مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

 نهج التقارب الفقهي
 أ. د. محمد الدسوقي


استاذ الشريعة  الاسلامية في جامعة قطر مفهوم التقارب ومنهج تحقيقه بين المذاهب
إذا كان التعصّب  المذهبيّ قد امتدّت آثاره حتّى الآن، وإذا كانت الأمة في حاضرها تعاني من هذا التعصّب معاناة تمتصّ طاقاتها وتسهم في تمزيق شملها فإنّ على العلماء وأهل الذكر أن يعملوا في دأب وإخلاص حتى تتخلص الأمة من تلك الآثار أو ما بقي منها، لكي تبدأ عصرا جديداً في حياتها، عصراً تعوّض فيه مافاتها في عصور الضعف والتفرّق، وحتى تستطيع أن تنهض برسالتها التي أناطها الله بها، وهي رسالة الدعوة إلى الخير وتبليغ آخر وحي إلى الناس كافّة.
ولكن يجدر بنا قبل تفصيل القول أن نورد بعض خطوات العمل التي تقود - إن شاء الله - إلى التحرر من التعصب في تحديد مفهوم التقارب. فتحديد دلالة الألفاظ من أهم وسائل تحديد الغايات والطرق الموصلة إليها.
إن مادة (قَرُبَ) من الناحية اللغوية تدلُّ على معنى الدنوّ من الشيء، وإذا ضعف الفعل كان من معانيه: محاولة القرب والتقارب أو التقريب بين المذاهب وفقا للمعنى اللغوي، يعني محاولة أن يكون بينها تعارف والتقاء، وهذا يومئ إلى أن بينها من زمنِ حالة من التنافر والتباعد، وإلا لما كان لإطلاق لفظ التقارب معنى.
فالتقارب إذن وسيلة لجمع الشمل ورأب الصدع، وتبادل حسن الظنّ والتقدير من أجل صيانة وحدة الأمة (1) . ومن ثم لا يراد إلغاء أصل الخلاف بين المذاهب، فما كان لأحدِ أن يحجر على عقول دعاها الله إلى النظر في ملكوته، أو يقصر الناس على إحدى طرائق الفهم أو بعض وسائل النظر. ولا يعني هذا تحبيذا للاختلاف أو دعوة إليه، وإنما كل مايشير إليه: أن الاختلاف في مجال الدراسات الفقهية لايعدّ قدحاً، وأن الفقهاء في اجتهادهم لم يخرجوا على أصول دينهم، فقد نهى الكتاب العزيز عن التفرق والاختلاف في قول الله تعالى: (ولا تكونوا  كالّذين  تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (2) . فإذا عرفنا أن هذا النهي منصب على التفرّق في أصل الدين والتوحيد وما يطلب فيه القطع دون الظنّ أدركنا أن الاختلافات الفقهية -0 وهي تدور في فلك الأحكام الظنية، ولا علاقة لها بأصل الدين والتوحيد - لا تنسحب عليها دلالة ذلك النهي.
إنه لا ضرر على المسلمين في أن يختلفوا، فالاختلاف سنة من سنن الاجتماع، ولكن الضرر كل الضرر أن يفضي بهم الخلاف إلى القطيعة (3) . والعداوة، والخروج على مقتضى الأخوة التي أثبتها الله في كتابه العزيز، لا على أنّها شيء يؤمر به المؤمنون، ولكن على أنها حقيقة واقعة رضي الناس أم ابوا (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (4) .
كذلك لا يعني التقارب إلغاء المذاهب، أو دمج بعضها في بعضِ، أو تغليب مذهب على آخر، فهذا ما لا سبيل إليه، ولا جدوى منه، لأنّ بقاء المذاهب في إطار المفهوم الإسلامي للاختلاف في الرأي من عوامل ازدهار الحياة الفقهية ونموها، وتقديم الكثير من وجهات النظر التي ترى فيه الأمّة سعة ويسراً في الأخذ والتطبيق بما يتلاءم مع ظروف الزمان والمكان.
وما دام التقريب لا يراد به إلغاء الخلاف بين المذاهب أو إلغاء المذاهب ذاتها أو إدماج بعضها في بعض فإن الغاية منه تنحصر في أن يسود بين المذاهب المعتبرة تعاون وثيق، وتفاهم عميق، وتقارب يزيل الشك، ويؤكد صدق النوايا، عن الأخوّة الاسلامية، ويعمل على وحدة الكلمة ونبذ الفرقة، وأن لا يكون الخلاف في الرأي بين الفقهاء سبباً للعداء أو البغضاء.
وتحقيق هذا المفهوم للتقارب وجعله واقعاً عمليّاً بين المذاهب يمكن - فيما أرى - أن يكون بما يلي:
أولا: أنّ أصول الإسلام التي لا اختلاف عليها بين المسلمين جميعاً والتي لا يكون المسلم مسلما إلا إذا أيقن بها هي: الإيمان بالله ربّا، وبمحمد(ص) نبياً ورسولاً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة وبيتاً محجوباً، وبأركان الإسلام الخمسة المعروفة، وبكل ماهو معلوم من الدين بالضرورة، وبأنّه ليس بعد الإسلام دين، ولا بعد رسوله نبي ولا رسول، وبأن ما جاء به محمد(ص) حق (5) .
إن هذه الأصول المجمع عليها بين الأمة تمثل جوهر الإسلام أو أساسياته، وكلّ من يؤمن بها فهو مسلم، قد انعقدت بينه وبين سائر المسلمين في كل مكان أخوّة في الله ورسوله مهما يكن المذهب الفقهي الذي ينتمي إليه، وهذه الأخوة يحرم معها أن يخذل مسلما أو يعاديه أو يؤذيه أو ينحاز إلى من يعاديه أو من يؤذيه (6) .
وإذا كانت هذه الأصول هي الحدّ الفاصل بين المسلمين وغيرهم أو هي فيصل التفرقة في الإيمان والكفر فإنّ على أتباع المذاهب أن ينتبهوا إلى أن كل من حافظ على تلك الأصول وأخذ نفسه بها فهو مسلم تجب مودّته ومحبته ونصرته، وتحرم معاداته أو الإساءة إليه.
وممّا لا جدال فيه: أن أتباع المذاهب الفقهية المعتبرة الآن يطبقون على الإيمان بهذه الأصول، فلا اختلاف بينهم فيها، فهم من ثمّ مسلمون جميعاً مهما يكن بينهم من اختلاف في غير تلك الأصول.
إن التأكيد على أنّه لا اختلاف بين المسلمين في الأصول هو المنطق لتحقيق مفهوم التقارب، فقد وقر في الأذهان والمشاعر - بسبب العزلة الطويلة التي فرضها تبادل العداوات من قديم، وما نجم عن هذا من جهل أتباع المذاهب بعضهم بعضاً، وتصديق ماشاع عنهم من أراجيف وترّهات أعطت انطباعا غريباً منفرا حمل على الخيفة والتوجس - أن أتباع كل مذهب هم الذين يستمسكون بتلك الأصول دون سواهم، وبذلك لا ينظرون إلى غيرهم نظرة صحيحة، ولا يحكمون عليهم حكماً عادلاً، ويهابون القرب منهم، أو التعاون معهم، فإذا ما أدرك الجميع أنّهم لا يختلفون حول أصول العقيدة التي يؤمنون بها وأنهم بها مسلمون وإخوة فإنّ تلك المشاعر الموروثة التي غذّاها الجهل ومكّن لها طول الزمن ستخفّ حدّتها وتتوارى شيئاً فشيئاً، ومن ثمّ تصبح النفوس مهيّأة للتآلف والتعارف، ويصبح لصوت التقريب صدىً طيب في كل ديار الإسلام.
ثانياً: وإذا كان الإيمان بأنّه لا اختلاف بيننا في الأصول يعدّ البداية الصحيحة للتقارب فإن الاختلاف في الفروع يجب أن يدرس دراسة علمية تبتغي المعرفة الصحيحة لأسبابه وملابساته وطبيعته، فهذه الدراسة تعدّ الوسيلة العملية لجعل التقارب حقيقة واقعية، وذلك لأن الاختلاف في الفروع كان مصدر التعصب والتنابز والعداء، وكان عدم الوقوف على أسبابه، وموقف الأئمة منه يحول بين أتباع المذاهب والنظرة الموضوعيّة إليه، ويتخذون منه حجّة للتعصب والاتهام بالمروق من الدين أو الابتداع فيه.
ودراسة الاختلافات الفقهية في القضايا الفرعيّة تحقّق غايتها في التقريب إذا نهضت على الدعائم الثلاث التالية:
أ- التسليم بأنّ اجتهادات الفقهاء وآراءهم ليست شرعا واجب الاتباع، وإنما هي فهم بشريّ لنصوص الشريعة وقواعدها العامّة، ولهذا تحتمل الصواب والخطأ، وليس لها صفة الثبات والخلود.
ب - كان من وراء اختلافات الفقهاء في القضايا الفرعية (7) . أسباب علميّة تشهد للأئمة بالحرص البالغ على تحري الحقّ والصواب، كما تشهد لهم بالعقليّه الفاحصة، والنظرة الثاقبة، والفهم الواعي للحنيفية السمحة وما جاءت به من تشريعاتِ صلح عليها أمر الدنيا والآخرة. والوقوف على تلك الأسباب في دراسة هذه الاختلافات يقضي عليها بالتقويم الموضوعي الذي لا يعرف الإفراط أو التفريط.
ج - الاقناع بأنّ أئمة الفقهاء لم يتعصبوا لآرائهم ، ولم يدّعِ واحد منهم أن اجتهاده هو الصواب وحده، ولذا كان كل منهم يحترم رأي غيره، ويطبقه وإن لم يكن قد قال به، سدا لباب الاختلاف، وتأكيدا على أن كل الآراء يجب أن تلقى التقدير بدرجة سواء.
وإذا قامت دراسة اختلافات الفقهاء على هذه الدعائم فإنها تنتهي - لا محالة - إلى أن هذه الاختلافات لا تمثّل عقبة في طريق التقارب، فهي آية من آيات الحريّة الفكرية في الإسلام، ومصدر من مصادر الثروة الفقهية التي تعتزّ بها الحضارة الإسلامية، وأنها لم تكن في عصر الأئمة سبباً للشقاق والعداء، بل كانت محل تقدير الجميع وإنصافهم، فلماذا أصبحت على أيدي أتباع المذاهب ميدانا للتنابز والتفاخر والتخاصم والتدابر؟ وكان ينبغي أن تظل كما كانت في عصر الأئمة، لا تفرق كلمة الأمة، ولا تباعد بين طوائفها، ولا تفسد للودّ قضيّة بينها.
إن أتباع المذاهب أضفوا على تلك الاختلافات قداسةً ليست لها، وأنزلوها منزلة لا ترقى إليها، ومن ثم كان تعصبهم ورفضهم العمل بكل ما يخالفها ولو كان نصا شرعيا مادام أئمتهم لم يأخذوا به، مع أ ن كل الأئمة أجمعوا على أنه إذا صح الحديث فهو مذهبهم، ويجب أن نضرب بأقوالهم عرض الحائط.
إن احترام وتقدير الاختلافات الفرعية في الفقه الإسلامي شيء، وأن تكون هذه الاختلافات صخرة تسدّ طريق التقارب شيء آخر، ودراستها في ضوء تلك الدعائم سيضعها في موضعها الصحيح، ويرجعها إلى أسبابها العلمية، فلا نراها شرعا ملزماً، ولا نرى في مخالفتها مروقا من الدين أو ابتداعا فيه، فلا يتعصب أحد لها، ويعذر بعضنا بعضا فيها.
ثالثاً - إذا كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوّره، وإذا كان الأمر كما يقال: إنّ من جهل شيئاً عاداه، وإذا كان منهج الإسلام الدقيق يقوم على التثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها مصداقاً لقوله تعالى: (ولا تقف ماليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) (8) . إذا كان الأمر كذلك فإنّ كثيراً من مظاهر التعصب والازورار بين أتباع المذاهب مردّها إلى أنّ أتباع كل مذهب جهلوا مالدى غيرهم بوجه عام، وحصروا أنفسهم في دائرة المؤلفات المذهبية الخاصة، يدرسونها ويرونها وحدها الزاد الفقهي الذي يغني.
والنتيجة الحتمية لهذا الانكماش الفقهي هو: القناعة بأن مالدى المذهب من آراء هي الدين الذي لا يجوز لأحد أن يفرّط فيه أو يخالفه، ويترتّب على هذا تبادل التهم بين أتباع  المذاهب، وزعم كل طائفة أنها على الحق دون سواها.
وقد تنبه لهذا الخطر قديما بعض الفقهاء وحذروا منه، منهم الإمام الشاطبي (ت: 790هـ) في كتابه الأصولي الرائع (الموافقات) قال: (إن تعويد الطالب على أن لا يطلع إلا على مذهب واحد ربّما يكسبه ذلك نفورا وانكارا لكل مذهب غير مذهبه مادام لم يطلّع على أدلته، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين، وخبرتهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه) (9) .
وقال الإمام أبو شامة (ت: 665هـ): (ينبغي لمن اشتغل بالفقه أن لا يقتصر على مذهب إمام، ويعتقد في كل مسألةِ ماكان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه إذا أتقن معظم العلوم المتقدّمة، وليتجنب التعصّب، والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة فإنها مضيعة للزمان ولصفوه مكدرة) (10) .
إن التقارب لابد أن يقوم على فهم وفقه، ولا تكفي لبلوغه العواطف الجياشة والمشاعر الطيبة، ولذا كانت الدراسة العلمية ومعرفة الآراء من مصادرها هي سبيل الفهم الصحيح الذي يردّ كثيراً من الأخطاء، ويسدد الخطوات على طريق التقريب الصحيح.
رابعاً: ويساعد على إزالة جفوة الجهل بين أتباع المذاهب والانكباب على مؤلفات المذهب دون غيرها والوقوف على الآراء والاجتهادات في التراث الفقهي كله مراعاة مايلي:
أ- التوسّع في الدراسة الفقهية المقارنة، وبخاصة في الجامعات.
ب - تعدّد اللقاءات والندوات العلمية بين الفقهاء.
أمّا التوسع في الدراسة الفقهية المقارنة بحيث تشمل كل المذاهب المعتبرة فإنها تكشف عن مناهج الفقهاء وأصول مذاهبهم، وأسباب الاختلافات بينهم، وتبيّن مدى أوجه الالتقاء والتواصل بين هذه المناهج، وهل هي أقوى من أوجه التباعد والتعارض.
كما تبين أن أسباب الاختلافات بعيدة كل البعد عن الأهواء، وأنها تخضع لمقاييس وموازين علمية.
وفضلاً عن هذا، تعد الدراسة المقارنة أكثر جدوى في الموازنة بين الآراء، وتحليل القضايا وتمحيصها مادامت تخضع للقواعد المنهجية في البحث، وأنها بهذا تربي ملكة الاستنباط والاجتهاد، وتبين أي الآراء أقرب إلى الحقيقة، وأيها أقرب إلى تحقيق مصالح الناس، وأيها أحقّ اتباعا (11) .
والأمر الثاني لا يقل أهمية عن الدراسة المقارنة، لأن في تلاقي الفقهاء وما يجري بينهم من حوار ومناقشة بالتي هي أحسن في شتى القضايا - ولا سيما تلك التي تختلف فيها المذاهب - سيذيب جليد الوهم والارتجال في الأحكام والأخذ بالشائعات، وعدم التفريق بين الطوائف المعتدلة وتلك التي غالت وأسرفت، وبذلك يعرف فقهاء المذاهب بعضهم بعضا معرفة علمية موضوعية، فلا يبقى هناك مجال للظن والشبهة والأحكام السطحية والفروض الواهية، فتتوثّق الصلات، وتخف إن لم تزل - آثار التعصب.
إنّ الدراسة المقارنة وعقد الندوات واللقاءات بين الفقهاء تتيح للأمة أن تنتفع بالتراث الفقهي كله، وتنظر إليه نظرةً شاملة، فهو ملك لها، ومن ثم لا تتعصب لتراث مذهب دون آخر، وتستمد من كل هذا التراث ما تسترشد به في علاج كثير من مشكلاتها المعاصرة في ضوء الشريعة الغراء.
خامساً - وما دامت الأمة لا تختلف حول الأصول الثابتة، والتي بها يكون المسلم مسلما، ويرجع اختلافها في الأمور الظنية إلى أسباب علمية، ولا تمثل هذه الاختلافات مشكلة جوهرية للتقريب إذا فهمت على وجهها الصحيح، ومادام الواجب على أتباع المذاهب أن يربؤوا بأنفسهم عن القول في أمر دون علم به، وأيضا أن ينسبوا لأحد رأيا دون تحقيق أو توثيق، أو أن يظلوا في حالة نفور وازورار عن تراث غير المذهب الذي يقلدونه، فلا يلمون به أو يدرسونه فإن على الفقهاء والعلماء أن يهتموا بتوعية الرأي العام بالثوابت التي تجمع بين أپناء الأمة الإسلامية، وأن يوضّحوا لهم أن قاعدة الالتقاء بين هؤلاء الأبناء عريضة، وأن مظاهر الاتفاق أكثر من مظاهر الاختلاف (12) ، وأن هذه المظاهر لا ينبغي أن تفرّق بينهم، فهي رحمة وسعة وتيسير، فلا يجوز أن تصبح مصدر فتنة وتمزيق.
روى ابن وهب، عن القاسم بن محمد قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز (ت101هـ): (ما أحبّ أنّ أصحاب محمد(ص) لا يختلفون، لأنه لو كان قولا واحداً لكان الناس في ضيق، وأنّهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنّة).
يقول الشاطبي: (ومعنى هذا: أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق). ثم قال: (فوسع الله على الأئمة بوجود الخلاف الفروعي بينهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في رحمة الله) (13) .
وإذا كان الاختلاف بين أكبر طائفتين في الأمة - وهما السنة والشيعة في كثير من صوره - مرده إلى ما صلح لدى كل منهما من حديث رسول الله(ص) فإن من الخطأ الأعتقاد بأن الاختلاف حول هذا الأمر واسع الشقة، وأنّ كل طائفةِ ترفض مالدى الأخرى من الأحاديث والآثار.
إن المتفق عليه بين المسلمين جميعا: أن مايثبت عن الرسول(ص) يجب العمل به، كما أن العدد الأكبر مما ورد عن الرسول(ص) في شؤون العقيدة والأخلاق والشريعة قد اتفقت عليه الطائفتان، ولهذا لا يوجد خلاف إلا في العدد الأقل من أحاديث الأحكام والأخبار، ولا يتناول هذا العدد الأصول الضرورية  التي لا يكون المسلم مسلما إلا بها، وإنما هو فيما لا يضرّ الاختلاف فيه، وفيما يسع المسلم باعتباره مسلما أن يترخص فيه دون أن ينازع أو ينازع  (14) .
ومن أجل التقريب بين السنة والشيعة وأنهما في آرائهما يصدران عن معين واحد، وأن مقياس العمل بالحديث لديهما هو الثقة بصدق الراوي وأمانته في النقل دون نظر إلى الطائفة التي ينتمي إليها - ومن ثم روى أهل السنة عن بعض أهل الشيعة كما روى هؤلاء عن بعض أهل السنة - قامت جماعة التقريب بالقاهرة منذ نحو ثلاثين عاما بمشروع علمي يتوخى جمع الأحاديث التي صحّت في مختلف المذاهب الفقهية المعتبرة والتي التقى عليها الرواة في شعب الإيمان والعقيدة والفقه وغيرها من كل مايفيد جمعه على صعيد واحد لينتفع به الباحثون، وليجد فيه المسلمون مظهراً واضحاً للتقارب بينهم في الأصول الأساسية التي يدينون جميعا بها ولا يختلفون عليه(15) .
ولكن هذا المشروع لم يكتب له أن يصل إلى غايته لأن وفاة العالمين اللذين وضعا المخطط العلمي له، وأيضا وفاة معظم الأعضاء الذين أسسوا جماعة التقريب أدى إلى توقف نشاط هذه الجماعة، والأمل كبير في أن تقوم المجامع الفقهية بهذا العمل، ولعلها تتعاون في ذلك حتى يخرج هذا المشروع المهم في فترة زمنية وجيزة، وفي صورة أكثر دقة وشمولاً.
سادساً: ولكي تنجح تلك الخطوات في تحقيق التقارب بين المذاهب ينبغي أن تتوقف الأقلام، وتكفّ الألسن عن لغة التشنيع والاستفزاز والاستخفاف والتحامل، وإثارة المشاعر والخواطر على نحو يعمق سوء الظن والنفور والتباعد بين أتباع المذاهب، وذلك بترديد ما اشتمل عليه التراث الفقهي، ولا سيما في عصور الضعف والتقليد من أحكام وأقوال لو صدّقها المسلمون الآن لا ستحل بعضهم دماء بعض كما حدث في الماضي، بل وكما حدث في الحاضر القريب.
لقد ظهرت عدة مؤلفات ودراسات حديثة نقّبت في كتب ذلك التراث لتتصيد الهنّات والسيئات وتضخم منها وتعرضها وكأنها ليست أحداثا تاريخية مؤسفة لايجب على الأمة أن تعرفها في حاضرها، وإنما كحلقة في مسلسل نحياه في واقعنا، وبعض هذه المؤلفات يقحم الصهيونية في المعركة، وبعضها الآخر يرمي سواه بالكفر والزندقة.
إن على العلماء والمفكرين أن يكفوا عن اجترار تلك الروايات والآراء التي لا تعبر إلا عن تعصب كريه، وفقه سقيم، وممالأة لسلطة جائرة أو نزعة عرقية جاهلية، والتي لا نجني من وراء إحيائها وترديدها إلا المزيد من التفرق والتنازع، والأمة في عصر أحوج ماتكون فيه لجمع شملها، والوقوف صفا واحدا أمام الذين يتربصون بها ويصطادون في الماء العكر، ويزعمون أنهم يقدمون لنا حقائق تأريخنا مدعمة بالأدلة العلمية، وهم في الواقع ثعالب ماكرة.. يتحسسون في خبث طريقهم من أجل التهام الفريسة والقضاء عليها.
وأما ماوقع من خلاف بين المسلمين   (16)  في القرن الأول وما نجم عنه من ظهور الفرق فيجب أن يدرس في إطار البحث العلمي والعبرة التأريخية، ولا يسمح بامتداده إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم، بل يجمّد من الناحية العملية تجميدا تاما ويترك حسابه إلى الله وفق الآية الكريمة (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) (17) .
وخلاصة القول: أن الأمة تجمع بينها أصول واحدة، وأن المذاهب. الفقهية المعتبرة تجمع بينها روابط قوية ودعائم مشتركة، وهي كثيرة جدا، وأن أئمة المذاهب في حياتهم كانوا صورة طيبة للتعاون العلمي والإخاء الفكري، والتقدير المتبادل لكل ماصدر عنهم من آراء، وما سجّل التأريخ عن واحد منهم أنه تعصب لرأي ذهب إليه، أو يعيب رأيا رآه غيره، بل كان كل منهم يترك رأيه، ولا يخالف غيره حتّى ولو كان قد سبقه إلى ربه، احتراماً له. فقد روي: أن الإمام الشافعي صلى الصبح قريبا من مقبرة أبي حنيفة فلم يقنت تأدبا معه  (18) .
ومادامت الأمة تجمع بينها أصول واحدة - وهي: أصول الإسلام التي لا يكون المسلم مسلما إلا بها - ومادامت بين المذاهب الفقهية المعتبرة أواصر متينة وأسس مشتركة فإن عليها أن تنطلق في حاضرها، وتواجه مستقبلها على أساس من الاعتصام بتلك الأصول، ودعم هذه الأسس والروابط، فهذا سبيل وحدتها ونهضتها.
أما ما بين المذاهب من اختلافات في الفروع فينبغي أن نضعها في موضعها الصحيح، وأن ندرسها دراسة علمية، ويكون موقفنا منها محكوما بروح التسامح والمناقشة الهادئة، واحترام كل الآراء وتقديرها، فهي كلها ترجع إلى أصل واحد، وإنما اختلفت الآراء لاختلاف وسائل الكشف عن الأحكام واستنباطها، وهذا الاختلاف يعد من مظاهر يسر الشريعة ومرونتها، ولكن التعصب أحاله إلى سلاح فرقة وعداوة. إن كل الذين كتبوا في موضوع التقارب كانوا جميعا سنة وشيعة، ينطلقون من مبدأ: "أن نلتقي حول أصول عقيدتنا الإسلامية وما اتفقت عليه مذاهبنا الفقهية" ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وأن يكون وقوفنا على الآراء والأحكام من مصادرها الصحيحة، وأن يكون تفسيرنا لها تفيسراً موضوعياً، وأن ننظر إلى التراث الفقهي نظرة شاملة، لا ننحاز لمذهب دون غيره، فكل هذا التراث ملك للأمة، وعلينا أن نتدارسه وننتفع بكل خير فيه، وأن ننسى الماضي بسلبياته وأحكامه المتحاملة، ونبدأ عصراً جديدا يكفل للأمة الإسلامية جوهر وحدتها وقوة تماسكها، حتى تظل بنيانا مرصوصا، أو جسدا واحدا يشد بعضه بعضا، وبهذا وحده تبقى لها صفة الخيرية التي اختصها الله بها، وجعلها من ثم في منزلة الشهادة على الناس، والقيادة والريادة في كل المجالات النافعة لها ولغيرها من الأمم.التقارب بين المذاهب والوحدة الإسلامية
تتمتع الأمة الإسلامية بجملة من الخصائص التي لا تتمتع بها أمّة أخرى،  وهي خصائص واضحة لمن يفقه عقيدة هذه الأمة ويقرأ تأريخها ويدرس حاضرها، فهي تحتل موقعا جغرافياً متميزاً، من حيث المناخ، وخصوبة التربة، وتنوع البيئة، وهو موقع يحتل وسط العالم، ويربط بين شرقه وغربه، فله بذلك أهميّة دولية خاصة.
وبالإضافة إلى هذا الموقع الفريد تمثل الأمة الإسلامية من حيث الكثافة السكانية نحو خمس العالم، فهي ثروة بشرية هائلة، والبشر في كل الأزمنة والعصور هم صناع التقدم والحضارة.
والأمة - إلى هذا - تتمتع بثروة مادية طائلة، فهي تمتلك الأراضي الشاسعة المزروعة والصالحة للزراعة، وفي بلادنا تجري أهم الأنهار، وتحت ترابها أنهار أخرى من النفط، وفي جبالها وصحاراها كل المعادن التي لا غنى للناس عنها.
وفضلا عن خصائص الموقع والثروة البشرية والثروة المادية فلدى هذه الأمة العقيدة التي تحمي البشرية من ضلالات الوثنية، والتشريع الذي يكفل العدل للجميع، ويساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، وينقذ المجتمعات الإنسانية من فوضى التجارب القانونية، والنظريات والمذاهب الوضعية.
ولكن، مابال هذه الأمة على ماتتمتع به من تلك الخصائص وسواها وقد حل بها الوهن، وفقدت المنزلة التي بوأها الله إياها، وتعرضت للعدوان عليها من مختلف الأمم؟! ماالذي جعل هذه الأمة - التي تمتلك كل مصادر القوة بمفهومها الشامل - أمّة ضعيفة لا يقيم لها العالم وزنا، وكانت من قبل صاحبة القيادة والسيادة، وكان الكل يخطب ودها، ويسعى للأخذ عنها؟!
تختلف تعليلات الباحثين والمفكرين فيما آل إليه حال هذه الأمة، ومع اختلافهم وتنوع مشاربهم الفكرية والسياسية يكادون يتفقون على أن التفرق بين أپناء هذه الأمة وشعوبها، ثم ما يخطط له أعداؤها لكي لا تنهض من كبوتها وأن تسترجع قوتها أهم أسباب الضعف والتخلف.
والذي لا مراء فيه أن التفرق وما نجم عنه من ضعف وذهاب ريح كان نتيجة لضعف الإيمان بالعقيدة وتسرب الأوهام والأفكار الفاسدة إلى الأفئدة والمشاعر، ومن ثم يصبح السعي الجاد في سبيل أن يكون للعقيدة في النفوس سلطانها الفاعل وتأثيرها الكامل هو البداية الصحيحة للتخلص من الأفكار الفاسدة والمفاهيم الباطلة التي مزقت الأمة، وفي مقدمتها التعصب المذهبي.
إن التقارب بين المذاهب هو في جوهره محاولة لكسر شوكة التعصّب، وجمع كلمة الأمة على أصول عقيدتها والمبادئ الأساسية لدينها.
إن الوحدة الفكرية مقدمة ضرورية للوحدة السياسية، والأمة الإسلامية يوحد بينها - فكريا- القيم الخالدة لدينها، والأصول الأساسية لعقيدتها، ولكن التعصب المذهبي جعل بين أپناء هذه الأمة وأصول عقيدتها وقيم دينها ستاراً كثيفاً من الجهل والنسيان، فلم يفرقوا بين مايجب الإيمان به وبين المعارف الفكرية التي تختلف فيها الآراء دون أن تمس القيم والأصول الكلية للعقيدة  (19) ، ولذا تفرقوا وتنازعوا، وأصبح بأسهم بينهم شديدا قديما وحديثا، ولن تتحقق الوحدة الفكرية دون تقارب بين المذاهب يلغي التعصب الكريه من جهة، ويقود الأمة إلى الوحدة الجامعة من جهة أخرى.
وإذا كانت الأصوات ترتفع الآن تطالب بتطبيق أحكام الشريعة كلها والتحرر من القوانين الوضعية فإن التعصب المذهبي ساعد على دخول هذه القوانين إلى الديار الإسلامية، لأن الفقهاء اختلفوا، وحاول أتباع كل مذهب أن يكون لفقه مذهبه الكلمة الأولى في تطبيق هذه الأحكام، مما حمل الحكام على أن يستوردوا القوانين الأجنبية مادام الفقهاء لم يتفقوا ويتعاونوا في تقديم قانون إسلامي صالح للتطبيق وفق ظروف العصر ومقتضيات الأحوال، وهذا يعني: أن التقارب بين المذاهب إن كان سبيلا للوحدة بين أپناء الأمة فهو أيضا سبيل للتطبيق الكامل لأحكام الشريعة.
ولأن الشباب في كل أمة هم رجال مستقبلها وطليعة نهضتها، يجب أن يوجهوا الوجهة السديدة التي تنير أمامهم الطريق نحو غد مشرق بالخير والعزة والحضارة والتقدم، وهذا التوجيه في أمتنا ملاذه الإسلام عقيدة وشريعة، غير أنّنا إذا أمعنا النظر في واقعنا المعاصر وحاولنا أن نعرف المسار الفكري لشباب الأمة فإننا نلاحظ: أن هذا الشباب بوجه عام لم يجد من يقدم له التراث الفقهي نقياً من شوائب الآراء الفاسدة والمواقف الجائرة، ومن هنا ولّى وجهه نحو الثقافات الأجنبية دون تمييز بين غثها وسمينها، ونظر إلى التراث الإسلامي كله نظرة امتعاضِ وامتهانِ، فلم يقبل عليه أو يهتم به، وقد ترتّب على هذا أن هان على الشباب تأريخهم، وصغر في أعينهم عطاء حضارتهم وتراثهم، بل كاد أن يصبح الدين غير عزيز عليهم، وهذا أخطر ما منيت به الأمة بسبب التعصب المذهبي وما جره عليها من التفرق والتنازع.
وقد كان غزو العالم الإسلامي وفرض النظم التعليمية الغربية - فضلا عن الأعراف والتقاليد والقوانين التي تنكرها العقيدة الإسلامية - من العوامل التي ساعدت على غربة الشباب عن دينهم وتأريخهم وظهور الثنائية الثقافية بسبب ازدواجية التعلم، وتقسيمه إلى ديني ومدني.
وكان رد الفعل لهذه الغربة ولمحاولة الغرب طمس معالم الأصالة الإسلامية في شتى المجالات هو: العمل للعودة إلى هذه الأصالة، فظهر عدد من الدعاة والمصلحين الذين حذروا الأمة من مغبة تمزقها الفكري، وخصامها غير العقلي لتراثها وتأريخها، وبينوا لها أن سبيل نهضتها يكمن في الاعتصام بدينها اعتصاما يحقق معنى الأخوة الإسلامية تحقيقا كاملا وأثمرت جهود هؤلاء الدعاة، فعرفت الأمة ما يسمى بـ"الصحوة الإسلامية"، والمطالبة بأن يكون التشريع الإسلامي هو وحده القانون الذي نتحاكم إليه في كل شيء، ولكن هذه الصحوة تتعرض الآن لخطر لا يقل ضررا عن خطر التعصب المذهبي، ويتمثل هذا الخطر في الجماعات الإسلامية، فكل جماعة تعمل لصالحها، والصراعات بينها عنيفة، وبخاصة في بلاد الغرب، مما يشوه صورة الإسلام أمام غير المؤمنين به.
والأمة إلى هذا تعاني من مشكلات جمة، فهي تعاني من حرب ضروس يشنها عليها الأعداء بأسلحة متنوعة، من أحدثها: هذا الغزو الفكري الذي تحمله إلينا الأقمار الصناعية، وهذا التخطيط المتآمر الذي يسعى لوأد كل جهد إسلامي يستعلي على مباذل الحضارة المعاصرة، ويثبت كيانه ووجوده أمام الغطرسة الصليبية الحاقدة، كما يجري الآن بالنسبة للمسلمين في مختلف دول أوروبا وآسيا وأمريكا، وبخاصة في يوغسلافيا، فهناك حرب إبادة لشعب مسلم دون أن تتحرك المنظمات الدولية تحركا إيجابيا لمنع هذه الحرب، ودون أن تعمل الدول التي ترفع شعار الحرية والحقوق الإنسانية على وقف المذابح وانتهاك الحقوق.
وأما الصهيونية العالمية فهي تسعى لإنهاء الوجود الإسلامي كقوة فاعلة ومؤثرة لأنها تدرك أن هذه القوة هي وحدها التي تقف ضد أطماعها التوسعية وأهدافها العدوانية في العالم، وبخاصة في العالم الإسلامي.
وفضلا عن هذه الأخطار الخارجية تعاني الأمة من أخطار داخلية تمثلها تلك النزاعات والخلافات المزمنة حول المشكلات الثقافية والاجتماعية والحدودية بين شعوبها، ثم تيارات الإلحاد الوافدة، واندفاعها الحثيث لزعزعة العقيدة، وبلبلة الأمة فكريا حتى لا نلتقي على كلمة سواء.
وكل ما تعاني منه الأمة من غربة فكرية، ومشكلات متعددة وتخطيط من قبل أعدائها لجعلها أمة مستهلكة لا منتجة، ومتخلفة لا متقدمة، ومتخاصمة لا متحابة مرده إلى التفرق والتدابر الذي شغلنا عما يجب أن نقوم به ونسعى إليه، فأمست الطاقات والإمكانات التي منحها الله للأمة سلاحا للتدمير لا للتعمير، وللتفريق لا للتجميع، وأصبح مثل المسلمين الذين احتفظوا بخلافاتهم وأنصتوا لداعي الفرقة كمثل شعب قامت فيه حرب أهلية طاحنة، فهي تشغل أپناءه وتستنفد قواهم، وتضيع جهودهم،  وتلهيهم عن إصلاح أحوالهم وتقويم معوجهم، وتعين عليهم أعداءهم، وتكون سببا دائما في إثقال كواهلهم بما لا يتحملون من الأعباء، وفي إلباسهم لباس الذل والخوف والشقاء.
يقول الشيخ عبد المجيد سليم (ت: 1374هـ) شيخ الأزهر الأسبق: (لقد عشت طول حياتي معنياً بأمر المسلمين، مفكراً فيما يصلحهم وينقذهم مما تورطوا فيه من الضعف والتخاذل والانحراف عن الصراط السوي في العلم، فوجدت أن لا سبيل إلى ذلك إلا بأمرين:
أولهما: أن يؤمنوا إيمانا عن بينة وبصيرة بأنه لا إصلاح لهم إلا بهذا الدين الذي صلح به أولهم،  وأنهم - على حسب ما ينحرفون عن تعاليمه ومبادئه - يصابون في بلادهم وأنفسهم وسائر أحوالهم بالضرع والهون والشقاء.
وثانيهما: أن ينسوا أحقادهم وميراث عداوتهم الذي أورثتهم إياه عوامل الضعف وعهود الذلة والخوف، وتسلط الأعداء، فيعودوا كما تركهم رسول الله(ص) أمة واحدة عزيزة كريمة تشعر بعزتها وكرامتها، ولا غرض لها إلا إعلاء كلمة الله ونشر دينه، والدفاع عن الحق حيثما وجدت لذلك سبيلا).
ثم يقول - مؤكدا على وجوب الاتحاد وائتلاف القلوب، والغضّ عن كل مايثير الأحاقد وينكأ الجراح؛ لأن حرب الفرقة قد ألحت على الأمة منذ قرون قطعت ذات بينها، وأفسدت كثيراً من خطط الإصلاح على واضعيها: (فليتدبر المسلمون موقفهم، ولا سيما في هذا الوقت العصيب الذي فغرت فيه المطامع أفواهها لابتلاعهم، الذي أصبحت القوة فيه والتكتل هي لغة التخاطب السائدة، وأسلوب التفاهم المفيد، ولينسوا مابينهم من الخلافات التي أوهنتهم وثبطت من عزائمهم، وليقفوا صفا واحدا لإنقاذ أنفسهم ودينهم،  بل لإنقاذ العالم من المطامع الفاسدة والمبادئ الخطرة، فإنهم أهل فكر، وورّاث رسالة، وإنّ الله سائلهم عما أورثهم) (20) .
وبعد، فإن الوحدة الإسلامية بالحكم الفقهي  2 . واجبة شرعا فليست عملا ترغيبيا يدعى إليه، وإنما هي أمر واجب يلزم كل مسلم يشهد بأن الله واحد أحد، وأن محمداً عبده ورسوله، وهذا الواجب يطوّق عنق كل مسلم، وسيسأل عنه يوم الدين، ولهذا كان كل مايؤدي إلى الوحدة فهو واجب! لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والتقارب بين المذاهب مجمع الأمة على الأصول الكلية، ولا يجعل للاختلافات الجزئية أثراً في الوحدة، فهو بهذا يكون أمراً مطلوباً شرعاً لأنه وسيلة إلى غاية مفروضة، والوسيلة تأخذ حكم الغاية ما دامت تنتهي إليها.
وأخيرا: إن مسؤولية التقارب تقع على عاتق الفقهاء، فعامة الناس تبع لهم، يسيرون وفق مايقولون، ويأخذون بما يفتون، فإذا أدرك هؤلاء الفقهاء مسؤوليتهم وقاموا بها في إحسان سارت الأمة بخطى حثيثة نحو أخوّة ووحدة إسلامية تكفل القوة في كل المجالات، قوة ترهب أعداء الله وأعداء الحياة، وتدرأ عن الأمة كل الأخطار والأضرار، (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) (22).الخاتمة: نتائج وتوصيات
 يمكن القول - بعد الحديث عن منهج التقارب في تلك المباحث - أن أهم النتائج التي انتهت إليها الدراسة على إيجازها هي مايلي:
أولاً: الفقه الإسلامي ثروة تشريعية لم تعرف البشرية نظيراً لها في تأريخها الطويل، والمذاهب الفقهية مظهر من مظاهر الحرية الفكرية في الإسلام.
ثانياً: لا اختلاف بين المسلمين قاطبة في الأصول التي لا يكون المسلم مسلما إلا بها، والاختلاف في الفروع له أسباب علمية، وهو آية من آيات يسر التشريع ومرونته.
ثالثاً: فرّق التعصب المذهبي بين أبناء الأمة، وكان وراء ما سجله التأريخ عن أتباع المذاهب من تبادل الآراء الفاسدة، والأحكام الباطلة، والصراعات الدموية المؤسفة.
رابعا: التقارب بين المذاهب ضرورة دينية وحياتية، والسبيل إليه: الالتقاء حول ما اتفقنا عليه، وأن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وأن تخضع أحكامنا وآراؤنا للدراسة العلمية، والمناقشة الهادئة، وروح التسامح والإنصاف.
خامساً: تتعرض الأمة في حاضرها لتحديات كثيرة وخطيرة تهدد مستقبلها، ولا منجاة لها من هذه التحديات إلا بالعودة الجادة لدينها، والتعاون بين شعوبها على أساس الوحدة الإسلامية.
سادسا: الوحدة الإسلامية واجبة شرعا والتقارب بين المذاهب من أهم الوسائل إليها، فهو من ثم واجب ديني، وعلى العلماء أن يقوموا به، ويقودوا جمهور الأمة إليه.
أما التوصيات التي ترشد إليها الدراسة فأهمها مايلي:
أولا: التوسع في الدراسة الفقهية المقارنة، وعقد الندوات والمؤتمرات التي تجمع بين فقهاء المذاهب؛ ليعرف بعضهم بعضا على هدى وبصيرة.
ثانيا: تخليص المذاهب الفقهية من الدخيل الذي من شأنه أن يفسد هذه المذاهب او يشوهها.
ثالثا: تجنب القضايا الخلافية ونسيانها، ومراعاة أدب الحوار عندما نتناقش أو نختلف.
رابعا: الحرص على الجماعة والتحذير من الفرقة، والتقيد في علاج المشكلات التي تواجه الأمة بالقيم الإسلامية، وأن تسود العلاقات بين شعوب هذه الأمة روح الإخاء والتكامل والتعاون.
خامسا: اليقظة لما يبذره  (23) أعداء الإسلام من بذور الفرقة والشقاق بين المسلمين باسم البحوث العلمية، وإحياء الكتب القديمة، وما إلى ذلك من أسماء خداعة براقة من ورائها السم الزعاف.
  

------------------------
1 - معالم التقريب بين المذاهب الإسلامية للأستاذ محمد عبد الله: 7، طبع دار الهلال بالقاهرة.
2 - آل عمران: 105 .
3 - انظر رسالة الإسلام، م 5: 151.
4 - الحجرات: 10 .
5 - رسالة الإسلام، م 5 : 150.
6 - انظر معالم التقريب بين المذاهب الإسلامية: 12.
7 - انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، وغاية الإنصاف في أسباب الاختلاف للدهلوي، وأسباب الاختلاف بين الفقهاء للشيخ علي الخفيف.
8 - الإسراء: 36.
9 - الموافقات: 2: 273، طبع منير الدمشقي، القاهرة: نقلا عن كتاب مالا يجوز الخلاف فيه بين المسلمين: 66.
10 - حجة الله البالغة 1: 327.
11 - رسالة الإسلام: 9: 109 .
12 - انظر توصيات ندوة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي عقدت بالرباط في الفترة (16 - 18/9/1991م).
13 - الاعتصام للشاطبي 2: 170، طبع دار الفكر، بيروت.
14 - رسالة الإسلام، م 13: 269.
15 - رسالة الإسلام، م 13: 218. و م 14: 153 و 230.
16 - دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين للشيخ محمد الغزالي: 147 طبع القاهرة.
17 - البقرة: 134 / 141.
18 - انظر حجة الله البالغة، دستور الوحدة الثقافية: 235.
19 - رسالة الإسلام، المجلد الأول: 93.
20 - رسالة الإسلام، المجلد الثالث: 22 - 52 .
21 - أعمال ندوة الفقه الإسلامي المنعقدة بجامعة السلطان قابوس في شعبان (1408هـ): 864 طبع عمان.
22 - الروم: 4 - 5 .
23 - بين الشيعة وأهل السنة للدكتور سليمان دنيا: 39 طبع وزارة الأوقاف بالقاهرة.
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية