدها الاتحادات والجمعيات الخاصة بالأقليات المسلمة.
وفي الوقت نفسه، فأبناء الأقليات المسلمة مدعوون أيضاً لتعلم لغات المسلمين الأخرى، ولاسيما اللغات الأكثر رواجاً وانتشاراً، والتي كتب بها كم هائل من التراث الإسلامي، وفي المقدمة اللغة الفارسية... لغة المسلمين الثانية بعد العربية ولعل الأسلوب الأمثل في تعليم القرآن الكريم والمعارف الإسلاميّة واللغة العربية ولغات المسلمين الأخرى، إيفاد أبناء الأقليات إلى البلدان الإسلاميّة ليدخلوا دورات مكثفة محددة بزمن معين (مثلاً سنة أو سنتين)، وكذلك إرسال مدرسين وأساتذة متخصصين إلى الغرب ليقيموا مثل هذه الدورات، أو استثمار بعض الأساتذة الموجودين في الغرب لهذا الغرض، دون حصر حضور هذه الدورات بالرجال دون النساء أو الكبار دون الصغار.
ويقع على عاتق أجهزة إعلام البلدان الإسلاميّة مهمة أساسية في هذ
(70)
المجال، إذ بإمكان القنوات التلفزيونية الفضائية والإذاعات تخصيص فترات من بثها لأغراض تعليم الأقليات المسلمة.
ومن التصورات الأخرى في المجال التعليمي والتربوي، قيام الأجهزة التعليمية والتربوية في البلدان الإسلاميّة بإعداد وطباعة المناهج التعليمية الدينية وإرسالها إلى مراكز وجمعيات ومدارس الأقليات المسلمة، في الوقت الذي تبادر البلدان الإسلاميّة إلى دعم الأقليات في المشاريع التعليمية الكبيرة، كمشاريع إقامة المجمعات التعليمية بدءً من مرحلة رياض الأطفال إلى الابتدائية والمتوسطة والثانوية والمعاهد المهنية وانتهاءً بالجامعة إضافة إلى توسيع المراكز التربوية والتعليمية التقليدية، وتزويدها بكل ما تحتاجه من وسائل تعليمية كالكتب والوسائل السمعية والبصرية وغيرها، باللغة العربية ولغات الأقليات. ودعم الاتحادات والجمعيات الإسلاميّة ولاسيما اتحادات الطلبة الجامعيين، بالصورة التي تمكنها من ممارسة نشاطاتها التربوية والتعليمية، كإنشاء المكتبات العامة وإقامة الندوات والمؤتمرات الطلابية الدورية وبناء الأقسام الداخلية (السكنية) ومساعدة الطلبة المسلمين المعوزين.
ومن البرامج الاستراتيجية القائمة الآن، برنامج إعطاء المنح الدراسية لأبناء الأقليات المسلمة في الغرب للدراسة في جامعات البلدان الإسلاميّة ولكن أثبت الواقع أن هذا البرنامج بوضعه الحالي لم يف بالغرض، بل لا يزال هناك نقص حاد جداً في وجود الأساتذة والمدرسين والمبلغين من أبناء الأقليات نفسها.
ومن هنا لابد من زيادة المنح الدراسية هذه، لكي يستطيع أبناء الأقليات بعد تخرجهم من جامعات البلدان الإسلاميّة الإحلال تدريجياً محل المدرسين والمبلغين المنتدبين من قبل البلدان الإسلاميّة، ولعل تجربة بعض الجامعات الإسلاميّة مفيدة في هذا المجال، وهي مدعوة لتطوير تجربتها، ونذكر هن
(71)
الجامعة الإسلاميّة في ماليزيا التي تضم طلبة مسلمين من (91) بلداً، والحوزة العلمية في قم التي تضم طلبة من (60) بلداً، وجامعة الإمام الخميني الدولية وجامعة التقريب في إيران، وكذلك جامعة أفريقيا العالمية في السودان وجامعة آل البيت في الأردن وجامعة الأزهر في مصر وجامعة محمّد بن سعود في السعودية ونشير هنا أيضاً إلى تجربة بعض الجامعات الإسلاميّة في لندن وواشنطن وقرطبة وغيرها، التي تستحق التقدير والدعم.
 
2 ـ الجانب الاجتماعي والحقوقي
في ضوء ما أكد عليه القرار 47: 8 س الصادر عن قمة طهران بشأن بذل المساعي لكي تتمتع الأقليات المسلمة بمعاملة متكافئة من حيث الحقوق والالتزامات والواجبات، فإن الحقوق الاجتماعية هي الإطار الذي يشتمل على مجمل الحقوق الأخرى، الدينية والمدنية والسياسية وغيرها وإحقاق هذه الحقوق يتأتى عبر مساعٍ تقوم بها هذه الأقليات مع الأجهزة المختصة في الدول الغربية وإقرار هذه الحقوق وتنفيذها وضمانها هي مهمة تلك الأجهزة بالدرجة الأساس، أي أن هذا الشق من الجانب الاجتماعي والحقوقي يرتبط أساساً بالدائرة العامة التي تعيش في وسطها هذه الأقليات، ولا يرتبط بالدائرة الخاصة للأقليات نفسها.
أما الدائرة الخاصة، فيقع على عاتقها مهام نوعية وكمية كبيرة في الجانب الاجتماعي، ولعل إشاعة روح التكافل والتكامل والتضامن الاجتماعي، إلى المستوى الذي يضمن وحدة الجماعة وتماسكها الشديد وهذا المستوى لن يتحقق إلاّ بآليات فاعلة، تجعل الفرد المسلم والأسرة المسلمة يحسان بالانتماء الكامل للجماعة والحاجة إليها والمسؤولية تجاهها وتجاه أفراد الجماعة
(72)
الآخرين، باعتبارهم إخوانه في العقيدة والأعضاء المكملين لجسد الجماعة.
ولعل التأكيد على حضور المساجد لأداء العبادات وإحياء الشعائر الدينية، وكذلك المراكز والجمعيات الإسلاميّة وإقامة الاحتفالات والمراسم، سواء في الأعياد والمناسبات المختلفة العامة، أو في المناسبات الاجتماعية الخاصة، يعد من بديهيات النشاط الاجتماعي الحقيقي ومن الضروري أن يكون للأقليات المسلمة صناديق للمساعدات ولإعطاء القروض الحسنة، وجمعيات للبر والإحسان ولرعاية الأيتام والمسنين والعوائل الفقيرة، إضافة إلى مراكز اقتصادية للتشغيل والاستثمار ورعاية مشاريع العمل والكسب، وإقامة المشاريع التي من شأنها توفير الأطعمة والمشروبات الحلال، وكذلك مراكز أخرى للشباب، تقوم بمختلف النشاطات الإعلامية والفنية والتثقيفية والاجتماعية، كإقامة المخيمات والمعسكرات الثقافية والكشفية الدورية، وتشكيل الفرق الفنية وغيرها.
وفي هذه المجالات يمكن الاستفادة من الحقوق الشرعية كالزكاة والخمس وتبرعات المحسنين من أبناء الأقليات أو المسلمين في الدول الأخرى، ومن دعم المؤسسات ذات العلاقة في البلدان الإسلاميّة ودعم المرجعيات الدينية، ودعم أجهزة منظمة المؤتمر الإسلامي ولجنة تنسيق العمل الإسلامي.
ويمكن في هذا المجال إقامة مشاريع خاصة بالأسرة، باعتبارها نواة المجتمع المسلم في الغرب والركيزة الحقيقية التي يمكنها حماية الهوية الإسلاميّة من الخطف والاغتيال والعبث والتخريب وتتبلور هذه المشاريع في جمعيات ومراكز، تقوم على تيسير شؤون الزواج، ابتداء من التوفيق بين الراغبين والراغبات بالزواج، وتزويجهم وفقاً للأصول الشرعية، بدلاً من الزواج من غير المسلمين، أو تشكيل الأسرة على الأصول غير الشرعية، كما تقوم هذه
(73)
المراكز على رعاية الجوانب التربوية والتعليمية في الوسط النسائي، وحل مشاكل الأسرة، لاسيما فيما يرتبط بالعلاقة بين الأزواج والزوجات وتربية الأطفال وتعليمهم داخل المنزل، والقيام بالمعارض والأسواق الخيرية، وتشجيع النشاطات الأسرية العامة، كالزيارات المتبادلة والجلسات الثقافية والاجتماعية، بل وحتى الولائم الدورية وطرح موديلات من الأزياء والملابس الشرعية، ولاسيما بالنسبة للنساء المسلمات ؛ لأن هذه النشاطات الاجتماعية التفصيلية، ستترك أكبر الأثر في نفوس أبناء الأقليات، وتعزز الترابط والتواصل فيما بينهم، وستضمن سلامة جزء أساسي ومحوري في مجتمع الأقلية المسلمة، وهو المرأة، التي ستحولها تلك الرعاية إلى مدرسة لتربية الناشئة وإسناد الرجال (الإخوان، الأزواج والأبناء) معنوياً وأخلاقياً، وإنشاء البيت الصالح وإقامة المجتمع الفاضل.
 
3 ـ الجانب الثقافي والإعلامي والتبليغي
الأقليات المسلمة في الغرب تعاني أكثر من الأقليات المسلمة في الدول الأخرى من سطوة الثقافة الحاكمة والأعلام المكثف المعادي من هنا فمهمتهم لمواجهة هذا التحدي مهمة في غاية الصعوبة بيدا أن التخطيط العلمي ووضع الآليات المدروسة والتصميم والإرادة على المواجهة سيفتت جزءاً لا يستهان به من تلك الصعوبة ومن المناسب هنا الإشارة إلى الإطار العام الذي وضعه القرار 47: 8 س الصادر عن قمة طهران ؛ إن حثّ الدول الإسلاميّة على تنسيق الجهود لإعداد أطر قادرة على القيام بمهام الدعوة الإسلاميّة لدى الأقليات المسلمة، على أن تتضمن الأطر عناصر نسوية مؤهلة، ووضع سلسلة من الكتب التعليمية المتكاملة عن الدين الإسلامي وشعائره ومبادئه، على أن تكون
(74)
مبسطة وفي صورة مطبوعات ورسائل حديثة سمعية وبصرية، مع إيلاء عناية خاصة لترجمتها ترجمة دقيقة إلى لغات المناطق التي تقيم بها هذه الأقليات.
ومن هذا المنطلق، تأتي ضرورة تكثيف وتركيز إرسال المنتوجات الثقافية والإعلامية الإسلامية إلى هذه الأقليات، على شكل كتب تعليمية أو عامة ومجلات وأشرطة سمعية وبصرية وغيرها، ولاسيما تلك المعدة خصيصاً لمخاطبة الأقليات المسلمة في الغرب، إضافة إلى إنشاء مشاريع في دول الغرب نفسها تقوم بهمة الإنتاج، أو الترجمة، وصولاً إلى إنشاء إذاعات ومحطات تلفزيونية ووكلات أنباء ومؤسسات فنية وسينمائية خاصة بالأقليات وكذلك الاهتمام بإعداد الطاقات الإعلامية والفنية من أبناء الأقليات لسد أي فراغ محتمل في هذا المجال، على أن تتم هذه النشاطات ـ بالنظر لخطورة رسالتها وتأثيرها ـ تحت إشراف أساتذة وعلماء كمرجعيات في الجانب الشرعي.
وبالنسبة لسد الفراغ في الجانب الشعري، فمن الضروري وجود علماء ومبلغين أكفاء أو وكلاء لمراجع الدين مقيمين في المدن الغربية التي يتركز فيها الوجود الإسلامي، بهدف رعاية الأقليات دينياً واجتماعياً.
وأعيد هنا التأكيد على نقطة في غاية الأهمية تتعلق بالتعدية المذهبية والقومية واللغوية والاجتماعية للأقليات فهذه التعددية لابد أن تتحول إلى نقطة قوة وتقارب ووحدة، بدلاً عن أن تكون نقطة اختلاف وافتراق وعلى هنا الأساس، فإن كلّ التوصيات والبرامج والمشاريع التي تستوعب الجوانب التي مرّ ذكرها (التربوية والتعليمية والاجتماعية والحقوقية والثقافية والإعلامية والتبليغية) لابد أن تأخذ بنظر الاعتبار مراعاة موضوع التعددية، وتتجنب إثارة المشاكل والحساسيات التي لا طائل تحتها، بل وتحول هذه التعدية ـ كم
(75)
ذكرنا ـ إلى نقطة قوة.
وأستثمر فرصة انعقاد مؤتمر الوحدة الإسلاميّة لأثمن اهتمام دورته الحالية بموضوع الأقليات المسلمة، ولأقدم بعض المقترحات الخاصة، والتي يمكن لمجمع التقريب أو المؤتمر نفسه أو رابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة والمجامع والمؤسسات الأخرى النظيرة، تنفيذها فأقترح أن تبادر إحدى هذه المؤسسات إلى عقد مؤتمر خاص بالأقليات المسلمة في الغرب، والأفضل انعقاده في دولة غربية، ويحضره ممثلون عن هذه الأقليات من مختلف المذاهب والقوميات والجنسيات، ومن السكان الأصليين والمهاجرين، لتدارس أوضاعهم وأقترح أيضاً تشكيل أمانات دائمة أو مكاتب خاصة بالأقليات المسلمة، في كلّ من مجمع التقريب ومجمع أهل البيت ورابطة الثقافة وغيرها من المؤسسات النظيرة وكذلك إصدار مجلة متخصصة بشؤون الأقليات المسلمة في الغرب، تصدر ابتداء باللغتين العربية والإنجليزية.
وأخيراً أتمنى على الدورة القادمة لمؤتمر الوحدة الإسلاميّة أن تخصص موضوعها للأقليات المسلمة.
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية