مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

نقدٌ لِمَقَالِ
"الحدَيث عِنَد الشيعة الأمامية"
الشيخ محمّد واعظ زاده الخراساني


عقد في اسطنبول ندوة تحت عنوان:"ماضي التشيع وحاضرة"(1).
وكان للأستاذ الأمين العام تعليق لمقال الدكتور محمّد جمال صوفو أوغلي حول "الحديث عند الشيعة الإماميّة" وتضمّن مقال الدكتور أوغلي إشارةً إلى حادثة "غدير خُم"، و"عدالة الصحابة"، و"تدوين الحديث"، وموضوعات ترتبط بالحديث عند الشيعة الإماميّة، وكان لتعليق الأستاذ الأمين العام الأثر الملموس على تقارب وجهات النظر، وإبعاد الشبهات، وتثبيت أسس التفاهم بشأن مسألةٍ هامّةٍ من مسائل الفكر الإسلاميّ، ترتبط بثاني مصدرٍ من مصادر التشريع الإسلاميّ. والمجلّة إذ تنشر هذا النقد لما فيه من فوائد تقريبيّةٍ جمّة."التحرير".
اطَّلعتُ على مقال الأستاذ الدكتور"محمّد جمال صوفو أوغلي"، والّذي كان تحت عنوان"الحديث عند الشيعة"، ومع تقديري للدكتور في بحثه هذا فلديّ ملاحظات عليه أريد عرضها عليه وعلى الإخوة المؤتمرين. (1).
أوّلاً: بدأ الأستاذ كلامه قائلاً: (إنّ الأصل الّذي يبتني عليه رأي الشيعة الإماميّة في الحديث هو: حادثة "غدير خُمٍّ"، ومن ثمّ خلافة عليٍّ رضى الله عنه وموضوع إمامته).
أقول: إنّ الإمامة عند الإماميّة لها جانبان:
أ ـ الجانب السياسيّ: وهو الذي يُعبّر عنه بالخلافة، وأنّ مسألة الغدير تهدف إلى التركيز على هذا الجانب، وأساس هذه النظرية هو: أنّ الحكومة والحكم في المجتمع الإسلاميّ ـ كخلافةٍ ونيابةٍ عن النبي الأعظم ـ لا تتحقق إلاّ بنص من قبل الله سبحانه وتعالى، وبناء على ذلك فإن القائم بهذا الأمر والمتصدي له ـ حسب حديث الغدير ـ هو الإمام علي ـ عليه السلام ـ من بين صحابة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويأتي من بعده الأئمة المعصومون من ولده حسب ما ثبت في غير هذا الحديث من الأحاديث عندهم.
ب: الجانب العلمي: ومعناه: أنّ المسلمين يجب عليهم أنّ يرجعوا فيما يحتاجون إليه بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى الأئمة من أهل بيته، وأول الأئمة الإمام علي ـ عليه السلام ـ، وآخرهم الإمام المهدي ـ عليه السلام ـ وهذا الجانب أهم من الجانب الأول، وتكفلت الروايات ببيان هذا الجانب وهي كثيرة:
منها: أنّ "عليّاً باب النبي" (2)، وقد وراها المحدثون من أهل السنة والشيعة.
ويأتي "حديث الثقلين" في طليعة هذه الروايات، وهو حديث مستفيض، بل متواتر، حيث قال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في مواقف عديدةٍ: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي" (3). على اختلاف في الألفاظ وزيادة ونقصان، وقد جمعها قبل حوالي خمس وثلاثين سنة أحد علماء الشيعة في بلدة قم، ونشرتها "دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة في القاهرة". ويمكن للباحث أنّ ينظر في طرق هذا الحديث في كتاب "المراجعات" (4). للسيد شرف الدين العاملي، وكذا في مقدمة كتاب"جامع أحاديث الشيعة" (5)، وأيضاً في نفس تلك الرسالة، وقد أخذت معي نسخاً منها، وتوجد مصادر
هذا الحديث كذلك في كتاب "مفتاح كنز السنّة" تحت كلمة "العترة"، وهذا الكتاب هو فهرس لأربعة عشر كتاباً من كتب أهل السنة، وقد روى هذا الحديث جمع غفير من الصحابة.
وإنّي لست بصدد إثبات هذا الحديث وإقناع الإخوة الحضور بصحّته الآن، بل أريد التنبيه على الخلط الذي وقع في كلام الأستاذ، حيث خلط بين الجانبين، والفرق بينهما واضح، فحديث الغدير يشير إلى الجانب السياسي والخلافة. وأما حديث الثقلين فيرمي إلى إثبات المرجعية العلميّة لعترة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ.
إذن، الحديث عند الشيعة الإمامية ـ وأعني به: حديث الأئمة ـ يستمد شرعيته وحجيته من حديث الثقلين وغيره، وللتنبية على هذين الجانبين ـ أي: القيادة السياسية والعلمية معاً ـ تطلق الطائفة الإمامية بدل عنوان"الخلافة" وصف"الإمامة" على الأئمة، فإن عليا عندهم ليس حاكماً سياسياً فحسب، بل هو إمام في جميع الجهات التي تحتاج إليها الأمة.
ثانياً: قال الأستاذ: (أما حادثة "غدير خم" فلا أصل لها في الواقع، بل اخترعت لإثبات أنّ عليا هو الذي عين خليفة من قبل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ
أقول: لو اطلع الأستاذ على المؤلفات في الإمامة عند الفريقين وخاصة كتاب "الغدير" لعلم: أنّ كثرة طرق إسناد هذا الحديث ليست قابلة لتحمل نسبة الوضع إلى هذا الحديث، وقد اعترف بصحته كثير من أعلام السنة المتقدمين، ومن المتأخرين: الأستاذ الشيخ محمّد أبو زهرة في كتابه "سيرة النبي"، وكذلك الدكتور طه حسين في مطاوي كتابه "علي وبنوه".
وقد جمع العلامة الأميني ـ صاحب كتاب "الغدير" ـ نصوصاً كثيرةً من أعلام السنة تؤيد صحة هذا الحديث، ولكن هناك بحثاً في مغزى الحديث وما أريد به.
وينبغي التنبيه هنا على أمر وهو: أنّ الإمامية يأخذون بالرواية الواردة عن طريق أهل السنة عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إذا صح طريقها عندهم، كما يأخذون بروايات العترة بلا فرق وهناك أمر آخر وهو: أنّ كثيراً من أحاديث الأئمة الموجودة في كتب الإماميّة ينتهي سندها إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مباشرةً عن طريق العترة، وقد جمعت هذه الروايات النبوية في كتاب خاص.
ثالثاً: طرح الأستاذ مسألة عدالة الصحابة، وقارن بين رأي الجمهور ورأي الإمامية في هذا المجال، وذكر أدلة الطرفين، مراعياً جانب الأمانة والإنصاف مشكوراً وإني باعتباري من دعاة الوحدة الإسلامية لا أحب الخوض في هذه المسألة التي تثير العاطفة والحساسية، ولربما تنتهي إلى النزاع والفتنة، حيث لا موجب له في هذا العصر، ونترك ذلك في ذمة التاريخ، ولكن أشير، ولكن أشير إلى بعض نواحي البحث بصورة موجزة لا تمس كرامة الصحابة، بل لعلاقة وثيقة بينها وبين اعتبار ما يروى عنهم من السنة النبوية.
1 ـ إنّ عدالة الصحابة ـ كما يظهر لنا من سير الحوادث والفتن التي حدثت بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم تكن مطروحة على بساط البحث، ولا معترفاً بها حتى عند الصحابة أنفسهم، ولا حتى في عصر التابعين، وإنما طرحت المسألة في أزمنة متأخرة(6)، ولا يعلم مبدؤها بالضبط.
والشاهد على قولنا هو: كثرة ما حدث بينهم من الخصومات واللعن والقتال، وتوجيه التهم من قبل بعضهم للبعض الآخر، وقد نقلت كل هذه الأمور الكتب الخاصة بالتاريخ الإسلامي، وهي على كثرتها لا يجوز توجيها بالاجتهاد، فإن الاجتهاد ينبغي أنّ لا يبعث على الخصومة واللعن والبراءة(7).
2 ـ أظن أنّ مسألة عدالة الصحابة قد طرحت بين الفقهاء في زمن متأخر للوصول إلى هدفين مهمين:
الهدف الأول: طلباً للمصالحة بين فرق المسلمين المتخاصمة، والمحافظة على كرامة الصحابة الذين وقعت بينهم تلك المشاجرات؛ كي يرتفع الخلاف بين أتباعهم الذين فرقت بينهم تلك الأحداث المشؤومة، حيث وقفت كل فرقة تدافع عن مجموعة من الصحابة وتبرر لهم أعمالهم.
الهدف الثاني: ولعلّة الأهمّ هو: المحافظة على سنة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ التي لم تجمع في كتاب كما جمع القرآن الكريم في زمن النبي الأكرم وصحابته، بل كانت السنة محفوظة في صدور الصحابة، تنتقل من صدر إلى صدر، ولا يمكن الوثوق بما يحدث به الصحابة عن النبي إلاّ بعد إحراز عدالة هؤلاء الصحابة، وحصول الاطمئنان بأقوالهم، بينما نرى: أنّ أهل السنة أصروا على عدالة الصحابة أجمعين للوصول إلى هذا الهدف.
وأنا أقول بصراحة: لولا وجود هذا الربط الوثيق بين عدالة الصحابة وبين السنة النبوية فلا داعي لنا للحديث حولهم وما صدر منهم، إلاّ إذا أخذنا درساً من تلك الأحداث في واقعنا السياسي المعاصر، وكم من تجربة توجد لدينا في سيرة الصحابة والتابعين، وفي متابعة الأحداث والفتن في عصرهم لو أخذناها بعين الاعتبار.
3 ـ وأمّا الآيات التي استدل بها الفريقان في شان الصحابة فهي بما فيها من قيود وشروط خاضعة للبحث، وقد بحث حولها بما يطول الكلام بذكرها، والأمر الذي لا ينبغي إنكاره في هذا المجال: أنّ القرآن الكريم تعرض بكثرة لما كان عليه الصحابة من الطاعة والعصيان، ومن الإحسان والإساءة، وأن عدد هاتين الطائفتين من الصحابة يتجاوز ما يعترف به الشيعة والسنة(8).
4 ـ وأمّا الحديث عن وجه إعراض الصحابة عن حادثة "الغدير" فهناك محامل أخرى غير ما ذكره الأستاذ، مثل: أنّ نقول ـ ولو على سبيل الاحتمال ـ: إنهم لم ينكروا حادثة الغدير، بل قد أخذوا بعين الاعتبار مصلحة طارئة دفعتهم إلى الاستعجال في انتخاب الخليفة، كما اعترف بذلك الخليفة عمر أثناء خلافته، حيث قال: (كانت خلافة أبي بكر فلتة، وقى الله شرها) (9). ومثل أنّ نقول ـ ولو من باب المصلحة الإسلاميّة ـ: إنّ عليا صاحب الحق الشرعي قد غض الطرف عن بعض حقه، حفاظاً على الإسلام (10)، ورغم ذلك فقد كان هو المفتي وحلال كل معضل يطرأ على حكومة الخلفاء قبله (11)، ولنا
في ذلك أمثال وأقوال لهم من المصادر. ولنا في هذا المجال كلام طويل نضرب عنه صفحاً.
رابعاً: قال الدكتور الباحث بعد الحديث عن تدوين الأحاديث: (إنّها من ناحية أهل السنة، فمع وجود بعض المشاكل لا نجد هنا جهة غامضة غير معلومة أمام الرأي العام، ولكن إذا نظرنا من ناحية الشيعة نشاهد هناك منظراً يختلف تماماً عن المنظر الأول... إلى آخر ما قال في هذا المجال).
أقول: إنّ المشاكل في حديث أهل السنة ليست بأقل من المشاكل في حديث الشيعة لو لم تكن أكثر، وأنا ألخصها بشكل مفهرس:
1 ـ عدم الوثوق بصدق وضبط كثير من الصحابة من رواة الأحاديث، ولا سيما أنهم لم يكونوا جميعاً من خاصة النبي الملازمين له، ولم يكتبوا الحديث حين ذاك، وإنما كان الحديث محفوظاً في الصدور، على أنّ هنالك مشكلة أخرى هي: مشكلة من هو الصحابي؟(12) وقد بحثوا حولها طولاً.
2 ـ المنع من ضبط الحديث ونقله، وكان هذا المنع من قبل الخليفة الثاني، ودام حتى نهاية فترة بني أمية(13)، وهذا المنع أوجب ذهاب شطرٍ كبيرٍ من السنة، كما أوجب الخلط بينها.
3 ـ إنّ كتابة الحديث ـ كما هي ثابتة عند الجميع ـ بدأت في القرن الثاني وبشكلٍ متفرق، وفي بلدان بعيدة بعضها عن البعض الآخر، ولم تكن كتابة الحديث حين بدأت بشكل جماعي، ولا على شكل لجان يشترك فيها الخبراء بالحديث، بحيث يعرض حديث بعضهم على بعض، ويقاس حديث بعضهم ببعض. نعم، اتفق بعض ذلك في زمن متأخر.
4 ـ شيوع الكذب حتى في عصر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ حيث قام خطيباً، وقال: "لقد كثرت علي الكذبة" فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (14). على اختلاف في متن الحديث.
وهذا الحديث ـ كما ذكره العلامة ابن الجوزي في مقدمة كتابه"الموضوعات" ـ (15)
حديث متواتر، منقول عن كثيرٍ من الصحابة يقارب عددهم واحداً وستين شخصاً، وهو الحديث الوحيد الذي رواه العشرة المبشرة من الصحابة على ما ذكره ابن الجوزي في كتابه.
فمع علمنا بوجود الكذب في الأحاديث المروية عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وبهذا الحجم الكبير ـ كما هو مفهوم من هذا الحديث، وكما صرحت به كتب الموضوعات ـ فكيف نثق بعد ذلك بما جمع في الصحاح بعد فترة ثلاثة قرون، بل وحتى فيما دون في القرن الثاني مثل: كتاب "الموطأ" للإمام مالك بن أنس !! وفيه أحاديث مرسلة ؟!
5 ـ شيوع الإسرائيليات قبل عصر تدوين الحديث بين التابعين، وحتى بين بعض الصحابة أمثال: ابن عباس، وأبي هريرة(16)، وصعوبة التمييز بعد ذلك بينها وبين غيرها، حيث ملأت هذه الإسرائيليات كتب الحديث والتفسير والتاريخ. فما ذكرناه يتعلق بمشاكل الحديث عند أهل السنة.
أما بالنسبة إلى الحديث عند الشيعة: فالأمر أسهل من هذا بكثير؛ للأسباب التالية:
1 ـ إنّ الإمام ـ في اعتقاد الشيعة ـ معصوم عن الخطأ والكذب، وقد ثبت ذلك عندهم بأدلة: منها: حديث الثقلين، وفيه: أنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر الناس بالرجوع إلى العترة بعده، وجعلهم عدل الكتاب (17)، فكما أنّ الكتاب مصون عن الخطأ فكذلك العترة، إضافةً إلى نقاط كثيرة يمكن استنباطها من هذا الحديث.
2 ـ إنّ القسط الأكبر من أحاديث الفقه والتفسير وغيرها رويت عن الإمامين: محمّد الباقر وجعفر الصادق ـ الإمامين: الخامس والسادس ـ ثم الأئمة من بعدهما، وكان ذلك في عصر التدوين، وقد كتبت ـ من دون فاصل زمني في ما يقارب من أربعمائة أصل ـ من قبل العلماء(18) الذين لازموا هؤلاء، الأئمة وعلم الأئمة مأخوذ عن أجدادهم
حتى يصل إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فلا يحدث خلل في الحديث من ناحيتهم على رأي الشيعة.
وأما ما يتعلق بالرواة عنهم: ففيهم الصادق والكاذب، والثقة وغير الثقة كما هو الأمر عند أهل السنة تماماً، وعلم الرجال عند الفريقين هو العلم الذي يتكفل بتمييز الثقات عن غيرهم.
3 ـ بسبب وجود الأئمة من أهل البيت عليهم السلام بين شيعتهم ما يربوا على مائتين وخمسين سنة فإن الأحاديث التي يكتبها أصحابهم كانت قد تعرض عليهم (19)؛ لتمييز الصحيح من السقيم منها، حيث كانوا يرشدون أصحابهم إليها، وقد قام الأئمة بتسمية الكذابين من الشيعة والبراءة منهم علنا(20)، لكي يجتنب الشيعة النقل من هؤلاء الوضاعين.
4 ـ إ ن هذا الموجز عن تاريخ الحديث عند الشيعة الإمامية لا يكفي للإلمام به، فقد كتبت مقالات عن سير الحديث عند الشيعة قبل الكتب الأربعة ـ الكتب التي يعتمد عليها عند الشيعة ـ باللغة الفارسية.
خامساً: قول الكاتب: (إنّ صحيفة علي ـ عليه السلام ـ هي أصح كتب الحديث المتداولة، حيث إنّ هذا الكتاب قد انتقل فيما بعد إلى الأئمة المعصومين... إلى آخر ما قال). وأعقب على ذلك بما يلي:
1 ـ يوجد في الروايات كتاب باسم "مصحف فاطمة" (21)، وكتاب باسم "كتاب علي" (22) وغيرها، كانت عند الأئمة ـ عليهم السلام ـ وراثة عن آبائهم، وقد بحث حولها العالم المتتبع السيد محسن الأمين في المجلد الأول من موسوعته القيمة "أعيان الشيعة" فمن أراد التفصيل فليراجع، ولا يوجد بينها كتاب باسم "صحيفة عليّ".
2 ـ قوله: (هي أصح كتب الحديث المتداولة).
هذا خلط وقع فيه الكاتب، حيث لم يميز بين ما كان عند الأئمة كمصدر لعلمهم، وبين ما تداولته الشيعة وتتداوله، فإن هذه الكتب ليس لها الآن ولم يكن قديماً أيّ أثرٍ لها
عند الشيعة، ولو نسخة واحدة حتى يقال: إنها أصح الكتب المتداولة عندهم، وهناك أمر آخر ينبغي التنبيه عليه، وهو: أنّ ما دلت عليه الروايات الكثيرة على وجود هذه الكتب عند الأئمة ليست هي من الأحاديث القطعية المتواترة بحيث بلغت حد الضرورة، وليس الاعتقاد بها أصلاً من أصول الشيعة، فيمكن رفضها لمن لم تثبت عنده صحتها، ولا دخل لها في اعتبار حديث العترة والاعتقاد والاعتماد عليه؛ لأن مصدر علوم الأئمة لا ينحصر فيها.
3 ـ إنّ المتداول بين الشيعة في الحديث كتب كثيرة وموسوعات ضخمة، إلاّ أنّ أصحها الكتب الأربعة، كما اعترف بذلك الأخ الباحث، وبالرغم من تقديم هذه الكتب الأربعة على غيرها إلاّ أنّ الشيعة لا تطلق عليها اسم "الصحاح" كالصحاح عند أهل السنة؛ لأن في الكتب الأربعة من الأحاديث: ما هو صحيح، وضعيف، وموثق، وسقيم، وقوي، وهناك مجال واسع للتمييز بينها حسب ما هو موجود من الأمارات والموازين لتمييز الصحيح عن غير الصحيح، فمثلاً: إذا كان ظاهر الحديث دالاً على وقوع التحريف في كتاب الله فإن مثل هذا الحديث: إما أنّ يكون مؤولاً إذا شمله التأويل، أو مردود.
وهكذا الحال في جميع المجالات، فلا يؤخذ بحديث مخالف للقرآن وللسّنة القطعية.
أو يكون خلاف المعقول كما هو معمول أيضا عند المحققين من أهل السنة ـ ولا سيما المعتزلة ـ في كثير من الأحاديث التي ظاهرها التجسيم والتشبيه ونحوهما.
سادساً: قال الأخ الكاتب: (ويقال: إنه لم يكن اختلافات كثيرة بين علماء الشيعة إلى أنّ جاء الشيخ الطوسي، وألف كتابيه: "التهذيب والاستبصار" زادت المنازعات والاختلافات من جراء تداول أحاديث مختلفة بين الناس).
وأود أنّ أسجل هنا بعض النقاط على كلامه هذا:
1 ـ إنّ الاختلافات بين الفقهاء كانت موجودة قبل الشيخ الطوسي؛ نتيجة اختلاف الأخبار أو اختلاف الآراء، وهناك إشارة لهذا الاختلاف في كتب الشيخ المفيد أستاذ الشيخ الطوسي، خصوصاً في كتابه "المقنعة" وفي كتب أستاذه الآخر الشريف المرتضى، كما وأشار الشيخ الطوسي في كتاب "مسائل الخلاف" إلى بعض المسائل الخلافية بين الشيعة أنفسهم، عدا ما اختلف فيه المسلمون عامة.
2 ـ لعل الأستاذ الكاتب ظن أنّ الشيخ الطوسي لما جمع الأخبار المتعارضة فتح بعمله هذا باب الخلاف أمام الشيعة، مع أنّ نفس هذه الأحاديث كانت موجودة بيد العلماء قبل الشيخ الطوسي، وقد أفتى هؤلاء العلماء وفق هذه الأحاديث، إذن، فالخلاف كان موجوداً، إلاّ أنّ الأحاديث المتعارضة لم تكن مجموعةً في كتابٍ واحدٍ، فجاء الشيخ الطوسي وجمعها وعالجها بطرقٍ حكيمةٍ: إما رداً لبعضها ، أو جمعاً بينها إذا وجد إلى الجمع سبيلاً.
3 ـ يبدو أنّ الأستاذ لم يقف على شيء من هذه الكتب، ولهذا قال: (وليس فرق بين كتابي التهذيب والاستبصار)، ومن نظر فيهما يظهر له الفرق واضحاً جلياً، فإن كتاب "التهذيب" الذي هو شرح لكتاب المقنعة للشيخ المفيد جمع فيه الأخبار الموافقة والمخالفة، ثم اختار المؤلف منها الأحاديث المتعارضة خاصة في كتاب"الاستبصار فيما اختلف من الأخبار"، فهذا هو الفارق بين الكتابين، فكل ما في "الاستبصار" موجود في "التهذيب" ولا عكس.
سابعاً: هناك بعض الأخطاء البسيطة في مقال الأستاذ مثل:
1 ـ قوله: (روضة الكافي يُنسب إلى الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ )، مع أنه للكليني على التحقيق، ولم يصح ما قيل إنه لرجلٍ متأخرٍ عنه. أما نسبته إلى الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ فلم نقف إلى الآن على من يقول بذلك.
2 ـ قوله: (يقال للشيخ الصدوق: رئيس المدرسين)، وهذا خطأ، حيث لم يقل أحد بذلك، إنما يطلق عليه في بعض الأحيان "شيخ المحدثين"، كما يطلق على الكليني "ثقة الإسلام" وعلى الشيخ الطوسي "شيخ الطائفة"، وهكذا.
3 ـ قوله: (توفي الطوسي سنة 467هـ)، والمتفق عليه سنة "460هـ" (23)
4 ـ قوله: (الكليني توفي سنة 337 هـ) وهذا خطأ بل مات سنة "329هـ" (24). وجاء قول بأنه توفي سنة"328هـ" ولا يوجد غير هذا.
5 ـ لاخلاف في عدد أحاديث كتاب "من لا يحضره الفقيه" كما ادعى، بل مجموع ما فيه يقارب ستة آلاف حديث أكثرها مرسل، لكن المؤلف أخرجها عن الإرسال عند ذكره الطرق إلى رواتها في باب "المشيخة" في آخر الكتاب.
6 ـ قوله: (الشيخ الطوسي لما بلغ سن الثالثة عشرة) والصحيح "الثالث والعشرون" (25)
ثامنا ـ قال الأخ الكاتب: (كنتيجة للبحث: أنّ للشيعة رأيا وفهماً خاصاً في الحديث، فأقوال الأئمة الذين يعتقدون بعصمتهم تعتبر أحاديث عندهم، خلافاً لأهل السنة).
وهذا صحيح ونعترف به، مستندين إلى حديث الثقلين وغيره كما سبق البحث عنه(26).
وأضاف قائلاً: 0وهذا الفهم قد فتح في مجال الحديث منفذاً غير قابل للضبط والتحديد، فقد ذكر في كتب الحديث للشيعة آلاف من الأحاديث التي أخرجت باسم الأئمة، والتي اعتبرت أحاديث.. إلى آخر ما قال).
وأقول ـ بعد الاعتراف بالشطر الأول من كلامه ـ إنّ فهم أهل السنة أيضاً: أنّ كل ما يروى عن الصحابة صحيح لعدالتهم أخرج مئات بل آلافاً من الأحاديث تدل على تجسيم الرب، أو عدم عصمة النبي والأنبياء قبله، أو على تحريف الكتاب، ويكفينا شاهداً على ذلك أحاديث "الغرانيق" المثبتة لحد الآن في تفسير الطبري وغيره من التفاسير، كما يوجد هناك كثير من الإسرائيليات منسوباً إلى الصحابة والتابعين، وبعضها منسوب إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فالبلية واحدة عند الفريقين، كما أنّ أسطورة عبد الله بن سبأ الموجودة في كتب التاريخ لا زالت تعتبر عند بعض كتاب أهل السنة سندا يضرب به الشيعة بالرغم من كذب هذه الأسطورة، فقد ثبت لدى أهل التحقيق: كالعلامة العسكري (27)، والدكتور طه حسين (28) وغيرهما أنّ أسطورة عبد الله بن سبأ قد وضعت ضد الشيعة، وتوجيهاً
للأحداث الواقعة في آخر عهد الخليفة عثمان.
فإذا اعتقد الأخ الدكتور: أنه لا بد من إجراء دراسة جديدة على كتاب الكافي فهل له مثل هذا الاعتقاد بالنسبة إلى حديث السنة، فإن كان جوابه إيجابياً فأهلاً وسهلاً، فتعالوا نشكل مجمعاً لدراسة أحاديث المسلمين، من دون فرق بين الفرق الإسلاميّة ونضعها في الميزان، وننقدها بمقياس عقلي أو نقلي يتسالم عليه المسلمون.
وبهذا التفاهم نتمكن من الوصول إلى الوحدة الإسلاميّة التي تمناها الأخ الكاتب، وينشدها جميع المصلحين في العالم الإسلامي، ويتابعها بجد "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة".
_____________________
1 ـ انظر موضوع "جولات تقريبيّة" في هذا العدد.
2 ـ ينابيع المودّة للقندوزيّ 1: 69.
3 ـ صحيح مسلم باب فضائل الصحابة: 36، والدارميّ في فضائل القرآن 1: 67، ومسند أحمد بن حنبل 3: 14 ـ 59.
4 ـ المراجعات: 4 ـ 39، الطبعة العشرون.
5 ـ جامع أحاديث الشيعة 1: 124.
6 ـ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1: 320، والدار قطني في غرائب مالك، ومنهاج السنة لابن تيمية 3: 191 ـ 206.
7 ـ الدار قطني في غرائب مالك، مسألة عدالة الصحابة.
8 ـ الصواعق المحرقة لابن حجر: 68، وجامع الأصول لابن الأثير 11: كتاب الحوض، ح 7979.
9 ـ صحيح البخاري: 31 باب الحدود، ومسند أحمد بن حنبل 1: 55.
10 ـ شرح ألفية العراقي 4: 36.
11 ـ سيرة ابن هشام 2: 83 و484،وأنظر أمالي الطوسي: 194
12 ـ صحيح البخاري 3: 85، وصحيح مسلم 1: 230، باب الجنة ونعيمها، والتبصير: 24.
13 ـ الإصابة في معرة الصحابة 1: 10.
14 ـ مستدرك الصحيحين 3: 262 و280 وج 1: 77.
15 ـ المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي: 187، واللئالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 1: 379، وسنن أبي دواد: باب السنة: 8.
16 ـ تهذيب التهذيب 7: 339، والمستدرك على الصحيحين 3: 149.
17 ـ ينابيع المودة للقندوزي 3: 35 نقلاً عن الديلمي.
18 ـ انظر الإلماع: 147، وعلوم الحديث لابن الصلاح: 181، وتدريب الراوي: 285.
19 ـ المصدر السابق.
20 ـ الأنواء 25: 285.
21 ـ بحار الأنوار 26: 33 وهامش ج 28: 265.
22 ـ المصدر السابق.
23 ـ انظر الأعلام للزركلي 6: 274 وغيرها.
24 ـ المصدر السابق 6: 85.
25 ـ تنقيح المقال 3: 201.
26 ـ مجمع الزوائد 2: 170 و 9: 162.
27 ـ عبد الله بن سبأ للسيد مرتضى العسكري، مطبوعات النجاح في القاهرة الطبعة الثانية لسنة (1381هـ)، وعبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام لسليمان بن أحمد.
28 ـ الفتنة الكبرى (علي وبنوه) للدكتور طه حسين، الطبعة الثانية لسنة (1412هـ).

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية