مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

دور القادة والحركات الإسلاميّة في التقريب
سماحة الأستاذ مولوي إسحاق مدني

 
أحاول أن أتكلم باختصار حول موضوع دور القادة والحركات الإسلاميّة في التقريب وإن كانت توجد آثار كثيرة لعلمائنا وسلفنا في جميع المجالات في المسائل الفقهية والكلامية، إلاّ أنني لن أذكر شيئاً في هذا الشأن لأسباب:
أولاً: أن الاختلاف بين آراء وفتاوى المذهب الجعفري وأحكام وفتاوى المذاهب الأربعة ليس إلاّ كالاختلاف الموجود بين فتاوى أي مذهب منها وفتاوى المذهب الآخر، بل قد يكون قريباً من بعضها البعض.
ثانياً: لم تكن هذه المسائل سبباً للعناد والبغضاء بين طوائف المسلمين وإن كانت تغيب النظرة المنصفة أحياناً عن بعض أهل العلم لمصلحة شخصية، أو لعصبية طائفية في هذه المسائل، ولكن المسألة المهمة الموجودة بين السنة والشيعة هي مسألة الخلافة والإمامة، التي كانت مصدراً للخلافات وتفرق صفوف المسلمين وضعفهم، وسبباً لخدش عواطف الفريقين.
وينقسم التاريخ حسب الإمامة والخلافة إلى ثلاثة أدوار:
الدور الأول: يبدأ من بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينتهي إلى قبيل مبايعة الناس علي بن أبي طالب عليه السلام.
الدور الثاني: يبدأ من أول يوم بويع علي عليه السلام إلى انقضاء الخلافة الإسلاميّة.
الدور الثالث: من سقوط الخلافة الإسلاميّة وسيطرة الاستعمار على بلادنا الإسلاميّة.
في الحقيقة لو دققنا النظر في الدور الثاني والثالث وموقف علماء أهل السنة وأئمة المذاهب الأربعة تجاه الحكام لعلمنا أن الخلاف في موضوع الخلافة والإمامة ينحصر في الدور الأول، حيث ترى الإمامية أن عليا عين خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الله سبحانه وتعالى، ويقول أهل السنة: بأن أمر الخلافة فوض إلى الأمة، ولكل من الشيعة والسنة آلاف من الكتب الضخمة لإثبات صحة رأيهم، وإقناع الآخرين بذلك، وأحيانا يستعمل أسلوب الإثارة مع المذاهب الأخرى.
وكم بذل الفريقان من قوى لمحاربة بعضهم البعض بدل أن يبذلوا جهودهم ضد أعداء الله وأعداء المسلمين، ولا أريد أن أرجح رأيا على رأي، أو أحكم بصحة أو خطأ الأسلوب الرائج بين المسلمين، ولكن أقول: بدلا من التنازع في هذه القضية التي فات أوانها لو جرد علماء الفرق الإسلاميّة أقلامهم وألسنتهم سيراً على نهج قدوتهم وأئمتهم الذين يعتقدون أنهم تجسيد لقيم الإسلام لكان فيه خير للإسلام والمسلمين. طبعا أن علياً ـ عليه السلام ـ كان يعتقد بأن الخلافة كانت حقه، وكذلك الخلفاء الثلاثة كانوا يعتقدون بأنهم على الحق في أمر الخلافة، وأيضا كان في علمهم بأن عليا عليه السلام يرجح نفسه لهذا الأمر. هذا هو عمر وهو على رأس الخلافة يقول تعريفا وتمجيداً في حق علي بن أبي طالب عليه السلام: (لقد أوتي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب الي من حمر النعم! قيل: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: تزويجه بنت رسول الله، وسكناه المسجد مع رسول الله يحل له
فيه ما يحل له، والراية يوم خيبر) وهذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يسدد كيان الخلافة عندما يستشيره الخلفاء الثلاثة، وبعض الناس من الفريقين يقولون: ما كان هذا التفاهم والتقارب والمساعدة إلاّ لأنهم كانوا يخشون من عواقب الاختلاف، وقد ظهر النفاق بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ارتدت طوائف من العرب وهمت بالردة الأخرى.
نقول: هذا جواب صحيح ومقنع، ولكن نقول لهم: أليس اليوم وضع المسلمين أخطر وأسوا حالاً من ذلك الوقت؟ فإذن نحن محتاجون اليوم إلى الوحدة أكثر منهم، ويجب علينا أن نقتدي بهم، ولا نتكلم ولا نعمل شيئا يسبب الفرقة والشقاق بين المسلمين.
الدور الثاني: يبدأ بعد مبايعة الناس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى سقوط الخلافة، وقد اتفق المسلمون في مسألة الخلافة في هذا العصر، فالشيعة والسنة يعتقدون بالاتفاق بأن الحق في هذه الفترة كان مع عليّ (رضي الله عنه)، ولذا يعد من الخلفاء الراشدين. ويرى أهل السنة بأن علياً (رضي الله عنه) يوم استشهد كان أفضل من في الأرض. ولو دققنا النظر وأنصفنا في الحكم لعلمنا بأن سيطرة بني أمية على الخلافة لم تكن عن دليل شرعي، بل استطاعوا أن يستفيدوا من الظروف الحاكمة، والعداوة والبغضاء كانت قائمة بين بني هاشم وبني أمية منذ زمن قديم، وأيضاً كان من أهم أسباب تفوقهم عدم تحرجهم مما يتحرج منه آل البيت من استمالة الأحزاب والقبائل بالأموال، واجتذاب أهوائهم بالولايات والمناصب، بينما كان عليّ يحاسب رجالهم على القليل والكثير.
كان بنو أمية يهبون مئات الآلاف المؤلفة من الأموال بلا حساب ولا كتاب، ومن أجل أن يجذبوا قلوب أعدائهم وأنصار بني هاشم. ما كان هذا موقف أهل السنة بالنسبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ققط، بل كان موقفهم هذا بالنسبة لجميع أهل البيت تجاه خلفاء بني أمية وبني العباس، وليس في إمكاني أن استقصي جميع العلماء المعارضين لخلفاء بني أمية وبني العباس، ولكن أذكر نموذجاً مما عانى الأئمة من خلفاء بني أمية وبني العباس:
الإمام أبو حنيفة كان غير راض عن خلافة أبي جعفر المنصور؛ لقسوته ولشدته مع العلويين، ومن يظهر التودد إليهم، وكان الإمام يحبهم ويؤيدهم، وبعد أن رد الإمام أبو حنيفة منصب تولية رئاسة القضاة فهم أبو جعفر المنصور بأن الإمام أبا حنيفة لا يعتقد بشرعية خلافته، فأمر بضرب الإمام وبسجنه ومنعه عن التدريس والإفتاء، ونقل في بعض الروايات التاريخية أنه استشهد مسموماً بعد إخراجه من السجن.
والإمام مالك أفتى يوماً أن لا اعتبار لطلاق المكره، فوجد المناؤون لحكم أبي جعفر المنصور من أنصار آل البيت في هذه الفتوى مستنداً قوياً للتملص من بيعة المنصور، لأنها كانت عن طريق الإكراه، ووجد ولاة أبي جعفر في نشر هذه الفتوى خطراً على كيانهم، وحاولوا أن يمنعوا الإمام عن التحدث بها، ولكنه لم يفعل، وهددوه فلم يسمع إلى أن أمر جعفر بن سليمان والى المدينة بضرب الإمام سبعين سوطاً.
والإمام محمد بن إدريس الشافعي اتهم بجريمة أنه تحرك ضد الرشيد مع تسعة من العلويين فأخذه والي اليمن وأرسله مع التسعة العلويين إلى الرشيد وهم مصفدون بالأغلال فقتل التسعة، والإمام الشافعي قد نجاه الله. وقد اتفقوا على أن سبب هذه المحنة كان ولاء الإمام الشافعي لسيدنا علي بن أبي طالب وأولاده، وعدم مسايرته مع الخلفاء العباسيين.
والإمام أحمد بن حنبل حمله والي بغداد إلى المأمون على الإبل مقيداً بالأغلال، وسجن ثمانية عشر شهراً، وجلد بأمر المعتصم، وبلغ عدد الجلادين الذين كانوا يتناوبون على ضربه بالسياط مائة وخمسين جلاداً، وجلس الإمام أحمد بن حنبل ـ بأمر الواثق ـ في داره لا يخرج إلى الصلاة، ولا يشهد جنازة، ولا يلقي درساً. تحمل الإمام كل ذلك ولكن لم يخضع لخلفاء بني العباس في أهوائهم وإن لم يكن سبب هذه المشاكل والمصائب حماية أهل البيت، ولكن على كل كان الإمام في جنب المعارضين للخلافة.
إن معارضة أئمة أهل السنة لخلفاء بني أمية وبني العباس على هذا المستوى تدل على أن علماء المسلمين في هذا المقطع من التاريخ كانوا متفقين في مسألة الخلافة
والإمامة وإن كانت حماية الأئمة الأربعة لخلافة أهل البيت على أساس أنهم أتقى وأعلم وأفضل، وكانت معارضتهم لخلفاء بني أمية وبني العباس على أساس أنهم سلطوا على البلاد الإسلاميّة عن طريق الوراثة الملكية، وما كانوا منتخبين بالشورى، ولا من قبل أصحاب الحل والعقد، وسبب معارضة أهل السنة للخلفاء من بني أمية وبني العباس هو: أنهم كانوا يتبعون أهواءهم، وتركوا سنة رسول الله والخلفاء الراشدين، بينما كان أساس حماية الشيعة لأهل البيت على أنهم منصوبون من الله تعالى لهذا الأمر، ولكن اختلاف الفريقين في الأسلوب لم يؤثر في وحدة المسلمين من ناحية من هو أحق بخلافة المسلمين، حيث كان الهدف واحداً، ولهذا لانجد آثاراً كثيرةً للتفرق والتشتت في موضوع الخلافة في هذا الدور من التاريخ.
أما الدور الثالث: بعد سقوط الخلافة وتغلب الاستعمار على البلاد الإسلاميّة لم يبق للمسلمين شيء من السلطة، إلاّ لطبقة من أبناء المسلمين الذين كانوا يحكمون نيابة عن الاستعمار في بعض البلاد الإسلاميّة، ومع هذا نجد المسلمين يتنازعون في مسألة الخلافة أكثر من أي زمان آخر رغم أن الخلافة خرجت من يد جميع طوائف المسلمين ونجد المسلمين يتنازعون في من هو أحق بالخلافة، وتتعرض كل طائفة لما يثير الفرقة والقطيعة والعداوة، طبعاً كان هذا الوضع من المخططات الناجحة لأعدائنا الذين استفادوا من جهل المسلمين وغفلتهم عن أهدافهم السامية، وفي هذه الفوضى السياسية والبلبلة الفكرية قام مجموعة من العلماء المجاهدين بتوعية المسلمين وإنقاذ الأمة الإسلاميّة من التيه والضياع.
وكان السيد جمال الدين الحسيني من أقوى الشخصيات الإسلاميّة في القرن الماضي، وأكبرها تأثيراً في عقول الشباب المثقف، حيث السخط منتشر ضد السياسة القائمة والاستعمار الداخلي، وكان السيد جمال الدين الحسيني يرى أن من أهم أسباب انحطاط المسلمين وتأخرهم هو الفرقة بين المسلمين مذهبية كانت أو غير مذهبية وفي النهاية يعتقد بأن العلاج الوحيد وحدة الأمة الإسلاميّة وتضامنها، وكان السيد جمال الدين الحسيني يهتم بالوحدة قولاً وعملاً، فلم يكُ يريد الخير والسعادة لدولةٍ
معينةٍ أو لمذهبٍ معينٍ، بل كان يرجو القوة والعزة للأمة الإسلاميّة، وعمل في كل قطرٍ على المذهب السائد فيه، ولأجل هذا فبعضهم يعتقد أنّه كان من أسد آباد همدان في إيران، وأن مذهبه كان جعفرياً، وبعضهم يعتقد أنه كان أفغانياً، وأن مذهبه كان حنفياً، ويدل هذا الإبهام على أن جمال الدين كان يتجنب كل شيءٍ يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين مهما كان بسيطاً.
ومن الشخصيات المهمة التي لها تأثير كبير في توحيد صفوف المسلمين وإزالة العناد من بينهم هو: الفيلسوف والمفكر والشاعر العلامة محمد إقبال اللاهوري، فقد دعا العلامة إقبال اللاهوري في بيان له أسماه (رسالة الشرق) إلى توثيق الاخوة الإسلاميّة ووحدة الصف، ونسيان جميع الخلافات المذهبية والقومية والعنصرية، وكانت نظرة إقبال لا تحدها الحدود الجغرافية، ولا الاجتهادات الفقهية، وتظهر فكرة توحيد المسلمين كقوةٍ عالمية في شعر إقبال واضحة. فقد دعا إقبال المسلمين أن يتحدوا من ضفاف النيل إلى نهاية (كاشجر) ليحاموا عن حرماتهم، ولا شك أن العلامة إقبال أضاء نوراً جديداً في أفق المجتمع الإسلامي المظلم خاصةً في شبه القارة الهندية.
ومن الشخصيات الأخرى التي لها حق كبير على الاخوة الإسلاميّة هو: الشهيد حسن البنّا، والذي كان له دور كبير في إنقاذ الجيل الجديد من التيه والضياع، وإزالة سحر الحضارة الغربية، وإعادة الثقة للمسلمين، والدفاع عن الإسلام حضارة وشريعة وسياسة، وأساساً لوحدة الأمة الإسلاميّة، ومازال إخواننا في مصر أكثر استعداداً لقبول الوحدة.
وإن كان عدد الذين عملوا على القضاء على الأخوة الإسلاميّة بين السنة والشيعة لا يعد ولا يحصى ولكن مع هذا كله قام عدد كبير من القادة المجاهدين والعلماء الصالحين في كل عصر بدعوة الأمة إلى الوحدة والتضامن الإسلامي، ولهذا لا يمكنني أن أستقصي جهود جميع هؤلاء، ولكن أذكر بعض الأسماء منهم: الشيخ محمد عبده التلميذ والزميل الثوري لجمال الدين، الذي كان منهجه نفس منهج جمال الدين، ومنهم: أبو الأعلى المودودي وجماعته الذين بذلوا جهوداً كثيرة في إنماء الروح
الإسلاميّة بين المسلمين في شبه القارة الهندية، وفي تأليف قلوب المسلمين وتضامنهم، ولابد من ذكر اسم بطل ميدان الوحدة، الشيخ محمود شلتوت الذي ألف بين قلوب آلاف من المسلمين بإصدار فتواه التاريخية، ليثبت جذور الوحدة بين طوائف المسلمين.
وكان لأعضاء دار التقريب في مصر سهم كبير في بث روح الوحدة بين طوائف المسلمين.
كما قام آية الله العظمى البروجردي بدعم وتشجيع دار التقريب، وطبعاً كان لهذا التأييد أثر كبير في نفوس عامة المسلمين.
ولا ينسى العالم والمسلمون ما بذله المرجع الكبير المؤسس للجمهورية الإسلاميّة حضرة آية الله العظمى الإمام الخميني (رض) من الجهود الجبارة لوحدة المسلمين في الوقت الذي كان الاستعمار يبث الفرقة بين المسلمين، وكان الإمام أعرف الناس بمكائد أعداء الإسلام ومؤامراتهم في تفريق الأمة الإسلاميّة وكان يقول: (الذين يثيرون الفرقة بين الشيعة والسنة ليسوا من السنة ولا من الشيعة).
وبعده حمل راية الإسلام والوحدة الإسلاميّة العالم الفقيه السياسي المدبر سماحة آية الله الخامنئي زعيم الثورة الإسلاميّة، ونهج منهج الامام في جميع الشؤون خاصة في وحدة المسلمين ومن عناية حضرته بالوحدة أمر بتأسيس مجمع التقريب الذي اشتركنا في ندوته العالمية الثانية.
نرجو الله سبحانه أن يوفق مجمع التقريب حتى يكون مركزاً لإزالة الشبهات، ومحلا لحل المشاكل الفكرية والعلمية، ووسيلة لدفع الوحدة الإسلاميّة. ونأمل من الشعوب الإسلامية أن تستلهم من إخوانها في إيران من السنة والشيعة، فتشارك في بث روح الوحدة الإسلاميّة في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية