مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

حقوق الإنسان
و
دور الدولة (2/2)
الشيخ مصطفى ملص

موضوع حقوق الانسان لابد من طرحه لمواجهة الحرب الامريكية على الانسانية، لأن العولمة هي الانقلاب الامريكي على حقوق الانسان وحرياته في العالم.
وهذه الحقوق التي يتم الانقلاب عليها تحت عناوين براقة هي بالنسبة لنا نحن المسلمين ثابت ديني ملازم للعقيدة، ورديف للعبادة. ومن هنا يتضح أن دور الدولة في صيانة هذه الحقوق الاسلامية هو خدمة الانسان وليس خدمة المال والشركات والثروة، من أجل أن يرتفع الانسان الى مستوى يليق بمنصبه باعتباره خليفة اللّه في الارض. والانسان قد كرمه اللّه في
------------------------------
(1)1- باحث لبناني.
-----(82)-----
الارض برا كان أم فاجرا. والعزّة التي هي صفة اللّه تعالى جعلها للناس ليدرك الانسان أنه ماخلق ليكون ذليلا، وإذا ما حرم هذه العزّة، فذلك بتهاونه بحق نفسه. ويعتبر الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان أكثر تفصيلاً من الاعلان العالمي لما يتضمنه من أمور تتعلق بعزة الانسان وكرامته.
حقوق الإنسان في الإسلام
تمهيد
يعتبر الإنسان في الإسلام محور هذا الكون، فكل شيء مخلوق ليكون مسخراً لهذا الإنسان، يستعين به لإنفاذ تكليفه الذي كلفه اللّه تبارك وتعالى به، وهو عبادة اللّه، والعبادة في الإسلام لا تعني فقط الطقوس والشعائر، وإنما تشمل كل نواحي حياة الإنسان، الفردية، والجماعية، فالإنسان في كل تصرف يتصرفه في واحد من حالين، أما هو في حال طاعة للّه، واما هو في حال معصية، فإن كان ينطلق في تصرفه من منطلق مراعاة أحكام الشرع، وعدم الرغبة في مخالفته، فهو في طاعة، سواء أصاب في تصرفه، أم أخطأ. وإن كان ينطلق في تصرفه من منطلق عدم مراعاة الشرع، وعدم إقامة الاعتبار لرأيه، فهو في معصية سواء أصاب أم أخطأ.
ولعل التكليف الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يختصر مهمة الإنسان ودوره في هذه الحياة، لأن هذا العنوان تنضوي تحته كل عناوين الخير والصلاح والإصلاح.
فإذا كان هذا هو الدور، وهذه هي المهمة، فهل يستطيع الإنسان أن يؤدي دوره، ومهمته، إذا كان لا يتمتع بأكبر قدر مستطاع من الإمكانية والحرية.
-----(83)-----
إن اللّه تبارك وتعالى يبين لنا من خلال آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تسخير مافي السماوات والأرض للجماعة الإنسانية، ليكون لها عوناً على العبادة، بالمفهوم الشامل، وبالأخص منه مفهوم العمارة، التي لا يمكن أن تقوم إلا على مفاهيم العدالة والحرية; يبين لنا، أنه كما أعطى الجماعة الإنسانية الحد الأقصى من الإمكانيات، فإن هذا الحد الأقصى يجب أن يراعى في حق الفرد، فيكون له نصيبه الكامل، وبحده الأقصى أيضاً.
ولعل سورة من أقصر السور في القرآن الكريم، تضعنا في الأجواء الرحبة التي تحيط بتكليف الإنسان، والتي تشير إلى أن تمتع الإنسان بالكفاية والأمن، يجب أن يحفز على العبادة: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، لإيلاف قريش. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
ولقد فهم فقهاء الإسلام حق الإنسان في التمتع بالأمن والكفاية من أجل قيامه بما هو مكلف به، فهذا الإمام الغزالي يقول في أحد كتبه(1):
«إن نظام الدين لا يحصل الا بنظام الدنيا، فالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة الأبدان، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات، من الكسوة والمسكن، والأوقات والأمن،.. فلا ينتظم الدين الا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة، وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل؟ وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟ فإذن: إن نظام الدنيا، أعني، مقادير الحاجة شرط لنظام الدين»(2).
وفي حديث عن الإمام جعفر بن محمد (رضي الله عنه) قال: «أيّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده، أو من عند غيره، أقامه اللّه يوم القيامة،
1- الاقتصاد في الاعتقاد. ص 135. طبعة صيح، القاهرة، ضمن مجموعة بدون تاريخ.
2- راجع كتاب أزمة حقوق الإنسان في الوطن العربي. ص 61. مقالة للدكتور محمد عمارة بعنوان الإسلام وحقوق الإنسان ضرورات واجبة وليس مجرد حقوق: وراجع أيضاً كتاب د. محمد عمارة، الإسلام وحقوق الإنسان ضرورات لا حقوق .
-----(84)-----
مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن، الذي خان اللّه ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار»(1).
المبحث الأول - أصل حقوق الإنسان في الاسلام
جاء الحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام في أصل التشريع، حيث ثبّت هذه الحقوق في القرآن الكريم، والحديث النبوي، فكان الكتاب والسنة هما أصل هذه الحقوق وأصل إثباتها، وإذا ما رجعنا الى القرآن الكريم نراه يؤصل لهذه الحقوق عبر تثبيت مبدئين عظيمين أساسيين هما مبدأ الكرامة ومبدأ العزّة.
أما مبدأ الكرامة فمن قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيل)(2).
وهذا التكريم ليس خاصاً بالمسلمين وإنما هو شامل لكل من تناسل من ذرية آدم(عليه السلام) وهو أول البشر وأبوهم، فالمسلم وغير المسلم في التكريم الإلهي سواء. وينقل الدكتور صبحي الصالح عن تفسير الآلوسي لقوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم...) الآية «أي جعلناهم قاطبة، برهم وفاجرهم، ذوي كرم أي شرف ومحاسن»(3).
وأما مبدأ العزة فمن قوله تعالى: (...وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين...)(4).
والعزة التي هي صفة للّه تبارك وتعالى جعلها للناس، ليدرك الإنسان أنه ليس مخلوقاً ليكون ذليلاً ولا مخزياً، وأن سعيه يجب أن يكون لتوفير هذه العزة، فإذا ما حرم هذه العزة، فذلك بتهاونه بحق نفسه فرداً أو مجتمعاً.
وهذان المبدأن هما أصل حقوق الإنسان وحرياته، وهذه الحقوق والحريات هي مظهر شخصية الإنسان المعنوية، وهي التعبير عن فاعليته في المجتمع السياسي. والقرآن الكريم حينما يؤصل هذين المبدئين «الكرامة» و«العزة»
1- اقتصادنا، السيد محمد باقر الصدر ص، 699 .
2- الإسراء / 70 .
3- معالم الشريعة الإسلامية، د. صبحي الصالح. ص 193 - 194 .
4- المنافقون / 8 .
-----(85)-----
فإنه لا يكتفي بوضع المفهوم الكلي النظري وإنما يثير في الإنسان شعوره بكرامته وعزته ويسن له من الأحكام العملية التفصيلية التي تتعلق بكافة شؤون الحياة مما يجعل تحقيق هذه المبادئ أمراً واقعاً(1).
أما في السنة النبوية الشريفة فقد جاءت الأحاديث الكثيرة التي تثبت حقوق الإنسان، وحرياته، ولعل أهم نص من نصوص السنة التي تحدثت عن حقوق الإنسان نص خطبة الوداع التي ألقاها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع في أكبر جمع من المسلمين، في السنة العاشرة من الهجرة، حيث تضمنت هذه الخطبة إعلان مبدأ المساواة بين الناس في أصل العنصر، والمساواة بين الراعي والرعية أي بين الحاكم والمحكوم، والمساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، ووحدة القانون الذي يخضع الناس له وهو كتاب اللّه وسنة نبيه...
المبحث الثاني - الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان
بدأ الاهتمام بإصدار شرعة حقوق الإنسان في الإسلام من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1979 حيث قرر المؤتمر العاشر لوزراء الخارجية تشكيل لجنة مشاورة من المتخصصين الإسلاميين لإعلان لائحة بحقوق الإنسان.
واستمر العمل والبحث وأحيل عمل اللجنة لدراسته في لجان أخرى إلى أن أنعقد اجتماع طهران في كانون الأول سنة 1989 حيث تمت مناقشة المشروع بـإسهاب بحضور عدد من علماء الشريعة والدين من مختلف البلدان وأعدت الصيغة النهائية التي تمت الموافقة عليها نهائياً في المؤتمر التاسع عشر لوزراء الخارجية لدول منظمة المؤتمر الإسلامي(3)...
وقد جاء هذا الإعلان أكثر تفصيلاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتضمن مسائل لم يشر إليها ذلك الإعلان ومنها:
1- الإشارة إلى أحكام الحروب في المادة الثالثة منه حيث ضمنت أحكام الإسلام فيما يتعلق بالشيخ والمرأة والطفل في الحرب، والجريح والمريض والأسير، وحرمة التمثيل، وحرمة قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع. (المادة الثالثة).
2- الحفاظ على سمعة الإنسان في حياته وبعد موته وحماية جثمانه ومدفنه (المادة الرابعة).
3- على الدولة والمجتمع إزالة العوائق أمام الزواج وتيسير سبله (المادة
1- خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم. د. فتحي الدريني. ص 108 .
(2)2- ذكر الباحث هنا نصّ خطبة الوداع، أثرنا حذفها للاختصار، مراجعتها في مظانها(التحرير).
(4)3- راجع كتاب: حقوق الإنسان في الإسلام. د. محمد الزحيلي.
4- ذكر الباحث هنا نص الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان آثرنا حذفه للاختصار، ويمكن الرجوع اليه في مظانه (التحرير).
المبحث الثالث - ملاحظات حول الإعلان الإسلامي
توّج الإعلان الإسلامي بمقدمة تتضمن الأسس والمنطلقات التي بني عليها الإعلان، وهي: الإيمان باللّه تعالى، والتصديق بالإسلام دين الحق، دين تحرير المستعبدين وتحطيم الطواغيت، دين التوحيد الخالص.
كما تضمن الاعتماد على التشريع الإسلامي الذي قصد المحافظة على الدين والنفس والعقل والعرض والمال، واعتبار الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة، وساهمت في حماية حقوق الإنسان، والحاجة للسند الإيماني للحضارة، واعتبار أن الحقوق والحريات الأساسية جزء من الدين، ولا يملك أحد تعطيلها.
وسكت الإعلان عن ضرورة تطبيق أحكام الشريعة الغراء، وبيان الصلة الوثيقة بين هذه الحقوق خاصة، والأحكام الشرعية عامة، بالنظام الاخلاقي في الإسلام، كما غفلت المقدمة عن التذكير بفكرة عالمية الإسلام، لأنه دين الفطرة، وأن هذه الحقوق لا تنحصر بالمسلمين، فالفطرة لا تختلف من إنسان لآخر(1).
1- يراجع كتاب حقوق الإنسان في الإسلام. د. محمد الزحيلي. ص 134 - 135. طبعة دار الكلم الطيب. دمشق، بيروت ودار ابن كثير - دمشق - بيروت 1997.
-----(87)-----
الخامسة).
4- جعل عبء الانفاق على الأسرة على عاتق الرجل وفقاً لأحكام الشريعة (المادة السادسة).
5- ذكر حقوق الأبوين على الأبناء، وحق الأقارب على ذويهم وفقاً لأحكام الشرع (المادة السابعة).
6- الإشارة إلى أن الاستعمار بشتى أنواعه باعتباره من أسوأ أنواع الاستعباد محرم تحريماً مؤكداً. وللشعوب الحق الكامل للتحرر منه، والإشارة إلى أن واجب النصرة لهذه الشعوب واجب على جميع الدول والشعوب (المادة الحادية عشرة).
7- كفالة الدولة والمجتمع لحق العمل لكل قادر عليه. (المادة الثالثة عشرة).
8- الإشارة إلى الحق في الكسب المشروع دون احتكار أو غش أو إضرار بالنفس أو الغير، ومنع الربا.
9- الإشارة إلى دور الدولة وكفالتها لكل إنسان حقه في عيش كريم يحقق له تمام كفايته وكفاية من يعول.. (المادة السابعة عشرة).
10- الإشارة إلى أن الإعلام ضرورة للمجتمع، ويحرم استغلاله وسوء استعماله والتعرض للمقدسات، وكرامة الأنبياء فيه، وممارسة كل ما من شأنه الاخلال بالقيم أو إصابة المجتمع بالتفكك والانحلال، والضرر أو زعزعة الاعتقاد. (المادة الثانية والعشرين).
وقد كانت كل هذه المسائل ميّزات للإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على الإعلان العالمي، ومما لاشك فيه أن واضعي الاعلان الإسلامي قد استفادوا في ذلك من جملة أمور، منها:
أولاً - ما تميزت به الشريعة الإسلامية من أحكام جرى إثباتها في الإعلان
-----(88)-----
الإسلامي.
ثانياً - مرور فترة زمنية تغيرت خلالها العبارات، وبرزت فيها مصطلحات جديدة، وتشكلت حقوق حديثة، نتيجة التطور والتقدم الاجتماعي، والعلمي، فقد صدر الإعلان العالمي سنة 1948، بينما صدر الإعلان الإسلامي سنة 1989، أي بفارق واحد وأربعين سنة تقريبا.
ولابد من الإشارة إلى تأثر الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان بالإعلان العالمي، لاسيما في الصياغة والترتيب، واقتباس المبادئ التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهي كثيرة جدا، كما لابد من الإشارة الى الاختلاف حول مسألة أثر الدين في الزواج، حيث يمنع الإعلان العالمي من أن يكون الدين عائقا أمام الزواج، فيما أسقط الإعلان الإسلامي مسألة عدم كون الدين عائقا حيث جاء النص:
«..وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون، أو الجنسية» (المادة الرابعة).
وبهذا جاء النص متوافقا مع الشريعة الإسلامية التي تعتبر اختلاف الدين مانعا من موانع الزواج، وخصوصا عندما تكون المرأة مسلمة.
وأخيراً الإشارة إلى الاختلاف حول مسألة تغيير الدين، حيث أباح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للإنسان حرية تغيير دينه ومعتقداته. وهذا مخالف لأحكام الشرع، الذي يمنع خروج الإنسان من الإسلام بعد دخوله، ويسمي ذلك ردة، وجاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان خالياً من الإشارة إلى الحق في تغيير الدين.
المبحث الرابع - المكانة القانونية لحقوق الإنسان في الإسلام
لن نتعرض للمكانة أو القيمة القانونية للإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان
-----(89)-----
بشكل خاص، ولكننا سنتعرض للمكانة القانونية لحقوق الإنسان في الإسلام، وما هو موقف الشريعة من هذه الحقوق، إذ أن القيمة القانونية للإعلان رهن بمدى احترام واضعيه لمبادئه وهو في الحقيقة ليس أكثر إلزاما لموقعيه من إلزام الإعلان العالمي لموقعيه.
إن الإنسان في المفهوم الإسلامي كما قلنا سابقا، هو محور هذا الكون، وكل شيء مسخّر له في السماوات والأرض، وهو محل التكريم الإلهي.
وكل ماجاء به الإسلام من تشريعات وأحكام، إنما كان الهدف منها تحقيق مصلحة الإنسان، سواء أكانت الأحكام أمراً أم نهيا، تحليلاً أو تحريما، ندباً أو كراهة أو إباحة، والإنسان هو المحور الذي تدور الشريعة حوله، فهو المخاطب بها، وبها تتعلق مصالحه. لهذا ليس في الشريعة شيء من الأحكام إلاّ وهو موضوع لمصلحة الإنسان، في الدنيا والآخرة.
وحقوق الإنسان كما اصطلح حديثا على تسميتها، هي المصالح المقررة لهذا الإنسان من قبل الشارع الحكيم. وإذا قرر الشارع مصلحة للإنسان، فهي إما أن تكون لازمة، ليس له حق التخلي عنها، وإما أن تكون غير لازمة، بمعنى أن له أن يتخلى عنها. وقد ورد معنا عند الحديث عن تقسيم الحقوق أنها قسمان: قسم يقبل الإسقاط، وقسم لا يقبل الإسقاط .
وهذا التقسيم ينطبق على مايسمى اصطلاحا بحقوق الإنسان. فإذا ذكرنا بعض هذه الحقوق، نجد أن الإسلام يمنع المسلم من التنازل عن حقه في الحياة، وعن حقه في الحرية، وعن حقه في الكفاية،... الخ.
ومما لاشك فيه، فأن بـإمكان الإنسان أن يتنازل عن بعض الحقوق، كحق الملكية، وحقه في الزواج، وحقه في الانتقال... الخ، وهذا ليس على سبيل الإطلاق.
والإسلام يعتبر أن من حق كل فرد أن يتمتع بهذه الحقوق، وأن على المجتمع
-----(90)-----
أن يضمن لكل فرد أن يتمتع بهذه الحقوق.
بل وأشد من ذلك، أن الإسلام اعتبر هذه الحقوق ضرورات، وأدخلها في إطار الواجبات، فالمأكل والملبس والمسكن والأمن والحرية في الفكر والاعتقاد والتعبير والعلم والتعليم... والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع، والمراقبة والمحاسبة لأولياء الأمور.. والثورة لتغيير نظم الضعف أو الجور والفسق والفساد، كل هذه الأمور في نظر الإسلام ليست فقط حقوقا للإنسان من حقه أن يطلبها ويسعى في سبيلها ويتمسك بالحصول عليها، ويحرم صده عن طلبها، وإنما هي ضرورات واجبة لهذا الإنسان، بل أنها واجبات عليه أيضــاً(1).
بل ان الإنسان يأثم إذا فرّط في أي حق من هذه الحقوق، فالاعتداء على الحياة هو جريمة كبرى، سواء إعتدى الآخرون على هذه الحياة، أم اعتدى عليها صاحبها، وكذلك لا يحق للإنسان أن يجعل نفسه رقيقاً مستعبدا.
من أجل ذلك أوجب الإسلام على الإنسان فرداً وجماعة الجهاد من أجل حفظ حقوقه، لحفظ حقه في الحياة، ولحفظ حقه في الحرية، ولحفظ حقه في الثروة، وهكذا بقية الحقوق،. وقد جاء في الحديث الشريف: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد».
وكذلك نجد في الإسلام الحث على الجهاد من أجل الحفاظ على العزة، والعزة هي منتهى التمتع بجميع الحقوق، فالعزيز هو الذي إذا قرر أمرا فلا يملك أحد رد قراره، وقد جاء في الحديث الشريف: «ماترك قوم الجهاد إلا ذلّوا». والحقيقة أن مبدأ الجهاد في الإسلام يهدف إلى تمكين الأمة من سلوك كل السبل من أجل إثبات حقوق الإنسان وحرياته وكرامته وعزته، وقد عبّر عنه أفضل تعبير مبعوث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إلى كسرى، عندما بين له فهم المسلمين
1- الإسلام وحقوق الإنسان. ضرورات لاحقوق. د. محمد عمارة، ص 14. سلسلة عالم المعرفة - الكويت.
-----(91)-----
لرسالتهم ودينهم بقوله: «لقد أرسلنا اللّه تعالى بهذا الدين، لنخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة رب العباد» فأي مفهوم هو أرقى من هذا المفهوم لهذا الدين، وهو تحرير الإنسانية من خضوع الفرد للفرد، وربطه بالقوة المطلقة، التي لا تخضع لأهواء ونزوات الأفراد أو الجماعات، ولا تمارس الإكراه، وإنما تترك للإنسان الحرية الكاملة لاختيار عقيدته، ولممارسة قناعاته، بما لا يؤدي إلى الإضرار بالآخر، أو الانتقاص من حقوقه الثابتة له بحكم الشريعة الإلهية.
من هنا نرى أن حقوق الإنسان في الإسلام مقررة من قبل الشارع الحكيم; اللّه تبارك. وأن الحفاظ عليها من الدين، ومخالفتها هي مخالفة للدين، تعود على صاحبها بالإثم والعقوبة.
ولما كانت الحياة في ظل انعدام تمتع الإنسان بحقوقه، حياة ضيق وحرج ومعاناة نجد أن فقهاء الإسلام قد أدركوا هذه الحقيقة، وفهموا أن الشريعة قد جاءت لرفع الحرج، والحفاظ على الحياة في أرقى مستوى ممكن، واعتبروا أن مقاصد الشريعة هي حفظ كليات خمسة تندرج تحتها كافة الحقوق التي لا غنى للإنسان عنها وهي:    1- حفظ الدين.   2- حفظ النفس.   3- حفظ النســل.
4- حفظ العقل.   5- حفظ المال.
وهذه الكليات متعلقة جميعها بالإنسان(1).
ونورد هنا ما ذكره الشاطبي في موافقاته بعنوان: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة. قال:
«تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: «أحدها» أن تكون ضرورية. والثاني، أن تكون حاجية. والثالث أن تكون تحسينية.
(فأما الضرورية) فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث
1- أنظر كتاب نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي الصادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، تأليف أحمد الريسوني، نشر وتوزيع الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ص 152 وما يليها. طبعة 1992.
-----(92)-----
إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.
والحفظ لها يكون بأمرين: «أحدهما» مايقيم أركانها ويثبت قواعدها. وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. «والثاني» مايدرأ عنها الاختلاف الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم(1).
فإذا كان الإنسان هو الأساس. فإن حفظ مصالحه وحقوقه في اهتمام الشريعة هو أساس أيضاً. وليس هناك قيمة قانونية أعلى من هذه القيمة. أن لا يعطي أحد الحق في انتزاع حقوق جعلها اللّه للإنسان، فالحاكم لا يستطيع ذلك، والشرع من عند اللّه، وليس لأحد الحق في تعديله أو تبديله، إذ أن حق التشريع للّه وحده، وأما البشر فيجتهدون فيما لا نص فيه، ولا اجتهاد في مورد النص.
تصنيف حقوق الإنسان
تطرق ميثاق الأمم المتحدة لما تركته الحروب العالمية من آثار وأحزان على البشرية، وعبّرت المادة الثالثة عشر من هذا الميثاق عن الرغبة في العمل من أجل: «الاعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة بلا تمييز بينهم في الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء».
وبعد ثلاث سنوات من قيام الأمم المتحدة عمدت هذه المنظمة إلى إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد تضمن ديباجة وثلاثين مادة كما مر معنا، وتعدد الديباجة الأسباب التي دفعت الدول الأعضاء لإصدار هذا الإعلان، فقالت: بأن الاعتراف بحقوق الأفراد المتساوية والثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم. ثم عددت مواد الميثاق هذه الحقوق بصفة عامة، بما يجعله مجرد وثيقة ذات صفة إعلانية يمكن أن تضاف الى الوثائق الدستورية
1- الموافقات للشاطبي، ج 2 ، ص 8، طبعة دار المعرفة - بيروت - لبنان.
-----(93)-----
والإعلانات الأخرى التي سبقته.
وبسبب هذه الصفة الإعلانية، والعامة، وغير الملزمة، سعت المنظمة الدولية من أجل التوصل إلى صيغ أخرى تكون نابعة من روح الإعلان وترتدي طابعاً إلزامياً من خلال إنشاء نوع من الرقابة الدولية لمعرفة مدى إحترام الدول للمواثيق الجديدة.
وبعد عدة سنوات، تم التوصل من قبل لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى وضع صيغة هامة لميثاق دولي، يتناول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة، والحقوق المدنية والسياسية من جهة أخرى، وذلك في عام 1954. إلا أنه وبسبب معارضة بعض الدول لفكرة إصدار وثيقة واحدة تشمل كل هذه الحقوق، فقد تم الاتفاق على إصدار وثيقتين منفصلتين تعالج كل منهما قسماً من الحقوق المشار إليها، الا أن الأمم المتحدة لم تستطع اعتماد هذه الوثائق إلا في عام 1966 ولم تضعها موضع التطبيق إلا في عام 1976 (1).
المبحث الأول - الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
يتألف هذا الميثاق من مقدمة وإحدى وثلاثين مادة موزعة على خمسة أجزاء.
1- الجزء الأول: (المادة الأولى) ويتضمن حق الشعوب بتقرير مصيرها، والمساواة، وعدم التمييز بينها وحق الشعوب بالتصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية. (مع الإجازة للدول النامية بتقرير المدة التي تضمن عنده الحقوق الاقتصادية وفقاً لإمكانياتها).
2- الجزء الثاني: (المواد 2 - 5): ويتناول مدى التزام الدول بأحكام الميثاق.

1- راجع مدخل إلى الحريات العامة وحقوق الإنسان، تأليف د. خضر خضر. منشورات المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس - لبنان. بدون تاريخ ص 121.
-----(94)-----
3- الجزء الثالث: (المواد 6 - 15): ويتناول:
أ - الحق بالعمل والتدريب والتوجيه.
ب - الحق بالتمتع بشروط عمل عادلة ومرضية والحق في تشكيل النقابات والإنضمام إليها، والحق في الإضراب.
ج - الحق بالضمان الاجتماعي والأمن الغذائي والصحي.
د - حق الأسرة والأمهات والأطفال والمراهقين في أكبر قدر ممكن من الحماية والمساعدة، والحق في مستوى معيشي كاف، والحق في الصحة البدنية والعقلية.
هـ - حق كل فرد في الثقافة والحياة الثقافية، وحق التعليم الابتدائي المجاني والإلزامي للجميع، وتيسير التعليم الثانوي والمهني والفني والتعليم العالي.
4- الجزء الرابع: (المواد 16 - 25) ويتضمن تنظيم الإشراف الدولي على تطبيق هذا الميثاق.
5- الجزء الخامس: (المواد 26 - 31) ويتضمن إجراءات التصديق والتنفيذ.
وتتعهد الدول الأطراف في الميثاق على أن تقوم منفردة، ومن خلال المساعدة والتعاون الدوليين، باتخاذ الخطوات، خاصة الاقتصادية والفنية، ولأقصى ما تسمح به مواردها المتوافرة من أجل التوصل تدريجياً للتحقيق الكامل للحقوق المعترف بها في هذه الاتفاقية، بكافة الطرق المناسبة، بما في ذلك وعلى وجه الخصوص سن القوانين(1).
المبحث الثاني - الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية
ويتألف هذا الميثاق من مقدمة وثلاث وخمسون مادة موزعة على ستة أجزاء، ويتضمن:

1- د. المصدر السابق، ص 122 - 123.
-----(95)-----
1- الجزء الأول - (المادة الأولى) ويتناول:
أ - حق الشعوب في تقرير مصيرها والمساواة وعدم التمييز بينها.
ب - حق الشعوب بالتصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية.
2- الجزء الثاني - (المواد 2 - 5) ويتناول مدى التزام الدول بأحكام الميثاق.
3- الجزء الثالث - (المواد 6 - 27) ويتناول بصورة مباشرة حقوق الإنسان المدنية والسياسية ويفصلها على الشكل التالي:
لكل إنسان حق أصيل في الحياة، وعدم الخضوع للتعذيب، وعدم توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً وحرية التنقل واختيار مكان الإقامة، والحق في عدم إبعاد الأجنبي بشكل تعسفي، والحق في المساواة أمام القانون ومبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القانون، وحق كل إنسان في أن يعترف به كشخص أمام القانون، وحرمة الحياة الخاصة، وحرية الفكر والضمير والدين، وحرية التعبير، والحق في التجمع السلمي، وفي إنشاء الجمعيات والنقابات والانضمام إليها كما يؤكد الميثاق على حظر الرق، وعدم جواز حبس الإنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي وعدم رجعية القوانين الجزائية.
ومن الملاحظ أن الميثاق خلا من الإشارة إلى الحق في الملكية، والحق في اللجوء، ولكنه في المقابل أعطى الأقليات الإثنية والدينية واللغوية حقوقاً واضحة، إذ حرّم على الدول التي توجد فيها مثل هذه الأقليات أن ينكر على أي شخص من أبناء هذه الأقليات حق التمتع بثقافتها، والمجاهرة بدينها وإقامة الشعائر واستعمال لغتها مع أبناء جماعتها الآخرين(1).
4- الجزء الرابع - (المواد 28 - 45) ويتناول إنشاء لجنة تسمى لجنة حقوق الإنسان وتكوينها وطريقة عملها. والأهداف التي تقوم من أجلها.
5- الجزء الخامس - (المواد 46 - 47) وتحظر تفسير أي حكم من الميثاق بما
1- المصدر نفسه.
-----(96)-----
يتعارض والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة.
6- الجزء السادس - (المواد 48 - 53) وتتعلق بتنفيذ الميثاق وسريانه.
ومع أن الميثاق أداة قانونية ملزمة للدول الأطراف، إلا أن مايحد من فعاليته هو عدم وجود آلية لتنفيذ أحكامه، وعدم وجود جزاءات باستثناء الرأي العام العالمي، والطبيعة غير التنفيذية لهذه الأحكام، وقابلية معظمها للتعليق أثناء حالة الطوارئ(1).
المبحث الثالث - سبب وجود ميثاقين
يرجع السبب إلى تقسيم حقوق الإنسان وحرياته على هذين الميثاقين; الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إلى معارضة بعض الدول لجمع كل هذه الحقوق في ميثاق واحد. ذلك أن القسم المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية تجب المبادرة إلى الالتزام به فوراً ودونما تأخير وهو لا يرتب على الدول أعباء مادية غير عادية.
أما القسم المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فإن الأخذ به يرتب على الدول مسؤوليات مادية ضخمة نظراً للتكاليف الباهظة للالتزامات المترتبة عليه. من هنا جاء النص بالإجازة للدول النامية بتقرير المدى الذي تضمن عنده الحقوق الاقتصادية لغير المواطنين وفقاً لإمكانياتها.
الدولة وحقوق الإنسان
المبحث الأول - وظائف الدولة في المفهوم الفقهي الغربي
انقسم الفقه السياسي الغربي بين مفهومين لواجبات الدولة; دولة الحماية،
1- المصدر السابق.
-----(97)-----
ودولة الرعاية.
فذهب الليبراليون إلى أن واجب الدولة هو تأمين الحماية للمواطنين وترك الحياة الاقتصادية والاجتماعية تسير دون تدخل من قبل الدولة، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما افترضوا أنه ليس من واجب الدولة، وليس من حقهاأن تقف عائقاً في وجه الأفراد، وهم يمارسون أعمالهم بحرية مطلقة، كاملة، وذلك باعتمادهم مبدأ «دعه يمر دعه يعمل»laissez passer, laissez faire فمن خلال فهمهم لهذه القاعدة يتبين أن هؤلاء لا يرون للدولة أية وظيفة سوى تأمين الحماية البوليسية للأفراد ولنشاطهم وأعمالهم وتجارتهم.
أما أصحاب المذاهب الاشتراكية فيرون أن للدولة وظائف أخرى سوى الحماية، تتمثل في رعاية كافة النشاطات الانسانية، السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، والثقافية، وعرف هؤلاء بأنصار دولة الرعاية التي يحق لها أن تتدخل في كل نشاط يتم ضمن دائرة سيادتها، بما يحفظ للمجتمع الذي تمثل الدولة وجهه السياسي، مصالحه السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، والفكرية، والثقافية، بحسب مفهوم السلطة السياسية في الدولة لهذه المصلحة.
ولايخفى على الباحث أنه إذا كان هناك من تشدد في التمسك بنظريته من الطرفين، فقد برز من بين رجال الفقه والسياسة من يدعو إلى المزاوجة بين النظريتين، والأخذ بمحاسن كل منهما لإيجاد دولة تتدخل في تنظيم الشؤون إلى حد معين، غير مطلق، ضمن ضوابط لا تلغي حرية الآخرين، ولا تعيق حركتهم إلا بالقدر الذي يمنع الضرر عن المجتمع جراء نشاطهم وتصرفاتهم، فكانت الأنظمة الاشتراكية الغربية، وكانت هناك الدول التي مكّنت الفرد من تحقيق حريته إلى أبعد الحدود على الصعيد الشخصي، وفي الوقت عينه حدّت من تلك الحرية على الصعيد الاقتصادي، ضمن أنظمة وضوابط تحقق المساواة بين كافة أفراد المجتمع(1).
1- راجع الاتجاه الجماعي للتشريع الاقتصادي الاسلامي، د. فاروق النبهان. ص 44 وما يليها.
-----(98)-----
المبحث الثاني - الدولة ودورها في مسألة حقوق الإنسان في المفهوم الغربي
الدولة سلطة، وحقوق الإنسان وحرياته السياسية والأساسية تتعارض مع سلطان الدولة. وهذه الحريات والحقوق تقوى كلما ضعف سلطان الدولة على الأفراد، وتضعف كلما قوى هذا السلطان، وسنقسم هذا المبحث إلى جزئين: الأول يتعلق بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والثاني: يتعلق بالحقوق والحريات المدنية والسياسية.
أولاً - الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:
أما الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية فإنها لا توجد ولا تقوى إلا إذا قامت الدولة بدور إيجابي لإيجادها وتقويتها، وهي تستوجب بالتالي توسيع سلطان الدولة.
وبالفعل فإنه في ظل النظام الاقتصادي الحر وقعت الكثير من المخالفات، وساد الاستغلال والطغيان إلى حد أنه كان لابد للدولة من أن تتدخل، وتضع حداً للاستغلال والتفاوت والطغيان. وكان السبيل الوحيد أمامها هو إخضاع الاقتصاد لسلطانها، بحيث صار موجهاً بإراداتها نحو أهداف معينة ترسمها للتنمية الشاملة. ومن أجل ذلك عمدت إلى العديد من الإجراءات، من مراقبة وتخطيط وإدارة مشاريع عامة وإعادة توزيع للثروة عبر فرض الضرائب، وإعادة توزيعها على المواطنين، أما عن طريق تأمين خدمات عامة، أو عن طريق مؤسسات الضمان الاجتماعي والصحي ومكاتب العمل الوطني التي تؤمن دخلاً مناسباً للعاطلين عن العمل.
وحتى في الدولة التي يبدو فيها نظام المؤسسات على أساس المبادرة الفردية والنظام الاقتصادي الحر، نرى أن أنظار الناس تتجه نحو الدولة كلما لاحت في الأفق بوادر أزمة اقتصادية، كمثل الولايات المتحدة الأميركية التي
-----(99)-----
أدرك شعبها منذ أزمة عام 1930 أهمية القدرة التي تملكها الدولة، والتي تمكنها من تصحيح الخلل الاقتصادي بغية الحفاظ على الازدهار.
ويرى البعض أنه إذا كان الازدهار الاقتصادي في الولايات المتحدة لم يأت نتيجة لتدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، فمن المؤكد أن هذا التدخل هو الضمان الأساسي لاستمراره.
والحقوق والحريات الاقتصادية لا تتحقق بالإعلان عنها، والالتزام بمجرد التوقيع على إعلاناتها، بل لابد من تدخل الدولة من أجل إقرارها على الصعيد الداخلي، ومن أجل إصدار القوانين، التي تنظمها وتضعها موضع التنفيذ، وهذا يدلنا على الدور الكبير للقوانين المكملة للدساتير في حماية الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية.
فلئن كانت الدساتير تقف عند تسجيل المبادئ الرئيسية وتقرير الحقوق والحريات - تاركة للقوانين والقرارات الإدارية والتنظيمية وضع التفصيلات والإجراءات اللازمة لتطبيق المبادئ وتنظيم كيفية ممارسة الحقوق والحريات، إلا أنه بغير صدور هذه القوانين والقرارات لا يمكن تصور قيام الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم فإن هذه الحقوق والحريات لا تستكمل كيانها، وعناصرها، وتفصيلاتها، وضمانات حمايتها، الا بالقوانين والقرارات الصادرة بشأنها(1).
ثانياً - الحقوق والحريات السياسية والمدنية:
مما لاشك فيه أن دور الدولة - السلطة، في مجال تأمين الحقوق والحريات السياسية والمدنية، لا يقل أهمية عن دورها على صعيد تأمين الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وغالباً ما تتضمن الدساتير بنوداً تحدد هذه الحريات، ودور الدولة في تأمينها، وذلك عبر تحقيق عدد من المبادئ،
1- راجع مجلة الحق، فصلية تصدر عن اتحاد المحامين العرب - مقال بعنوان: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن في الدساتير العربية، مسح تشريعي، إعداد مركز بحوث اتحاد المحامين العرب. السنة 18، العدد 3 - 1987، ص 105 - 106 .
-----(100)-----
وأهمها:
1- المساواة بين المواطنين في حق الاقتراع والاستفادة من المرافق العامة، والمساواة أمام القانون.
2- مبدأ فصل السلطات، وجعل كل سلطة مستقلة عن الأخرى في تنفيذ مهامها ، وتحقيق وظائفها، في التشريع والتنفيذ والقضاء.
3- مبدأ حرية التعبير، وحرية الرأي، والاعتقاد، والقبول بوجود المعارضة السياسية.
4- مبدأ حق الحياة.
5- مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة، وتحريم الاعتقال التعسفي.
وهكذا نجد أن دور الدولة في مسألة حقوق الإنسان وحرياته قد تطور إلى حد بعيد جداً باتجاه أن تتولى الدولة دورا كبيرا ومتعاظما. وإن كانت من حين لآخر تصدر دعوات من هنا وهناك لابعاد الدولة عن لعب دور الرعاية الاقتصادية والاجتماعية، وبـإجراء مسح تشريعي لعدد من الدساتير نجد أن معظم الدساتير تركز على دور الدولة في إيجاد وإنفاذ حقوق الإنسان وحرياته العامة(1).
ولعل السبب في هذا التوجه، أن الفلسفة الليبرالية انطلقت في فهمها للديمقراطية من تحديد الإنسان تحديداً مجردا عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيش فيه، فعرّفته بجوهره، وليس بخصائصه الناتجة عن الوضع المادي الذي يحيط به، فلم تأخذ بالاعتبار وضعه ككائن ضمن شبكة العلاقات المجتمعية المميزة، ولا المتطلبات الحقيقية للحرية، فكان على الديمقراطية الليبرالية أن تقيم وزنا أساسياً للمعطيات الاقتصادية والاجتماعية، لتتمكن من التغلب على أزمتها. وقد اضطرت إلى أخذ هذه المعطيات بعين
1- المصدر السابق .
-----(101)-----
الاعتبار، تحت تأثير اشتداد الأزمات المعيشية والاجتماعية، وتصاعد نضال الحركات المطلبية، فتحولت من ديمقراطية ذات مضمون سياسي بحت إلى ديمقراطية ذات مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية(1).
المبحث الثالث - وظائف الدولة في المفهوم الفقهي الإسلامي
يجمع المسلمون بكل مذاهبهم السياسية والفقهية على وجوب إقامة الدولة الاسلامية من أجل إنفاذ أحكام الإسلام، وإقامة شريعته، والدعوة إليه.
وقد أجمع أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) على وجوب نصب الإمام، والإمام هو رأس الدولة، والحاكم باسمها، ويربط فقهاء الفقه السياسي والدستوري الإسلامي بين عدم وجود الدولة - الإمام - وبين الفوضى والتهارج. وقد عرف الماوردي الإمامة بأنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا(2). والإمامة والخلافة في اصطلاح المسلمين تعني السلطة التي تقيم الأحكام، أي أنها الدولة.
ويعرف العلامة عبد الرحمن بن خلدون الإمامة بأنها: «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية، والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»(3).
ويرى السيد محمد باقر الصدر أن الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان، وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء، ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني، وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل، يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية، وتطوير نموها في
1- مدخل إلى علم السياسة، د. عصام سليمان، ص 240. وراجع: الوسيط في القانون الدستوري العام د. ادمون رباط، ج 2، ص 326 وما يليها.
2- الأحكام السلطانية للماوردي، ص 3 .
3- مقدمة ابن خلدون. ص 180 .
-----(102)-----
مسارها الصحيح(1).
ويرى الدكتور صبحي الصالح، أنه لا داعي لإقامة الدليل على أن الإسلام نظام كامل يشمل الدين والدولة معا، فقد انطوت نصوصه وتعاليمه على مبادئ أساسية في التشريع السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي والعسكري(2). ويرى أنه قد وضع للدولة من نظم الحكم، ومن ضمانات العدالة القضائية، ومن ضمان الأمن والسلام ومن ضمانات المعيشة الاقتصادية المعتدلة، ما يجعل الدولة خادما حقيقيا للفرد، يأتمنها على ماله وعرضه ودمه وفكره ومعتقده، وتضمن هي له، ماله غير منقوص، وعرضه غير مبذول، ودمه غير مستباح، وفكره غير مهان، ومعتقده غير مقاوم(3).
ويرى د. محمد المبارك(4) أن وظيفة الدولة تشمل نشر مبادئ الإسلام، وتعليمها، وإقامة العدل بين الناس، وإقامة الحياة على التوازن، وإعطاء الحقوق في كل ناحية ووجهة، سواء بين الأفراد، أو بين الجماعات... وكفاية العاجزين والمحتاجين، وحماية الضعفاء، كل ذلك على أساس العدل والتعاون والتكافل والمثل الأخلاقية العليا(5).
ومن هنا يتبين لنا أن آراء الفقهاء تميل إلى أن الدولة في الإسلام هي دولة رعاية بكل معنى الكلمة، ويقع على عاتقها تأمين كافة الضمانات للمواطن، منذ ولادته والى وفاته. ولعل أحاديث الرسول(صلى الله عليه وآله) وهو رئيس أول دولة إسلامية تدل على ذلك: «من ترك ضياعه فعلى ضياعه، ومن ترك دينا فعلى دينه ومن ترك مالا فلورثته».
وجاء في كتاب الإمام علي(رضي الله عنه) إلى واليه في مصر: «.. ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤس، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا. واحفظ اللّه ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم
1- الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر. ص 13، دار المعارف للمطبوعات، بيروت، 1410هـ - 1990م.
2- النظم الاسلامية. د. صبحي الصالح. ص 55 .
3- المصدر السابق، ص 474.
4- عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق سابقاً ورئيس قسم الشريعة والدراسات الاسلامية في كلية الشريعة بمكة المكرمة.
5- نظام الإسلام، الحكم والدولة - تأليف محمد المبارك، إصدار رابطة الثقافة والعلاقات الإنسانية في الجمهورية الاسلامية - طهران.
-----(103)-----
نصيبا من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الاسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر...»(1).
وبالإضافة إلى أن الدولة في المفهوم الفقهي الإسلامي هي دولة حراسة ورعاية فإنها أيضاً دولة دعوة وتبليغ وتقع على عاتقها مسؤولية القيام بهذا الأمر وعليها أن تجد الوسائل التي تمكنها من الوصول إلى غايتها. وهي الدولة الوحيدة التي تحمل رسالة، تعلن على الملأ أنها تسعى لتبليغها للآخرين.
المبحث الرابع - الدولة ومسألة حقوق الإنسان في المفهوم الفقهي الإسلامي
تمتع المسلم بحقوق الإنسان في نظر الإسلام من مستلزمات دينه وعقيدته، وإنسان لا يتمتع بهذه الحقوق، هو أبعد ما يكون عن القدرة على إقامة شرع اللّه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى اللّه.
وقد حرص الإسلام على بيان أن التمكين في الأرض إنما هو السبيل لإقامة شرعه. قال تعالى: (الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللّه عاقبة الأمور)(2).
وقال أيضا: (وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً. يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)(3).
فنلاحظ أن الآيات قد ركزت على التمكين في الأرض وهو امتلاك القوة والعلم والقرار، وركّزت على الأمن بعد الخوف لتبين أن من كانت هذه حاله فلا عذر له في أن لا يعبد اللّه. فهناك رباط بين تمتع الإنسان بحقوقه وتقوى اللّه حق تقاته. وهذا لا يعني أنه مع انعدام هذه الحقوق أو معظمها أو بعضها لا تجب
1- اقتصادنا. السيد محمد باقر الصدر. ص 702 .
2- الحج / 41 .
3- النور / 55 .
-----(104)-----
التقوى، بل إن حال الإنسان حينئذ تراعى فيه الاستطاعة وينطبق عليه قول اللّه تعالى: (فاتقوا اللّه ما استطعتم).
وبما أن مهمة الدولة الاساسية، ووظيفتها الرئيسية، هي إقامة الدين، وحمايته، فهذا يعني أنها ملزمة بتوفير الأسباب التي تؤدي لإقامة هذا الدين، ومن أهمها وأولها، إنسان يتمتع بكل مستلزمات الحياة الآمنة المطمئنة: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)(1).
وبما أن الحقوق منها ما لا يمكن تأمينه بدون تدخل الدولة كالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهذا يلقي عبء القيام بالأمر على عاتق الدولة الإسلامية وإذا كانت مهمة الدولة حماية الدين ونشره، فهذا يعني أيضاً أن الدولة ملزمة بحماية كل حق أو مبدأ دعا إليه الإسلام، أو أقره، أو أمر به.
ولعلنا نجد في كثير من الآثار المنقولة عن الخلفاء والأمراء ما يثبت أن دولة الإسلام عندما كانت قائمة فإنها أثبتت هذه الحقوق وعملت على إنفاذها. وهذا البحث لا يتسع مجاله لسردها ولكن ماذكرناه سابقا من كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) إلى واليه على مصر، لهو خير دليل على ذلك.
وحقوق الإنسان في دولة الإسلام هي حقوق عامة تتناول المسلم وغير المسلم، فالذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية ينعم كغيره بالضمانات الاقتصادية والاجتماعية، وينقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)أنه مر بشيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ما هذا فقيل: له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال(2). ونفس الرواية موجودة في كتب أهل السنة تنسب الواقعة إلى عمر بن الخطاب(رضي الله عنه).
والدولة الإسلامية ملزمة بـإيجاد المؤسسات التي تحقق من خلالها مهمتها
1- قريش / 3 - 4 .
2- اقتصادنا. السيد محمد باقر الصدر، ص 75 .
-----(105)-----
في الحفاظ على حقوق الإنسان وحرياته، عبر إيجاد الضمانات المختلفة التي تمكن الانسان من نيل حقوقه وتحقق له الأمن والحرية والامكانية على كل الصعد. ومنها مؤسسات الضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى المؤسسات الأخرى التي تضمن الحفاظ على الحريات السياسية والمدنية.
المبحث الخامس - دور الدولة كما ورد في المواثيق الدولية
سنرى في هذا المبحث مدى الدور الملقى على عاتق الدول في عدد من المواثيق والاتفاقيات الدولية وهي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، والاعلان الإسلامي لحقوق الإنسان.
إن ميثاق الأمم المتحدة رغم تطرقه لحقوق الإنسان وإشارته إليها في أكثر من مادة إلا أنه اكتفى بالإعلان عن هذه الحقوق دون إلزام الدول الموقّعة عليه بأي إجراءات من أجل إنفاذ هذه الحقوق.
وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بتوسع أكبر في تعداد حقوق الإنسان وتفصيلها، إلا أنه جاء أيضاً خالياً من إلزام الدول بأي إجراءات لإنفاذ هذه الحقوق، سوى الإشارة الواردة في الديباجة والتي تقول: «ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها:. فالتعهد الوحيد هو بالتعاون على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان وحرياته، دون وضع أي حدود لحجم هذا التعاون. فكان الإعلان العالمي إعلاناً بكل ما للكلمة من معنى.
أما الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فيستدل من العبارات الواردة في موادها أنها جاءت بعبارتين تستهل بأحدهما
-----(106)-----
معظم مواد الاتفاقية، وهي عبارة: «تتعهد» وعبارة «تقر» فحينما تكون العبارة تقر فهذا يعني أن المادة تتناول حقوقا يقتضي تحقيقها التزاما ذا كلفة مادية، وتفرض على الدولة إيجاد مؤسسات تعمل على إيصال هذه الحقوق إلى الإنسان، لذلك كانت العبارة «تقر».
وحينما تكون العبارة «تتعهد» فهذا يعني أن المادة تتناول حقوقا مما لا يقع على الدولة لإيجادها إلا أن تبيحها ولا تتعرض لها.
ومع تأكيد الإشارة إلى أن إيجاد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مرتبط إلى حد بعيد بدور الدولة، فإن الاتفاقية التي تناولت هذه الحقوق قد احتوت على مادتين تعطيان الدول النامية إمكانية التملص من هذه الحقوق. فالفقرة - 2 - من المادة الثانية تقول: «يجوز للأقطار النامية مع الاعتبار الكافي لحقوق الإنسان ولاقتصادها الوطني، إن تقرر المدى الذي تضمن عنده الحقوق الاقتصادية المعترف بها بالنسبة لغير المواطنين».
أما المادة الرابعة فقد جاء فيها: «تقر الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بأنه يجوز للدولة في مجال التمتع بالحقوق التي تؤمنها تمشيا مع الاتفاقية الحالية، أن تخضع هذه الحقوق للقيود المقررة في القانون فقط والى المدى الذي يتمشى مع طبيعة هذه الحقوق فقط ولغايات تعزيز الرفاه العام في مجتمع ديمقراطي فقط».
وسنأتي على بيان أثر هذه المادة عند الحديث عن انتهاك حقوق الإنسان بواسطة القانون (التشريع).
أما الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية فكانت عباراتها أكثر التزاما، وتعهدت فيها الدول باحترام وتأمين الحقوق المقررة في الاتفاقية، باعتبار أن هذه الاتفاقية تناولت حقوقا وحريات معظمها سلبية أي أن دور
-----(107)-----
الدولة فيها يقتصر على عدم التعرض لها وعلى منع الآخرين من التعرض لها.
على أن هذه الاتفاقية قد تضمنت أيضا مادة تستطيع كل دولة بموجبها أن تنسف بقية المواد وكل حقوق الإنسان المدنية والسياسية، فقد جاء نص المادة على الشكل التالي: «يجوز للدول الأطراف في الاتفاقية الحالية في أوقات الطوارئ العامة التي تهدد حياة الأمة، والتي يعلن عن وجودها بصفة رسمية، أن تتخذ من الاجراءات ما يحلها من التزاماتها طبقا للاتفاقية الحالية إلى المدى الذي تقتضيه بدقة متطلبات الوضع على أن لا تتنافى هذه الاجراءات مع التزاماتها الأخرى بموجب القانون الدولي ودون أن تتضمن تمييزا على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الأصل الاجتماعي فقط».
ولعل نظرة إلى واقع الحقوق والحريات في بعض دول المنطقة العربية وبعض الدول الإسلامية تعطينا خير دليل على مدى لجوء أنظمة الحكم إلى هذه المادة من أجل التحلل من كل التزام باحترام حقوق الإنسان والحريات العامة.
ونأتي أخيراً إلى الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، لنجد أن الدول الاسلامية وإن كانت قد أعطت الصفة الإعلانية لهذه الحقوق، دون أن تقرر إجراءات واجبة من أجل إنفاذ هذه الحقوق والحريات، إلاّ أن محتوى الإعلان قد وضع على عاتق الدولة مسؤوليات كبيرة في إيجاد الحقوق والحريات وتمكين الناس منها، فقد وقع بموجب الإعلان على عاتق الدولة ضمان مايلي:
1- حماية حق الحياة وحرمة الجنازة والعرض أو السمعة.
2- على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها.
3- حق الطفل في الرعاية المادية والعلمية والأدبية.
4- طلب العلم فريضة والتعليم واجب على المجتمع والدولة وعليها تأمين
-----(108)-----
سبله ووسائله وضمان تنوعه.
5- العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه.. وعلى الدولة أن تتدخل لفض النزاع ورفع الظلم وإقرار الحق والإلزام بالعدل دون تحيز.
6- على المجتمع والدولة أن توفر حق العيش في بيئة نزيهة من المفاسد. ولكل إنسان على دولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة التي يحتاج إليها.
7- تتكفل الدولة لكل إنسان حقه في عيش كريم، يحقق له تمام كفايته وكفاية من يعوله، ويشمل ذلك المأكل والملبس، والمسكن، والتعليم، والعلاج، وسائر الحاجات الأساسية.
إن الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان يعطي الدولة دوراً كبيراً جداً لإنفاذ هذه الحقوق، حيث شكل في هذا المجال تقدما كبيراً على الإعلانات والاتفاقيات الدولية التي تطرّقنا إليها، ولا يخفى أيضا ما تضمّنه الإعلان من إشارة إلى دور المجتمع في تحقيق هذه الحقوق. وهذا ينطلق من أن الإسلام يحمل المجتمع مسؤولية إقامة العدل والتكافل والتضامن بصفة عامة. وإذا كان الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان قد حقق تقدما كبيرا على الإعلان العالمي وما تبعه من اتفاقيات دولية إلا أنه يبقى دون المستوى الذي ألقاه التشريع الإسلامي على عاتق الدولة الإسلامية تجاه الإنسان المسلم، بل تجاه الإنسان الذي يعيش في كنف هذه الدولة.
مراجع البحث
1- القرآن الكريم.
2- أركان حقوق الإنسان ، تأليف د. صبحي المحمصاني - دار العلم
-----(109)-----
للملايين - بيروت - الطبعة الأولى 1979.
3- أزمة حقوق الإنسان في الوطن العربي - الصادر عن اتحاد المحامين العرب.
4- أميركا طليعة الانحطاط، كيف نواجه القرن الحادي والعشرين، تأليف روجيه غارودي، صادر عن دار عطية للنشر - بيروت - ترجمة صياح الجهيم وميشيل خوري.
5- اقتصادنا، السيد محمد باقر الصدر، دار التعارف - بيروت - الطبعة الثالثة عشرة - 1980.
6- الأحكام السلطانية والولايات الدينية، أبو الحسن علي بن محمد الماوردي - دار الكتب العلمية - بيروت 1985 .
7- الإسلام وحقوق الإنسان - ضرورات لا حقوق - الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ضمن سلسلة عالم المعرفة - رقم 89، تأليف د. محمد عمارة.
8- الإسلام يقود الحياة، تأليف السيد محمد باقر الصدر، طبعة دار المعارف للمطبوعات - بيروت عام 1410هـ - 1990م.
9- الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي - تأليف د. محمد فاروق النبهان - مؤسسة الرسالة - طبعة 1985.
10- الاقتصاد في الاعتقاد، الإمام الغزالي - ضمن مجموعة بدون تاريخ الصادر عن مطبعة صبيح القاهرة.
11- الفقه الإسلامي وأدلته، تأليف د. وهبه الزحيلي.
12- الموافقات للشاطبي ، طبعة دار المعرفة - بيروت - لبنان.
13- النظم الإسلامية نشأتها وتطورها، دكتور صبحي الصالح ، دار العلم
-----(110)-----
للملايين - 1976 - الطبعة الثالثة.
14- الوسيط في القانون الدستوري العام، د. أدمون رباط - دار العلم للملايين - بيروت - طبعة 1964 .
15- حقوق الإنسان في الإسلام، تأليف د. محمد الزحيلي، طبعة دار الكلم الطيب - دمشق - بيروت - دوار ابن كثير دمشق - بيروت 1997.
16- حقوق الإنسان في الدعوى الجزائية، د. مصطفى العوجي، مؤسسة نوفل - طبعة 1989.
17- حقوق الإنسان في الوطن العربي (سلسلة كتب) - تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان عن حالة حقوق الإنسان في الوطن العربي، الصادر في القاهرة سنة 1992 - 1994 - 1998 .
18- خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، تأليف د. فتحي الدريني - مؤسسة الرسالة 1982 - الطبعة الأولى.
19- فخ العولمة، تأليف هانس بيتر مارتين وهارالد شومان - الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت. ضمن سلسلة علم المعرفة تحت رقم 238. ترجمة د. عدنان عباس.
20- مجلة الحق - فصلية تصدر عن اتحاد المحامين العرب - السنة 18 - العدد 3 - 1987.
21- مجموعة القانون الإداري - الجزء الأول - المرافق العامة وحقوق الإنسان، تأليف يوسف سعد اللّه الخوري - طبعة 1999.
22- مدخل إلى الحريات العامة وحقوق الإنسان ، تأليف د. خضر خضر.
23- مدخل إلى علم السياسة، تأليف د. عصام سليمان - الطبعة الرابعة 1998.
-----(111)-----
24- معالم الشريعة الإسلامية - د. صبحي الصالح - بيروت.
25- مقدمة ابن خلدون.
26- نظام الإسلام - الحكم والدولة ، تأليف محمد المبارك - إصدار رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية في الجمهورية الاسلامية - طهران - 1997.
27- نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي، تأليف د. فتحي الدريني.
28- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي - الصادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، تأليف أحمد الريسوني - نشر وتوزيع الدار العالمية للكتاب الإسلامي - طبعة 1992.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية