مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

هوامش على سفر السيرة النبوية المطهرة
عز الدين سليم


(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)(1).

مقدمة :
كان عمر رسول الله محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ ثلاثة وستين عاما حين رحل إلى ربه الأعلى عز وجل ، وكان قد أنفق ثلثه الأخير في إطار الدعوة لأعظم رسالة وشريعة عرفها هذا الوجود ، إذ أنّه بعث بالرسالة الخاتمة ، وأذن الله تعالى له بالدعوة على رأس الأربعين عاماً من عمره الشريف (قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر( (2).
وقد حظيت السنوات الأخيرة من عمره بالاهتمام من قبل المؤرخين والدارسين ؛
بسبب الحركة التغييرية الكبرى التي أحدثها النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في تاريخ الإنسان ، وما صحب ذلك من فعل تاريخي مؤثر ، وردود فعل معاكسة من المعارضين للرسالة .
وكان لهذا الاهتمام ما يبرره قطعاً ، حيث برز بشكل واضح في مضامين السور القرآنية كلها ، حتّى أنّ الاستقراء لآيات القرآن الكريم يطلعنا على رصيد ضخم من أحداث التحرك النبوي العظيم ، وما واجهه من صعاب ومعارضة كان القرآن الكريم قد دونها عبر ثنايا المفاهيم التي تتنزل من عند الله تعالى ، حتّى أنّ أحداث (السيرة) التي حفظها القرآن الكريم تكاد تؤلف سيرة مميزة بذاتها.
نماذج من السيرة النبوية المطهرة في القرآن الكريم:

وقائع معركة الأحزاب :
(يا أيها الّذين آمنوا إنّ تطيعوا الّذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله موليكم وهو خير الناصرين* سنلقي في قلوب الّذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأويهم النار وبئس مثوى الظالمين * ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أريكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين * إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخريكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون * ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إنّ الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله
ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور * إنّ الّذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إنّ الله غفور حليم( (3).

المعراج الملكوتي للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ :
(والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إنّ هو إلاّ وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى * أفر ايتم اللات والعزى * ومنوة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إنّ هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنّ يتبعون إلاّ الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى( (4).

أضواء على صلح الحديبية :
(انا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفرلك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً * وينصرك الله نصراً عزيزاً هو الذي أنزل السكينة على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً * ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً *
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً * ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزاً حكيماً * إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً * إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً( (5).
ورغم الاهتمام القرآني الكبير واهتمام المؤرخين بأحداث السيرة المطهرة منذ البعثة المباركة بالرسالة الخاتمة إلاّ أنّ القرآن الكريم والحديث الشريف وروايات المؤرخين والمحدثين قد حفظت مفاهيم وأرقاماً وأحداثاً هامةً قد جرت لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قبل بعثته بالرسالة كرسول للعالمين ، نذكر مصاديق منها :
مسيرة الاعداد الرباني للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ
يتحدث النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فيقول : "خلقني الله نوراً تحت العرش قبل أنّ يخلق آدم ـ عليه السلام ـ باثني عشر ألف سنة ، فلما أنّ خلق الله آدم ألقى النور في صلب آدم ، فأقبل ينتقل ذلك النور من صلب إلى صلب حتّى افترقنا في صلب عبدالله بن عبد المطلب وابي طالب ، فخلقني ربي من ذلك النور ، لكنه لا نبي بعدي" (6).
يقول الإمام علي ـ عليه السلام ـ متحدثاً عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قبل بعثته : "ولقد قرن الله به ـ صلى الله عليه وآله ـ من لدن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، ولقد كنت أتبعه
إتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد ـ يومئذ ـ في الإسلام غير رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وخديجة وأنا ثالثهما . أرى نور الوحي والرسالة ، واشم ريح النبوة" (7).
ومع أهمية تلك الأحداث والظواهر التي مرت على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ خلال السنوات الأربعين الأولى من عمره الشريف ـ وهي تشكل في المساحة الزمنية ثلثي عمر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلاّ أنها لم تنل من الدراسة والاهتمام ما يناسب ، رغم كثرة المعلومات والوثائق التي حفظها القرآن الكريم والحديث والتاريخ حول هذه الفترة الزمنية الطويلة نسبياً من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ .
والحق نقول : إنّ بعض ظواهر سيرة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ التي جرت منذ طفولته حتّى بلغ الأربعين من عمره قد حظيت باهتمام بالغ من قبل المؤرخين ، ولكن مساحة هذه الظواهر تكاد تكون محدودة جداً بالنسبة لطول الفترة الزمنية المذكورة ، وما جرى فيها من أحداث غاية في الأهمية ، حيث شكلت شخصية النبي وصنعت على عين الله تعالى .
وهنا لا أريد أنّ أبخس الأبحاث والدراسات المذكورة حقها ، إلاّ أني أريد أنّ أشير إلى إهمالها لموضوعات عظيمة يتعلق بعضها بتشكيل شخصية رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وبمسيرة الكثير من أحداث الصدر الأول من تاريخنا مما يحاول البعض إسدال الستار عليها ، أو التعامل بشك معها لقصور فهمه لها.
وقد لعب المستشرقون دوراً سيئاً في التعامل مع الكثير من ظواهر الحياة النبوية المحمدية ، من حيث الإهمال أو الشك أو التفسير المتعسف لها ، وقلدهم في ذلك تلاميذهم في العالم الإسلامي.
ويعود السبب في إهمال الكثير من الأحداث المركزية التي عاشها النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كالأحداث التي ساهمت في تشكيل الشخصية النبوية ، أو الشك فيها ، أو تشويهها ـ إذا أسدلنا الستار على الخبث واللؤم ـ إلى عدم التشبع بالروح التي تدرك بها حوادث التاريخ الإسلامي . حوادث أي تاريخ إنساني تصطبغ بروحية خاصة في حركتها الواقعية وآثرها ، فالأحداث التي تتشكل في دورة تاريخية تظللها الوثنية لابد أنّ تحمل آثار الوثنية المادية وطابعها وخصائصها ، والأحداث التي يظلها الوحي الإلهي والإشراف الرباني لها خصائص وروحية بعيدة عن فهم الماديين الحسيين ، الأمر الذي يضيع على المؤرخ المادي فرصا كثيرة لفهم كثير من الحقائق التي يحاول أنّ يصفها بأنها غيبية على أقل تقدير لا تقع تحت طائلة البحث ! هذا إذا لم يشكك بها ويشوهها . وإذا وضعنا في الحساب أنّ السيرة النبوية المطهرة تنطوي على نسبة عاليةٍ جداً من الظواهر ذات العلاقة بعالم الغيب : كقضايا الوحي ، وطبيعة نزول القرآن الكريم ، وتدخل الملائكة في بعض المعارك لصالح الجبهة الإسلاميّة ، وطريقة إعداد النبي إعداداً روحياً خاصاً وحل كثير من المشاكل الروحية والفكرية والاجتماعية من خلال التدخل الإلهي وما إلى ذلك ..
أقول : إذا وضعنا في حسابنا حجم الظواهر ذات العلاقة بعالم الغيب لرأينا أنّ إهمالها أو التشكيك فيها أو تشويهها سيؤدي إلى خسارة حضارية وعلمية هائلة !
وإذا أضفنا إلى ذلك : بأن اتجاه المستشرقين في دراسة السيرة والتاريخ الإسلامي عموماً هو الذي يحتل مواقع الإلهام في الدراسات التاريخية المعاصرة في العالم الإسلامي عموماً أدركنا عمق الخسارة التي يتعرض لها المسلمون بسبب هذا الاتجاه المتعسف الذي يسود الدراسات في الجامعات ، والمراحل الدراسية التي تسبقها، فضلاً عن الأبحاث التي تشهدها المكتبة في العالم الإسلامي عموماً .

الأبحاث التاريخية ومسالة الأعداد الإلهي لشخصيته ـ صلى الله عليه وآله ـ
إنّ من أهم الأحداث التاريخية التي لم تحظ باهتمام ذي بال في دراسة السيرة لدى المتأخرين : قضية الإعداد الإلهي لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والتي تعتبر من الأحداث المهمة في سيرة النبي الخاتم في السنوات التي سبقت بعثته بالرسالة الخاتمة . فرغم أهمية هذه المسألة من الوجهة التاريخية من حيث دراسة التطورات التي رافقت حياته ـ صلى الله عليه وآله ـ منذ طفولته حتّى نزول أول سورة عليه من القرآن الكريم والتي تؤذن بابتعاثه رسولاً يدعو الناس إلى الله ـ عز وجل ـ فإنها ذات قيمة حضارية في دنيا المسلمين ومسيرتهم الحياتية ، خصوصاً فيما تلقيه من ظلال عقائدية ذات أهمية بالغة على قناعاتهم ورؤاهم العقلية . ولذا ، فإن الثغرات الواسعة في فهم هذه القضية أنتج ارتباكاً كثيراً في الدراسات العقائدية وأبحاث السنن لدى قطاعات من المسلمين ، حتّى أنّ البعض من الباحثين في السيرة والعقائد صور الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ كما لو كان إنساناً عاديا كمعاصريه وإن تميز في بعض الخصائص الأخلاقية المقبولة ، لذا اقتنع هذا الفريق بإمكانية ارتكاب النبي للكبائر من الآثام قبل البعثة(8) والعياذ بالله تعالى ، بينما "يتسامح" البعض الآخر ، فيجيز ارتكاب النبي لصغائر الذنوب دون كبائرها قبل بعثته بالرسالة الخاتمة . على أنّ خطأ مميزاً من المسلمين يعتقد أنّ النبي لا يرتكب كبيرة ولا صغيرة قط قبل بعثته بالرسالة ؛ بالنظر لخضوعه لحالة خاصة من التبني الإلهي المميز لشخصيته المباركة.
إنّ هذا التناقض في التصور عن النبي قبل البعثة ـ ناهيك عما بعدها ـ ناتج عن تناقض المعلومات والأخبار الواردة عن سيرته قبل البعثة بالرسالة المباركة وكيفية التعامل معها ، إلاّ أنّ جمع المعلومات والأخبار ـ وهي كثيرة جداً ـ التي تظافرت عن
سيرة النبي في تلك المرحلة ودراستها بعقل مفتوح من حيث السند والمتن ، وفرز غثها من سمينها ، وصحيحها من سقيمها ـ وهو أمر ميسور جداً ـ يجعل الدارس يقطع بأن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان يخضع لعملية إعداد إلهي خاص "من لدن أنّ كان قطيماً"(9)، وكان يصنع على عين الله تعالى لينهض بأعباء أكبر عملية تغيير حضاري في دنيا الإنسان على الإطلاق ، وليحمل أكبر رسالة إلهية عرفها تاريخ الوجود.
ومن خلال المعلومات المتوفرة لدينا يتضح : أنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ تعرض إلى نمط من الإعداد الرباني تشكلت عنه شخصيته المميزة ، بيد أنّ هذا المنهج يلوح منه خطان يكمل أحدهما الآخر:
أوّلاً : سد منافذ تأثير المحيط الاجتماعي والثقافي بشخصية النبي ، وعزله عن التلقي من واقعه المعاش ، وقد حصن الرب ـ جل وعلا ـ كيان النبي الروحي والفكري منذ طفولته ؛ ليكون في منأى عن أي فكر معاصر له أو سلوك أو موقف يخالف نهج الله عز وجل .
فرغم أنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان يمارس حياته العادية في المجتمع الذي عاش فيه ـ حيث شارك في الحياة الاجتماعية العادية ، ومارس التجارة ، وسافر ، وباشر كثيراً من الأمور التي تفرضها الحياة الطبيعية العادية ـ إلاّ أنّه كان محصناً عن التأثر بأي نمط يخالف شرع الله عز وجل ، وهو معنى مبحث العلماء والكلاميين حول الشريعة التي كان يتعبد بها النبي قبل بعثته بالرسالة الخاتمة .. وما في ذلك من تفصيلات ورؤى واضحة حول كونه يتعبد بشريعته هو دون سواها(10).
وإذ نحن بصدد الحديث حول قضية الإعداد الرباني المخطط لشخصية النبي
من خلال الأرقام والوثائق فلا بد من سوق بعض الأرقام والوثائق التاريخية حول هذه القضية بأبعادها المختلفة وهنا بعض الوثائق حول هذه العملية :
روى محمّد بن حبيب في أماليه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : "أذكر وأنا غلام ابن سبع سنين ، وقد بنى ابن جذعان داراً له بمكة ، فجئت مع الغلمان نأخذ التراب والمدر في حجورنا فننقله ، فملأت حجري تراباً ، فسمعت نداء من فوق رأسي : يا محمّد ، أرخ إزارك ، فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئاً ، إلاّ أني أسمع الصوت ، فتماسكت لم أرخه ، فكأن إنسانا ضربني على ظهري فخررت لوجهي ، وانحل إزاري وسقط التراب إلى الأرض ، فقمت إلى دار أبي طالب عمي ولم أعد"(11).
ثانياً : تعبئة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ تعبئة روحية وفكرية من قبل الله عز وجل ، وتزويده بكل الإمكانات المطلوبة لمهمته الآنية والمستقبلية . وإذا صح أنّ تتسم الحالة الأولى بالسلب فإن الحالة الثانية تستبطن الفعل الإيجابي ؛ لأن العملية الأولى تتسم بالتدخل للمنع والحيلولة دون التأثر بالواقع . والثانية تتسم بالفيض والإمداد والإعطاء لبناء الشخصية المحمدية ـ كما يشاء الله عز وجل ـ للنهوض بدورها المرسوم من قبل الله عز وجل .
وهذه العملية التعبوية التي تتم بإرادة الله تعالى وفيضه المبارك على عبده ورسوله المختار ـ صلى الله عليه وآله ـ قد أكدتها جملة من الوثائق التاريخية الصحيحة نذكر منها ما يلي :
1 ـ ففي حديث للإمام علي ـ عليه السلام ـ حول الإعداد الإلهي للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : "ولقد قرن الله به من لدن أنّ كان فطيماً ـ أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل اثر أمه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به" (12).
(158)
2 ـ وعن الإمام محمّد بن علي الباقر ـ عليه السلام ـ يقول : "ووكل بمحمد ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع ، يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق ، ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق.." (13).
3 ـ ويتحدث الإمام جعفر بن محمّد الصادق ـ عليهما السلام ـ عن ذلك الملك المرافق للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ منذ بداية أمره ، فيصفه : أنّه أعظم من جبرئيل وميكائيل عليهما السلام (14).

من نتائج الأعداد الرباني للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ :
من أهم نتائج الإعداد الرباني الخاص للنبي : أنّه بدأ حياته بين الناس نبياً عن الله عز وجل ، إلاّ أنّه لم يكلف بالدعوة لرسالته حتّى بلغ الأربعين من عمره الشريف ، حيث نزل عليه القرآن الكريم منجماً مؤذناً ببداية الدعوة ...
ومن خلال الوثائق التاريخية الدقيقة يتضح أنّ الله تعالى قد صاغ شخصية النبي بمفاهيم القرآن الكريم ، وصنعه على عينه بمبادئه ، حيث جرت عملية إعداد القائد من قبل الله ـ عز وجل ـ قبل المباشر بإعداد الأمة ، كما عبر عن ذلك المفكر الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ـ رضوان الله عليه ـ في حديث له حول ذلك (15). وكما تفيد قناعات العلماء بذلك حين يؤكدون : أنّ النبي كان يتعبد في بداية حياته بشريعته، لا بشريعة رسول آخر قبله(16).
ولعل القرآن الكريم ـ كما اتخذناه هنا مصدراً للسيرة ـ يعبر عن هذه الحقيقة
بوضوح ، فإن الآيات الكريمة التي تتناول مسألة نزول القرآن الكريم تتحدث عن نمطين من النزول القرآني:
أ ـ آيات تتحدث عن نزول كلي للقرآن المجيد كما تفيد الألفاظ التي استعملها القرآن للتعبير عن ذلك : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان..( (17).
(إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر...( (18).
(إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين((19).
ب ـ آيات تتحدث عن نزول مفرق لآيات القرآن الكريم مثل قوله تعالى : (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً( (20).
إنّ هذا الاختلاف بين الآيات الكريمة التي تتحدث عن حالات نزول القرآن الكريم تؤكد قيام حالتين لنزول القرآن كما أشرنا ، وهي تفيد بالتالي أنّ "الإنزال" الأول كان لصنع شخصية النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، والتنزيل المفرق المنجم كان لصنع الأمة تباعاً.
هذا ويشير حديث الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه الصلاة والسلام الذي ذكرناه آنفاً ـ إلى نفس المعنى ، حيث إنّ النص يقطع بأن النبي منذ صغره كان مقروناً مع أعظم ملائكة الله تعالى ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن الأخلاق ، وهذا بالطبع أحد مقومات النبوة وأعلى مظاهرها.
وقد ذكر المؤرخون ظواهر عملية كانت بارزة على شخصية النبي قبل الدعوة يخالف فيها سائر قومه نذكر منها ما يلي :
1 ـ إعلان المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ التوحيد لله ـ عز وجل ـ جهاراً منذ أيام حياته الأولى وسخطه على الأوثان والعقلية الوثنية السائدة بين قومه ، ونذكر هذه الواقعة التي جرت له وهو في سن اثنتي عشرة سنة ، حيث جرى بينه وبين الراهب النصراني بحيرا حوار ، فسأله الراهب المذكور واستحلفه باللات والعزى فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : "لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئاً بغضهما" (21). إضافة إلى أنّه ـ صلى الله عليه وآله ـ كان منذ مطلع حياته لا يشارك قومه أعيادهم الوثنية مطلقاً (22).
2 ـ كان يؤدي الصلاة منذ سني طفولته الأولى (23). كما كان يلتزم حج بيت الله الحرام قبل دعوته (24).
3 ـ التزامه بأعلى درجات الفضيلة في نفسه وفي تعامله مع قومه ، ولهذا سماه قومه بـ " الصادق الأمين".
4 ـ التزامه بالتسمية على الطعام والشراب عند تناولهما ، وحمده لله ـ عز وجل ـ بعدهما (25). كذلك كان يعزف عن تناول كلّ ما ذبح على النصب من الأنعام وسواها (26).
إلى هنا نكون قد أعطينا ملامح لدارسة جديدة لسيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قبل بعثته بالرسالة الكبرى ، آملين أنّ ينفع الله بها المسلمين ، خصوصاً من يهتم بدراسة السيرة المطهرة أو كتابتها.
________________________
1 ـ الجمعة: 2.
2 ـ المدثر: 2 ـ 5.
3 ـ آل عمران: 149 ـ 155.
4 ـ النجم: 1 ـ 23.
5 ـ الفتح: 1 ـ 10.
6 ـ بحار الأنوار للعلامة المجلسي 15: 7 ح 6 عن تفسير فرات الكوفي.
7 ـ نهج البلاغة: خطبة "فضل الوحي" ضبط الدكتور صبحي الصالح: 300.
8 ـ أوائل المقالات: للشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي (المفيد).
9 ـ فقرة من خطبة فضل الوحي لأمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ المتقدمة آنفاً.
10 ـ انظر حق اليقين في معرفة أصول الدين: 135 للمرحوم السيد عبدالله سبر، وغيره من كتب العقائد.
11 ـ بحار الأنوار للعلامة المجلسي 15: 363.
12 ـ نهج البلاغة: خطبة فضل الوحي.
13 ـ بحار الأنوار للشيخ المجلسي 5: 362.
14 ـ راجع تفسير آية (51) من سورة الشورى في تفسير الميزان للسيد المرحوم الطباطبائي (بحث روائي).
15 ـ من كلمة للمفكر الشهيد الصدر (رض) القيت عنه نيابة في احتفال في كلية الاقتصاد في بغداد، ونشرت في "رسالة الجمعية الخيرية" التي كانت تصدر في كربلاء في منتصف الستينات.
16 ـ راجع حق اليقين في معرفة أصول الدين: 13 للمرحوم السيد عبدالله شبر.
17 ـ البقرة: 185.
18 ـ القدر: 1 ـ 2.
19 ـ الدخان: 3.
20 ـ الإسراء: 106.
21 ـ بحار الأنوار 15: 410.
22 ـ سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 2: 201 للشيخ محمّد يوسف الصالحي الشامي.
23 ـ بحار الأنوار 15: 361.
24 ـ تاريخ الطبري 2: 48.
25 ـ بحار الأنوار 15: 360.
26 ـ الوفا بأحوال المصطفى 1: 139 لابن الجوزي برواية أحمد بن حنبل.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية