مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

صياغة أولية لميثاق تأسيسي
لهيئة قضايا الوحدة والتقريب
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الرئيس الراحل للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان

الأمة الإسلاميّة تعاني اليوم نوعين من الخلافات التي تصدع وحدتها، وتوهن تماسكها، وتفرق كلمتها:

1 ـ خلافات المصالح والمخاوف السياسية الناشئة من عوامل التفاعل والتدافع في المجال الدولي والإقليمي، وفي صميم ذلك نفوذ القوى الأجنبية «غير المسلمة» في العالم الإسلامي «أوروباً وأميركا»، وهذا النوع من الخلافات قائم بين الدول الإسلاميّة نفسها «بين دولة ودولة بين دولة ومجموعة دول بين مجموعات دول».

2 ـ خلافات المذاهب على المستوى العقائدي والفقهي، وهذه خلافات تتمظهر داخل كل دولة في علاقات المواطنة بين المواطنين أنفسهم، وفي علاقات فئة من المواطنين بالحكومة، التي تختلف عنهم في الانتماء المذهبي.

ويتولد من تمظهر الخلاف في علاقات المواطنة شعور «النبذ، والعزل»، ويتولد من تمظهر الخلاف في علاقات السلطة الاضطهاد السياسي والحرمان في مجال التنمية والمشاركة في جسم الدولة.

وتقع على عاتق «منظمة المؤتمر الإسلامي» والمنظمات الإقليمية الأضيق نطاقاً «الجامعة العربية، مجلس التعاون، الاتحاد المغاربى» معالجة الخلافات

 

(178)

على المستوى الأول، وهذه كلها منظمات حكومية.

ومن المؤسف عدم وجود هيئة «أو هيئات» أهلية تهتم بهذا المستوى من الخلافات.

وأما المستوى الثاني من الخلافات فقد كان مدار اهتمام القيادات الواعية في الأمة منذ النهضة الحديثة بعد «هجمة الاستعمار، وانهيار النظام العثماني» «جمال الدين الأفغاني ومدرسته».

وقد عبرت عن هذا الاهتمام جهود فردية أول الأمر «نداءات وأبحاث لمفكرين وفقهاء».

ثم تمظهر في المؤتمر الأول الذي عقد في القدس في النصف الأول من القرن الماضي وكان هم الوحدة أحد همومه البارزة.

ثم تمظهر في مؤسسة متخصصة متفرغة هي «دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» التي شكلها في القاهرة نخبة من الفقهاء والباحثين من الشيعة والسنة، ورعاها الأزهر من جهة، والمرجع الديني الشيعي الكبير «السيد البروجردي» من جهة أخرى.

كما تمظهر في العلاقات التي أرساها الشيخ المرحوم حسن البنا مع علماء ومفكري الشيعة في تلك المرحلة.

 

خطاب الوحدة في العقيدة والشريعة

خطابات التأسيس تركز على وحدة الأمة في مجال الفكر والعقيدة وفي مجال العمل والسلوك.

 

أ ـ خطاب العقيدة

الأمة المسلمة تكونت على قاعدة التوحيد في التصور والعقيدة، ومن ثم تكون موحدة في الولاء والانتماء، وموحدة في الموقف والفعل.

(179)
وقد حفل القرآن الكريم بالآيات الكريمة التي تضمنت بيان هذه الحقيقة في مجال العقيدة ومجال التشريع وحثت المسلمين على رعايتها:

«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» (1).

«ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم»(2).

«وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله»(3).

«وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»(4).

«إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص» (5).

ب ـ الخطابات العملية

الخطابات العملية إلى الأمة تقتضي الوحدة.

1 ـ «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» (6).

أحد أعظم مظاهر القوة هو الوحدة وهذا الخطاب للأمة، ولا يمكن أن تملك الأمة القوة العسكرية إذا كانت منقسمة على نفسها، سواء كان الانقسام على مستوى الأمة أو على مستوى هذا المجتمع أو ذاك من مجتمعاتها.

2 ـ النهي عن اختلاف المواقف في القضايا المصيرية:

«فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا..»(7).

وهذا لا ينافي الشورى وتعدد وجهات النظر، ولكن لابد من التوحد على المستوى العملي. وهذا أمر متعذر إذا كانت منقسمة على نفسها سواء كان الانقسام على مستوى الأمة أو على مستوى هذا المجتمع أو ذاك من مجتمعاتها.

3 ـ وجوب الإصلاح في حالة الاختلاف:

افترض التشريع حصول خلافات تصل إلى حد الاقتتال:

«وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله...» (8).

(180)

مدخل

الإسلام دين عالمي، والأمة الإسلاميّة هي مظهر لعالمية الإسلام، ولكن تركيز الخلافات المذهبية وترتيب الآثار عليها، يلغيان عالمية الإسلام ويحولانه إلى دوائر متحايزة لا تتمتع بأي عمومية ولا تستطيع أن تنشئ خطاباً عالمياً.

إن فعلية وفاعلية عمومية الإسلام وعالميته، وعالمية الأمة الإسلاميّة تتوقفان على التخلي عن كل ما يؤدي إلى التحزب والتشرذم.

وإن وجود الأمة الإسلاميّة ووحدتها حقيقة عقائدية وتشريعية وتاريخية، ولا مجال للمراء في ذلك على الإطلاق.

وإن كون هذه الوحدة تنتظم المسلمين في جميع تنوعاتهم العرقية واللغوية والمذهبية أمر يجب الاعتراف به، وترتيب آثاره في جميع علاقات المسلمين في مجال المصالح فيما بينهم وفي مواجهة الأغيار.

لابد من تجاوز الوقائع التاريخية التي أدت إلى نشوء انقسامات سياسية تلا بست بعد ذلك مع الاختلاف في الرؤية العلمية أو الرؤية الفكرية في مجال التشريع، إن كان في مجال الأدلة أو في مجال الاستنباط.

لابد من اعتماد أسلوب يراعي وحدة الأمة في تثقيف عامة الناس بهذه الوقائع التاريخية وبتفاعلاتها السياسة، ويتجنب ما يؤدي إلى القطيعة، ذلك أن التحزب ينقل تفاعلاتها إلى حاضر الأمة وواقعها الراهن، ويتسبب في القطيعة بين مجموعات الأمة، وهو ما حرص الإمام علي ـ عليه السلام ـ وأبناؤه على تجنب الوقوع فيه، بل قدموا تضحيات كثيرة مادية ومعنوية لتفاديه حفاظاً على وحدة الأمة وسلامة كيانها.

يجب ملاحظة الواقع المعاش، فانه لا يمكن بناء الوحدة بإحياء خلافات الماضي، بل نبني الوحدة بالتركيز على حاجات الحاضر، وعلى المسلمات

 

(181)

والثوابت في العقيدة والشريعة الإسلاميّة، التي تجعل من المسلمين أمة واحدة.

من جهة أخرى لابد من إعادة الاعتبار على مستوى المجتمعات والحكومات الإسلاميّة إلى حكم شرعي إسلامي تنظيمي أساس هو تولي المسلمين بعضهم بعضاً، قبل أن ينساق هذا المجتمع أو ذاك، أو هذه الدولة أو تلك إلى تحالفات مع قوى أجنبية غير مسلمة تؤدي إلى وقوف بعض المسلمين ضد بعضهم الآخر نتيجة لتعدد الولاءات والأحلاف مع الأجانب.

وهذا المبدأ نص عليه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بالنهي عن تولي غير المسلمين بما يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين، والى إيجاد الشقاق والخلاف بين المسلمين، ولا يمكن أن يبرر ذلك أي سبب أو أية ذريعة يتذرع بها هذا المجتمع أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك كما نصت عليه السنة الشريفة في جملة من الأحاديث الصحيحة.

فالبحث الموضوعي المجرد من قبل علماء ومفكري وباحثي كل مذهب وكل طائفة لعقائد ومنهج فقه كل طائفة أخرى، سيكشف للجميع على أن المساحات المشتركة واسعة جداً، وأما الخلافات فيمكن الوصول في كثير منها إلى نقاط وفاق، وأما ما لا يمكن الوصول فيه إلى نقاط وفاق فتترك لكل جهة ولكل مذهب، وتكون من خصوصياته ومميزاته، ولا تجعل ذريعة لاعتبارها أساساً للخلاف والنزاع وإفساد العلاقات الإسلاميّة.

ومن هنا فإن التنوع المذهبي الذي اعتبر عامل انقسام هو واقع قائم ضمن الوحدة، ولا يجوز على الإطلاق الاسترسال مع هذا التنوع أو هذا الاختلاف، لأن ذلك يؤدي إلى الإخلال بوحدة الأمة باعتبارها وحدة عقائدية وتشريعية.

وإذا كان يراد بحث وقائع التنوع والاختلاف فلنبحث عن الدوائر العلمية الضيقة والمتخصصة، ولا تجعل مادة للحديث اليومي أو الموسمي.

من الأمور الأساسية التي يجب أن تلحظ في قضية الوحدة والتقريب بين

(182)

المذاهب، أن هذه الأبحاث الفقهية في الشريعة والتنوعات الكلامية في تفريعات العقيدة هي موجودة في جميع أنحاء العالم الإسلامي وبين جميع الشعوب الإسلاميّة، ومن النادر أن يكون هناك مجتمع إسلامي خال من أي تنوع مذهبي.

فقد تمت الإشارة في فقرة سابقة إلى أن التمذهب ظاهرة طبيعية في داخل الإسلام، ولا يمكن أبداً فرض مذهب معين على الناس بقرار سياسي.

لقد حدث كثيراً أن حاول بعض المتسلطين والحكام القيام بشيء من ذلك ولم يفلحوا، بل انتهى بكوارث، رأينا هذا في محاولات المعتزلة لفرض رؤيتهم الكلامية، ثم رأينا المحاولات المقابلة للاعتزال وهي محاولات «أهل الحديث» السلفيين، أهل السلف لفرض رؤيتهم الكلامية في العهد العباسي الثاني، منذ عهد المتوكل وحدث الصراع المشؤوم الذي نعرفه.

كما حدث أن قامت محاولات كثيرة لفرض اتجاه مذهبي محدد وإلغاء المذهب الآخر أو المذاهب الأخرى، كما لاحظنا ذلك في العهد الفاطمي، قام الفاطميون في مصر بمحاولة إلغاء المذاهب الأخرى غير مذهبهم وفشلوا، ثم جاء الأيوبيون فحاولوا نفس المحاولة ضد الفاطميين، وكان بعض المذاهب مستهدفاً بصورة دائمة كما هو الشأن في مذهب الشيعة الإمامية.

وقد خلفت هذه المحاولات في الذاكرة العامة لأتباع هذا المذهب أو ذاك ذكريات أليمة كونت موقفاً نفسياً وجدانياً يتنافى مع ما تقضي به عقيدة الوحدة من تصور بالأخوة والإنتماء وكون المسلمين «بعضهم مع بعض» وبعضهم أولياء بعض».

هذه الحقيقة المرة يجب أن تثبت في وعينا جميعاً في هذا العصر بأن الموقف السليم والاتجاه الشرعي المستقيم يقتضي الاعتراف بكل مذهب.

وهنا تذكر مأثرة الإمام مالك ابن أنس الذي رفض عرض المنصور العباسي عليه بأن يحمل الناس على الموطأ في القضاء والفتيا ويجعله للناس إماماً،

(183)

ولكن الامام مالكاً رفض هذا العرض وقال : «إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار فحدثوا عند أهل كل مصر حيث حلوه، وكل مصيب».

وعلى هذا الأساس كان أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ يوجهون المفتين من أصحابهم إلى احترام المناهج الفقهية الأخرى والإفتاء لأتباعها بما انتهت إليه من آراء فقهية.

فمن ذلك توجيه الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ للفقيه الشيعي الإمامي «أبان ابن تغلب» وكان يجلس للإفتاء في المسجد النبوي : «أنظر إلى ما علمت أنّه من قولهم فأخبرهم بذلك»(9).

أذن، علينا أن نتجه هذا الاتجاه.

لقد تحقق هذا الهدف في المذاهب الأربعة، حيث نجد غالباً أن الاعتراف المتبادل بين هذه المذاهب هو السمة العامة الظاهرة في معظم أنحاء العالم الإسلامي، ولكننا لا نزال نواجه صعوبات في هذا الحقل بين هذا المذهب أو ذاك من هذه المذاهب، أو بين جميع هذه المذاهب والمذهب الشيعي الإمامي الاثنى عشري أو المذهب الزيدي، أو المذهب الاباضي، وبين كل مذهب من هذه المذاهب والمذاهب الأخرى.

هذه النقطة هي ما نستهدف الوصول إلى حل للإشكال بشأنها، والى أن يتم الاعتراف المتبادل المبني على التفهم العلمي والوعي الحقيقي، لأن كل واحد من هذه المذاهب يستحق على المذاهب الأخرى الاعتراف بإسلاميته.

 

الاعتراف بالمسلم أو محاولة عدم الإلغاء ؟

تقوم الوحدة على أساس وعي حقيقة الوحدة أو العمل من أجل التقريب، وتارة تقوم على أساس الطلب إلى الآخر أن يلغي نفسه أو يهذب نفسه، وتارة تقوم على أساس الاعتراف بالآخر.

فالدعوة إلى إلغاء الذات ليست في الحقيقة دعوة إلى الوحدة، ولن تتحقق هذه الوحدة على الإطلاق، ولن يتحقق أي تقارب، المهم هو الاعتراف بالآخر،

(184)

الاعتراف بخصوصيته والاعتراف بإسلاميته، نفس المنهج الذي تم في التقريب بين المذاهب المنتمية إلى الخط الأشعري، ما يسمى المذاهب السنية يجب أن يسود فيما بين هذه المذاهب وبين المذاهب الإسلاميّة غير الاشعرية.

هذا الهدف هو أحد الأهداف الكبرى التي يجب أن ينصب عليها اهتمام المعنيين بالاجتماع الإسلامي العام.

في مجال آخر يلاحظ أن السدود الثقافية والمعرفية أو التعليمية التي تواجه مذهباً تجاه مذهب آخر قد بدأت تتقلص، وأن طوق العزلة الثقافية قد بدأ يتبدد وينكسر، ويلاحظ أن التواصل الثقافي والفكري وأن التثاقف بين القيادات الفكرية والفقهية لكل المذاهب في حالة نمو وتكامل، وهذا اتجاه صحيح يؤدي إلى تعميق الشعور بالوحدة والشعور بالانتماء إلى الأمة الواحدة، ويزيل حالة الشعور بالانفصال، بل ينمّي حالة الشعور بالتكامل.

 

مشكلة التبشير داخل الإسلام

والمهم أن نتجنب حالة التبشير في داخل الإسلام، ومحاولة حمل أتباع مذهب على ترك مذهبهم واتباع المذهب الآخر بالأسلوب التبشيري، حيث أن التكامل الثقافي لا يكون بمحاولة الاستفزاز، وإنّما يكون بمحاولة الإغناء والإضافات والتكامل.

ومن هنا فيجب إعادة النظر في جميع المؤسسات التي تقوم على أساس فكرة التبشير والدعاية المذهبية في مقابل المذاهب الأخرى، وهذه المؤسسات سواء كانت منها المعلنة بأهدافها أو المقنعة بشعارات خادعة وشعارات مموهة، هذه المؤسسات تعوق بشكل مدمر نمو عوامل التقريب واستحالة الوحدة، ونحن نشاهد بعض مظاهر ذلك بين الفينة والأخرى.

(185)

هيئة قضايا الوحدة والتقريب

تشكيل هيئة قضايا الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلاميّة والتي تعنى بالتواصل مع الدوائر الفقهية والفكرية في كافة المراكز الإسلاميّة، وفي مقدمتها الأزهر الشريف، للمشاركة بأية صيغة ممكنة في هذا الجهد الذي تقوم به هذه الهيئة.

وعلى أساس هذا الميثاق التأسيسي لهيئة الوحدة والتقريب بين المذاهب لابد أن يتم إصدار مجلة عالمية بلغات حية، وفي مقدمتها اللغات الإسلاميّة، العربية والفارسية والتركية والأردو، تهتم بنشر عقيدة الوحدة وأفكار التقريب بين المذاهب وإنشاء هيئات تمثيلية لها، ونصب ممثلين لها في كافة المناطق في العالم الإسلامي، والدعوة إلى مؤتمرات بحثية عامة، فيما يتعلق بقضايا الوحدة العامة، ومؤتمرات أو ندوات ذات طابع خاص تعنى بقضايا محددة ذات أولوية وأهمية استثنائية فيما يعود إلى الوحدة الإسلاميّة.

إن أحد أهم مقاصد هذه الهيئة العمل من اجل الانفتاح الفقهي بين المذاهب الإسلاميّة، على مستوى الدراسة والاجتهاد، ومن أجل ذلك ستعمل «هيئة قضايا الوحدة» على أن تعنى كليات الشريعة ومعاهد الدراسات العليا في العالم الإسلامي بالتدريس الجاد لكل المذاهب على قاعدة أصول الفقه المقارنة والفقه المقارن، وكذلك تشجيع كل ما يمكن أن يؤدي إلى تعميق أواصر الوحدة والشعور بالانتماء من جهة أخرى، والى اكتشاف المسلم الآخر وقبوله، كما هو، ومحاورته من منطلقات مشتركة بين الجميع.

 

الوحدة الإسلاميّة وقبول الآخر غير المسلم «حوار الأديان والحضارات»

من الممكن إضافة مهمة أخرى وهي أن عناية هذه الهيئة بقضايا الوحدة الإسلاميّة والتقريب بين المذاهب تحمل في ثناياها «توجهاً» عقيدة أساسية على مستوى العالم، وعلى مستوى الأمة الإسلاميّة، وعلى مستوى كل وطن

(186)

وكل بلد من أوطان وبلاد المسلمين، وهو أن هذه الدعوة تستبطن مبدأ قبول الآخر غير المسلم، والحوار معه، ومحاولة بناء حياة مشتركة تقوم على القيم الإيمانية الكبرى.

ويقوم هذا التوجه على أساس المبدأ الأساس العام في الإسلام في مجال الفقه السياسي، الذي صرح به القرآن الكريم، والذي يتجلى في آية سورة الممتحنة «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين..» إلى آخر الآية السابعة والثامنة من هذه السورة المباركة.

 

الخلافات السياسية وأسبابها الطائفية والمذهبية

من الملاحظ بقلق عميق أن بعض الخلافات السياسية التي تحدث بين المجتمعات الإسلاميّة، أو في ضمن تلك المجتمعات، تعود إلى أسباب طائفية ومذهبية، وهذا يشكل عنصراً مدمراً لقضية الوحدة.

وفي هذا المجال نذكر التعارض الكبير الذي يظهر بين حين وآخر بين الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية وبين محيطها، والذي يعود قسم منه إلى اعتبارات مذهبية.

ونذكر التعارض الكبير الدموي الذي حدث داخل أفغانستان بين فئات الشعب الأفغاني، أو بين حركة طالبان وإيران.

ونذكر التعارض الدامي والأليم الذي حدث بأشكال متنوعة في العراق أو في بعض الدول الخليجية.

ونذكر التعارضات التي تحدث بين حين وآخر في باكستان مثلاً.

إن بعض علماء الدين الذين قد لا يتمتعون بالكفاءة العلمية المناسبة ولا بالورع الذي يقتضيه مناصبهم ينطلقون من التنوع المذهبي لإصدار فتاوى علنية أو مقعنة ضد أتباع المذهب الآخر أو المذاهب الأخرى، وهذه ظاهرة كانت موجودة قديماً على نطاق واسع ولا تزال بعض مظاهرها تتكرر الآن بين

(187)

حين وآخر، وهذا أمر يظهر من الشيعة ومن السنة أيضاً.

وهذا ينعكس على علاقات المسلمين العامة فيما بينهم فيسممها، ويؤدي إلى انعكاسات سياسية، والى حالات تربص وحذر سياسي، يشل قدرة الأمة ويصدع وحدتها، ويطيح بعوامل التقريب بين مذاهبها.

 

«علم الكلام الجديد» وقضية الوحدة

1 ـ المبدأ الأساس الذي يجب أن يلحظ عند النظر في قضايا الوحدة والتقريب، هو أن وحدة المسلمين باعتبارهم أمة واحدة، هو من الحقائق الأساسية في الاعتقاد الإسلامي، كما بينا مراراً، وهو ركن من أركان الإسلام، وينبغي أن يدرس هذا المبدأ في علم الكلام باعتباره أحد الاعتقادات الأساسية، وهذه نقطة مهمة حيث أن علم الكلام لا ينظر إلى قضايا الأمة، إلى الاجتماع الإسلامي المتمظهر في الأمة باعتباره من مجالات الاعتقاد الإسلامي، فيجب أن يكون هذا المجال أحد مجالات التجديد في علم الكلام الإسلامي.

2 ـ «علم الكلام الجديد» يجب أن يركز على الأثر العملي لأصول الدين الإسلامي في مجال الحياة اليومية للمسلم، أصول العقيدة الإسلاميّة التوحيدية بالله الواحد، بالنبوة الخاصة لمحمد ـ صلى الله عليه وآله ـ التي تتضمن الإيمان بالأنبياء على أساس البيان القرآني في هذا الشأن، والإيمان باليوم الآخر، بالتفاصيل التي وردت في القرآن الكريم، والعبادات الإسلاميّة الأساسية «الصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالوحي القرآني، الإيمان بالقبلة» والى غير ذلك.

3 ـ من الأمور الأساسية التي يجب وعيها في هذا الشأن، هو أن الدعوة إلى الوحدة لا تعني إلغاء المذاهب كلاً أو بعضاً، ونحن لا نوافق على دعوة «إسلام بلا مذاهب »، كما لا يجوز أو يراد بها محو الخصوصيات المذهبية، أو دمج المذاهب ببعضها، ولا تعني التلفيق بين المذاهب، ولا تعني دعوة كل مذهب

(188)

إلى أن يلغي خصوصياته ليتماثل ويتماهى مع المذهب الآخر، بل تعني الارتكاز إلى الثوابت العامة المشتركة في مجال العقيدة والشريعة باعتبارها أساساً للأمة، وأن التنوع الموجود هو تنوع في الوحدة وليس اختلافاً أساسياً.

4 ـ وينبغي التركيز على أن الخلافات بين السنة والشيعة هي من طبيعة الخلافات بين مذاهب أهل السنة نفسها، وبين فقهاء كل مذهب من هذه المذاهب، كما هو الشأن في الخلافات بين الشيعة والشيعة، حيث نجد خلافات فقهية وأصولية، خلافات في مناهج الاستنباط، وخلافات في الاستنباط داخل كل مذهب بما يقارب أو ربما يماثل ويساوي الخلافات بين المذاهب.

ومن هنا فلا يمكن اعتبار مجرد الخلاف في المنهج الأصولي أو في المنهج الفقهي هو الداعي إلى الإخلال بمبدأ الوحدة.

5 ـ ومن المناهج التي يجب اعتمادها في قضايا تعميق وإحياء الوحدة وتحقيق التقريب هو الدراسات المقارنة المشتركة في مجال تفسير القرآن، وفي مجال السنة، وذلك بمحاولة تحقيق الفهم المشترك أو المتقارب.

 

أولاً: في مجال القرآن

لا نقصد التوصل إلى حصر القرآن في فهم واحد ؛ لأن هذا أمر لا يمكن الموافقة عليه، بل نقصد أن يتسع نظر المفسر والمفكر والفقيه عند الرجوع إلى القرآن الكريم، لمناهج البحث القرآني عند سائر المدارس الإسلاميّة، فلا يكون أسير نظرة واحدة.

 

ثانياً: مجال السنة

يجب تطوير مبنى يعتمد على وثاقة الراوي وعلى التحقق من الصدور، وهذا يؤدي إلى النظر في قضايا الرجال، وقد لاحظنا في إحدى محاوراتنا أن

(189)

الشيعة لا يعتمدون على أية رواية سنية، إلاّ بنحو ثانوي وهامشي جداً، والسنة لا يعتمدون على أية رواية شيعية على الإطلاق تقريباً، وهذه قطيعة ليس لها ما يبررها على الإطلاق.

يجب البحث الموضوعي في الأسباب السياسية التي أدت إلى مقاطعة السنة المروية عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وهجرها ، وعن الأسباب الموضوعية الداعية إلى الاعتراف بمرجعية أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في السنة.

لقد زالت الأسباب السياسية للقطيعة، فيجب أن تزول آثارها، وأن يصحح وضع السنة بالعودة إلى مصدرها الطبيعي بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وهو أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، مع عدم إهمال المصدر الآخر وهو الصحابة.

ينبغي أن تنشط الدراسات الحديثية المقارنة، لتكتشف مجالات وحدة النص، أو وحدة المضمون بين السنة المروية عن أهل البيت، التي تشكل معظم السنة عند الشيعة، وبين السنة المروية عن الصحابة والتابعين التي تشكل معظم السنة عند أهل السنة.

 

6 ـ دور المصالح السياسية للحاكمين في تسييس الخلافات المذهبية، إذ يجب البحث بعمق عن دور السياسة في إذكاء وتعميق الخصوصيات المذهبية وشحنها بأسباب القطيعة، وربما بأسباب العداء، ويجب البحث عن الخلفيات السياسية المصلحية للحكام أو للأسر الحاكمة، وللأحزاب الحاكمة في وضع مناهج حديثية وفقهية وتفسيرية ودمجها في النظام المعرفي أو في الهيكل المعرفي للإسلام، بحيث غدت عند أصحابها تمثل الإسلام المقدس المستقى من الكتاب والسنة، بينما هي في حقيقتها تعكس توجهات سياسية لا علاقة لها بالكتاب والسنة.

هنا يجب أن نلاحظ أن منهج أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ مثال يحتذى في النظر إلى قضية الوحدة واعتبارها عقيدة مقدسة لا يجوز التهاون في رعايتها، ونرى

(190)

أنهم كما بينا في كتبنا ؛ كلما تعرضت الوحدة للخطر يهبون لدعمها وحمايتها وتحصينها، وعلى المنهج الذي ساروا عليه من أول الأمر، حينما تعارضت قضية توليهم للسلطة مع قضية الوحدة، فإنهم آثروا قضية الوحدة على قضية السلطة، وحافظوا على وحدة الأمة في جميع الحالات، وكانوا يتجاوزون مواقفهم السياسية في سبيل وحدة الأمة، فنلاحظ مثلاً أن الإمام زين العابدين عبر عن رؤيته هذه في عدة نصوص دعائية من أبرزها دعاء الثغور وما إلى ذلك.

 

الوحدة والكيانات الوطنية والإقليمية الخاصة

في هذا النطاق نلاحظ مسألة عظيمة الأهمية وتتصل بطبيعة الوحدة، وهي أن الوحدة لا تعني محو الكيانات الخاصة بكل مجتمع أو بكل إطار من الأطر، حيث نرى أن التعددية السياسية في صميم هذه الرؤية، ولا تتنافى مع الوحدة، بل نرى أن منهج أهل البيت في هذا الأمر ينسجم ويوفق بين التعددية السياسية والتنظيمية وفي نفس الوقت يحافظون على حقيقة الوحدة الجامعة لهذه التنوعات.

وفي هذا السياق يمكن أن نعتبر أن مبدأ التقية الإسلاميّ الذي شرعه الله تعالى في القرآن الكريم، كما عبر عنه الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ في السنة، وطبقه أئمة أهل البيت ـ عليه السلام ـ في الاجتماع الإسلامي بعد أن تفاعلت الاختلافات المذهبية الكلامية والفقهية على المستوى السياسي، هو أحد المحاولات العملية التي بذلها أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ من أجل المحافظة على الوحدة، وإلا فلنتصور أن مبدأ التقية لم يحكم المسيرة السياسية والاجتماعية لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ، إذن لحدثت انشقاقات على مساحة الإسلام كله أشد وأدهى مما حصل حتّى الآن، ولما أمكن على الإطلاق المحافظة على المكاسب التي حققتها الأمة الإسلاميّة في عصور ازدهارها، وكانت إلى حد كبير هي العاصم من الانحلال والذوبان

(191)

في عصور الضعف والوهن.

 

هيئة أسس قضايا الوحدة والتقريب

إن الميثاق التأسيسي لهيئة قضايا الوحدة والتقريب بين المذاهب يقوم على الأسس التالية:

الأساس الأول:

وهو أن المسلمين اتفقوا على أمر جامع يوحدهم في دائرة الإسلام، وعلى هذا الأساس يتمثل فيهم جميعاً كيان الأمة وينتزع من هذا الواقع مفهوم الأمة الإسلاميّة.

إن الثوابت الكبرى في الإسلام التي أجمع المسلمون على الإيمان بها والالتزام بها هي أساس الإسلام، حيث أن المسلم هو من آمن والتزم بها، وأن من أنكرها وأنكر بعضها ليس مسلماً.

وهذا موضع وفاق بين المسلمين.

وبهذا يتبين أن الواقع التنظيمي للأمة هو الوحدة.

نحن لا نسعى إلى إيجاد وحدة مفقودة ومعدومة، وإنّما نسعى إلى تأصيل وحدة قائمة وتفعيلها وجعلها حية فاعلة في حياة المسلمين العامة، فيما يتعلق بقضاياهم المحلية والإقليمية والعالمية.

هذا هو الأساس الأول.

ويجب أن يكون كسائر الأسس الآتي ذكرها موضوع تبصر من قبل قيادات الأمة في جميع المستويات، وخاصة في مستوى التفقه ومستوى التثقيف.

 

الأساس الثاني:

إن التمذهب ظاهرة طبيعية في كل عالم ثقافي حضاري، وهو مما يتفق مع الفطرة، إننا لا نعتبر التمذهب، بالمعنى الفقهي، تمزقاً في الإسلام، بل هو

(192)

منسجم مع طبيعة اختلاف الأفهام والمدارك والرؤى في ضمن الإطار الواحد الجامع.

فالاختلافات المذهبية أمر طبيعي، وهي ناشئة من الاختلاف الاجتهادي في فهم ظواهر الكتاب وفي تقييم السنة، إن من حيث الصدور أو من حيث الظهور.

جوهر الخلاف كما آل إليه، وكما يجب أن يكون فهمه في عصرنا هو هذا، أي أن الخلاف ناشئ من اعتبارات عقلية ثقافية ترجع إلى الفهم الحقيقي، ولا يجوز أن تكون لهذه الاختلافات تعبيرات سياسية وتنظيمية على مستوى علاقات المواطنة، وعلى مستوى علاقات المواطنين بالدولة والحكومة وموقهم في النظام السياسي.

ربما يوجد اعتبار سياسي في خلفيات بعض الخلافات القديمة، ولكن هذا زمن انقضى وانقطعت مقتضيات الخلاف فيه، أما الآن فيجب أن يحصر الاختلاف في المسالك والمناهج الفقهية في اختلاف فهم ظواهر الكتاب والاختلاف في السنة من حيث الصدور ومن حيث الظهور.

هذه المذاهب تتمتع بالشرعية الكاملة من كل مذهب تجاه المذاهب الأخرى، فأتباع كل مذهب يجب أن يكونوا معترفاً بهم باعتبارهم مسلمين كاملي حقوق الانتماء إلى الإسلام على مستوى الأمة وعلى مستوى مجتمعهم الوطني الخاص، ويتمتعون بكل ما تتمتع به المذاهب الأخرى، من دون اعتبار لكونهم أكثرية أو أقلية، بل لا يجوز اعتبار التنوع المذهبي أساساً للتصنيف إلى أقلية وأكثرية، ويجب أن تحترم عقائدهم وإفهامهم الخاصة، وأن لا ينعكس تنوعهم المذهبي إذا كانوا أقلية على إمكانات اندماجهم في المجتمع، وعلى تمتعهم بحقوق عضوية المجتمع وعضوية الأمة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

(193)

الأساس الثالث:

إن المرجع في فهم منهج كل مذهب ورؤيته العقائدية ومنهجه الفقهي هو أئمة وعلماء المذهب نفسه، والكتب المعتمدة فيه على نطاق واسع ورسمي وليس الآراء الشاذة منه، وليس ما يقوله عنه أو نقله عنه في الماضي خصومه ومناوئوه في المذاهب الأخرى .

ولا يجوز الحكم على المذهب استناداً إلى التفاصيل الشاذة والغامضة، بل يجب أن يرجع في درسها لإثباتها أو نفيها أو تأويلها إلى المرجعية العقائدية والفكرية والفقهية لأتباع المذهب نفسه، ولا يجوز أن تكون موضوع اجتهادات أو أحكام من قبل مصادر أخرى في مذاهب أخرى .

 

الأساس الرابع:

تحريم التبشير في داخل الإسلام ؛ فلا يجوز للشيعة أن يقوموا بنشاط تبشيري داخل هذا المذهب الإسلامي أو ذاك، ولا يصح من أي مذهب منفرد أن يقوم بنشاط تبشيري على مستوى عام داخل المذاهب الأخرى، كما لا يجوز ولا يصح أن يقوم أهل السنة باعتبارهم كتلة عقائدية بأنشطة تبشيرية مبرمجة وممنهجة داخل الشيعة.

وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب على صعيد فردي فهذا شأن من شؤون كل شخص، بحسب قناعاته التي يكونها نتيجة لقراءته وتفكيره الخاص، وإذا قرر مسلم من المسلمين من مذهب معين الانتقال إلى مذهب آخر فإن إرادته ورغبته يجب أن تحترم، ويطبق عليه باحترام أحكام المذهب الذي اختاره.

 

فتح باب الاجتهاد

الاتجاه العام الذي وفق الله له في الإعصار الأخيرة على مستوى الأمة الإسلاميّة، وهو فتح باب الاجتهاد وهذا ما يجب تعزيزه.

(194)

وعلى هذا الأساس نلاحظ أن الاجتهاد لا يزال اجتهاداً مذهبياً عند الجميع، بحيث أن كل أئمة وفقهاء كل مذهب يعملون على الاجتهاد في نطاق منهج وأصول وقواعد مذهبهم الخاصة، وهذا أمر حسن في ذاته، ولكن هذا لا يخدم مقصد الوحدة والتقريب، وإنما يعزز الحيوية الفكرية والفقهية في داخل هذا المذهب المعين بالخصوص.

نحن ندعو ـ في نطاق مشروع تأصيل وحدة المسلمين والتقريب بين المذاهب ـ إلى تأسيس منهج الاجتهاد المطلق العام في جميع المذاهب .

ومن هنا فيجب أن تعزز في جميع الدوائر العلمية عند جميع المسلمين الدراسات الأصولية والفقهية المقارنة،بهدف العمل على تكوين مجتهدين مطلقين في المذاهب الإسلاميّة كلها، على مستوى الإسلام كله، وليس على مستوى مذهب معين.

فليكن هناك مستويان من الاجتهاد، مستوى الاجتهاد المذهبي الخاص، الذي يلبي حاجة أتباع المذهب، واجتهاد مطلق عام يلبي حاجة الأمة في قضاياها الكبرى.

وفي هذا الإطار يجب أن تتكون مجامع فكرية وعلمية تقوم على أساس من قضية وحدة الأمة والتقريب بين اتجاهاتها الفقهية، وهذا أمر حاصل الآن بالجملة، من خلال ما يعقد من مؤتمرات وندوات وما إلى ذلك، ولكن نأمل أن تأصل فكرة إنشاء مؤسسات بحثية دائمة في هذا الشأن، ولعل مجامع الفقه الإسلامي هي إحدى مظاهر هذه المؤسسات التي نشير إليها.

وهنا من المناسب إدراج كلمة عظيمة الأهمية للمرجع الديني الشيعي الكبير السيد البروجردي حيث قال:

«إن عقيدة الشيعة مبنية على ركنين:

الأول ـ الاعتقاد بإمامة علي والأئمة ـ عليه السلام ـ من بعده، وأنه كان خليفة الرسول الأول .

(195)

الثاني ـ أن الأئمة من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ هم المرجع لحل المشاكل الدينية والأحكام بنص من الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ في حديث الثقلين، حيث قال: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي».

إن قضية الخلافة لا تحتاج إليها الأمة الآن، والبحث فيها مثار الاختلاف من دون أن يكون له ضرورة، وإنّما هي في عهدة التاريخ، فلا داعي للخوض فيها.

وأما أن الأئمة كانوا مرجعاً للأحكام فهي حاجة لا تختص بزمان دون زمان، فعلينا أن نكتفي في بحث الإمامة بهذه، ونسكت عن الأولى، ولا ضير في ذلك».

إن هذه الكلمة للمرجع الإمام البروجردي تكشف عن الرؤيا القائمة على اعتبار وحدة الأمة، والناظرة إلى التقريب بين المذاهب، وهي عظيمة القيمة في أطروحتنا التي نقدمها للأمة الإسلاميّة في مشروع ترسيخ الوحدة والتقريب بين المذاهب .

 

الأساس الخامس

لا يجوز أن تؤدي الاختلافات المذهبية داخل المجتمع الإسلامي الوطني في أية دولة إسلامية أو على مساحة العالم الإسلامي كله، إلى اعتبار أي فريق من المسلمين أقلية لا تتمتع بحقوق الأكثرية المذهبية في ذلك المجتمع أو على مستوى العالم الإسلامي، بل يجب أن يعتبر الجميع سواء في حقوق المواطنية وواجباتها .

إن ملاحظة مقتضيات عقيدة الشيعة الإمامية تكشف عن أنهم هم أهل الجماعة، حيث أنهم يذهبون إلى عدم جواز تفريق كلمة المسلمين، ويقفون من قضية الوحدة موقفاً صارماً لا لبس فيه ولا تردد، فيجزمون بتحريم ما يؤدي إلى الفتنة بين المسلمين.

وقد كان نهج أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في زمن اشتعال الفتن والحروب الأهلية

(196)

يقوم على تجنب الدخول في الحروب الأهلية، وعدم التعاون مع أطرافها، مع الالتزام بعدم التعاون مع السلطة القائمة، ولكن هذا الموقف من الفتن ومن السلطة لا يؤدي إلى الاعتزال عن الأمة والالتزام بوحدتها، بل يقوم على الاندماج الكامل بالأمة وتجنب كل ما يؤدي إلى تفريق الكلمة والإخلال بالوحدة.

من هنا لا يمكن القول أن الشيعة الإمامية يتمايزون عن أهل السنة والجماعة في هذا الشأن .

وهنا ملاحظة مهمة جداً وهي أن تسمية مقلدي «أتباع» المذاهب الأربعة «الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي» بـ «أهل السنة» لا نعني «السنة النبوية» فقط، بل وإنّما السنة بمعناها الاوسع عندهم ؛ وهي تشمل الماضي كله، يعني أنهم يمثلون الخط الفكري الذي يحترم كل الماضي وكل التراث، وكل ما وقع من المسلمين، وربما يكون هذا هو الأساس لقول من قال بحجية رأي الصحابي أو رأي التابعي أيضاً «هذه النقطة يجب التوسع والتعمق فيها» .

كما أن موقف الشيعة الإمامية من قضية ثبوت الإسلام والإيمان لشخص هو اعتبار كل من نطق بالشهادتين مسلماً، وكما اعتبروا أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو الحال في عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن هنا فهم يحرمون دماء أهل القبلة، ويجرون أحكام الإسلام على كل أهل القبلة، ما لم يثبت عن بعضهم العمل على خلاف ما يقتضيه اعترافه المعلن بالشهادتين، حيث أن المعلن للإسلام تارة يطبق بنحو جزئي أو كامل في حياته العملية أحكام الإسلام في مجال العبادات والمعاملات، وتارة لا يطبق شيئاً من هذه الأحكام، فإذا عمل فينبغي أن يكون عمله منسجماً مع الاتجاه الفقهي العام والسائد بين المسلمين، أما أن يعمل بما يخالف الاتجاه الفقهي والسائد، ويدعي أن هذا هو ما تعنيه الشريعة، من قبيل ما يقوم به الدروز في فقههم وفي اعتقاداتهم العملية، أو بعض الفرق الباطنية الأخرى، فإن هذا يبعث على الشك في صدق

(197)

عنوان الإسلام عليهم.

فالإسلام عند الإمامية دين مفتوح ومتحرك، وليس منغلقاً على فئة بعينها، هم خصوص الملتزمين بالعقيدة التفصيلية في قضية الإمامة وقضية العصمة، بل الإسلام دين مفتوح ينتظمهم وينتظم غيرهم من سائر المسلمين، وهو منفتح لكل من دخل فيه على قاعدة الإعلان بالشهادتين، سواء انتسب في انتمائه الخاص إلى اتجاههم أو إلى الاتجاهات الأخرى داخل الدائرة السنية حسب الخط الأشعري أو المعتزلي أو الماتريدي أو ما إلى ذلك .

 

(198)



1 ـ سورة آل عمران: الآية 103.

2 ـ سورة آل عمران: الآية 105.

3 ـ سورة الأنعام: الآية 135.

4 ـ سورة الأنفال: الآية 47.

5 ـ سورة الصف: الآية 4.

6 ـ سورة الأنفال: الآية 60.

7 ـ سورة النساء: الآية 88.

8 ـ سورة الحجرات: الآية 9.
9 ـ الخوئي / معجم الرجال ج 1 ص 149. 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية