آية علم الكتاب
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[1].
موقف الكفار من النبي(ص)
هذه الآية المباركة خاتمة سورة الرعد المكية, التي تتعرّض كغيرها من السور المكية
إلى شبهات الجاحدين والمعاندين، وتعاميهم عن الآيات الواضحة والحجج الساطعة على
الحق والرسالة، وطلبهم من النبي صلى الله عليه وآله الحجة تلو الحجة تبريراً
لعنادهم وجحودهم.
ومنها مثلاً:
قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ
يَنبُوعًا} إلى قوله تعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ}[2].
وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن
رَّبِّهِ}.
ومن الواضح أنّ إعراضهم لم يكن لنقص في حجج النبي صلى الله عليه وآله، وآياته، ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون، فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.
وفي مجال الرد على أمثال هؤلاء يلقّن الله رسوله تارة بأن يقول لهم {إِنَّ اللّهَ
يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ[3] متعجباً من موقفهم المعاند
المكابر بعد كل هذه الآيات الساطعة التي اُوتيها الرسول صلى الله عليه وآله، وكفى
بالقرآن وحده آية قاطعة لا تقبل الجدل والرد.
فإذا كانوا يجحدون بكل هذه الآيات فبأي حديث بعده يؤمنون؟!
وأخرى يأمره أن يقول في جواب اقتراحهم للآيات الست {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا[4] وفي هذا
الجواب تثبيت للنبي صلى الله عليه وآله وتقوية له، فلن يضرّه جحود الكافرين وعنادهم
بعد أن كان الله شهيداً بينه وبينهم وكفى بالله شهيداً.
ومن هنا رأينا الفرزدق الشاعر يقول في قبال تعامي هشام بن عبد الملك عن شخصية
الإمام زين العابدين عليه السلام:
وليس قولك (من هذا؟) بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
وهذا الجواب بنفسه تحقير لأولئك المعاندين بقدر ما هو تقوية للحق وتثبيت لقلب
الرسول صلى الله عليه وآله. ونجده تعالى ـ ثالثة ـ يلقّنه صلى الله عليه وآله أن
يطلب اليهم ـ مبكتاً لهم ـ أن يرجعوا إلى آيات الله الماثلة في كل شيء، ونعمه
الغامرة للكون، والتي يتقلّب فيها الناس،ثم يطلب اليه أن يتحدّاهم بمعجزته الخالدة
حيث يقول تعالى {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[5].
إلى غير ذلك من أساليب الجواب في القرآن الكريم.
أما إذا ركّزنا النظر على هذه الآية المبحوث عنها وجدنا أنها تعرض تكذيباً من قِبَل
أعداء الإسلام للنبي صلى الله عليه وآله وترد عليه بالأسلوب الثاني من الاساليب
الماضية، أي اسلوب تسلية النبي صلى الله عليه وآله وتقوية عزيمته من جهة، وتحقير
المعاندين والاستخفاف بهم من جهة أخرى.
ذلك أنّ أعداء الحق من دأبهم التشبّث بكل وسيلة ممكنة لإطفاء نوره ومحو حجّته أو
إضعافه فعلاً أو قولاً ـ على الأقل ـ .
أما الوقوف العملي فقد تحدث عنه القرآن الكريم والتاريخ بما لا مزيد عليه، وأما
الوقوف القولي بوجهه فقد اتخذوا له أشكالاً مختلفة:
فقد كانوا ينسبون اليه (ص) السحر والجنون ونحوهما، هادفين إلى أن يفتنوه عن الذي
أوحاه الله تعالى اليه ويضعفوا من عزمه الراسخ.
كما كانوا يشيعون تكذيبهم له ويعلنونه، محاولين الضغط النفسي عليه صلى الله عليه
وآله كي يبخع نفسه وينهار غماً وحسرة؛ لأن أقل ثمن للحق هو التصديق به. أما انكاره
والتعامي عنه فمما يبعث على الاسف والحسرة. ولعمرك هذا من أشجى المحن. ومن هنا يقول
القرآن الكريم تسليةً للنبي صلى الله عليه وآله وتسكيناً لقلبه:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفًا}[6].
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[7].
{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[8].
نعم، إنّ هذا العناد والتكذيب السخيف للحق والرسالة ينتج الحزن والحسرة، خصوصاً في
قلب حامل الرسالة، المتألّم لها، العامل على نشر العدل في الأرض بعد أن يرى أمامه
هؤلاء الجاهلين يقفون حجر عثرة في سبيل هدفه العظيم.. وقد أدرك الجاحدين مدى حرص
النبي صلى الله عليه وآله على نشر رسالته وحمله لها، فراحوا يزيدون من حربهم
النفسية ضده، فتارة يجحدون آيات الرسالة، وأخرى يجحدون الرسالة نفسها لإضعاف عزمه
وتثبيت همّته.
ولكن الله العظيم كان يمدّ نبيه صلى الله عليه وآله بالعزم القوي والتثبيت تلو
التثبيت،ليشد من أزره ويزيد من إصراره على الحق، دون أي التفات لتقوّلات الجاحدين،
فيقول تارة:
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ
حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ}[9].
وأخرى يقول تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ..}[10]
ليؤكد له أن لا وزن لتكذيبهم وجحودهم بعد أن شهد الله ـ وهو أكبر الشهود ـ على
رسالته, إذ أوحى اليه القرآن الكريم معجزة خالدة تتحدى الجميع من جهة، وتثبت رسالة
الرسول الأعظم من جهة أخرى بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[11]. وهي
شهادة إلهية عظمى لا تعدلها شهادة، ولا يضر معها جحود هؤلاء بل جحود أهل الأرض.
{إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ
حَمِيدٌ}[12].
الشهادة الثانية وفضلها
إنّ الآية الكريمة تذكر شهادتين عظيمتين: إحداهما شهادة الله وما أعظمها من شهادة!!
والأخرى شهادة مَنْ عنده علم الكتاب، وكفى باقتران شهادة مَنْ عنده علم الكتاب
بشهادة الله تعالى كرامةً وفضلاً لها.
ومن الواضح أنّ سرّ هذه الكرامة والجلالة هو توفّره على (عِلْمُ الْكِتَابِ)، فما
أجلَّ هذا العلم وأرفع قدره!
وقد كشف القرآن الكريم عن شيء من حقيقته في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {قَالَ
الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[13]، فتحدّث عن عمل عجيب خارق للعادة، وهو جلب عرش بلقيس من سبأ
خلال أقل من ارتداد الطرف، ونسبه إلى مَنْ عنده علم من الكتاب. وإذا كان هذا شأن
مَنْ عنده علم من الكتاب فما هو يا ترى شأن من عنده علم الكتاب كله؟! {ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[14].
من هو هذا الذي عنده علم الكتاب؟
إذا لاحظنا اتصاف شهادة هذا الشاهد الثاني بالكفاية للرسول صلى الله عليه وآله في
دعوته، وصحتها واقترانها بشهادة الله تعالى، توضّح لدينا أنه لا يمكن أن يكون هذا
الشاهد هو ما جاء في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ}[15]،
أو ما جاء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء
بَنِي إِسْرَائِيلَ}[16]، حيث فسر بعلماء أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام. فلا
يمكن أن يكون ذلك الشاهد العظيم هو عبد الله بن سلام وأمثاله، سواء كانت الآية أو
السورة نازلة في مكة المكرمة أو المدينة المنورة.
ومن هنا يتضح الخلط الذي قد يشاهد عند بعض المؤلفين بين من عنده علم الكتاب وأهل
الكتاب، ظنّاً منهم بأنهما مفهومان متّحدان؛ ولذا فَهُم يطبّقونه على ابن سلام
وأمثاله. وتلك مغالطة نشأت من التشابه اللفظي بينهما. ولعل هؤلاء كانوا سيفسرون
آية: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ..}[17] أيضاً بذلك لولا وقوع
هذه الآية في قصة سيدنا سليمان ـ على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام ـ !.
وهذا الخلط والاشتباه والضلال في الواقع ناشئ من ترك التمسك بالثقلين، وقد امروا
بأن يتمسكوا بهما بقوله صلى الله عليه وآله في الحديث المتواتر بين الفريقين (إني
مخلف فيكم الثقلين، إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)[18]
وقد ورد عن العترة الطاهرة عليهم السلام في تفسير {عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ
الْكِتَابِ} روايات كثيرة جداً من طرق الفريقين. فعن طريق القوم روايات مستفيضة:
(منها) ما رواه الفقيه ابن المغازلي الشافعي مسنداً عن عبد الله بن عطاء، قال: كنت
عند أبي جعفر عليه السلام جالساً إذ مرّ عليه ابن عبد الله بن سلام، قلت: جعلني
الله فداك، هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا، ولكن صاحبكم علي بن أبي طالب
عليه السلام الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز وجل: ومن عنده علم الكتاب، أفمن
كان على بينّة من ربّه ويتلوه شاهد منه، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا [19].
وأما عن طرقنا فروايات متظافرة:
(منها) ما رواه ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني(ره) في الصحيح عن بريد بن
معاوية، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[20] قال: إيّانا عنى، وعلي أولنا
وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله[21].
(ومنها) ما رواه أيضاً مسنداً عن سدير قال: كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود
بن كثير في مجلس أبي عبد الله عليه السلام إذ خرج الينا وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه
قال: يا عجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل. لقد
هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت منّي، فما علمت في أي بيوت الدار هي.
قال سدير: فلما أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسر وقلنا له:
جعلنا فداك، سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ونحن نعلم أنك تعلم علماً
كثيراً ولا ننسبك إلى علم الغيب.
قال: فقال: يا سدير، ألم تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قال: فهل وجدت في ما قرأت من كتاب
الله عز وجل: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[22]؟ قال: قلت: جعلت فداك، قد قرأته. قال:
فهل عرفت الرجل وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال: قلت: أخبرني به. قال: قدر
قطرة من الماء في البحر الأخضر، فما يكون ذلك من علم الكتاب! قال: قلت: جعلت فداك،
ما أقل هذا! فقال: يا سدير، ما أكثر هذا أن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك
به. يا سدير، فهل وجدت في ما قرأت من كتاب الله عز وجل: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ
شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[23]؟ قال: قلت:
قد قرأته جعلت فداك. قال: أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب
بعضه؟ قلت: لا، بل من عنده علم الكتاب كله. قال: فأومأ بيده إلى صدره وقال: علم
الكتاب والله كله عندنا، علم الكتاب والله كله عندنا[24].
____________________________
[1] سورة الرعد،الآية: 43.
[2] سورة الإسراء، الآية: 90 ـ 93.
[3] سورة الرعد، الآية: 27.
[4] سورة الإسراء، الآية: 96.
[5] سورة الإسراء، الآية: 88.
[6] سورة الكهف، الآية: 6.
[7] سورة الشعراء، الآية:3.
[8] سورة فاطر، الآية:8.
[9] سورة الأنعام، الآية: 33 ـ 34.
[10] سورة الرعد، الآية: 43.
[11] سورة يس, الآية: 3.
[12] سورة إبراهيم،الآية: 8.
[13] سورة النمل، الآية: 40.
[14] سورة الحديد، الآية: 21.
[15] سورة الأحقاف، الآية: 10.
[16] سورة الشعراء، الآية: 197.
[17] سورة النمل, الآية: 40.
[18] مناقب ابن المغازلي: ص 134.
[19] اصول الكافي: ج1، ص 225، ح6.
[20] سورة الرعد، الآية: 43.
[21] أصول الكافي: ج1، ص 257 ح 3.
[22] سورة النمل، الآية: 40.
[23] سورة الرعد، الآية: 43.
[24] اصول الكافي: ج1 ص 257. ح3.
آية البينة
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ
وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يُؤْمِنُونَ}[1].
الإستفهام إنكاري، أي ليس من كان على بيّنة وكذا وكذا كغيره ممن ليس كذلك، نظير
قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ}[2].
البيّنة:
هي الدلالة الواضحة كما في المفردات، وبما أنّ الأمور الواضحة ربما تظهر بها
متعلقاتها كثر استعمالها في ما يتبيّن به غيره كالحجة والدليل.
ولذا تطلق في القرآن الكريم على الآيات ومعجزات الانبياء؛ لأنها فاصلة بين الحق
والباطل، وبها تبين، كقوله تعالى: في سورة الاعراف(الآية73) {قَدْ جَاءتْكُم
بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً}[3] وقوله تعالى:
حكاية عن نوح عليه السلام {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ
وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا
وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}[4] وقوله تعالى: حكاية عن قوم هود {مَا جِئْتَنَا
بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ}[5].
وقوله تعالى: حكاية عن صالح عليه السلام {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ
عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ
اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}[6] وقوله تعالى:
حكاية عن موسى عليه السلام {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ
مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[7]، إلى غير ذلك.
ووصف البيّنة بأنها من الرب تبارك وتعالى إنما يناسب الآية الإلهية لا الحجة
العقلية.
والمراد بها في الآية المبحوث عنها هو القرآن؛ لأنه المعجزة الخالدة كقوله {قُلْ
إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}[8]، وقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ
عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن
رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ
اللّهِ}[9]، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالموصول هو صاحب البيّنة ـ أعني النبي صلى
الله عليه وآله ـ وهو مبتدأ خبره محذوف، أي كغيره ممن ليس كذلك.
قوله تعالى: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}[10] الضميران فيه يرجعان إلى (من) مع
احتمال أن يكون مرجع الضمير في (يتلوه) هو البيّنة. و(يتلوه) من (التلو) لا من
(التلاوة) أي يلي صاحب البيّنة أو البيّنة، والأمر سهل.
فمعنى الآية: من كان على بيّنة هي القرآن ويتبعه بلا فصل شاهد منه, أي من هو من
نفسه صلى الله عليه وآله. وفي هذا تشريف وتعريف للشاهد بأنه من رسول الله(ص) أي
بعضه وبمنزلته، فلا ينطبق على مثل عبد الله بن سلام.
قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}[11] أي أولئك المؤمنون في مقابل الكفار،
أو هُمْ ونفس صاحب البيّنة والشاهد، فيكون بمثابة قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ..}[12].
ويحتمل أن تكون الجملة في مقام تسلية النبي صلى الله عليه وآله بأن أهل الكتاب
يؤمنون به، كقوله تعالى: في سورة العنكبوت (الآية 47) {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ
هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}[13]
وفي سورة الرعد(الآية 36) {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا
أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَه}[14] وفي سورة
القصص(الآية 52) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ
يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ
مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}[15].
قوله تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ}[16] المخاطب بهذا الخطاب هو النبي
صلى الله عليه وآله إلا أنه على نحو (إياك أعني واسمعي يا جارة) كما ورد في الآثار،
مثل ما رواه عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام قال:نزل القرآن بإياك
أعني وأسمعي يا جارة[17].
ونظير الآية في ذلك قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ
الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[18] وقوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا
أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ
لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[19]
وقوله تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[20]،
وقوله تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ}[21].
معطيات الآية الكريمة
الأول: أنّ هذا الشاهد هو من رسول الله صلى الله عليه وآله أي من بيته؛ لوجود(منه)
في الآية، وبذلك ينطبق على أهل البيت المذكورين في آية التطهير.
الثاني: أنّ هذا الشاهد يأتي تلو الرسالة لقوله تعالى: (يتلوه) وأنه بمنزلة النبي
صلى الله عليه وآله كما هو مفاد عبارة (وأنفسنا) الواردة في آية المباهلة، وأنّ
شهادته تساوق شهادة الله؛ لأنها اقترنت بها في قوله تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ}[22] كما مر. أما لو كان الضمير في (يتلوه) يرجع إلى واقع البيّنة أي
القرآن كانت الآية تركّز المضمون الذي ركّزه حديث الثقلين, الذي جعل العترة عِدْلاً
لكتاب الله ومُبيّنة له.
الثالث: أنه مما لا شك فيه أن الشهادة هنا شهادة التأدية، ولابد من أن يسبقها تحمّل
الشهادة. وليس هذا التحمّل عن إيمان بالنبوة، وإلا لَمَا كان هناك وجه لأن تختص
الشهادة بفرد معيّن كما يظهر من الآية، حيث جاء الشاهد بلفظ المفرد والتنكير. فلابد
إذن أن تكون مقوّمات شهادة هذا الشاهد مختلفة عن غيرها، وذلك بأن تكون شهادته عن
حضور وشهود لحقيقة النبوة ورؤية جبرائيل حامل الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وآله،
وبذلك ينفرد هذا الشاهد عن غيره.
ويؤيد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام (إنك تسمع ما أسمع
وترى ما أرى) كما جاء في الخطبة القاصعة الواردة في نهج البلاغة[23]، وما روي عن
الصادق عليه السلام أنه قال: كان علي عليه السلام يرى مع النبي صلى الله عليه وآله
قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت. وقال له الرسول(ص): لولا أني خاتم الأنبياء لكنت
شريكاً في النبوة[24].
الرابع: أنّ الشهادة إنما تكون لإزالة الريب والشك عن المدّعى، ولا يتمّ ذلك ـ
خصوصاً في هذا الأمر العظيم ـ إلا إذا انتفى السهو والنسيان عن الشاهد، إذ مع
احتمال الخطأ لا يزول الشك ولا يثبت المدّعى بهذه الشهادة. وواضح أنه لا يرتفع
احتمال الخطأ إلا مع كون الشاهد معصوماً.
الخامس: إننا إذا جمعنا بين هذه الآية والآية في آخر سورة الرعد عرفنا أنّ هذا
الشاهد المذكور هنا هو مَنْ عنده علم الكتاب المذكور هناك.
هذه خلاصة المعطيات التي نستفيدها من نفس الآية الشريفة بتأييد من الآيات الأخرى.
الشاهد كما ورد في الأحاديث
وفي المقام روايات كثيرة من طرق الفريقين في بيان الشاهد وأنه أمير المؤمنين عليه
السلام. فمما روي عن السنة ما رواه موفق بن أحمد الخوارزمي قال: كتب عمرو بن سعد بن
أبي العاص إلى معاوية في ردّ مكاتبته اليه في طلبه الإعانة على قتال أمير المؤمنين
عليه السلام، كتب إليه:
(من عمرو بن سعد بن أبي العاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى معاوية بن أبي
سفيان. وقد علمت يا معاوية ما أنزل الله تعالى في كتابه فيه من الآيات المتلوّات في
فضائله التي لا يشركه فيها أحد، كقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}[25]
و{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[26]، {أَفَمَن
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن
قَبْلِه}[27]. وقد قال الله تعالى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ}[28] وقد قال الله تعالى: لرسوله {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[29]. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ سلمك سلمي وحربك حربي. وتكون أخي
ووليي في الدنيا والآخرة.
يا أبا الحسن من أحبّك فقد احبّني، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني أدخله الله
النار. وكتابك يا معاوية الذي هذا جوابه ليس مما ينخدع به من له عقل أو دين.
والسلام)[30].
(ومنها) ما رواه الخوارزي أيضاً: قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}[31] قال ابن عباس: هو علي عليه السلام يشهد
النبي صلى الله عليه وآله وهو منه[32].
(ومنها) ما عن الحمويني مسنداً عن زادان قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: والذي
فلق الحبة وبرأ النسمة لو كسرت لي وسادة ـ يقول: ثنيت ـ فأجلست عليها لحكمت بين أهل
التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل
القرآن بفرقانهم. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي
إلا وأنا أعرف آية تسوقه إلى جنة أو تسوقه إلى نار. فقام رجل فقال: أيش[33] نزل
فيك؟ فقال علي عليه السلام: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} فرسول الله صلى الله عليه وآله على بيّنة من ربّه،
ويتلوه ـ أنا ـ شاهد منه[34].
وقريب منه باختلاف يسير ما رواه الثعلبي عن السبيعي[35]
(ومنها) ما عن الحمويني أيضاً عن ابن عباس: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} رسول
الله صلى الله عليه وآله {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} علي عليه السلام خاصة [36].
ورواه الثعلبي في تفسيره مسنداً عن ابن عباس[37].
(ومنها) ما رواه أبو نعيم الحافظ بثلاثة طرق عن عباد بن عبد الله الاسدي في خبر،
قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} رسول الله صلى الله عليه وآله على بيّنة من ربّه،
وأنا الشاهد[38].
ورواه النطنزي في الخصائص، وحماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، والقاضي عثمان بن أحمد
وأبو نصر العشير في كتابيهما، والفلكي المفسر عن مجاهد وعبد الله بن سداد.
وأما عن طرق الشيعة فروايات متظافرة أيضاً:
(منها) ما عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن حماد، عن
أبي الجارود، عن الاصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو كسرت لي
الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الانجيل بانجيلهم، وأهل
الفرقان بفرقانهم، بقضاء يصعد إلى الله يزهر. والله ما نزلت آية في كتاب الله في
ليلة أو نهار إلا وقد علمت في مَنْ أنزلت، ولا مر على رأسه المواسى إلا وقد نزلت
آية فيه في كتاب الله تسوقه إلى الجنة أو النار.
فقام اليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين فالآية التي نزلت فيك؟ قال: أما سمعت الله
يقول: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}؟
فرسول الله صلى الله عليه وآله على بيّنة من ربّه، وأنا شاهد له منه، وأتلوه
معه[39].
(ومنها) ما عن الشيخ في أماليه بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام قال يوم
الجمعة يخطب على المنبر فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من رجل قريش جرت عليه
المواسي إلا وقد نزلت فيه آية من كتاب الله عز وجل أعرفها كما أعرفه. فقام اليه رجل
فقال: يا أمير المؤمنين، ما آيتك التي نزلت فيك؟ فقال: إذا سألت فافهم، ولا عليك أن
لا تسأل عنها غيري! أقرأت سورة هود؟ فقال: نعم, يا أمير المؤمنين. قال: أفسمعت قول
الله عز وجل يقول: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ
شَاهِدٌ مِّنْهُ}؟ قال: نعم. قال: فالذي على بيّنة من ربّه محمد صلى الله عليه وآله
ويتلوه شاهد منه، وهذا الشاهد هو منه وهو علي بن أبي طالب، وأنا الشاهد، وأنا
منه[40].
(ومنها) ما عن الشيخ في مجالسه مسنداً عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن
الحسين عن الحسن عليهم السلام في خبطة طويلة خطبها بحضور معاوية وقال عليه السلام
فيها:
أقول: معشر الخلائق ولكم أفئدة وأسماع، وهو أنّا أهل بيت أكرمنا الله بالإسلام
واختارنا واصطفانا واجتبانا، فأذهب عنا الرجس وطهرنا تطهيراً. والرجس هو الشك، فلا
نشك في الله الحق ودينه أبداً، وطهرنا من كل أفن وعيبة مخلصين إلى آدم، نعمة منه.
لم يفترق الناس فرقتين إلا جعلنا الله في خيرهما، فات الامور إلى أن بعث الله
محمداً صلى الله عليه وآله للنبوة واختاره للرسالة وأنزل عليه كتابه، ثم أمره
بالدعاء إلى الله عز وجل، فكان أبي عليه السلام أول من استجاب لله تعالى ولرسوله،
وأول من آمن وصدق الله ورسوله. وقد قال الله تعالى في كتابه المنزل على نبيه المرسل
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} فرسول
الله صلى الله عليه وآله الذي على بيّنة من ربّه، وأبي عليه السلام الذي يتلوه، وهو
شاهد منه [41] ـ الخطبة.
(ومنها) ما عن العياشي عن بريد بن معاوية العجلي عن أبي جعفر عليه السلام قال: الذي
على بيّنة من ربّه رسول الله صلى الله عليه وآله، والذي تلاه من بعده الشاهد منه
أمير المؤمنين عليه السلام ثم أوصياؤه واحداً بعد واحد[42].
(ومنها) ما رواه العياشي أيضاً عن جابر بن عبد الله بن يحيى قال: سمعت علياً عليه
السلام وهو يقول: ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه آية أو آيتان من كتاب الله.
فقال له رجل من القوم: فما أنزل فيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أما تقرأ الآية التي
في هود {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}
؟ محمد صلى الله عليه وآله على بيّنة من ربّه، وأنا الشاهد[43].
____________________________
[1] سورة هود، الآية: 17.
[2] سورة محمد، الآية: 14.
[3] سورة الأعراف، الآية:73.
[4] سورة هود، الآية: 28.
[5] سورة هود، الآية: 53.
[6] سورة هود، الآية:63.
[7] سورة الأعراف، الآية: 105.
[8] سورة الأنعام، الآية:57.
[9] سورة الأنعام، لآية: 157.
[10] سورة هود، الآية: 17.
[11] سورة البقرة، الآية:121.
[12] سورة البقرة، الآية: 285.
[13] سورة العنكبوت، الآية: 47.
[14] سورة الرعد، الآية: 36.
[15] سورة القصص، الآية: 52، 53.
[16] سورة هود، الآية: 17.
[17] راجع المقدمة الرابعة من تفسير الصافي.
[18] سورة الأنعام، الآية114.
[19] سورة يونس، الآية: 94.
[20] سورة البقرة، الآية: 147.
[21] سورة آل عمران، الآية: 60.
[22] سورة الرعد، الآية: 43.
[23] رقم الخطبة 234، راجع شرح ابن ميثم: 4، ص 307.
[24] راجع شرح ابن ميثم: ج4، ص 318.
[25] سورة الإنسان، الآية:
[26] سورة المائدة، الآية: 55.
[27] سورة هود، الآية 17.
[28] سورة الأحزاب، الآية: 2.
[29] سورة الشورى، الآية: 23
[30] غاية المرام : ص 359، ح1.
[31] سورة هود، الآية: 17
[32] غاية المرام: ص 359، ح2.
[33] يعني أي شيء.
[34] غاية المرام: ص 359، ح4.
[35] غاية المرام: ص 360، ح9.
[36] غاية المرام: ص359، ح3.
[37] غاية المرام: ص 360، ح8.
[38] غاية المرام: ص 430، ح11.
[39] غاية المرام: ص 361، ح3.
[40] غاية المرام: ص 361، ح4.
[41] غاية المرام: ص 361، ح5.
[42] غاية المرام: ص 362، ح8.
[43] غاية المرام: ص 362، ح9.
آية المباهلة
{فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ
وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ}[1]
المحاجّة: هي تبادل الحجة، وهي ما يقصد به إثبات المدّعى، سواء كان دليلاً حقاً أو
مغالطة باطلة.
أما الابتهال: فهو الإسترسال في الدعاء والتضرّع. وقيل:هي كلمة مأخوذة من البهلة أي
اللعنة.
ويسبق هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ
آدَمَ..}[2] الذي يحتجّ به القرآن على النصارى الذين جعلوا ولادة المسيح عليه
السلام من غير أب دليلاً على كونه ابن الله، فردّ الله عليهم بأن مَثَله كمثل آدم
عليه السلام إذ خلقه من غير أب وأم، ولم يكن هذا دليلاً على بنوّته لله تعالى أو
ألوهيته، وكذلك الأمر في عيسى بن مريم(ع).
وهذه الحجة بقطع النظر عن كونها وحياً إلهياً هي حجة عقلية لا تقبل المعارضة, إلا
أنّ النصارى كانوا يجادلون ويبالغون في الجدال، ويصرّون على الضلال، فلم يكن ثمة
سبيل إلا بإرجاع الأمر إلى الله تعالى حتى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين. ومن هنا
فقد أمر الله تعالى رسوله أن يعرض عليهم مسألة الابتهال إلى الله كي يجعل لعنته على
الكاذبين، ويعلن صدق الصادقين.
وقد كان هذا التحدي الحسّي الكبير يشكّل حدّاً ومنعطفاً تاريخياً كبيراً للدعوة
الإسلامية وموقفها من أعدائها؛ لأنه الدليل الحاسم الذي لا يمكن تكذيبه.
ولكي يبدو بوضوح اطمئنان صاحب الدعوة المُباهَل، بدعوته وصدقه، طلبت الآية أن يحضر
كل من المتباهلين خاصّته من أهله وولده، ليبدو الحق جليّاً وينكشف صدق النوايا، في
حين يكون الإحجام عن ذلك دليل التزلزل والارتياب. إذ قد يحسم الأمر قبل الوصول إلى
اللحظة الأخيرة، حيث يرى الخصم اطمئنان صاحب الدعوة بدعوته وتعريض نفسه وأحبّائه
لمثل هذا الأمر الخطير، فيكشف له أنه على الحق، وقد يستسلم له ويرتدع من ضلاله.
وقد عبّرت الآية بتعبير موجز عن هذه الدعوة فقال تعالى {تَعَالَوْاْ نَدْعُ..}
بمعنى تعالوا كي ندعو نحن وأنتم خاصّتنا وأهلينا للمشاركة في الابتهال. ولعلّه
لبيان شدّة الاطمئنان قدّمت الآية ذكر الابناء، ثم ذكرت النساء، ثم ذكرت الخاصة،
باعتبار أنّ عناية الإنسان بحفظ ولده الصغير والغيرة على نسائه أشدّ منها بالنسبة
لسائر خاصّته.
هذا، وقد اتفقت الروايات وأطبق المفسرون والمؤرّخون على أنّ رسول الله صلى الله
عليه وآله دعا وفد النصارى إلى المباهلة، وحضر بنفسه وأهل بيته علي وفاطمة والحسنان
عليهم السلام، إلا أنّ النصارى أحجموا عن المباهلة عندما شاهدوا هؤلاء الصفوة،
واقترحوا أن يعطوا الجزية، فقبل النبي صلى الله عليه وآله ذلك منهم.
ومما لا ريب فيه أنّ الآية تدلّ على فضل عظيم وكرامة باهرة لأهل بيت النبي صلى الله
عليه وآله، وهو أمر اعترف به أعاظم المفسّرين والمحدّثين من السنّة، بعد أن اعترفوا
باتفاق الرواة وصحة رواياتهم في ذلك.
قال العلامة الجصّاص في (أحكام القرآن):
نقل رواة السِيَر ونقلة الأثر ـ لم يختلفوا فيه ـ أنّ النبي صلى الله عليه وآله أخذ
بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ـ رضي الله عنهم ـ ثم دعا النصارى الذين حاجّوه إلى
المباهلة، فأحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً،
ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة[3].
وقال الرازي بعد نقل رواية في ذلك:
إعلم أنّ هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث[4].
وقال في الكشاف: فيه دليل ليس أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام[5].
وقال الآلوسي في روح المعاني بعد نقل الرواية: ودلالتها على فضل آل الله ورسوله مما
لا يمتري فيها مؤمن. والنصب جازم الإيمان ـ إلى أن قال ـ والنواصب زعموا أنّ ما وقع
منه صلى الله عليه وآله كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته، وأنه لا يدل على فضل أولئك
ـ على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام ـ وأنت تعلم أنّ هذا الزعم ضرب من
الهذيان، وأثر من مسّ الشيطان.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل[6].
دلالة الآية على فضل أهل البيت عليهم السلام
الآية تأمر بدعوة الأبناء والنساء والأنفس ـ بصيغ الجمع في الجميع ـ وامتثال هذا
الأمر يقتضي إحضار ثلاثة أفراد من كل عنوان لا أقل منها، تحقيقاً لمعنى الجمع. لكن
الذي أتى به النبي صلى الله عليه وآله في مقام امتثال هذا الأمر على ما يشهد به
صحيح الحديث والتاريخ لم يكن كذلك، وليس لفعله(ص) وجه إلا انحصار المصداق في ما أتى
به. فالآية بالنظر إلى كيفية امتثالها بما فعل النبي(ص) تدل على أنّ هؤلاء هم الذين
كانوا صالحين للاشتراك معه في المباهلة وأنهم أحب الخلق اليه، وأعزّهم عليه، وأخصّ
خاصّته لديه، وكفى بذلك فخراً وفضلاً.
ويؤكد دلالتها على ذلك أنه صلى الله عليه وآله كان له عدة نساء ولم يأت بواحدة منهن
سوى بنت له، فعلى من يحمل ذلك الاعلى شدة اختصاصها به وحبّه لها لأجل قربها إلى
الله وكرامتها عليه؟
كما أنّ انطباق عنوان (النفس) على علي عليه السلام لا غير يدل على أعظم فضيلة وأكرم
مزيّة له عليه السلام حيث نزل منزلة نفس النبي صلى الله عليه وآله.
ويؤيده ما رواه الفريقان عن رسول الله صلى الله عليه وآله حديث قال لعلي عليه
السلام
(أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)[7] وقوله (أنت منّي وأنا
منك)[8] وقوله (علي نفسي فمن رأيته يقول في نفسه شيئاً؟!)[9].
وقد احتج مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الفضيلة يوم الشورى واعترف القوم
بها ولم ينكروا عليه. وقد بلغ الأمر من الوضوح مبلغاً لم يبق فيه مجال للإنكار من
مثل ابن تيمية. فقد اعترف بصحة الحديث القائل بأن نفس رسول الله صلى الله عليه وآله
في الآية هو علي عليه السلام، إلا أنه جعل ملاك التنزيل هو القرابة. ولَمّا التفت
إلى انتقاضه بعمه العباس حيث إنّ العم أقرب من ابن العم قال(إن العباس لم يكن من
السابقين، ولا كان له اختصاص بالرسول صلى الله عليه وآله كعلي). فاضطر إلى الاعتراف
بأن مناط تنزيل علي عليه السلام منزلة نفس النبي صلى الله عليه وآله ليس هو القرابة
فقط، بل سبقه إلى الإسلام واختصاصه بالنبي(ص). وهل يكون اختصاصه به صلى الله عليه
وآله إلا لأجل أفضليته من غيره وأقربيته إلى الله سبحانه؟!
ثم إنّ في قوله تعالى: {نَدْعُ أَبْنَاءنَا..} إشارة إلى أنّ لغيره صلى الله عليه
وآله شأناً في الدعوة إلى المباهلة، حيث أضاف الأبناء والنساء إلى ضمير المتكلم مع
الغير, مع أنّ المحاجّة كانت مع النبي صلى الله عليه وآله خاصة، كما يدل عليه قوله
تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ}. وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى: {وَيَتْلُوهُ
شَاهِدٌ مِّنْهُ}[10] وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ
عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}[11]، كما يؤيده ما ورد فيها من
الروايات، وهو مقتضى اطلاق التنزيل في قوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام
(أنت منّي بمنزلة هارون من موسى).
ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[12]، فإن
المراد بالكاذبين هنا ليس كل من هو كاذب في كل إخبار ودعوى، بل المراد هم الكاذبون
المفروضون في أحد طرفي المحاجّة والمباهلة، فلا محالة يكون المدّعي في كلا الجانبين
أكثر من واحد، وإلا لكان حق الكلام أن يقال مثلاً (فنجعل لعنة الله على من هو كاذب)
حتى يصحّ انطباقه على الفرد أيضاً. فالمشتركون مع النبي صلى الله عليه وآله في
المباهلة شركاء له في الدعوى.
وحيث إنّ المحاجّة إنما وقعت بين النبي صلى الله عليه وآله وبين النصارى لا لمجرد
الدعوى بل لأجل دعوتهم إلى الإسلام، وأنّ الحضور للمباهلة كان تبعاً لتلك الدعوى
والدعوة، فحضور من حضر أمارة على كون الحاضرين مشاركين له في الدعوى والدعوة معاً.
وهذا ما نبّه عليه الاستاذ العلامّة ـ أدام الله ظِلاله.
توهّم باطل
ومن الواضح البيّن أنه مع الاعتراف بصحة الروايات لا يبقى مجال لإنكار دلالة الآية
على فضل أهل البيت عليهم السلام، حتى أنّ الزمخشري قال (فيه دليل لا شيء أقوى منه
على فضل أصحاب الكساء) وجعل الآلوسي إنكار ذلك ضرباً من الهذيان، وأثراً من مسّ
الشيطان، وقال (والنصب جازم الإيمان) إشارة إلى أنّ الدافع لإنكار مثل هذه الفضيلة
ليس إلا النصب، ثم صرّح بأن النواصب هم الذين لهجوا بهذا الهذيان.
فإذا بلغت العصبية برجل إلى حد لا تدعه يعترف معه بهذه الفضيلة الباهرة لأهل بيت
نبيه صلى الله عليه وآله فلابد له من التشكيك في صدور الروايات، لكن أنّى يمكنه
ذلك؟ مع رواية جمّ غفير من الصحابة كجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وأنس بن مالك
وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن
عباس وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وغيرهم، ورواية جمع من التابعين عنهم
كالسدي والشعبي والكلبي وأبي صالح، واطباق المحدثين والمؤرخين والمفسرين على
ايداعها في موسوعاتهم كمسلم والترمذي والطبري وأبي الفداء والسيوطي والزمخشري
والرازي، مصرّحين باتفاق الروايات وصحتها.
فما ظنّك برجل يغمض عينه عن جميع ذلك ويقول بعد اعترافه بنفسه على اتفاق الروايات
ما لفظه: ( ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في
ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة، ولكن واضعيها لم يحسنوا
تطبيقها على الآية، فإن كلمة (نساءنا ) لا يقولها العربي ويريد بها بنته، لا سيّما
إذا كان له أزواج، ولا يفهم هذا من لغتهم. وأبعد من ذلك أن يراد بـ(أنفسنا) علي ـ
عليه الرضوان ـ ثم إنّ وفد نجران الذين قالوا أنّ الآية نزلت فيهم لم يكن معهم
نساؤهم وأولادهم)[13].
فغاية حسن الظن به يقتضي أن يوجّه كلامه بأنه لَمّا زعم أنّ الروايات غير مطابقة
لظاهر الآية صار جازماً بعدم صدورها، فأساء الظن إلى الشيعة وألقاها اليهم رجماً
بالغيب. لكن من ذا الذي يقبل من مثله هذا الإغماض وعذره في هذا الخطأ الفاحش
والبهتان المدهش؟!
وإذا جاز ردّ مثل هذا الروايات ورفضها على كثرتها وتصريح أئمة الحديث بصحتها، فعلى
أي رواية يمكن الاعتماد، وبأي سنّة يصح الاستناد؟ ومع رفض السنة رأساً كيف يمكن
الاطلاع على تفاصيل الأحكام والشرائع وسائر ما ورد في القرآن؟ وهل هذا إلا هدم
لأساس الدين، وسد لباب معرفة الشرع المبين؟
ثم إنّ ما زعم من عدم انطباق الروايات على ظاهر الآية توهّم فاسد وتقوّل لا يليق
بمثله ممن له أدنى معرفة بمعاني السنة، وأنس بعبارات الروايات ولهجتها. فليس مفاد
ما ورد من أنّ (أنفسنا) علي عليه السلام(ونساءنا) فاطمة عليها السلام أنّ اللفظتين
استعملتا فيهما، بل المراد أنّ النبي صلى الله عليه وآله لم يأت في مقام الامتثال
إلا بهما فانطبق العنوانان عليهما.
وكذا ما استشكل به من عدم وجود النساء والأبناء مع نصارى نجران، فإن هذا الأشكال
إنما يتوجّه لو كان المراد بلفظه(من) في قوله(فمن حاجّك) هو وفد نجران، وليس كذلك.
ضرورة أنّ اللفظة عامة لم تستعمل إلا في معناها الكلي، غاية الأمر أنّ المصداق الذي
انطبق عليه هذا العنوان الكلي عند نزول الآية الشريفة هذا الوفد، من غير أن يتخصص
اللفظ بهم، ومن غير أن يكون مستعملاً فيهم.
وهذا أمر واضح لا يكاد يخفى على من له سمع واع، وفهم سليم، وقلب خال عن العصبية.
وقد روى هذه الرواية ودرس تفسير الآية من هو أكثر أصالة في العروبة، وبراعة في
الأدب، ومهارة في معرفة أساليب الكلام ونقد كلمات الأدباء والبلغاء من هذا الرجل،
ولم يحصل لهم أدنى ارتياب فيها وفي صحة انطباقها على الآية الكريمة. فكان على الرجل
أن يتّهم نفسه وفهمه، ويجتهد في تزكية نفسه وتصفية قلبه، حتى يصير صالحاً لقبول
الحق ونور العلم. والله يهدي بنوره من يشاء..
***
واليك نماذج مما رواه الفريقان في هذا المجال:
(فمنها) ما رواه أبو نعيم الحافظ بإسناده عن الشعبي عن جابر قال: قدم على رسول الله
صلى الله عليه وآله العاقب والطيب، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد.
فقال: كذبتما، إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام؟ فقالا: هات الينا. قال:
لحب الصليب وشرب الخمر ولحم الخنزير. قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه إلى
أن يغادياه بالغداة. فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ بيد علي والحسن
والحسين وفاطمة عليهم السلام فأرسل إليهما، فأبيا أن يجيباه وأقرا له. فقال رسول
الله(ص) : والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي ناراً.
قال جابر: فيهم نزلت {نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ}، قال جابر: (أنفسنا) رسول
الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام، و(أبناءنا) الحسن والحسين عليهما
السلام، و(نساءنا) فاطمة عليها السلام[14].
وعن ابن المغازلي في المناقب[15] والحمويني في فرائد السمطين مثله[16]. وروى ذيله
ابن صباغ المالكي عن جابر[17]، وعن الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى ـ وقال: صحيح
على شرط مسلم[18] ـ وعن أبي داود الطباليسي عن شعبة الشعبي[19].
(ومنها) ما روى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية
بن أبي سفيان سعداً فقال: ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟ قال: أما ما ذكرت فثلاث قالهن
له رسول الله صلى الله عليه وآله فلن أسبّه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر
النعم، سمعت رسول الله يقول حين خلّفه في بعض مغازيه، فقال له علي عليه السلام: يا
رسول خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أما ترضى
أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر:
لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فتطاولنا لها، فقال:
ادعوا لي علياً، فأتى به أرمد العين، فبصق في عينه ودفع الراية إليه.
ففتح الله على يده. ولَمّا نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا
وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ}[20] دعا رسول الله صلى الله عليه وآله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً،
وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي[21].
ورواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب(فضائل علي عليه السلام)[22] وابن صباغ
المالكي في (الفصول المهمة)[23].
(ومنها) ما روى علي بن ابراهيم في تفسيره عن أبي عبد الله عليه السلام أنّ نصارى
نجران لَمّا وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وكان سيدهم(الاهثم) و(العاقب)
و(السيد) وحضرت صلاتهم، فأقبلوا يضربون الناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله: يا رسول الله، هذا في مسجدك؟ فقال: دعوهم. فلما فرغوا دنوا من رسول
الله(ص) فقالوا له: إلى ما تدعونا؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول
الله، وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث. فقالوا: من أبوه؟ فنزل الوحي على رسول
الله(ص) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم؟ أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث
وينكح؟ فسألهم النبي صلى الله عليه وآله فقالوا: نعم. فقال: فمن أبوه؟ فبهتوا،
فأنزل الله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ـ إلى قوله ـ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ}[24].
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فباهلوني، فإن كنت صادقاً نزلت اللعنة عليكم،
وإن كنت كاذباً نزلت عليّ. فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للمباهلة. فلما رجعوا إلى
منازلهم قال رؤوسهم السيد والعاقب والاهثم: إنّ باهلنا بقومه باهلناه، فإنه ليس
بنبي، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله، فإنه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو
صادق.
فلما أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة
والحسن والحسين عليهم السلام، فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمه وصيه
وختنه علي بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين. ففرقوا،
فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: نعطيك الرضا، فأعفنا من المباهلة. فصالحهم
رسول الله(ص) على الجزية وانصرفوا[25].
(ومنها) ما روى الشيخ في أماليه عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن جده علي بن
الحسين عليهم السلام عن عمه الحسن بن علي عليهما السلام قال: قال الله تعالى لمحمد
صلى الله عليه وآله حين جحده كفرة أهل الكتاب وحاجّوه: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ
أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ
ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فأخرج رسول الله
صلى الله عليه وآله من الأنفس معه أبي، ومن البنين أنا وأخي، ومن النساء فاطمة أميّ
من الناس جميعاً، فنحن أهله ولحمه ودمه ونفسه، ونحن منه وهو منا[26].
(ومنها) ما روى الشيخ المفيد في الاختصاص عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام
قال: اجتمعت الأمة برّها وفاجرها أنّ حديث النجراني حين دعاه النبي صلى الله عليه
وآله إلى المباهلة لم يكن في الكساء إلا النبي(ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم
السلام، فقال الله تبارك وتعالى {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ
الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا
وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} فكان تأويل(ابناءنا) الحسن والحسين،
و(نساءنا) فاطمة، و(أنفسنا) علي بن أبي طالب[27].
(ومنها) ما روى الشيخ في مجالسه في حديث مناشدة علي عليه السلام يوم الشورى: فهل
فيكم أحد أنزل الله عز وجل فيه وفي زوجته وولديه آية المباهلة، وجعل الله عز وجل
نفسه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله غيري؟ قالوا: لا[28].
(ومنها) ما روى ابن بابويه عن موسى بن جعفر عليهما السلام في حديث له مع الرشيد
قال: قول الله عز وجل {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ
فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ
وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ}، ولم يدع أحد أنه أدخل النبي صلى الله عليه وآله تحت الكساء عند
المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فكان
تأويل قوله عز وجل(أبناءنا) الحسن والحسين، و(نساءنا) فاطمة، و(أنفسنا) علي بن أبي
طالب[29]
وروى هذا المضمون غير واحد من أصحابنا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
_________________________________
[1] سورة آل عمران، الآية:61.
[2] سورة آل عمران، الآية: 59.
[3] أحكام القرآن: ج2، ص 14.
[4] التفسير الكبير ـ ذيل الآية ـ.
[5] الكشاف ج1، ص 370.
[6] روح المعاني: ج3: ص 167 ـ 168.
[7] قد انهى البحراني الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والمشتملة على
هذه العبارة من طرق السنة إلى مائة حديث ومن طرق الشيعة إلى سبعين حديثاً، فراجع
غاية المرام: ص 109 ـ 152.
[8] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم.
[9] رواه ابن النجار.
[10] سورة هود، الآية: 17
[11] سورة يوسف، الآية: 108.
[12] سورة آل عمران، الآية’: 61.
[13] المنار: ج3، ص 322.
[14] غاية المرام: ص 301، ح7.
[15] غاية المرام: ص 300، ح4.
[16] غاية المرام: ص 301، ح10.
[17] غاية المرام: ص 303، ح17.
[18] غاية المرام، ص 303، ح 18.
[19] غاية المرام، ص 303، ح19.
[20] سورة آل عمرا، الآية: 61
[21] غاية المرام: ص 300، ح1، 2.
[22] غاية المرام: ص 301، ح5.
[23] غاية المرام: ص 302، ح15.
[24] سورة آل عمران، الآية: 59 ـ 61.
[25] غاية المرام: ص 303، ب4، ح1.
[26] غاية المرام: ص 304، ح3.
[27] غاية المرام: ص 304، ح4.
[28] غاية المرام: ص 304، ح5.
[29] غاية المرام، ص 305، ح 8.