مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

نظرة الشهيد السيد البهشتى إلى التقريب
الشيخ ميسح المهاجري

جعلت الظروف الدولية الراهنة من موضوع الوحدة الإسلاميّة موضوعاً ملحاً وحاجة ماسة يقرها كلّ عقل سليم ؛ لأن الهجمة الشرسة التي يخطط لها في أروقة القوى العظمى مستهدفة الكيان الإسلامي والتي لم يسبق لها نظير لا يمكن أنّ تجابه إلاّ بيقظة المسلمين ووحدة كلمتهم.
إنّ انهيار المعسكر الشيوعي الذي حاول الغرب جاهداً من أجل استثماره لصالحه يعتبر انهياراً للمادية بأسرها ، ولهذا فإنه يشمل فيما يشمل المعسكر الغربي الذي تبنى المنهج المادي أيضاً . كما أنّ هذا الانهيار قرع أجراس الإنذار لقادة الدول المهيمنة على مقاليد العالم ، فقد رافق ذلك الانهيار تنامي الصحوة الإسلاميّة في إطار الانبعاث العالمي للإسلام باعتباره بديلاً عقائدياً ومعنوياً شاملاً يكفل ملء الفراغ السائد حالياً . ولهذا نرى بوضوح مواجهتهم العنيفة للثورة الإسلاميّة التي سخروا لإجهاضها شتى الأساليب والطرق المتاحة لهم في كلّ أنحاء المعمورة ، كما أنهم
يعتبرون مواجهة الثورة الإسلاميّة مفتاحاً لمواجهة هذه الصحوة الشاملة ، وخير دليل على ذلك وجود بؤر صراع متعددة في العالم الإسلامي ، سواء في آسيا أو أوربا أو أفريقيا ، فإن إيجاد هذه البؤر يدخل في هذا الإطار.
نستلخص من كلّ هذا : أنّ الأسلوب الوحيد لمواجهة هذه الهجمة التي جند العدو أحدث الوسائل والخطط لإنجاحها لقمع الحركة الإسلاميّة هو : تحقيق الوحدة الإسلاميّة التي تضمن تحرير العالم من ربقة الأخطار الكبيرة المحدقة به من جراء تنامي أطماع الدول الاستكبارية في العالم ، وأن أهم عامل يكفل تحقيق هذه الوحدة هو : محاولة تقريب وجهات النظر وآراء الفرق الإسلاميّة . كما أنّه من العسير التوصل إلى الوحدة الإسلاميّة العملية مع فقدان الأرضية الفكرية اللازمة لذلك .
وبالرغم من الجهود المضنية والمثمرة التي بذلها قادة الفرق الإسلاميّة والمفكرون الكبار لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الوحدة الإسلاميّة فإن الواقع يقول : إنهم لم يخطوا سوى خطوات محدودة في هذا المجال ، وإن متابعة ومواصلة مسيرتهم تستوجب بذلك مزيد من المحاولات المخلصة من قبل مفكري وفقهاء جميع الفرق الإسلاميّة ، ومن أجل مواصلة تلك المسيرة لابد من الوقوف على بعض الأمور :
منها : دراسة إنجازات المتقدمين من المهتمين بتحقيق الوحدة ، والاستفادة من الطاقات المتاحة في كافة أنحاء العالم ، وكشف العقبات الكأداء التي تقف حائلاً دون تحقيق هذا الهدف ، والتوصل إلى السبل الكفيلة لرفع هذه العقبات .
إنّ أكبر عقبة تحول دون تحقيق الوحدة الإسلاميّة هي : داء التخلف الفكري الذي ابتلي به بعض قادة فرقنا الإسلاميّة ، والذي أسفر عن وقوفهم بوجه أية محاولة للتقريب بين تلك الفرق . بالإضافة إلى ذلك فإن هذا الداء الوبيل يمهد الأرضية والظروف المناسبة لهجوم المعسكر الإلحادي على الإسلام ، وتعبد الطريق لمجيء الاستعمار ، وقد تلقى الإسلام أوجع الضربات من هذا الخلل الشنيع . وتأسيساً على ذلك لابد من تركيز العمل الجاد لمعالجة هذا الداء وإزالة آثاره البالغة ، والتوجه الجدي للقضاء على هذا الخطر المداهم.
إنّ الإمام الخميني ـ رحمه الله ـ الذي قاد الثورة الإسلاميّة إلى ساحل النصر العظيم وفتح باب التقريب على مصراعية يعد من طليعة الفقهاء المتفتحين في عصرنا الحاضر . كما أنّ إيعاز قائد الثورة الإسلاميّة آية الله السيد علي الخامنئي بتأسيس "مجمع التقريب بين المذاهب الإسلاميّة" وتأكيده مراراً على جدية أنشطة هذا المجمع لم يكن يتأتى لولا تمتعه بعقلية نيرة متفتحة ، ووقوفه على حاجة الأمة الإسلاميّة الماسة للوحدة ، لذا فإن جميع الجهود التي يبذلها المفكرون المسلمون من الفرق كافة يجب أنّ تنصب على إزالة التخلف الفكري المستشري في أوساط علماء المسلمين أنفسهم ، ففي عصرنا الحاضر لا يمتلك المتخلفون فكريا أية ميزة سوى كونهم حطباً للنيران التي أججتها جبهة الإلحاد لحرق العالم الإسلامي .
إنّ العالم الإسلامي اليوم بأمس الحاجة إلى قادة وعلماء يتمتعون بضمائر ثورية حية لتحقيق النصر على الكفار الّذين هبوا بكل ثقلهم مجندين بشتى الأساليب البراقة لسلب الهوية الإسلاميّة الأصيلة من المسلمين وبث الفرقة والخلافات الجانبية بينهم.
يعد الشهيد المظلوم آية الله السيد محمّد حسين الحسيني البهشتي (1).الفقيه والعارف والفيلسوف والمتكلم المبرز في عصرنا الحاضر من خيرة المفكرين الّذين تبنوا مشروع التقريب والوحدة الإسلاميّة باعتباره ضرورة ملحة لا يمكن تجنبها ، فكان
الشهيد فقيهاً لا معاً متفتحاً بكل ما في الكلمة من معنى ، وله مواقف خالدة في مواجهة التخلف الفكري السائد ومعالجته.
لم يكن الشهيد البهشتي ينظر إلى الوحدة الإسلاميّة باعتبارها منفعة للمسلمين ، بل كان يؤمن بها باعتبارها ضرورة ملحة لابد من تحقيقها . واستناداً لهذا الإيمان الراسخ بهذه الضرورة نجده يقيم شبكة من العلاقات الودية الإخوية الواسعة مع أهل السنة ، وكان يرى : أنّ سر ديمومة الأمة الإسلاميّة مرهون بإدامة هذه العلاقات ، ولم يكن يعتبر ذلك تكتيكاً مرحلياً.
كان الشهيد كثير الاهتمام بالمبادئ الفكرية وآراء فقهاء الفريقين ، ويعتبر هذا الاهتمام عاملا أساسياً في تحقيق التقريب ، كما كان ذا اعتقاد راسخ بأن الكثير من الخلافات السائدة بين أتباع المذاهب الإسلاميّة منشؤها : جهلهم بوجهات نظر الآخرين على الأصعدة كافة ، لهذا فإن حث طلبة العلوم الدينية والباحثين على التعرف على تعاليم ومعتقدات الفرق الأخرى يعتبر من أهم أساليب ومتبنيات الشهيد البهشتي في محاضراته العلمية ، بالإضافة إلى ذلك فإن الشهيد بالرغم من تمسكه الشديد بالقيم والمعتقدات الدينية والمعنوية كان مجرداً من التعصب الطائفي الأجوف ، إذ كان ـ رحمه الله ـ كثير الالتزام بالأسلوب المنطقي لتلاقح الأفكار وإنارة الأذهان ، حتّى لدى احتكاكه ومناقشاته مع الأعداء الحاقدين على الإسلام والمسلمين ؛ لأنه كان يؤمن إيماناً راسخاًُ بأن الاسلوب المنطقي المعقول هو الطريق الوحيد لإيصال الأفكار والمعتقدات ، وفي هذا الإطار كانت لقاءاته بعلماء السنة وفقهائهم مفعمة بأجواء ودية وإخوية خالصة ، وكان يولي هذا الأمر اهتماماً بالغاً.
إنّ اختيار الساحة الأوربية كميدان عمل مناسب من قبل الشهيد البهشتي كان اختياراً موفقاً ومدروساً ويدخل ضمن إطار انفتاحه الفكري ، فقد بذل جهوداً حثيثة في تحقيق الوحدة بين المسلمين خلال الأعوام الخمسة التي أمضاها إماماً للمركز الإسلامي في مدينة "هامبورغ" الألمانية (1961 م ـ 1966م) . فإن أهم إنجازٍ حققه
الشهيد البهشتي في تلك الفترة هو : ترسيخ فكرة كون الوحدة الإسلاميّة هي العامل الوحيد الذي سيكفل المحافظة على بيضة الإسلام ، وأن تحقيق هذه الحدة أمر ممكن. وأتذكر أني سمعت منه ذات مرة يقول : (عندما توجهت إلى أوربا بلغني أنّ هناك مؤامرة فكرية محبوكة حاكها المستشرقون الأوربيون تستهدف تفسيق الفريقين ، ومن ثم تفسيق رجالات صدر الإسلام والصحابة الأجلاء ؛ ليتوصلوا بعد ذلك إلى أنّ الشخص الذي يحيط به صحابة فاسقون غير جدير بأن يكون نبياً مرسلاً ، فكانوا ينكرون رسالة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ ويروجون لهذه الأفكار).
وأضاف الشهيد البهشتي قائلاً : (لقد عاهدت الله منذ ذلك التاريخ بأني سوف لا ءألو جهداً في التقريب بين المذاهب الإسلاميّة حتّى إحباط هذه المؤامرة الدنيئة). وقد أوفى الشهيد بعهده الذي قطعه لله ونذر عمره الكريم في هذا الطريق المقدس.
وإضافة لجهوده الفكرية الحثيثة كان الشهيد ذا علاقات وطيدة وواسعة مع أهل السنة ، والتزم بهذا الأسلوب في أوربا وإيران حتّى بلغ بالعناصر الحاقدة والمتخلفة فكرياً أنّ توجه إليه سيلاً من التهم الجائرة ، فكان من الشهيد المظلوم أنّ يغض الطرف عن كلّ هذه التهم ويواصل الطريق الذي عاهد الله عليه .
قال السيد البهشتي في خطبة له يوم القدس : (إنّ مراسم يوم القدس هي في الحقيقة إحياء لا لتزامنا جميعاً نحن المسلمين تجاه تحرير القدس الأرض الربانية).
إنّ المادة الحادية عشرة من دستور الجمهورية الإسلاميّة التي تنص ـ استناداً للآية الكريمة (إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون(1 ـ على أنّ المسلمين أمة واحدة (وعلى الجمهورية الإسلاميّة أنّ تبذل كلّ جهدها السياسي لتوحيد الشعوب الإسلاميّة سياسياً واقتصادياً وثقافياً) التقت معها أفكار الشهيد المظلوم في مجال الوحدة الإسلاميّة.
كان الشهيد المظلوم رئيساً(3) لمجلس خبراء دستور الجمهورية الإسلاميّة ، وأن هذه الماد البالغة الأهمية في تحقيق التقريب والوحدة جاءت ثمرةً للجهود السخية التي بذلها من أجل تحقيق الوحدة العملية للأمة الإسلاميّة .

________________________
1 ـ ولد الشهيد آية الله الدكتور محمّد حسين الحسيني البهشتي عام (1928م) من عائلة دينية في مدينة أصفهان ، وتخرج من جامعتها ، وبعدها توجه إلى الحوزة العلمية في قم المقدسة ، حيث استفاد من جلسات دروس الأساتذة الكبار هناك في استقاء العلوم الدينية والفلسفية ، وحصل على شهادة العلوم الدينية والفلسفة ، وحصل أيضاً على شهادة البكالوريوس والدكتوراه في الشريعة الإسلاميّة من جامعة طهران.
بدأ الشهيد نشاطه الثقافي والسياسي منذ عام (1950م) وتابع الاهتمام بتربية الكادر اللازم من أجل الكفاح الفكري والثقافي منذ عام (1954م) وحتى عام (1961م).
2 ـ الأنبياء : 92.
3 ـ عهدت إليه عضوية مجلس قيادة الثورة من قبل إمام الأمة (قدس سره).
ـ هو أحد مؤسسي الحزب الجمهوري الإسلامي والأمين العام له .
ـ وفي سنة (1979 م) عهدت إليه رئاسة المحكمة العليا للبلاد.
ـ أهم مؤلّفات : مراجع الإسلام وعلماؤه ومذهب الشيعة ، وحديث الشهر ، وحديث عاشوراء ، الله من وجهة نظر القرآن ، وما هي الصلاة.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية