مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

مناهج البحث في التاريخ(1)
المرحوم العلامة السيد محمد تقي الحكيم


تمهيد:
آية الله السيد محمد تقي الحكيم (رحمه الله) يتصف بمواصفات يستحق كل منها بحديث مستقل ومستفيض، فقد كان الفقيد يجمع في علمه وثقافته بين العمق العلمي للحوزات العلمية الدينية والنهج الجامعي في الدراسة والعرض، والثقافة العامة للامة. وكان موفقاً في علمه من خلال الانتاج العلمي في ميادين مختلفة: (فقهية) و(اصولية) و(تاريخية) و(لغوية) و(أدبية) و(اجتماعية) وألف في كل واحد منها ما ينفع الناس.
من أهم الصفات التي اتصف بها السيد الحكيم (رض) والتي لم يشاركه فيها غيره من العلماء الأعلام وهذه الصفة هي أن العلاّمة الحكيم كان له دور فريد ومهم في انشاء وتأسيس حلقة الوصل بين الحوزة العلمية والمؤسسات العلمية المدنية النظامية، بحيث كان يمثل النموذج الأمثل في هذا المجال سواء في حوزة النجف الأشرف، مسقط رأسه، أو في الأوساط العربية بصورة عامة. وكان من جملة الأنشطة التي قام بها طرح النظرية السياسية والاقتصادية والحركية الاسلامية وتصدي المرجعية وتحويلها الى مؤسسة سياسية وثقافية وتأسيس (جماعات العلماء) في انحاء العراق، والحركة الاسلامية المعاصرة والجمعيات، مثل جمعية منتدى النشر، وجمعية الرابطة الادبية، وجمعية الصندوق الخيري الاسلامي، وغيرها من المنظمات.
كما قام المرحوم بتطوير مناهج الدراسة في الحوزة العلمية والاستفادة من التجارب الحديثة مع الاحتفاظ بالعمق والمستوى العلمي المطلوب في هذه الدراسات، مقرونا بالاستقلال في الادارة والمصادر التموينية، الأمر الذي ضمنها الاصالة والنقاء والقدرة الفائقة في المقاومة والصمود والتكيف.
وأهم ما اتصف به آية الله الحكيم (رض) عمله ونشاطاته التقريبية في الأوساط العلمية والحوزوية وحضوره الفاعل في المحافل الدولية وتأليفه الكتب العديدة التي أمدت حركة التقريب بين المذاهب الاسلامية برافد ثر ككتاب (الأصول العامة للفقه المقارن) وغيره من الكتب المهمة.
- التحرير -
 



حين أوكلت اليّ لجنة الكلية في منتدى النشر تدريس التاريخ لطلابها ومحاكمة بعض أحداثه وبخاصة ما يتعلق منه بالحوادث الكبرى في الاسلام ورجعت الى كتب التأريخ رأيتني أمام حشد من المفارقات والتناقض الفظيع لا يمكن اجتيازه بسهولة، ورأيت مهمّتي من أشق المهمات وأعسرها متى أردت الاخلاص لنفسي في أدائها على أفضل وجوهها.
فالتاريخ بمفهومه العام، ولا سيما القسم الاسلامي منه، مضطرب جداً سواء بما سجل من احداثه، أم بما فسرت به الاحداث، أم بما اصدر عليه المؤرخون من أحكام.
وإذا علمنا أن مهمة المحاضر في المواضيع التأريخية منصبة على بلوغ واقع التاريخ واستخلاصه من بين هذه الحشود المتضاربة. ثم تفسير أحداثه تفسيراً منهجياً والحكم عليها حكماً متحرراً من رواسب ومسبقات صاحبه جهد الامكان أدركنا مدى أهمية ما تعترضه من عقبات.
وقد رأيتني لذلك ملزماً أن لا أدخل معهم في بحوثها قبل أن ألتمس لهم:
أولاً: أسباب هذا التضارب والتناقض في تسجيل أحداثه.
ثانياً: المنهج الذي يجب أن نسلكه لاستخراج الواقع التأريخي من بينها سواء في تحقيق النص أم التأكد من صحته.
ثالثاً: تفسير النص وذلك بعد عرض المذاهب المختلفة في تفسير التاريخ ومناقشتها وتعيين وجهة نظر الكاتب فيها ان صح ان له وجهة نظر خاصة.
رابعاً: الحكم عليه بما يستحقه من حكم.
ولئلا نأخذ أكثر من الوقت المحدد للمحاضرة سنقتصر في هذا الحديث على عرض ما يتعلق بالقسم الأول منها وفي الأحاديث الآتية متسع لعرض بقية الأقسام فما أسباب ذلك التضارب والتناقض؟ـ 1 يبدو لي أن بواعث ذلك الاضطراب ذات شقين أحدهما لا شعوري، والآخر شعوري.
ونريد باللاشعوري هنا: الباعث الذي يبعث ببعض المؤرخين على التشويه للحادثة بالتزيد او التنقص لا عن قصد واختيار منه وانما يندفع الى ذلك اندفاعاً تنبع عوامله من أعماقه دون ان يشعر بها فتلون الحادثة باللون الذي تريده هي لملاءمة مواضع العقدة منها. فربما شذبت من الحادثة بالنسيان، وربما ازادت فيها من عندياتها وصاحبها لا يرى حين تأديتها إلا أنه قائم بوظيفته في تأدية ما يعتقده واقعاً، وكثيراً ما يقع ذلك في مرضى النفوس، وفي عيادات السيكولوجيين مئات الشواهد على ذلك.
وعامل الكبر ـ بما يصيب صاحبه من ضعف الذاكرة وكثرة السهو والغفلة ـ هو الآخر عامل لا شعوري في تشويه التاريخ، وربما يضاف الى ذلك طبيعة ما يقتضيه عادة تنقل القصص التاريخية والأحاديث بين الرواة مع اختلافهم بالفهم وحسن التلقي من الزيادة والنقيصة اللذين ربما ابعدا مفهوم الحادثة عن واقعها وللتأكد من صحة هذه الدعوى نأخذ مثلاً من واقعنا، على ذلك فنجري عليه هذه التجربة.
ليتفضل أحد الاخوان ان شاء ـ بتسجيل محضر لهذه الجلسة، ثم ليقم بنقل مؤداه الى احد اصدقائه ممن لم يحضروها وليكلفه بنقلها هو الآخر الى صديقه. وهكذا الى عشرة وليكتب العاشر ما سمعه منها ثم قارنوا بين الصورتين لتروا مدى ما يقع فيها عادة من اختلاف! وتأريخنا لم يكن بدعاً من التواريخ ليسلم من هذه الآفات، وبخاصة تأريخ ما قبل التدوين، وهو الذي حفل بتسجيله الطبري في تأريخه وأمثاله ممن عنوا بتأريخ العالم من لدن أبينا آدم الى اليوم، وحتى في صدر الاسلام، لم يدون التاريخ بل ظل يتنقل بين مئات الرواة أكثر من نصف قرن اللهم إلا ما قل من ذلك.
ونريد بالباعث الشعوري: أن يعمد المحدث أو الراوي الى تشويه الحادثة او خلقها، وهو يشعر بواقع ما يقدم عليه من عمل، استجابة لبعض العوامل والأسباب.
وهذه العوامل ـ على تكثرها وتشعبها ـ يمكن أن يرجع بأغلبيتها الى ثلاثة عوامل رئيسية:
أولاها: عامل اقتصادي؛ ويراد هنا بالعامل الاقتصادي الباعث المادي الذي يبعث بصاحبه على المتاجرة بضميره في سبيل تحصيل ما يسد به حاجاته المعاشية، وتختلف موضوعاته باختلاف المساومين له. فقد تكون السياسة هي الطرف في المساومة، وقد يكون غيرها، كالعنصرية والقبلية وغيرهما.
والسياسة ـ لعن الله السياسة ما دخلت شيئاً إلا أفسدته ـ كانت من أهم عوامل التشويه والوضع في التأريخ قديماً وحديثا، وبخاصة الاسلامي منه، وذلك بما اشترته او ساومت عليه من ضمائر الوضاع. فالصراع بين الأمويين واتباع أهل البيت، ثم بين آل الزبير وخصومهم، والعباسيين ومناوئيهم مادة من أهم المواد التي غذت التأريخ والحديث بصنوف من الكذب والدس من جهة، واخفاء معالم قسم منه من جهة أخرى.
هذا معاوية بن أبي سفيان ـ وكلنا نعرف وزنه في نظر الرأي العام المسلم ووزن ما يتمتع به من رصيد في عوالم القيم الاسلامية كالذب عن الاسلام والجهاد في سبيله ثم التقيد بمبادئه وهي القيم التي كانت موضع تنافس المسلمين ـ يفتح عينيه بعد اغفاءة من الزمن على مفارقات ترتفع به إلى مقام المنافس للإمام علي(ع)، صاحب أقوى رصيد في القيم الاسلامية، فتضطره مصالحه الى أن يتسلح لمنافسه بالسلاح الذي يملكه هذا المنافس، من جهة، وأن يعمد الى العمل على تقليص ذلك الرصيد، بتهيئة جو لاغفال قسم منه، وتهوين القسم الآخر، بخلق المشاركة للغير منه من جهة أخرى.
وكانت له الى ذلك عدة مراحل نذكرها كمثل للمساومات السياسية مع بعض باعة الضمائر من محدّثي ذلك العصر:
أولاها: حشد أكبر عدد ممكن الروايات في فضله ونسبها الى كبار الصحابة مرفوعة للنبي (ص) كرواية (ان الله ائتمن الى وحيه جبرائيل، وأنا، ومعاوية وأكاد أن يبعث معاوية نبياً من كثرة علمه وائتمانه على كلام ربي يغفر الله لمعاوية ذنوبه ووقاه حسابه وعلمه كتابه وجعله هادياً مهدياً وهدى به) وعشرات من نظائرها حفلت بها كتب الموضوعات.
ثانيها: التشجيع على خلق كيان اسلامي لاسرته لتركيزها في مقابل الهاشميين، بالتأكيد على فضائل عثمان، وجه هذه الأسرة وكبيرها، ومن ذلك كتابه الى عماله فيما يحدث المدائني في كتاب الأحداث (ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته)، يقول المحدث: (ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة او منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه).
وفي المرحلة الثالثة كتب اليهم: (إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فأدعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا جزءاً يرويه أحد من المسلمين في (أبي تراب) إلا واتوني بمناقض له في الصحابة مفتعلة، فإن هذا أحب الي وأقر لعيني وادحض لحجة شيعة أبي تراب، واشد اليهم من مناقب عثمان وفضله) وكانت نتائج الكتب فيما يقول المحدث أن رويت (أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وألقى الى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يعلمون القرآن الخ).
ومن ثم حفلت كتب (الموضوعات) وبعض كتب الحديث بذكر فضائل روت في الصحابة تحاكي في مداليلها ما صح لديهم من فضائل الإمام، وقد جمع الشيخ الأميني حفظه الله في موسوعته (الغدير) جملة منها مع تشخيص لاسماء واضعيها فلتراجع.
وما لنا نبعد بكم الى صدر الإسلام وبيننا مرتزقة يعيشون على خلق الحوادث وتشويهها، تمشياً مع أهواء السياسة العامة وما دور الدعاية في مختلف الدول إلا نماذج لذلك. وحسبك أن تسمع بحركة ثورية ـ مثلاً ـ تدعو الى قلب نظام الحكم في بلدها، أو أي حركة اصلاحية تراها هي تتمكن الحكومة من قمعها حسبك أن تسمع لتعمد الى تسقط اخبارها من الصحف لترى مدى ما فيها من مفارقات مضحكة. فالاذاعات الموالية تتناولها كحادثة بسيطة مرت على البلاد مروراً عابراً، فلم تترك أثراً اللهم إلا ضحية او ضحيتين، عادت بعدها البلاد الى سيرها الطبيعي. فيما تسمع من الاذاعات الأخرى مدى أهميتها ودلالتها على وعي القائمين بها بما قدمت من مئات الضحايا وما ملأت به قاعات السجون من ألوف المناضلين. مع أن الحادثة في واقعها لا تتعد على أن تكون وسطاً بين هاتين المفارقتين.
الغريب أننا اصبحنا لكثرة ما الفنا هذا النوع من الكذب على حساب التأريخ لا نستنكره على القائمين به وكأنه من الأمور الطبيعية التي تدعو اليها مصالح البلاد فموظفو الدعاية المعنيون بهذا الأمر لا يختلفون في مقاييسنا عن بقية الموظفين لصالح المجموع.
ونظير ذلك من الكذب بدوافع اقتصادية ـ ما نلمسه في الصحف ودور الأنباء على اختلافها في موالاة او مناوئة الحكم - فقلما نجد صحيفة أو داراً للانباء تتولى نشر الحوادث في واقعها دون تزييد او مبالغة.
وإذا اعتبرنا الأدب من مصادر التأريخ كما اعتبره غير واحد من الباحثين انفتح أمامنا باب واسع للدس والكذب لهذا العامل الاقتصادي. فقد قدر للأدب في الكثير من مجالاته وأزمانه ان يسير في ركاب الدولة، ويتولى لها وظيفة الدعاية في العصور الحديثة فيشيد بأمجادها جهد ما يستطيع، وإذا اعوزته الأمجاد خلق لها ما يرضيها من أمجاد وأذاعها في صفوف المواطنين ثم يعمد الى خصومها فيكيل لهم ما يستحقون ومالا يستحقون من نعوت الذم تمشياً مع رغبة من ساومه من ممدوحيه. وأكثر هذا اللون من الأدب لا يؤرخ لاحساس قائليه فضلاً عن تاريخه لواقع ما ينقله من أحداث، ولعل الكلمة القائلة (الشعر أكذبه أعذبه) إنما أرسلها صاحبها يوم ارسلها للزراية والسخرية من شعراء تلكم العصور.
هذا أبان بن عبدالحميد وكان في بداية أمره علوي العقيدة اتصل بالبرامكة وأراد لهم أن يوصلوه بالرشيد لينال الحظوة لديه أسوة بمروان بن أبي حفصة. فقال له الفضل رأس البرامكة: (ان سلكت مذهب مروان يعني (في هجاء ابن أبي طالب) أوصلت شعرك وبلغتك ارادتك. قال والله ما استحل ذاك. فقال له الفضل: كلنا يفعل ما لا يحل ولك بنا وبسائر الناس اسوة. فقال أبان: (قصيدته المعروفة):نشدت بحق الله من كان مسلم أعم بما قد قلته العجم والعرب
أعم نبي الله أقرب زلفة اليه ام ابن العم في رتبة النسبثم أضاف حشداً من المفارقات التأريخية غازلت عواطف الرشيد فأمهرها بعشرين الف درهم.
وهنا أرجو ان تتأمل في الحوار السابق بينه وبين الفضل لترى مدى ما تبلغه النفوس من الضعة وهي تساوم على مبادئها بشيء من الحطام. فالشاعر لا يستحل اولا ذم آل أبي طالب لمصادمته لصميم عقيدته، ولكن الفضل يغريه ويهون عليه الجريمة بمشاركة الغير له فيها، ويدعوه الى التأسي به وبسائر الناس ( وكلنا يفعل ما لا يحل ) فكأن شيوع الجريمة كاف في تسويغ ارتكابها. وما أدري أكانت لغة هذا الرجل مقنعة له أم أن في خيال العشرين الف درهم ما يدعو الى القناعة التامة، ولو بأضعف من هذه الحجة، وكل ما أدريه أنه اشتط في هجائه للطالبيين كرد فعل لما أحدثه تأنيب الضمير في نفسه من انفعال.
وكان المال لدى هؤلاء من الحكام وسيلة يبذلونها في أيسر من هذه المهمة. فالمهدي بن المنصور لا يتورع عن دفع عشرة آلاف درهم الى من يصحح له هوايته في اللعب بالحمام، ـ وكان مغرماً بهذه اللعبة ـ بالتماس دليل من السنة يضعه له رجل فقيه، فيأتي غياث بن ابراهيم ـ وهو من فقهاء عصره ـ ويدخل عليه فيروي له: (لا سبق إلا في خف أو حافر او جناح) فيعطيه ذلك المبلغ لضميمته الجناح الى الخف والحافر في الحديث. ويبدو أن الكذبة لم تنطل على جلاس المهدي، وان المهدي شعر بذلك او ادركه شيء من تأنيب الضمير. فقال بعد قيام هذا المحدث: (أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله (ص) ما قال رسول الله جناح ولكنه أراد أن يتقرب الينا) ولو كان في جلاسه من يجرأ على التحدث معه لقال له ولم اعطيته هذه العشرة آلاف، إذا كنت تشهد بأن قفاه قفا كذاب على رسول الله، أتشجعه على الكذب في الحديث!؟
والنزعة القبلية كانت هي الأخرى من عناصر المساومة على الوضع، ومن ذلك ما حدث به عبدالعزيز بن نهشل قال: قال لي أبو بكر بن عبدالرحمن بن هشام وجئت أطلب منه مغرماً: يا خال هذه أربعة آلاف درهم وأنشد هذه الأبيات الأربعة، وقال سمعت حساناً ينشدها رسول الله (ص) فقلت: أعوذ بالله أن افتري على الله ورسوله، ولكن ان شئت أن أقول سمعت عائشة تنشدها فعلت. فقال: لا إلا أن تقول سمعت حساناً ينشد رسول الله (ص) ورسول الله جالس فأبى علي، وأبيت عليه. فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال فأرسل الي فقال: قل أبياتاً تمدح بها هامشاً ـ يعني ابن المغيرة ـ وبني امية فقلت سمهم لي فسماهم وقال اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك فقلت:
ألا لله قوم ولدت اخت بني سهم هشام وأبو عبد مناف مدره الخصم
الى آخر ما جاء فيها ونصها موجود في الأغاني يقول: ثم جئت فقلت هذه قالها أبي فقال لا ولكن قل قالها ابن الزبعرى قال: (فهي الى الآن منسوبة في كتب الناس الى ابن الزبعرى) وما أكثر نظائر هذه الحادثة في التأريخ سواء في هذا المجال ام ما يشبهه من المجالات.ـ 2 وثانيهما العامل النفسي، ونريد بهذا العامل أن يندفع الإنسان الى خلق الحادثة او تحويرها ليستر جانباً من جوانب النقص فيه او ليشبع احدى دوافعه واستعداداته الفطرية بما ينشأ عنها من عواطف خاصة.
ومنافذ هذا العامل كثيرة ايضاً، يرتبط بعضها بالسياسة، كأن يعمد السياسيون بالحكم الى وضع أحاديث او قصص تأريخية من شأنها ان تركز مقامهم السياسي، وتأكد من استمرارهم وتشبثهم بالحكم، ومن طريق ابعاد خصومهم بخلق أحاديث من شأنها ان تنفر عنهم الرأي العام، امثال: حديث ابن العاص (إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ص 261 فجر الاسلام)، وكأحاديث وردت عن هؤلاء انفسهم من شأنها ان تؤكد من وجودهم وجلها معروض في كتب الموضوعات وطبعاً أن ذلك لا يكون لولا شعورهم بالحاجة الى مثل ذلك التأكيد.
على أن كثيراً من الوضاع كانوا يتقربون الى هؤلاء بالوضع من هذه الطريق الى اشباع ميولهم ورغباتهم في المشاركة في ادارة الحكم وفي عصرنا نماذج كثيرة لذلك.
ومنفذ آخر لهذا العامل يرتبط بالدعوة العنصرية التي شاعت اسطورتها في الجاهلية وتبناها الأمويون واستظهرت على عهد بني العباس حيث تبنى العرب الدعوة الى تفضيل عنصرهم على بقية العناصر ووضعوا لذلك أحاديث وقصصاً اكدت من هذه الناحية ورد عليهم الشعوبيون من الموالي بما وضعوا من قصص المثالب من جهة والأحاديث والقصص التي من شأنها ان تعلي من عناصرهم وتفضلها من جهة اخرى وما أكثر ما كتب ونظم في هذا الشأن والنزاع بين اليمانية والمضرية هو الآخر أخذ مأخذه من التأريخ بما وضع اقطابه لآبائهم من أمجاد ارضاء لشهواتهم النفسية.
وحب الشهرة مع ما استلزمه من المحاولات التعويضية لما يشعر به صاحبه من نقص، من اهم منافذ هذا العمل الى الوضع، وبخاصة في صدر الاسلام، حين كثرت الفتوح، ودخل في زمرة المسلمين خلق كثير وكان أكثر الداخلين في الاسلام يتطلعون بطبيعة الحال الى معرفة أخبار نبيهم وسيرته وخصوصيات مبادئه، وكانوا يفزعون في ذلك الى العارفين او المتظاهرين بالمعرفة من المسلمين وليس من السهل على مدعي المعرفة ان يسأل فلا يجيب، وما أيسر أن يجيب بما يخطر على ذهنه ناسباً ذلك الى أحد كبار الصحابة او مدعياً لنفسه المشاهدة والسماع ان كان ممن يتأتى منهم ذلك تقريراً لما يريده لنفسه من المراكز في الشهرة بالحديث واخفاء لجانب النقص فيه.
وقد شاع لذلك الكذب على رسول الله (ص) حتى سمعنا ابن عباس يقول: (إنا كنا نحدث عن رسول الله إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس من الصعب والذلول تركنا الحديث عنه) ويقول: (إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول قال رسول الله ابتدرته ابصارنا وأصغينا اليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعبة والذلول تركنا الحديث عنه) وربما كان أبو هريرة من هؤلاء فقد استكثر عمر بن الخطاب عليه كثرة رواياته مع قصر المدة التي عاشها مع النبي (ص).
ونظير ذلك ما شاع عن القصاصين في تلكم العصور (ومعظم البلاء في وضع الحديث فيما يقول ابن الجوزي ـ من القصاص لأنهم يريدون أحاديث ترقق وتتفق، والصحاح ثقل في هذا) وعلى هذا ينزل الكثير مما ورد من قصص الأمم السالفة التي لا يمكن بلوغها بالطرق المتعارفة التي توجب الاطمئنان، لبعدها وانقراض اربابها وعدم تدوين معاصر لها الى ما هنالك من موجبات التشكيك.
وفي عصرنا هذا تجد الكثير من هذا النوع فما أيسر أن يسأل غير المتورع عن فتيا لا يعلمها فيجبن عن اعلان جهله ثم يرسل جوابه ارسالاً لا تورع فيه. وقد رأيت أنا شخصياً قسماً من هؤلاء يجوبون في بعض القرى والأرياف فيسألون ويجيبون على حسب ما يخطر بأذهانهم ـ وان خالف فتوى من يسألون عن فتواه.
وبحكم وجود هؤلاء هناك وانتظار أحاديثهم لملء الفراغ تسمع كثيراً من القصص ينسبونها الى ابطال التأريخ، وابطاله براء منها لما فيها من الخرافات والمفارقات.
وهنا أرجو ان لا يفهم من قولي أن كل من يرتاد تلكم المناطق هو من هذا القبيل فقد قدر لي ـ يشهد الله ـ أن أرى من المتورعين من يملأ النفس صدقاً وخبرة وقياماً بالوظائف الشرعية. وعلى أي فإن أمثال هؤلاء من الجوابين سابقاً ملأوا تاريخنا بهذا الخلط والتشويه، وربما كان الكثير مما نص على وضعه في التهاويل والمبالغات غير المقبولة في وصف العالم الآخر وملابساته يعود الى امثال هؤلاء.
وثالث العوامل العقيدي: ونريد بهذا العامل أن يعمد الواضع الى الدس والتشويه خدمة لمبادئه التي يؤمن بها وهو يعتقد أن خدمة مبادئه تبرر له التجني والكذب على حساب التأريخ.
وقد اتخذ هذا العامل مسارح مثل عليها دوره في ذلك. وأهمها مسرح الصراع العقائدي وهذا الصراع كما يوجد بين أرباب المبادئ المادية والروحية كذلك يوجد بين أرباب المبادئ الروحية أنفسهم كالمسيحية واليهودية والاسلام ثم بين مذاهب كل فرقة منها.
ويلاحظ أن هذا الصراع كان له طابعان احداهما سافر والآخر مقنّع، والسافر منهما هو الذي يبدو في صور الدعوة التبشيرية، التي ينهض بأدائها القائمون على المبدأ بين صفوف أتباع المبدأ الآخر والتبشير يدعو من يستسيغ الكذب منهم الى تأكيد عقيدته في نفوس الآخرين، بأي ثمن ومن أي طريق تشويه مبدئهم بالكذب عليه او تصوير حقائقه بما ينأى عن واقعها التاريخي كما يبدو في صور الجدل بين علماء هذه المبادئ وطبيعي ان المجادل غير المتحرج لا يتأثم في سبيل تغليب مبدئه من ارتكاب شتى الوسائل في ذلك. ومثاله الواضح في هذا اليوم النزاع العقائدي بين أرباب المذاهب الاجتماعية كالشيوعية والديمقراطية مثلاً، فما أكثر ما تزيد كل منهما على الآخر بما يشوه مبدأه ويبعده عن واقع ما تقوم عليه أسسه، بغية تنفير الرأي العام عنه.
والمستشرقون على اختلاف نزعاتهم ومبادئهم مثل آخر على ذلك وهذه الحشود من الكتب والدعوات التبشيرية صريحة الدلالة على ما تزيدوا وشوهوا من مبادئ الاسلام وحوادث المسلمين. والصراع المقنع هو الصراع الذي كانت ارتالهم الخامسة تقوم به حين تندس في صفوف خصومها وتتظاهر باعتناق مبادئهم، ثم تعمل جهدها على اشاعة الخرافة بين صفوفهم، وكأنها من حقائق تلك العقيدة ليتسنى لدعاتهم الانقضاض عليها عند الحاجة من طريقها.
وفي صدر الاسلام يوم كثرت الفتوح واعتنق قسم من الملاحدة والمسيحيين واليهود مبادئ الاسلام كان الكثير منهم من هؤلاء، ومن هنا وجدنا في أكثر التفاسير وكتب الحديث اخباراً تشيع فيها الخرافة، وعليها طابع واضعيها لمشابهتها لما ورد في كتبهم، مع اجراء بعض التحوير والتشويه فيها. فمثلاً هذا ابن ابي العوجاء ـ وهو من بعض افراد تلكم الارتال ـ يصرح عند وفاته انه وضع في أحاديثنا اربعة آلاف حديث حلل بها الحرام وحرم بها الحلال.
وأرباب المذاهب في كل دين كان في اتباع بعضهم من لا يتحرج من الوضع في سبيل دعم مذهبه وهذه الكتب مملوءة بالاحاديث التي يستدل بها كل فريق لصحة مذهبه مع تضاربها وتناقضها واستحالة صدورها جميعاً عن مشرعهم.
خذوا مثلاً أتباع ابي حنيفة من المسلمين وهو الذي حكـَّم الرأي في أحكام الله، وشرع الأخذ بالقياس وحجته أن الحديث الصحيح لقلته لا يفي بحاجات الناس التشريعية ولا يستوفي جملة الاحكام فهو لم يصح عنده أكثر من سبعة عشر حديثاً، وهي غير كافية للنهوض بفقه كامل. ولكن أتباعه ملأوا الكتب بالاستدلال لمذهبه بالسنة، فمن أين جاءوا بهذه الأحاديث وربما أرادوا في دعم مبدئهم بخلق احاديث تبشر بامامهم امثال ما نسبوه الى النبي (ص) ونص على وضعه الباحثون(2): (إن سائر الانبياء تفتخر بي وأنا افتخر بأبي حنيفة وهو رجل تقي عند ربي وكأنه جبل من العلم وكأنه نبي من انبياء بني اسرائيل فمن احبه فقد أحبني ومن ابغضه فقد ابغضني) ونظير ذلك من الأحاديث وردت في رؤوس بقية المذاهب ورووها في مناقبهم وهي من الموضوعات.
ويقول الفيروزآبادي في كتابه سفر السعادة: (باب فضائل أبي حنيفة والشافعي وذمهم ليس فيه شيء صحيح وكل ما ذكر من ذلك فهو موضوع مفترى) ويقول صاحب أسنى المطالب: (لم يرد من الأئمة ـ يعني الأربعة ـ بعينه نص لا صحيح ولا ضعيف). وما يقال عن هؤلاء يقال عن الغلاة وما أفسدوا به التاريخ من موضوعاتهم ويجزي الله اعلامنا الرجاليين امثال الحجة المامقاني حين شخصوا لنا أسماء اولئك الواضعين.
وقد دخل لدى هؤلاء بعض الصوفية مصدر آخر للتاريخ ما أدري مدى اعتراف فرويد وجماعته من السيكولوجيين به؟! وقوامه الرؤى والاطياف فقد اعطاها هؤلاء أهمية واسعة في التأكيد على صحة عقائدهم في أئمة مذاهبهم، واليكم نماذج من هذه الرؤى: حدث أحمد بن حسن الترمذي قال: (كنت في الروضة فأغفيت فإذا النبي (ص) قد أقبل فقمت اليه فقلت يا رسول الله قد كثر الاختلاف في الدين فما تقول في رأي أبي حنيفة فقال اف ونفض يده قلت فما تقول في رأي مالك فرفع يده وطأطأ وقال أصاب وأخطأ قلت فما تقول في رأي الشافعي قال بابي ابن عمي احيى سنّتي). وهذا ترمذي آخر كان لا يحسن الرأي في الشافعي ويحسنه في مالك ولكنه تبدل رأيه لرؤيا رآها وخرج على أثرها الى مصر لكتابة كتب الشافعي.
ويشبه هذا الصراع بين الفقهاء من أرباب المذاهب المختلفة الصراع بين الكلاميين وبخاصة في مسائل صفات الله والقضاء والقدر وكتبهم مليئة في الأحاديث الموضوعة في امثال هذه المواضيع.
وهناك نوع من الوضع ليس منشؤه الصراع وإنما منشؤه الحرص المدعى على مصلحة الدين وهو الذي سبق أن شاع بين الزهاد والقديسين في العصور الاسلامية الاولى حتى قال يحيى بن سعد القطان وهو الرجالي المعروف ما رأيت الكذب في أحد اكثر منه في من ينسب الى الخير والزهد. وقال: (ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث) وكانوا يتقربون الى الله في ذلك. قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس اعرضوا عن القرآن واشتغلوا في فقه أبي حنيفة ومغازي محمد ابن اسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة. وقال ميسرة بن عبد ربه لما قيل له من أين جئت بهذه الأحاديث قال: وضعتها ارغـّب الناس بها، وقال: (إني احتسب في ذلك).
ومن طريف المفارقات تبرير بعضهم لعمله باستدلال ربما كان فريداً في بابه وذلك حين قيل له لم فعلت هذا؟ - يعنون وضع الحديث في فضل القرآن -فقال رأيت الناس زهدوا في القرآن فاحببت ان ارغبهم فيه. فقيل له: فإن النبي (ص) قال من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. قال ـ وهنا موضع المفارقة وطرافة الاستدلال ـ أنا ما كذبت عليه وانما كذبت له) فكأن الكذب لصالحه كان مما يرحب به النبي (ص) لاحتياجه الى دعم رسالته بمثل ما يأتيه هذا الرجل من الأكاذيب. تعالى المشرع عن ذلك علواً كبيراً.
وهكذا مني التأريخ بالتشويه سواء كان لهذه الأسباب منفردة ام مجتمعة ام لغيرها مما يعود اليها او لا يعود حتى صح لبعضهم أن يبالغ في عدد الموضوعات بقوله: (كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا به خبزاً نضيجاً).
أما بعد:
فهل معنى هذا العرض لأسباب الوضع والمبالغة التي جاءت فيه عن الموضوعات اننا سنسقط التأريخ من حسابنا جملة اسوة بالشاعر الرصافي حين قال:
فما كتب التاريخ في كل ما حوت لقرائها إلا حديث ملفــق
نظرنا لأمر الحاضرين فرابن فكيف بأمر الغابرين نصدق
أرجو أن لا تعتقدوا ذلك فلنا من اضواء ما وضعه العلماء لتمييز الصحيح من غيره وما سلكه المحدثون في مناهجهم في البحث التاريخي دليل على ما نريد بلوغه من واقع التأريخ.
وإذ انتهينا الى أن التاريخ كان في غالبه أداة لتأكيد سياسات معينة يمليها شخص القائم بالحكم كالسلطان والخليفة، وكانت مهمته مهمة وزارة الدعاية في عصورنا المحدثة وإذا كانت مهمة وزارة الدعاية مهمة تنهض على تبني سياسة الدولة التي تعمل لها ونشرها بمختلف أساليبها فإن مهمة التأريخ في عصوره الغابرة مهمة ميسرة جداً حيث كانت تتبنى بناء شخص واحد هو شخص القائم على الحكم، وقليلاً ما يكون لذلك الشخص سياسة معينة ترتكز أسسها على ركائز ثابتة اللهم إلا تمسكه بالحكم كحق الهي يسوغ له التحكم في مقدرات الشعوب والتلاعب بحقوقها المشروعة وقد رسم التأريخ لذلك الحق مخططاً جبرياً يستند الى غيبيات تحاول أن تفسر للعامة على ضوئها واقعهم كحقيقة ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل وكل محاولة لصيرورة ثورية صاعدة من قبلهم تعتبر تحدياً صريحاً للارادة المطلقة من شأنها ان تضرب ضربة لا تعرف الى الرأفة سبيلاً.
ونظرية (الحق الإلهي) وإن كان لها أساس اسلامي ولكن لا بمفهومها الجبري. فالاسلام حقاً يعتبر الامامة والخلافة من شؤون دستوره الخالد فمن تقمص السلطة وفق الأسس الدستورية وتقيد بالعمل بها روحاً ونصاً وضع له الضمانة على رعيته في الطاعة والانقياد ما دام يعمل على وفقها. اما إذا انحرف عنها او حاول التلاعب بها لصالحه فإن الإسلام يسلبه هذا الحق، ومن مأثوراته لا إطاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والغريب أن يحاول بعض أذناب الملوك من المؤرخين أن يفسر لهم هذا الحق بتفسير يشير الى التسديد القسري لجملة أعمال الأمراء والسلاطين بمعنى أن كل ما يفعلونه فهو مفروض من الله وعلى الكافة اطاعته والانقياد له وان خرج على جملة تعاليم الاسلام. ووضعوا لذلك أحاديث تشير الى هذه الجبرية المطلقة أمثال ما اثر عن الحسن البصري من قوله، قال رسول الله (ص): (لا تسبوا الولاة فإنهم ان احسنوا كان لهم الأجر وعليكم الشكر وان اساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر وانما هم نقمة ينتقم الله بها ممن يشاء فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب واستقبلوها بالاستكانة والتضرع). (3)
تأملوا هذه اللغة المخدرة التي تشعر بالجبرية التامة فهو نقمة من الله يقسر العباد على تقبلها وعلى العباد أن يتقبلوها بالاستكانة والتضرع والخنوع وحتى الغضب والحمية محظوران عليهم، لأنها تنتهي بهم الى الغضب على قضاء الله وقدره، وهو عين الكفر بالله، وما أكثر ما ورد من هذا القبيل في كتب التأريخ مما كان في أيدي الولاة سياطاً يلهبون به ظهور الواعين والناقمين من أبناء شعوبهم ومن ورائهم هؤلاء المرتزقة يبررون لهم أعمالهم ويفلسفون لهم بواعث القسوة مستعينين على ذلك بشرح سيرتهم واضفاء صفات القديسين عليهم وبالقاء جملة التبعات على خصومهم فهم خوارج في عرف الامويين وزنادقة في عرف العباسيين وهدامين في عرف ملوكنا السابقين وما الى ذلك من نعوت كانوا يوزعونها على الأحرار من عامة الشعوب، ولكثرة ما أطلقوا هذه النعوت على الناقمين والثائرين، وبرروا بها قسوة أرباب السلطة فقد ضاعت علينا في التأريخ معالم البريء من هؤلاء من غيره واشتبه الزنديق والخارجي والهدام حقاً بالمصلح الذي لا يريد من وراء ثورته غير اسعاد امته وتحطيم أغلال العبودية من اعناقها.
فالتأريخ في الكثير من فصوله اللامعة قائم على أضابير الدعايات المضللة التي قام بها مؤرخو السلاطين والملوك من أتباع الحاكمين في مختلف العصور.
وحتى في عصورنا المحدثة نقرأ في كتب التأريخ أخبار اولئك السفاكين والعابثين بمقدرات الشعوب، كقديسين يفرض على أبنائنا وبناتنا الايمان بمثلهم واعتبارهم كمثل أعلى للحكام العدول. وكنا نقرأ نقمة الشعوب عليهم وثورتهم كأحداث لا يراد من ورائها غير العبث واقلاق الأمن والخروج على سلطان الله ونقمته في الأرض.
والغريب أن كاتبي هذه الكتب ومن ورائهم الاسياد والموجهون يعتقدون انهم يستطيعون بايحائهم هذا من أن يوقفوا عجلة التاريخ الصاعدة. وان الناشئة التي حاولوا بناءها بمدارسهم على هذه الأسس الخاوية سوف تخلق منهم عبيداً للسلطان ولأسياده المستعمرين، وما علموا أن للزمن حكمه وان للظلم مهما طال الأمر عليه نهايته الحتمية وهكذا كان.
أما الآن فإن علينا ان نعيد نظرتنا للتاريخ لنلتمس منه عطاء آخر عطاء ثوريا صاعداً يوجه أبناءنا الى اسمى ما نرجوه لهم من مثل ويضع أمامهم من تجارب الشعوب وقوداً، يهب عواطفهم للوقوف امام أية محاولة تعسفية يرى من ورائها المستعمرون الى تخدير الشعوب للاستيلاء عليهم وفرض سيطرتهم من طريق الأذناب والوصوليين والمفرقين منهم.
إن علينا أن نعاود دراسة التأريخ من زاوية اخرى زاويتي أنا وأنت زاوية الشعب وما فيه من امكانيات خيرة تبعث على الاكبار.
ولعل تاريخنا ـ من هذه الزاوية ـ من أثرى تواريخ الأمم الأخرى وأعلقها بالحياة، رغم محاولة الحكام السابقين في تذليلها والاعراض عنها ففيه لمعات مبعثرة، لو قدر لها أن يضم بعضها الى بعض لانتجت تاريخاً حافلاً بأروع المفاخر.
إننا في حاجة الى قلب مفاهيمنا عن مناهج الدراسة في التأريخ وتحويل اتجاهها عن خط السير المألوف الى خط آخر يوصل الى تلكم الامكانيات الخيرة في نفسيات الشعوب ويبرز خصائصها العامة والخاصة، ويضعها في موضعها من زمنها ومن احداثه الكبرى.
فليس من الحق بعد هذا أن نعمد الى دراسة الثورات في التأريخ مثلاً فنقبلها ـ كما يريده الحكام لها ـ ثورات عابرة مرت في زمنها فقمعت بسهولة او استفحلت واستشرى امرها وشغلت السلطة زمناً طويلاً، وكان جلها بدوافع استغلالية بشعة ثم نظل نعنى في دراسة تفصيلات جزئياتها وكأنها هي كل ما يهمنا من قراءة فصولها. أما دراستها كظاهرة اجتماعية لها بواعثها وأسبابها ثم لها مقدماتها الطويلة فهذا ما لم نكن لنفكر فيه.
إن علينا أن نفهم أن الشعوب غالباً لا تثور حتى تضام، وتسحق كرامتها سواء باستذلالها ام بالتلاعب بمقدراتها والتحكم بحرياتها وعقائدها، وان ثورتها غالباً لا تجيء قبل أن تسبق بمراحل من استفزاز الشعور والنقمة والتذمر وان مجيئها على الأكثر يكون وليد رد الفعل لتعسفات الحاكمين وظلمهم وان الأمة التي لا تكثر فيها الثورات والانتفاضات التحررية إما أن تكون امة سعيدة بعدل حكامها واهتمامهم بمختلف شؤونها او تكون امة مستكينة لا تعرف الى الحياة الحرة والكرامة أيما سبيل.
فليس اذن مما يشين أمتنا كثرة قلقها وانتفاضاتها على الظلم سابقاً لنغفل التعمق في دراسة هذا الجانب من تأريخها لأن ذلك دليل حيويتها ووفرة رصيدها من الشعور بالعزة والكرامة والإباء.
على أن دراستنا لها في هذا الضوء وصل لحاضرنا المتحرر بماضينا الوضيء، وتذكير لنا بأن ثورتنا هذه لم تكن نشازاً بالنسبة الينا كأمة لها كرامتها وانما كانت طبيعية جداً ما دمنا قد تعودنا من القدم أن لا نستكين او نهدأ على ظلم ظالم، مهما كان شأنه، وإذا استكنا قليلاً او هدأنا فإنما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة أحياناً.
والحقيقة أن التأريخ لم يعد وقفاً على الملوك والسلاطين، بعد أن استيقظت الشعوب وفرضت عليهم ارادتها وكلمتها وأصبح من حقها ان تفهم مكانتها من ذلك التأريخ.
وأخال أنها سوف لا تطيق سماع كلمات التقديس تلفظ وتدون لفئة من الناس استأثروا في السابق بكل مقدرات امتهم واستهتروا بحقوقها وواجباتها عليهم واستعملوا معها ضروب الاستهانة والتنكيل كضمان لتأكيد استمرارهم في الحكم على أنها ـ وهي أمة شريفة ـ لا ترضى لهؤلاء أن يعاقبوا بالمثل فيهملوا نهائياً او يذكروا مشيعين بالشتم والسباب وإنما تريد لهم ان يدرسوا دراسة موضوعية خالصة تؤكد على الجوانب الخيرة فيهم ـ إن كانت ـ وتشير الى ما يكتنف حياتهم من مختلف المفارقات كما تريد للمؤرخ أن يواجههم بذهنية محررة بعيدة عن أية راسبة عقائدية مسبقة او أوليات تلقاها منذ عهد التلمذة دون دراسة فاحصة.
والذي نرجوه لمؤرخينا ـ وهم في هذا القرن وعليهم تقع مسؤولية بناء الأجيال القادمة ـ أن يدركوا بأن الحاجة التي كانت تتوخاها العهود السابقة من تقديس الحاكمين واسدال الستار على مفارقاتهم لم تعد متوفرة اليوم. وان القارئ الكريم لم يعد يرضى غير المبادئ الصحيحة المحررة التي تعنى بالاشادة بفعاليات الشعوب وقادتها المخلصين الذين وفروا جملة امكانياتهم للنهوض بأمتهم ورفع مستوياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. أما كيف نبلغ الى انتزاع هذا الواقع التأريخي من بين أكداسه المشوشة فذلك ما نرجو أن نتحدث فيه في فرصة أخرى ان شاء الله. 

--------------------------
(1) محاضرة ألقيت في قاعة المجمع الثقافي لمنتدى النشر في موسمه الحالي عام 1377 ـ 1958. وتتولى المجلة نشرها تكريماً للعلامة السيد الحكيم (ره) بمنابسة رحيله المفجع.
(2) قال ابن الجوزي وقال العجلوني لا يصلح، 279 غدير.
(3) الخراج لأبي يوسف ص 10.


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية