مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

الإمامة والولاية فى القرآن الكريم

آية التبليغ

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [1]
نظرة في الآيات الكريمة
خلاصة ما تؤكد عليه هذه الآيات الشريفة ـ على فرض ارتباطها ووحدة سياقها ـ أنّ أهل الكتاب لو آمنوا واتقوا وعملوا بما أنزل الله تعالى لنالوا السعادة في الدنيا والآخرة: أما الدنيا فنعمة جمّة من ماء ينزل عليهم بالخير والبركة فتحيي به الأرض بعد موتها، ونبات مختلف ألوانه، وأما الآخرة فمغفرة وجنة نعيم, إلا أنّ أكثرهم لم يتّقوا ولم يؤمنوا وعملوا السيئات فساء ما يعملون وما انحرفوا به عن السبيل السوي..
وهنا تطلب الآيات من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ـ وفي جو انحراف أهل الكتاب ـ أن يقوم بكل تأكيد بتبليغ ما أنزل إليه من ربه بلا أي اعتناء بضلال أهل الكتاب وبغيهم، أو خوف من الناس والعقبات التي توضع في طريق تبليغ رسالته. ذلك أنه صلى الله عليه وآله لو بقي ينتظر الظروف المساعدة للتبليغ ولم يستمر في ابلاغ ما نزّل عليه من أوامر الله ونواهيه وبيان وتشريعاته، فإنه لن يجد تلك الظروف المساعدة تماماً، وبالتالي لن يُتِمّ الرسالة ولن يبلّغ شيئاً.
لهذا فإن عليه أن ينفّذ أوامر الله بالتبليغ دون إلقاء أي بال للتهديدات الصادرة من الجو المنحرف، فإن الله يعصمه من الناس ومن كل من لم يؤمن بشريعته وكفر بها فباء بغضب من الله وسار في طريق العمى والضلال.
وهنا يتجلّى موقف الإعلان السافر والتحدّي الكامل للجوّ الانحرافي الذي سيطر عليه أهل الكتاب، فتطلب الآيات منه صلى الله عليه وآله أن يعلن أنّ أهل الكتاب ليسوا على شيء رغم كل ما يتبجّحون به، وأنهم لن يحظوا بشيء يذكر حتى يقيموا التوراة والإنجيل ويعملوا بما أنزل اليهم من الله، ويسلّموا وجوههم للإسلام ويؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله الذي بشّرت به كتبهم.. إلا أنّ العناد الذي أصيبوا به يحوّل وسائل الهداية إلى وسائل عمى وضلال، فلا يزدادوا بها إلاّ كفراً وضلالة وطغياناً.
ووفق هذا البيان يكون المراد من {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}[2] هو الدين الإلهي بمجموع مباديه وتشريعاته بلا نظر إلى تشريع خاص منها، فيطلب منه صلى الله عليه وآله أن يبلّغ رسالته بكل صراحة وبدون أي مواربة، ويستمر في ذلك رغم كل دسائس أهل الكتاب وعنادهم، ثم يضمن الله له العصمة والأمان من الناس وعقباتهم التي يضعونها في طريق الدعوة ومهما كانت تلك العقبات.
وقد يكون المراد جزءاً من الدين صرّح بمضمونه بعد ذلك، وهو حقيقة الإسلام والتوحيد وخسران أهل الكتاب وأنهم ليسوا على شيء في الدنيا والآخرة. فالآيات تريد نفي حالة الانتظار والتربّص والخوف من الناس والإقدام على إعلان هذا الأمر، وإلاّ كان تركه تركاً للرسالة ككل؛ لعظم ذلك وأهميته الكبرى في مجال الدعوة إلى الإسلام، لأنه يضع الحد الفاصل بصراحة، ويعلن سخف ما عند أهل الكتاب، وأنّ الدور قد انتقل منهم إلى الأمة المسلمة التي ستحتل مركز حاملة دعوة الله إلى الأمم ورائدة العمل في سبيل الله، وسترث الأرض؛ لأن الأرض إنما يرثها عباد الله الصالحون بمشيئة الله، ولا يتمثل هؤلاء الحملة إلا في حملة الإسلام، لأنه المبدأ النافع للبشرية لا غير. يقول تعالى {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[3].
وإذا لاحظنا أنّ هذه الآيات لم تكن أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وآله، عرفنا أنّ عنوان {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}[4] لا ينطبق إلا على باقي التشريعات التي لم يكن النبي (ص) قد بلّغها بعد إلى زمن نزول الآية، حيث يطلب إليه صلى الله عليه وآله أن يديم الدعوة ويواصل تبليغ الرسالة، أو يؤكد له على حكم خاص ذكر بعد ذلك، وهو إعلان خواء أهل الكتاب، ونحن نعلم أنّ مواجهتهم للنبي صلى الله عليه وآله كانت بعد سنين مضت من صراعه(ص) مع مشركي قريش في أمور أشد وأعظم، حيث هاجم أوثانهم ودعاهم إلى التوحيد، وقد كانوا أشد كفراً ونفاقاً، وألدّ خصاماً وعدواناً.
إذاً فما هو هذا الأمر العظيم الذي ينتظر النبي صلى الله عليه وآله فيه سنوح الفرصة ويخشى العقبات الكبرى في وجه اعلانه.. مما يدعو القرآن الكريم لأن يأمر بعدم الانتظار ويعطي الضمان الإلهي بالعصمة، ثم يعلن بأنه {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[5]، فعدم تبليغ هذا الأمر يعني عدم تبليغ الرسالة بمجموعها؟
وواضح أنّ الآية لا تريد أن تقول: بلّغ ما أنزل اليك من ربك, وإلا فما بلغت هذا الذي انزل اليك؛ لأنه يبقى تفريعاً لا معنى له يتنزّه عن مثله كلام الله, وإنما المقصود ـ كما مر ـ أنك إن لم تبلّغ هذا الأمر فما بلّغت أصل الرسالة. ولا يقال مثل هذا القول إلا لأمر عظيم؛ تأكيداً لخطورته وأهميته. وما أكثر ما نجد العرف يقول مثلاً: مقالتي مقالتي، أو شعري شعري، لبيان أهمية كلامه أو شعره, وأنه تكفي في أهميته أنه صادر منه.
وعلى هذا فما الذي كان الرسول(ص) يخاف فيه الناس وينتظر الفرصة السانحة، رغم أنه لم يخف جور مشركي مكة وإنما هزّ مجتمعهم وبيّن سخفهم وسخف آلهتهم ووبّخهم على اتّباعهم لإبائهم وعبادتهم الأوثان بلا أدنى تخوّف وارتياب. وهذا أمر يلاحظ بمطالعة سيرته الصمودية الرائعة؟
إنه إذاً أمر عظيم يصحّ أن يقال بصدده {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[6]، فكأنك إذ لم تبلّغه لم تصل إلى غرضك الأقصى ولم تبلغ الرسالة نفسها.
ولا يصحّ أن يدّعى ـ مع هذا ـ أنّ ذلك الذي أنزل من ربه هو شيء من أحكام المواريث أو الحدود أو الأطعمة والأشربة وأشباهها.
بل إننا لو تتبّعنا أحكام الإسلام وتشريعاته فرداً فرداً من مطلع الأمر لم نجد شيئاً يقبل الذهن العرفي أن يقال في حقّه أنّ في تركه تركاً للرسالة نفسها، أو يتصور انتظار النبي صلى الله عليه وآله للفرصة في تبليغه خوفاً من الناس. اللهم إلا أن يكون ذلك في حدّ الرسالة نفسهاـ عقلاً أو عرفاً ـ وهو ما يرتبط بشأن الولاية والقيادة الاجتماعية الكبرى للأمة الإسلامية التي يفترض فيها أن تكون هي التي تحمل الهدى للعالم بعد أن يربّيها الإسلام على يد قادتها الحقيقيين الذين يبلّغونها واقع الإسلام ونظراته في مختلف شؤونهم الحيوية فردية أو اجتماعية.. وهو أمر يكمل به الدين وتتمّ به النعمة، وبدونه تندرس الشريعة بعد تشتت الطرق وضياع الواقع وتفرّق الأمة وتسلّط الاهواء لا محالة.
نعم، ليس هناك ما يمكن تصوّر إرادته غير هذا الشأن العظيم.
ومعه يمكن تصوّر الجوّ الذي عبّرت عنه الآيات الكريمة.
والحقيقة أننا عرفنا هذا مع رعاية السياق وقبول وحدته. ومن الواضح أنّ الآيات لا تحمل عليها من ناحية السياق والموقع معاني زائدة على معاني متونها، إلاّ أن يشكّل السياق قرينة تصرف ذهن العرف إلى أمور معيّنة تناسب تلك القرائن.
وأما بناء على نزول آية التبليغ منفردة ـ كما هو مقتضى الروايات التي وردت في شأن نزولها ـ فالأمر أظهر وأجلى.
والروايات التي تؤيد ما نستنتجه من هذه الآيات متواترة عن الشيعة والسنة.
فعن السنة روايات متظافرة عن سبعة نفر من الصحابة:
1ـ رواية زيد بن أرقم:
عن الحافظ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في (كتاب الولاية في طرق حديث الغدير) عن زيد بن أرقم قال: لَمّا نزل النبي صلى الله عليه وآله بغدير خم في رجوعه من حجة الوداع وكان في وقت الضحى وحر شديد أمر بالدوحات فقمّت ونادى(الصلاة جامعة)، فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال:
إنّ الله تعالى أنزل إليّ {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[7] وقد أمرني جبرائيل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد وأعلم كل أبيض وأسود أنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام بعدي. فسألت جبرائيل أن يستعفي لي ربي لعلمي بقلة المتقين وكثرة المؤذين لي واللائمين لكثرة ملازمتي لعلي وشدة اقبالي عليه حتى سمّوني (اذناً) فقال تعالى {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ}[8] ولو شئت أن اسمّيهم وأدل عليهم لفعلت، ولكنّي بسترهم قد تكرّمت، فلم يرض الله إلا تبليغي فيه.
فاعلموا معاشر الناس ذلك، فإن الله قد نصّبه لكم ولياً وإماماً، وقد فرض طاعته على كل أحد، ماض حكمه، جائز قوله، ملعون من خالفه مرحوم من صدّقه.
اسمعوا وأطيعوا، فإن الله مولاكم وعلي إمامكم، ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى القيامة، لا حلال إلاّ ما أحلّه الله ورسوله، ولا حرام إلاّ ما حرّم الله ورسوله وهم، فما من علم إلا وقد أحصاه الله فيّ ونقلته إليه، فلا تضلّوا عنه ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، لن يتوب الله على أحد أنكره ولن يغفر له، حتماً على الله أن يفعل ذلك: أن يعذبه عذاباً نُكراً أبد الأبدين.
فهو أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعون من خالفه، قولي عن جبرائيل عن الله، فلتنظر نفس ما قدمت لغد.
افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسّر ذلك لكم إلا مَنْ أنا آخذ بيده، وشائل بعضده ومعلّمكم أنّ مَنْ كنت مولاه فهذا علي مولاه، وموالاته عن الله عز وجل أنزلها علي. ألا قد أدّيت. ألا وقد أبلغت. ألا وقد أسمعت. ألا وقد أوضحت. لا تحل امرة المؤمنين بعدي لأحد غيره.
ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله مع ركبة النبي صلى الله عليه وآله وقال:
معاشر الناس! هذا أخي ووصيي وواعي علمي وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربي.
وفي رواية: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، والعن من أنكره، واغضب على من جحد حقه. اللهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في علي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[9] بإمامته، فمن لم يأتمّ به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى القيامة فأولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون. إنّ ابليس أخرج آدم عليه السلام من الجنة مع كونه صفوة الله بالحسد، فلا تحسدوا فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم.
في علي نزلت سورة {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[10].
معاشر الناس، آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل معه من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارهم أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت. النور من الله فيّ ثم في علي ثم في النسل منه إلى القائم المهدي.
معاشر الناس، سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأنّ الله وأنا بريئان منهم، إنهم وأنصارهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار، وسيجعلونها ملكاً اغتصاباً، فعندها يفرغ لكم أيها الثقلان، ويرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ـ الحديث[11].
2ـ رواية أبي سعيد الخدري
عن ابن أبي حاتم وابن مردويه والواحدي النيسابوري باسنادهم إلى أبي سعيد الخدري أنّ الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم في علي بن أبي طالب[12].
3ـ رواية ابن عباس:
عن الحافظ أبي عبد الله المحاملي بإسناده عن ابن عباس قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وآله أن يقوم بعلي بن أبي طالب المقام الذي قام به، فانطلق النبي(ص) إلى مكة فقال: رأيت الناس حديثي عهد بكفر. بجاهلية، ومتى أفعل هذا به يقولوا صنع هذا بابن عمه.
ثم مضى حتى قضى حجة الوداع ثم رجع حتى إذا كان بغدير خم أنزل الله عز وجل(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ـ الآية ـ فقام منها فنادى(الصلاة جامعة) ثم قام وأخذ بيد علي ـ رضي الله عنه فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال والاه، وعاد من عاداه[13].
وروى الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي في كتابه(ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين) عن ابن عباس أنّ الآية نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب[14].
4ـ رواية جابر بن عبد الله الانصاري:
عن الحافظ الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) بإسناده عن ابن عباس وجابر الانصاري قالا: أمر الله تعالى محمداً أن ينصّب علياً للناس فيخبرهم بولايته، فتخوّف النبي صلى الله عليه وآله أن يقولوا: حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه. فأوحى الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} فقام رسول الله صلى الله عليه وآله بولايته يوم غدير خم[15].
5ـ رواية البراء بن عازب:
عن السيد علي الهمداني في (مودة القربى) عن البراء بن عازب قال: أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع، فلما كان بغدير خم نودي(الصلاة جامعة)، فجلس رسول الله (ص) تحت شجرة وأخذ بيد علي وقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال: ألا، من أنا مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا علي بن ابي طالب! أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وفيه نزلت {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}[16].
6ـ رواية أبي هريرة:
عن شيخ الإسلام ابي اسحاق الحمويني في كتابه (فرائد السمطين) عن مشايخه الثلاث السيد برهان الدين ابراهيم بن عمر الحسيني المدني، والشيخ الإمام مجد الدين عبد الله بن محمود الموصلي، وبدر الدين محمد بن محمد بن أسعد البخاري بإسنادهم عن ابي هريرة أن الآية نزلت في علي[17].
7ـ رواية ابن مسعود:
عن القاضي الشوكاني في تفسيره(فتح القدير) عن ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى عليه وآله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ـ أن علياً مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)[18].
* * *
وعن الشيعة روايات كثيرة جداً:
(منها) ما رواه ثقة الإسلام الكليني عن الفضلاء عن مولانا الباقر عليه السلام قال: فأمر الله محمداً صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم الولاية كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج. فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (ص) وتخوف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [19]} فصدع بأمر الله ـ تعالى ذكره ـ فقام بولاية علي عليه السلام يوم غدير خم، فنادى( الصلاة جماعة) وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب.[20]
(ومنها) ما رواه الكليني أيضاً عن مولانا ابي عبد الله عليه السلام في حديث طويل، قال: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله من حجة الوداع نزل عليه جبرائيل عليه السلام فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[21]، فنادى الناس فاجتمعوا، وأمر بسمرات فقم شوكهن، ثم قال صلى الله عليه وآله (يا) أيها الناس من وليكم وأولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: الله ورسوله. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ـ ثلاث مرات[22].
(ومنها) ما رواه شيخنا الطبرسي في الاحتجاج مسنداً إلى مولانا ابي جعفر الباقر عليه السلام في حديث طويل، قال فيه: فلما بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبرائيل عليه السلام على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهاء والعصمة من الناس. فقال: يا محمد، إنّ الله عز وجل يقرئك السلام ويقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ـ في علي ـ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وكان أوائلهم قريباً من الجحفة، فأمره أن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ليقيم علياً للناس ويبلغهم ما انزل الله في علي عليه السلام، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس. فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله عندما جاءت العصمة منادياً ينادي في الناس (الصلاة جامعة) ـ إلى أن قال ـ وأؤدي ما أوحي إليَّ حذراً من أن لا أفعل فتحل لي منه قارعة لا يدفعها عني أحد وإن عظمت حيلته، لأنه قد أعلمني أنّي إن لم أبلّغ ما أنزل إليّ فما بلغت رسالته. وقد ضمن لي تبارك وتعالى ـ العصمة، وهو الله الكافي الكريم.
فأوحى الله إليّ: بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ـ يعني في الخلافة لعلي بن أبي طالب ـ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته[23].
(ومنها) ما رواه العياشي في تفسيره بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالاً: امر الله محمداً صلى الله عليه وآله أن ينصّب علياً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوّف رسول الله(ص) أن يقولوا: حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك. فأوحى الله إليه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فقام رسول الله صلى الله عليه وآله بولايته يوم غدير خم[24].
________________________________
[1] سورة المائدة، الآية: 65ـ 68.
[2] سورة المائدة، الآية: 64.
[3] سورة الأنبياء، الآية: 105.
[4] سورة المائدة، الآية: 64.
[5] سورة المائدة، الآية: 67.
[6] سورة المائدة، الآية: 67.
[7] سورة المائدة، الآية: 67.
[8] سورة التوبة، الآية: 61.
[9] سورة المائدة، الآية: 3.
[10] سورة العصر، الآية: 1، 2.
[11] الغدير: ج1، ص 214 ـ 216، نقلاً عن ضياء العالمين.
[12] الغدير: ج1، ص 216، ح 2و 5، ص 218، ح 8، و ص 222 عن الشوكاني في فتح القديرج3، ص 57.
[13] الغدير: ج1، ص 52، وص 216.
[14] الغدير: ج1، ص 216، ح4.
[15] الغدير: ج1، ص 219، ح10.
[16] الغدير:ج1، ص 220، ح 17.
[17] الغدير: ج1، ص 220، ح 16.
[18] الغدير: ج1، ص 222، ح 27.
[19] سورة المائدة، الآية: 67.
[20] اصول الكافي: ج1، ص 289. وقد مضى تمام الحديث في ذيل آية الولاية ص 75.
[21] سورة المائدة، الآية: 67.
[22] اصول الكافي: ج1، ص 295.
[23] الاحتجاج طبعة النجف ج1، ص 69.
[24] غاية المرام: ص 336، ج4.
 


آية الاكمال

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[1]
قبل البحث
وقبل كل شيء يجب أن نلاحظ أنّ المقطع الشريف {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ..} يتعرض لموضوع مستقل عن مطلع الآية وعن ذيلها أيضاً، وذلك سواء قلنا: أنّ هذا المقطع نزل في هذا الموضع من أول الأمر، أو قلنا أنّ النبي صلى الله عليه وآله هو الذي أمر بوضعه في هذا الموضع رغم اختلاف نزوله عن الصدر والذيل، أو قلنا أنه موضوع بهذا الموضع عند الجمع القرآني.
وإذا كان هذا المقطع {الْيَوْمَ يَئِسَ..} مستقلاً عن مطلع الآية وختامها، فهو مرتبط تمام الارتباط بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} بحسب المضمون والأخبار.
وهذا المقطع الشريف يعلن حقيقة كبرى وبشارة عظمى للمسلمين بأن قد يئس أعداؤهم الكفار من أن يمحوا دينهم، فلا خشية منهم على شيء، وإن قد أكمل الله دينه وأتمّ نعمته ورضي الإسلام ديناً للأمة.. وهذا المعنى تدل عليه بعض الآيات الشريفة الأخرى والروايات المتظافرة وكتب التاريخ المعتمد عليها.
متى كان هذا اليوم؟
قد احتملت في هذا اليوم عدة احتمالات، فمنها:
(الاحتمال الأول) ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره من أنه كلام جار على عادة أهل اللسان، ومعناه أن لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار. وذلك كما يقال مثلاً: كنت شاباً بالأمس وعدت اليوم شيخاً. فالمقطع الشريف يتحدث عن حقيقة كانت قائمة آنذاك حيث انتشرت ألوية الإسلام، وعلت قوّته، وزال خوف المسلمين من الكفار بعد أن هزموا وغلبوا، فيئسوا من الغلبة والانتصار على المسلمين، فقال تعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ..}.
ولكن هذا الاحتمال مردود لأمور:
الأول: إنّ هذا الاستعمال وإن كان عرفياً لكنه استعمال مجازي لا حقيقي، وإذا أمكن الاستعمال الحقيقي كان احتماله مقدّماً على احتمال الاستعمال المجازي.
الثاني: أنه لو صحّ هذا التفسير للمقطع الشريف لكان نزوله يوم فتح مكة أجدر من نزوله في غيره.
الثالث: أنه إن كان المراد من اكمال الدين هو الاكمال التشريعي فلابد من اثبات عدم نزول حكم بعد نزول الآية، مع أنه قد وردت روايات كثيرة تدل على نزول أحكام بعد ذلك اليوم كآية الكلالة وآية الربا ونحوهما.. فالإكمال التشريعي أمر تأباه الروايات الكثيرة من قِبَل الفريقين.
أما ما قال به القفال واختاره الرازي من أنّ معنى الاكمال هو أنّ الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، ولكن الشريعة الإسلامية في آخر زمان البعثة صارت كاملة الى يوم القيامة.
فهو مما لا محصل له ولا يؤبه له.
الرابع: أنّ هذا الاحتمال لا ينسجم مع أي ترابط بين قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ..} وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ..} مع أنهما منسجمان كمال الانسجام.
(الاحتمال الثاني): ما قال به الشيعة، وهو أنّ المراد بهذا اليوم هو يوم غدير خم، أي الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة, وأنّ هذا المقطع الشريف قد نزل في أمر ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وخلاصة هذا الرأي: أنّ الكفار بعد أن رأوا حقيقة الانتصار الإسلامي وأذعنوا لسيطرة الإسلام وتوسّعه لم يبق لديهم أمل في إيقاف الزحف الإسلامي إلى معاقلهم، وتفتت القوى الإسلامية النامية إلا أن يتربّصوا بالنبي صلى الله عليه وآله ريب المنون، حيث تموت الحركة بموت قائدها وباعثها.. وذلك بعد أن صوّرت لهم أوهامهم أنّ قيادة الرسول (ص) للحركة الإسلامية الكبرى شبيهة بالقيادات الدنيوية المادية الأخرى، التي ذاب أتباعها بعد أن مات القائد. وهو ما ينطبق عليه التعبير القرآني الشريف {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [2]} لأن شانئ النبي صلى الله عليه وآله إنسان لا يحمل هدفاً أو رسالة.
هكذا تصوّر أعداء الإسلام واقع الإسلام، ولكنهم فوجئوا بالقيادة الإسلامية الأولى تعلن عن القيادة الإسلامية التي ستخلّفها في حفظ الدين والقيام على التجربة الإسلامية وتوسيع مجالها وتعميق الجانب التربوي في حملتها.. وإذا بالقيادة النبوية التي ظنّوها ستنتهي تعلن عن الإمامة التي هي الامتداد الطبيعي لها، فتلقّى الكفار في وهدة اليأس من الظفر والعمل على تحطيم الدين، وذلك حين رأت القيادة الشخصية تسلّم الأمر إلى القيادة النوعية المتمثلة في الأئمة عليهم السلام.
ولا ريب في أنّ هذه العملية التاريخية تستحق أن تكون اكمالاً للدين بالضرورة بعد أن انتقلت بالإسلام من حالة الحدوث إلى حالة الاستمرار والبقاء، ليقوم بدوره التاريخي العظيم في مجال إيصال البشرية إلى كمالها المنشود. فالإمامة والولاية هي الضمان الأول لاستمرار التجربة الإسلامية الكبرى، وبتعيين الإمام تكمل الاطروحة الإسلامية للحياة الإنسانية، وبه تتم النعمة ويرضى الله الإسلام ديناً خالداً للبشرية.
وعليه، فإن محصل معنى الآية الشريفة هو التأكيد على يأس الكفار عن الدين في يوم الغدير حيث أكمل الله للأمة دينها بفرض الولاية والإمامة، وأتمّ عليها بذلك النعمة، ورضي لها الإسلام ديناً.
ومثل هذا التفسير لا يمكن أن يُشكَل عليه بأي إشكال.
الدليل على صحة هذا التفسير:
بعد أن لاحظنا أنّ التفسير الشيعي لهذا المقطع الشريف هو التفسير الطبيعي المنسجم، لابد من الرجوع إلى الآيات والروايات لإثباته ونفي أي تفسير غيره.
وروايات الشيعة الدالة على هذا الأمر مستفيضة بل متواترة. إلا أنّ هناك من السنة من يقول بأن المراد به يوم عرفة من ذي الحجة من تلك السنة مستدلاً بروايات تنتهي إلى علي عليه السلام ومعاوية وسمرة وعمر.
والغريب جداً أن نجدهم معرضين عن روايات مستفيضة لديهم تصرّح بأن الآية نزلت يوم غدير خم في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.. فهم لا يتعرّضون لها، وكأنها ليست بمستفيضة لديهم. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عدم موضوعية وتحيّز سافر وعناد.
نعم، نقل صاحب(الدر المنثور) وصاحب(روح البيان) روايتين من الروايات الدالة على أنّ الآية نازلة في الغدير، ولكنهما وصفا الروايتين ـ وتنتهيان إلى أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ـ بالضعف السندي.
والواقع:
أولاً: إنّ الروايات التي تدل على أنّ المراد باليوم يوم الغدير وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من سنة حجة الوداع حيث وقف الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في غدير خم بعد رجوعه من مكة، هذه الروايات لا تنحصر سنداً في ما ذكره هذان المؤلفان، بل رويت عن أبي سعيد وأبي هريرة وزيد بن أرقم وجابر بن عبد الله الانصاري وابن عباس ومجاهد والإمامين الباقر والصادق عليهما السلام بطرق عديدة.
وثانياً: أن الروايات المنتهية إلى أبي هريرة وأبي سعيد الخدري صحيحة سنداً على موازين القوم أنفسهم، فقد أثبت العلامة المرحوم الأميني أنها صحيحة دلالة وسنداً وفق قواعدهم التي بنوا عليها.
وثالثاً: أن الروايات الواردة في نزولها يوم عرفة ضعيفة سنداً غير ما روي منها عن عمر، كما ذكر ذلك الاستاذ العلاّمة الطباطبائي ـ مد ظله العالي ـ في تفسيره القيّم (الميزان).
ورابعاً: أن هذه الروايات التي تدل على نزول هذا المقطع الشريف في قضية الولاية مؤيدة بالروايات الواردة في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ..}[3] كما أثبتناه، وكذلك تؤيد بالروايات الواردة في سبب نزول قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [4]}. فراجع تلك الروايات وتأملها بدقة تجدها مؤيدة بوضوح لما قلناه.
وخامساً: أننا لو قلنا أنّ الاحتمالات الأخرى في الآية غير الاحتمال الشيعي خالية من إشكالات واردة عليها فلقائل أن يقول: بأن الروايات المرويّة في هذه الاحتمالات مخالفة للكتاب، فيجب طرحها والأخذ بالروايات المؤيدة للاحتمال الشيعي، وهو ما قاله الاستاذ العلامة الطباطبائي ـ دام ظله ـ.
وسادساً: نجد أنّ احتمال الفخر الرازي ـ وهو كون المراد باليوم هو اليوم العام النوعي ـ مردود بما روي عن عمر من أنه قال له بعض أهل الكتاب: إن في القرآن آية لو نزلت علينا مثلها لاتخذنا اليوم عيداً، وهي قوله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[5]. فقال: والله إنّي لا علم اليوم، وهو يوم عرفة من حجة الوداع. ذلك أنّ هذا الخبر صريح في أنّ المراد هو يوم معيّن مشخّص لا غير.
وسابعاً: أننا لو أغمضنا النظر عن الإشكالات السابقة وقلنا بصحة الروايات التي تروي نزول الآية في غير يوم الغدير، وجب أن نلاحظ قوانين التعارض بين الأخبار، وليس من الموضوعية في شيء أن نلتزم بأحد الجانبين المتعارضين دون الآخر بلا ملزم، بل مع رجحان الجانب الآخر.
***
ومما يحلّ المشكلة أنه يمكن الجمع بين النوعين من الروايات بوجهين:
(الوجه الأول) ما قال به سبط ابن الجوزي من نزول الآية مرّتين.
وليس هذا بِدْعاً في الآيات، فكم له من نظير! وقد جمع العلاّمة الأميني ـ رحمه الله ـ الآيات النازلة مرّتين بعد أن بحث في قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}.
(الوجه الثاني) ما قال به العلامة الأميني وسدده العلامة الطباطبائي ـ دام ظله ـ من أنه يحتمل الاختلاف بين يوم النزول ويوم التلاوة، على أساس أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يتّقي الناس في إظهار أمر الولاية خشية أن يتلقوه بالقبول فيختل أمر الدعوة، أو تقع الفرقة والاختلاف في الأمة الإسلامية، فكان لا يزال يؤخره من يوم إلى يوم منتظراً سنوح الفرصة المناسبة حتى نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}[6].
وبهذا يكون من الجائز أن يكون نزول معظم السورة ـ ومنه قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ـ إلى قوله ـ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[7] يوم عرفة إلا أنّ النبي صلى الله عليه وآله أخرّ بيان الولاية ـ لِمَا مرّ ـ إلى يوم غدير خم.
وعليه، فيرتفع التعارض بين القسمين من الروايات بأن يكون ما دل على نزول الآية يوم عرفة ينظر إلى يوم النزول، وما دل على أنّ المراد هو يوم غدير خم ينظر إلى يوم التلاوة والتبليغ، وتنطبق الآية حينئذ على أمر الولاية.
وحقيقة الأمر: أننا لو تدبّرنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}[8] والروايات الواردة في سبب نزوله، وتأملنا قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ـ إلى قوله تعالى: ـ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} والروايات الواردة في سبب نزوله أيضاً والتعارض الذي يتراءى فيها. ولاحظنا الروايات الواردة في قضية غدير خم الكبرى، وركّزنا على الأوضاع الداخلية للمجتمع الإسلامي آنذاك، أي في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وآله ودور الكفار ومؤامراتهم وحقدهم الذي تعبرّ عنه الآية القرآنية الشريفة على لسانهم {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[9]. حيث نجدهم يطلبون العذاب على فرض كون النبي على حق، وهو منتهى العناد الذي تعبرّ عنه آية أخرى هي {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}[10]، على ضوء الروايات الواردة في سبب نزولها.. إذا لاحظنا كل هذا قطعنا وعلمنا بأن أمر الولاية كان نازلاً قبل يوم الغدير، ويكون هذا شاهداً لهذا الجمع.
الروايات من الفريقين:
فعن السنة توجد روايات متظافرة رواها جمع من الصحابة:
(منها) ما رواه ابراهيم بن محمد الحمويني بسنده إلى أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي صلى الله عليه وآله يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر الناس بما كان تحت الشجرة من الشوك فقم، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي عليه السلام، فأخذ بمعصمه فرفعها حتى رأى الناس إلى بياض ابطه، ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا[11] فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر على اكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي والولاية لعلي عليه السلام.
ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله[12].
وقريب من ذلك رواية أخرى رواها أبو نعيم الاصبهاني في كتابه(ما نزل من القرآن في علي) وأبو سعد السجستاني في كتاب (الولاية) والحاكم الحسكاني وابن عساكر وموفق أحمد الخوارزمي في (المناقب) وغيرهم[13].
(ومنها) ما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه وآله بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فأنزل الله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ـ الآية}[14].
(ومنها) ما عن جابر الانصاري وأبي سعيد الخدري، قالا: لما نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ـ الآية ـ} قال النبي صلى الله عليه وآله: الله اكبر على اكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب بعدي[15].
وعن الشيعة أيضاً روايات كثيرة:
(منها) ما عن الصادقين عليهما السلام أنه أنزل الله بعد أن نصّب النبي صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام علماً للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع. قالا: وهي آخر فريضة أنزلها الله تعالى، لم ينزل بعدها فريضة[16].
وقريب منه سائر ما رواه البحراني ـ رضوان الله عليه ـ في هذا الباب عن علي بن ابراهيم القمي والطبرسي والعياشي ـ في تفاسيرهم ـ والطوسي في أماليه والطبرسي في الاحتجاج وابن بابويه في اماليه وغيرهم.
(ومنها) ما رواه في الخصائص عن الصادقين عليهما السلام قالا: نزلت هذه الآية(يعني آية التبليغ) يوم الغدير، وفيه نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
قال: وقال الصادق عليه السلام: أي اليوم أكملت لكم دينكم بإقامة حافظه، وأتممت عليكم نعمتي أي بولايتنا، ورضيت لكم الإسلام ديناً أي تسليم النفس لأمرنا[17].
(ومنها) ما رواه في (الكافي) عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز وجل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.
قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذا فريضة، قد اكملت لكم الفرائض.[18].
وقد مر تمام الحديث في ذيل آية الولاية فراجع.
__________________________
[1] سورة المائدة، الآية: 3.
[2] سورة الكوثر، الآية: 3.
[3] سورة المائدة، الآية: 67.
[4] سورة المعارج، الآية: 1.
[5] سورة المائدة، الآية: 3.
[6] سورة المائدة، الآية: 67.
[7] سورة المائدة، الآية: 3.
[8] سورة المائدة، الآية:67.
[9] سورة الأنفال، الآية: 32.
[10] سورة المعارج، الآية: 1.
[11] سورة المائدة، الآية: 3.
[12] غاية المرام: ص 337، ح2.
[13] الغدير: ج1، ص 231 ـ 234.
[14] الغدير: ج1، ص 233.
[15] الغدير: ج1، ص 234.
[16] غاية المرام: ص 338، ح4.
[17] الغدير، ج1، ص 234.
[18] اصول الكافي: ج1، ص 289.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية