آية التطهير
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [1].
مفردات الآية الكريمة
الإرادة: مفهوم الإرادة واضح، وهي إما تكوينية تتعلق بفعل النفس، وإما تشريعية
تتعلق بصدور الفعل عن الغير اختياراً. وإرادة الله التشريعية هي التي تعلقت بأفعال
العباد الاختيارية، فهي ممكنة الانفكاك عن المراد، قال تعالى {يُرِيدُ اللّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[2]وقال {وَلَكِن يُرِيدُ
لِيُطَهَّرَكُمْ}[3]. وإرادة الله التكوينية هي التي تتعلق بأفعاله تعالى بما هي
صادرة منه، وهي لا محالة تتلازم مع الفعل ولا ينفك عنها البتة، قال تعالى {إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [4].
الرجس: هو الشيء القذر، والحسّي منه واضح، والمعنوي ما يوجب تقذّر النفس كالشرك
والإثم وكل معصية.
البيت: ما يحيط به الجدران، والمُسقّف من الدار وغيرها، وهو بيت السكنى، ويطلق على
بيت القرابة والنسب، وأهل بيت السكنى من يعيش فيه، كما أنّ أهل بيت القرابة هم
قرابة الرجل الأدنون.
مفاد الآية الشريفة
الآية تنص على قصر إرادة الله تعالى في إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم تطهيراً
كاملاً شاملاً. وهذا الحصر إنما هو بالنسبة إلى ما يتعلق بأهل البيت، وإلا فإن لله
تعالى إرادات تشريعية وتكوينية غيرها بالضرورة، فالمعنى إنّ إرادة إذهاب الرجس
والتطهير مختصّة بهم دون غيرهم، فتصير في قوة أن يقال: يا أهل البيت، أنتم الذين
يريد الله أن يذهب عنكم الرجس ويطهركم من الأدناس. فالإرادة هذه تكوينية لا محالة،
فإن الإرادة التشريعية للتطهير لا تختص بقوم دون قوم وبيت دون بيت. والإرادة
التكوينية منه تعالى لا تنفك عن المراد.
فتطهير أهل البيت من الرجس أمر واقع بإرادة الله تعالى، فهم المعصومون من الذنوب
والآثام.
هذا هو الظاهر من نفس الجملة بصرف النظر عما قبلها. أما بالنظر إلى السياق فربما
يحتمل أن يكون القصر للقلب، بأن يقال : لَمّا أمر الله تعالى نساء النبي صلى الله
عليه وآله بأوامر مؤكدة وشدد في تكليفهن عمّم الخطاب لهنّ ولغيرهنّ من خاصة النبي
صلى الله عليه وآله فأعلمهم أنّ تشديد التكليف بالنسبة اليهم ليس لإرادة الحرج
عليهم، بل إنما هو لإرادة تطهيرهم؛ حتى يصيروا بذلك أسرة مثالية يقتدى بهم ويسلك
سبيلهم.
ويستفاد من هذا التعليل أنّ التكاليف السابقة وإن كانت متوجّهة إلى النساء لكنها لا
تختص بهنّ، فإنهنّ إنما صِرْنَ مكلّفات بهذه التكاليف لأجل اختصاصهنّ برسول الله
صلى الله عليه وآله، فكل من له اختصاص به يصير مشمولاً لهذه التكاليف وأمثالها.
والعلّة تعمّم وتخصّص كما هو واضح ومعروف. وعلى هذا فالإرادة تشريعية والقصر للقلب،
والمراد بأهل البيت من يعمّ نساء النبي صلى الله عليه وآله أيضاً، وضمير الجمع
المذكر للتغليب.
إلاّ أنّ هذا الاحتمال بعيد, بعد أن كان هذا الخطاب بخصوصه متّصفاً بهذا التغليب
المذكور دون غيره من الخطابات السابقة واللاحقة رغم أنها جميعاً تحوي نكتة التغليب.
ولهذا، فإن هذه الجملة: إما كلام جيء به استطراداً لغرض خاص كما في قوله تعالى:
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ
الْخَاطِئِينَ}[5]، ولعل هذا الغرض الخاص هو بيان مقام أهل البيت الذي يختلف عن شأن
الأزواج. وأما أنّ هذه الجملة آية مستقلة في نزولها وضعت هنا بأمر النبي صلى الله
عليه وآله لمصلحة خفيّة ربما كانت الاحتياط لحفظ الآية من التحريف، ذلك أنّ القرآن
الكريم وإن ضمن الله حفظه من التحريف إلاّ أنّ ذلك لا ينافي أن يكون الضمان بأسبابه
وقد يكون هذا أحد الأسباب.
وهذا ـ طبعاً ـ إذا قلنا أنّ ترتيب القرآن بهذا الشكل كان بأمره صلى الله عليه
وآله، أما بناءً على عدم كونه بأمره فلا تعقيد في البيان.
وعلى أي حال، فإن الالتزام بمثل هذا السياق التزام بما لا يلزم, وقد مرّ نظيره في
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..}[6] خصوصاً إذا لاحظنا ما
ورد في شأن نزول هذه الآية. فإن الروايات متظافرة على نزولها بشكل مستقل، وليس فيها
ـ حتى في الضعاف منها ـ ما يدل على نزولها ضمن الآيات السابقة، كما سنشير اليه
انشاء الله تعالى.
ومع وجود هذا العدد الكبير من الروايات التي رواها الفريقان، فلا معنى لتصوّر
معارضة هذا السياق لها ـ إذا قلنا بأنه مما يقبله العرف ـ فضلاً عن أن يُدّعى أنه
يرجّح على دلالتها.
وروايات نزولها في أهل البيت المعينين دون غيرهم جمّة جداً تربو على سبعين حديثاً
من طرق الفريقين، وإذا لم يكن مثل هذه الروايات معتمداً عليها فبأي حديث بعده
يؤمنون؟!
وهذه الروايات التي روتها الشيعة بطرقهم عن أمير المؤمنين وعلي بن الحسين ومحمد بن
علي وجعفر بن محمد وعلي بن موسى الرضا عليهم السلام وعن أم سلمة وأبي ذر وأبي ليلى
وأبي الأسود الدؤلي وعمر بن ميمون الأودي وسعد بن أبي وقاص، وروتها السنة بأسانيدهم
عن أم سلمة وعائشة وأبي سعيد الخدري وسعد ووائلة بن الاصقع وأبي الحمراء وابن عباس
وثوبان مولى النبي صلى الله عليه وآله وعبد الله بن جعفر وعلي بن أبي طالب والحسن
بن علي عليهما السلام، كلها تدل على أنّ الآية نزلت في الخمسة الطيبة: رسول الله
وابن عمه علي وبنته فاطمة وسبطيه الحسنين عليهم السلام، وهم المرادون بأهل البيت
دون غيرهم، واليك نماذج منها:
1ـ روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسنده عن أبيه عن شداد أبي عمار، قال: دخلت على
وائلة بن الاصقع وعنده قوم فذكروا علياً، فلما قاموا قال: ألا اخبرك بما رأيت من
رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قلت: بلى. قال: أتيت فاطمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أسألها عن علي، قالت: توجّه إلى
رسول صلى الله عليه وآله. فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله (ص) ومعه علي وحسن وحسين
ـ رضي الله تعالى عنهم ـ آخذاً كل (واحد) منهما بيده حتى دخل، فأدنى علياً وفاطمة
فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه، ثم لفّ عليهم ثوبه
ـ أو قال: كساءاً ـ ثم تلا هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[7] وقال: اللهم هؤلاء أهل
بيتي، وأهل بيتي أحق[8].
2 ـ روى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه بسنده عن شهر بن حوشب، قال: سمعت أم سلمة
زوجة النبي صلى الله عليه وآله حين جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق فقالت:
قتلوه، قتلهم الله ، غروه وأذلّوه لعنهم الله. فإنيّ رأيت رسول الله صلى الله عليه
وآله(وقد) جاءته فاطمة غدية ببرمة قد صنعت فيها عصيدة تحملها في طبق لها حتى وضعتها
بين يديه، فقال لها: أين ابن عمك؟ قالت: هو في البيت.
قال: فاذهبي فادعيه وائتيني بابنيه. قالت: فجاءت تقود ابنيهما، كل واحد منهما بيد،
وعلي يمشي في أثرها، حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله فأجلسهما في حجره،
وجلس علي عن يمينه، وجلست فاطمة عن يساره.
قالت أم سلمة: فاجتذب من تحتي كساءاً خيبرياً كان بساطاً لنا على المنامة[9] في
المدينة، فلفّه رسول الله[10] صلى الله عليه وآله(عليهم جميعاً فأخذ بشماله) طرفي
الكساء، وألوى بيده اليمنى إلى ربّه عزوجل وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم
الرجس وطهرهم تطهيراً[11].
قلت: يا رسول الله، ألست من أهلك؟ قال: بلى، فادخلي في الكساء (قالت: فدخلت في
الكساء) بعد ما قضى دعاءه لابن عمه علي وابنيه وابنته فاطمة ـ رضي الله عنهم[12].
3ـ عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى عليه
وآله: نزلت هذه الآية فيّ وفي علي وفي حسن وحسين وفاطمة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[13].
4ـ عن الثعلبي أيضاً بإسناده عن العوام بن حوشب قال: حدثني ابن عم لي من بني الحرث
بن تيم الله يقال له مجمع، قال: دخلت مع أمي على عائشة، فسألتها أمي قالت: رأيت
خروجك يوم الجمل.
قالت: إنه كان هذا من الله تعالى. فسألتها عن علي، فقالت: سألتني عن أحب الناس كان
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقد جمع
رسول الله (ص) لفوف عليهم ثم قال: اللهم هؤلاء بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيراً. قالت: قلت: يا رسول الله، أنا من اهلك؟ قال: تنحّي فإنك إلى خير[14].
5ـ روى الحميدي في المتفق عليه من الصحيحين عن البخاري ومسلم من مسند عائشة عن مصعب
بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وآله ذات غداة
وعليه مرط مرجل من شعر اسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم
جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[15].
6ـ روى مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
ألا وأني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله عز وجل، هو حبل الله مَنْ اتبعه كان
على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم
الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
فقلنا: مَنْ أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا أيم الله، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر ثم
الدهر ثم يطلّقها فترجع إلى أهلها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة
بعده[16].
7ـ روى موفق بن أحمد الخوارزمي في كتابه (فضائل أمير المؤمنين) عن أبي سعيد الخدري
أنه قال: لَمّا نزل قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ}[17] كان رسول
الله صلى الله عليه وآله يأتي باب فاطمة وعلي تسعة أشهر كل صلاة، فيقول: الصلاة،
يرحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)[18].
8ـ روى الحمويني في كتاب فرائد السمطين عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: أجلس رسول الله (ص) الحسن والحسين على فخذيه وفاطمة في حجره واعتنق علياً ثم
قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي[19].
9 ـ روى الحمويني أيضاً عن اسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: لما نظر رسول
الله صلى الله عليه وآله إلى الرحمة هابطة من السماء قال: من يدعو؟ مرتين، قالت
زينب: أنا يا رسول الله، فقال لي: ادعي لي علياً وفاطمة والحسن والحسين. قال: فجعل
حسناً عن يمناه وحسيناً عن يسراه وعلياً وفاطمة وجاهه، ثم غشاهم كساءاً خيبيرياً.
ثم قال: اللهم إنّ لكل نبي أهل بيت، وهؤلاء أهلي. فأنزل الله عز وجل {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا}.
فقالت زينب: يا رسول الله، لا أدخل معك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: مكانك،
فإنك إلى خير إنشاء الله تعالى[20].
10 ـ روى ابن صباغ المالكي في كتاب (الفصول المهمة) عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ
أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله في بيتها يوماً، فأتته فاطمة ببرمة فيها
عصيدة، فدخلت بها عليه، فقال: لها ادعي لي زوجك وابنيك. فجاء علي والحسن والحسين
فدخلوا فجلسوا يأكلون، والنبي (ص) جالس على دكة تحت كساء خيبري، قالت: وأنا في
الحجرة قريباً منهم. فأخذ النبي (ص) الكساء فغشاهم به ثم قال: اللهم أهل بيتي
وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
قالت: فأدخلت رأسي البيت، قلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنك إلى خير. فأنزل
الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[21].
وفي معناها روايات كثيرة أخرى تدل على عدم دخول الأزواج في أهل البيت واختصاص الآية
بالخمسة الطيبة، وقد صرّح مشايخ القوم بصحة غير واحدة منها.
لأهل البيت عليهم السلام، كعكرمة مولى ابن العباس ومن يحذو حذوه، أنّ الآية نزلت في
أزواج النبي صلى الله عليه وآله. وهذا الرأي ـ مضافاً إلى أنه غير مستند إلى كلام
رسول الله صلى الله عليه وآله ـ اجتهاد في مقابل النص من رجال معروفين بالكذب
والإختلاق. فارجع إلى ميزان الاعتدال وغيره من كتب رجال القوم حتى تعرف أحوال هؤلاء
وموقفهم من أمير المؤمنين وأهل بيت النبي(ص)، وتعرف قيمة الرأي المنقول عنهم. والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
وفي الختام نذكر بعض ما ورد من طرق أصحابنا الإمامية أيضاً:
(فمنها ) ما رواه محمد بن يعقوب بسنده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن قول الله عز وجل {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ}[22]؟ فقال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام
ـ إلى أن قال ـ لكن الله عز وجل أنزله في كتابه تصديقاً لنبيه صلى الله عليه وآله
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام،
فأدخلهم رسول الله (ص) تحت الكساء في بيت أم سلمة ثم قال: اللهم إنّ لكل نبي أهلاً
وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي. فقالت أم سلمة: ألستُ من أهلك؟ فقال: إنك إلى خير،
ولكن هؤلاء أهل بيتي وثقلي ـ الحديث[23]
وعن ابن بابويه بسنده عن موسى الهاشمي بسر من رأى، قال: حدثني أبي عن أبيه عن أبائه
عن الحسن بن علي عن علي عليهم السلام قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله
في بيت أم سلمة وقد نزلت عليه هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: يا علي، هذه الآية فيك وفي سبطيّ والأئمة من ولدك. فقلت: يا
رسول الله، وكم الأئمة بعدك؟ قال: أنت يا علي، ثم الحسن والحسين، وبعد الحسين علي
ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد جعفر ابنه، وبعد جعفر موسى ابنه، وبعد موسى
علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، والحجة من
ولد الحسن. هكذا أسماؤهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله تعالى عن ذلك فقال:(يا
محمد، هذه الأئمة بعدك، مطهرون معصومون، وأعداؤهم ملعونون)[24].
______________________________
[1] سورة الأحزاب، الآية: 33.
[2] سورة البقرة، الآية: 185.
[3] سورة المائدة، الآية: 6
[4] سورة يس، الآية:82
[5] سورة يوسف، الآية: 29.
[6] سورة المائدة، الآية: 3.
[7] سورة الأحزاب، الآية: 33
[8] مسند أحمد، ج4، ص 107. غاية المرام: ص 287، ح1.
[9] في غاية المرام: على طبانة.
[10] في غاية المرام: فلفه النبيص وأخذ طرفي الكساء.
[11] في مسند أحمد كررت هذه العبارة ثلاثاً.
[12] مسند أحمد: ج6، ص 298. غاية المرام: ص 288، ح8.
[13] غاية المرام: ص 288، ح15.
[14] غاية المرام: ص 289، ح 17.
[15] غاية المرام: ص 289، ح 22.
[16] غاية المرام: ص 290، ح 27. وقريب منه ما رواه الحمويني عن زيد بن ارقم وعن
الحسن بن علي ع فراجع الرقم 33 و 34 و 35.
[17] سورة طه، الآية: 132.
[18] غاية المرام: ص 290، ح29.
[19] غاية المرام: ص 290، 31.
[20] غاية المرام: ص 290، ح 32.
[21] غاية المرام: ص 291، ح 37.
[22] سورة النساء، الآية: 59.
[23] الكافي: ج1، ص 286ـ 287.
[24] غاية المرام: ص 293، ح6.
آية المودة
{قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى
وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ
بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[1]
الأجر: ما يعود إلى العامل من ثواب العمل، سواء كان دنيوياً أو أخروياً.
المودة: المحبة المستتبعة للمراعاة والتعاهد، ولعلها لاشتمالها على ذلك لا تستعمل
في محبّة العباد لله تعالى.
والقربى: القرابة في النسب.
أجر النبي (ص)
عندما نتابع دعوة الأنبياء الكرام للناس ومنطقهم في القرآن الكريم نجدهم يعلنون
أنهم جاؤوا لإعلاء كلمة الحق والتوحيد، وهم أزاء ذلك لا يطلبون أجراً، فأجرهم على
الله تعالى. وذلك ما نلاحظه مثل في سورة الشعراء على لسان عدة منهم إذ يعلنون
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ} الشعراء: 109 ـ 127 ـ 145 ـ 168 ـ 180. وكان ذلك المنطق ينبع من أدب
التوحيد الخاص الذي أدّب الله به أنبياءه العظام ليكونوا مثال العمل في سبيل الله
لا يريدون جزاءاً ولا شكوراً.
وإنّ من المناسب جداً أن يكون الموجَر هو المرسَل لا المرسَل اليه، ولا يقاس أجر
الله على أجر العباد.
إذاً، فما معنى أن نجد النبي صلى الله عليه وآله سواء من خلال آية أو رواية يسأل
أمته أجراً؟ وهل أنّ هذا يخالف ـ والعياذ بالله ـ سنّة الأنبياء؟ أو لا يتصوّر
تهافت بين هذا المعنى وقوله في آية أخرى {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ}[2]؟
أوليس قوله {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} يأبى أي استثناء أو تخصيص، فلا
يمكن أن يُدّعى فيه ذلك؟
إنّ الجواب الطبيعي الواضح على هذه التساؤلات هو: أنّ هذا الأجر المطلوب في هذه
الآية الكريمة هو في الواقع من أروع ما يعود على الأمة بالخير، ويرتبط بمسيرتها
ومستقبلها وقيادتها، حيث يشدّها الشدّ العاطفي الواعي إلى القيادة مقوّياً بذلك
الشدّ العقائدي بها، وإذا اقترنت العقيدة بالعاطفة المبنية على أساسها أمكن ضمان
قيام القائد بمهامه التاريخية الكبرى الملقاة على عاتقه في مجال تربية الإنسانية
ككل وهدايتها إلى شواطئ الكمال.
فهذا الأجر المسؤول وهو في الواقع تعليم اجتماعي رائع لصالح الأمة نفسها، وليس
أجراً شخصياً للرسول صلى الله عليه وآله وبعد أن كان أشد الناس إخلاصاً للحقيقة،
وبعد أن كان القرآن يعلن:
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}[3] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ}[4].
وقد أوضح القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: ـ على لسان نبيه ـ {مَا سَأَلْتُكُم
مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}[5]. وكذا يشير
إليه قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن
يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[6].
أما تسمية هذه المودة أجراً للرسول صلى الله عليه وآله فقد يكون مجرد تنزيل
وادّعاء؛ لأنه يمسّ الرسول(ص) بعد أن كان في الحقيقة راجعاً إلى مصلحة الأمة. والذي
يصحح هذه التسمية أمران:
الأول: أنّ هؤلاء هم السبيل إلى الله تعالى.
الثاني: أنّ مودّتهم ـ كما مر ـ لها الأثر الكبير في ربط الأمة بقيادتها الحكيمة
لتحقيق الأهداف التاريخية للإسلام.
ولعل القرآن الكريم استغل الربط العاطفي بالنبي صلى الله عليه وآله لينسب المودة في
القربى اليه، محققاً بالتالي غرضه المنشود.
هذا ما يستفاد من الآية الكريمة.
أما الروايات المتواترة فهي توضّح مَنْ هم هؤلاء وتؤكّد أنهم علي وفاطمة وابناهما
عليهم السلام. لعل هذا بلغ من الوضوح مبلغ الضرورة عند الشيعة، كما ذهب اليه جمهور
علماء السنة وقطع به أكابرهم. وندر أن نجد من يخالف هذا التفسير كعكرمة(الكذاب)
وأمثاله ممن كان دينهم تأويل الآيات النازلة في فضل أهل البيت عليهم السلام عداوةً
وبغضاً، وجرّها إلى تفسيرات تخالف القرآن والروايات، لا لشيء إلا لإشباع هوى رخيص
وحقد أعمى، ولذا فإنه لا يعتنى بمخالفتهم.
بعض الأقاويل الضعيفة في تفسير هذه الآية
ونحن نتعرض لذكرها ليتّضح ما أكّدناه سابقاً من نشوئها عن عصبية أو جهل مقيت:
فقد قيل: إنّ الآية تأمره صلى الله عليه وآله أن يقول للمشركين ذلك، أي يقول لهم:
لا أسألكم عليه من أجر إلا أن تحفظوا قرابتي منكم وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم.
وهو رأي لا يقبله الذوق السليم، وكيف يصحّ للحكيم أن يطلب الأجر على الرسالة ممن
يكفر بها؟!
وقيل: إنّ المراد هو ملاحظة القربى من الله تعالى، فكان الرسول صلى الله عليه وآله
يطلب منهم أن يؤدّوا القربى من الله بالأعمال الصالحة!
وربما كان هذا أسخف مما قبله، فهو تأويل وتحريف تأباه اللغة أيضاً، فلم نجدها
استعملت لفظة(القربى) إلا في القرابة الرحمية.
وقيل: إنها تطلب من المسلمين أن يؤدّوا قرابتهم ويصلوا أرحامهم.
وهو أيضاً رأي مردود ليس فيه إلا التأويل، ولا يقصد إلا التمويه الذي يشمئز منه
الذوق السليم. وإلا فما معنى جعل حكم جزئي من الأحكام لا يرتبط برسول الله صلى الله
عليه وآله إلا كارتباط باقي الأحكام به، جعله أجراً للرسالة؟ وهل هناك مصحح لهذا
الجعل؟ أم هل توافق عليه قواعد البلاغة؟
وقيل: إنه لو أراد الله تعالى من الآية الشريفة مودّة القربى لكان اللازم أن
يقول(إلا المودة القربى) أو (إلا المودة للقربى). وعليه فالآتيان بلفظ(في) شاهد على
إرادة غير المعنى المذكور.
ويكفي في جواب هذا المعنى ما قاله الزمخشري من أنه عبّر بـ(في) ولم يعبّر باللام
تأكيداً؛ لأن الظرفية أبلغ وآكد للمودة، فيكون تقديره: إلا المودة ثابتة في القربى.
وقيل: إن الآية مكية؛ لأنها في سورة الشورى مع أنّ الحسنين ولدا في المدينة.
وهو إشكال ضعيف أيضاً، فإنه قد أكّد غير واحد من أئمة هذا الفن نزول الآية في
المدينة. على أننا لو سلّمنا كونها مكية فما المانع في ذلك؟ إنها نظير غيرها من
الآيات الكريمة التي سبقت لبيان قضية حقيقية لا خارجية. فهي تصبح فعلية إذا وجد من
تنطبق عليه.
وأخيراً:
فإنّا لا ندري سرّ هذا الإصرار واللجوء إلى التأويلات الباطلة بعد ورود النص
المتواتر والإجماع المنقول من الفريقين، ولا يسعنا إزاء ذلك إلا التمسك بها والسير
على هدى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.
واليك نماذج منها:
فمن طريق السنة جاءت روايات منها:
ما عن مسند أحمد بن حنبل عن سعيد بن جبير عن ابن العباس قال: لَمّا نزل {قُل لَّا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[7] قالوا: يا
رسول الله، من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما[8].
وقريب منها ما روي عن صحيح البخاري وصحيح مسلم وتفسير الثعلبي بسندين, وعن الجمع
بين الصحاح الستة بسندين, وعن ابراهيم بن محمد الحمويني, وعن موفق بن أحمد
الخوارزمي, وعن أبي نعيم الاصبهاني صاحب حلية الأولياء، وعن المالكي بسندين, وعن
ابن المغازلي في كتاب المناقب، غالبهم عن ابن عباس، وبعضهم عن سعيد ابن جبير،
وبعضهم عن مقاتل والكعبي.
وعن تفسير الثعلبي عن أبي الديلم قال: لَمّا جيء بعلي بن الحسين ـ صلوات الله عليه
ـ أسيراً قائماً على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم
واستأصل شأفتكم وقطع قرن الفتنة. فقال علي بن الحسين عليه السلام: اقرأت القرآن؟
قال: نعم. قال: قرأت الحم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ الحم؟! قال: قرأت: {قُل لَّا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال: لأنتم هم؟
قال: نعم[9].
وروى محمد بن جرير برجاله في كتاب المناقب أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي
عليه السلام: اخرج فناد: ألا من ظلم اجيراً أُجْرَته فعليه لعنة الله، ألا من تولّى
غير مواليه فعليه لعنة الله، ألا من سبّ أبويه فعليه لعنة الله. فنادى بذلك، فدخل
عمر وجماعة على النبي صلى الله عليه وآله وقالوا: هل من تفسير لما نادى؟ قال: نعم،
إنّ الله يقول {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى}فمن ظلمنا فعليه لعنة الله، ويقول {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنفُسِهِمْ}[10] ومن كنت مولاه فعلي مولاه، فمن والى غيره وغير ذرّيته فعليه
لعنة الله، وأشهدكم أنا وعلي ابوا المؤمنين، فمن سبّ أحدنا فعليه لعنة الله. فلما
خرجوا قال عمر: يا أصحاب محمد، ما أكد النبي لعلي بغدير خم ولا غيره أشد من تأكيده
في يومنا هذا.
قال خباب بن الأرت: كان ذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بتسعة عشر
يوماً[11].
وروى علي بن الحسين بن محمد الاصبهاني في كتاب(مقاتل الطالبين) أنّ الحسن بن علي
عليهما السلام قال في خطبة له بعد موت أبيه قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني،
ولم يعرفني فأنا الحسن بن محمد صلى الله عليه وآله، أنا ابن البشير، أنا ابن
النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت
الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، والذين افترض الله مودّتهم في كتابه إذ
يقول: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا}[12]، فالحسنة
مودّتنا أهل البيت.[13]
(ومما) رواه أصحابنا الإمامية ما رواه الكليني عن ابي جعفر الباقر عليه السلام في
قوله تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى} قال: هم الأئمة عليهم السلام[14].
(ومنها) ما رواه الكليني أيضاً عن اسماعيل بن عبد الخالق قال: سمعت ابا عبد الله
عليه السلام يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: فقال: أتيت البصرة؟ قال: نعم. فقال:
كيف رأيت مصارع الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟ فقال: والله إنهم لقليل. فقال
عليه السلام: عليك بالأحداث، فإنهم أسرع إلى كل خير، ثم قال: ما يقول أهل البصرة في
هذه الآية {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى}؟ قلت: جعلت فداك، إنهم يقولون إنهم أقارب رسول الله صلى الله عليه
وآله. فقال: كذبوا إنما نزلت فينا خاصة في أهل البيت: في علي وفاطمة والحسن
والحسين، اصحاب الكساء.[15]
وروى عبد الله بن جعفر الحميري مثله في قرب الاسناد[16].
(ومنها) ما رواه ابن بابويه عن علي بن الحسين عليهما السلام قال لرجل: أما قرأت
كتاب الله عزوجل؟ قال: نعم. قال: أما قرأت هذه الآية {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟ قال: بلى.
قال: فنحن اولئك [17]
(ومنها) ما رواه البرقي في المحاسن عن عبد الله بن عجلان، قال سألت ابا جعفر عليه
السلام عن قول الله {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى}. قال: هم الأئمة الذين لا يأكلون الصدقة ولا تحلّ لهم.[18]
وقد روى أمثالها المفيد في الاختصاص والطبرسي وعلي بن ابراهيم القمي في تفسيره
والشيخ في أماليه وسعد بن عبد الله في بصائر الدرجات ومحمد بن العباس بن ماهيار في
تفسيره وغيرهم.
____________________________________
[1] سورة الشورى، الآية: 23 ـ 24.
[2] سورة يونس، الآية: 72.
[3] سورة يوسف، الآية: 104
[4] سورة الشعراء، الآية: 109, ص: 86.
[5] سورة سبأ، الآية: 47.
[6] سورة الفرقان، الآية: 55
[7] سورة الشورى، الآية: 23.
[8] غاية المرام: ص 306، ح1.
[9] غاية المرام: ص306، ح5.
[10] سورة الأحزاب، الآية: 6.
[11] غاية المرام: ص 307، ح9.
[12] سورة الشورى، الآية: 23.
[13] مقاتل الطالبين: ج1، ص 34ط بيروت.
[14] الكافي: ج1، ص 413، ح7.
[15] روضة الكافيج8 ص 93، ح66.
[16] غاية المرام: ص 307، ح3.
[17] غاية المرام: ص 309، ح10.
[18] غاية المرام: ص 309، ح13.
آية الشهادة
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[1]
كذلك
قيل: إنّ الظاهر بملاحظة ما سبق من الكلام في شأن القبلة أنّ المراد من قوله
(وكذلك..) أنه كتحويل القبلة لغاية الهداية إلى صراط مستقيم جعلناكم أمة وسطاً
لتحقق الشهادة. لكن لا يبعد أن تكون الواو للاستئناف، و(كذلك) كلمة يراد بها تثبيت
الخبر على عكس ما تفيده لفظة (كلام).
قال الخفاجي في ( شرح الشفا بحقوق المصطفى) بعد ما نقل عن الكشّاف وشرّاحه كلاماً
طويلاً في معنى (كذلك): أقول: لم أزل أبحث عن هذا كل مَنْ ناقشته من الفضلاء، فلم
أظفر بما يثلج الصدر، فتصفّحت الدفاتر، وراجعت خزائن الضمائر، فرأيت في شرح القصائد
الطوال في شرح قول زهير:
كذلك خيمهم ولكل قوم إذا مسّتهم الضراء خيم
نقلاً عن الجرجاني أنه قال: لفظ (كذلك) مما يكون تثبيتاً لخبر مقدم أو متأخر، فهي
نقيض(كلا) لأنها تنفي[2].
الوسط
الوسط: ما له الطرفان أو الاطراف، ويستعمل بمعنى العدل؛ لأن الوسط هو أعدل ما يكون
من الشيء وأبعده من الانحراف. وبعبارة أخرى: لأن العدل متوسط بين التفريط والإفراط.
ويقرب منه استعماله في معنى الخيار. وكيف كان فهو صفة للشيء بالقياس إلى الغير.
الشهادة
الشهادة والشهود: الحضور مع المشاهدة بالصبر أو بالبصيرة.
يقال: شهد المجلس: حضره واطّلع عليه. والمستفاد من موارد استعمال هذه المادة اشراب
معنى التطلّع والإشراف فيها في كثير من الموارد، فيفيد معنى الرقابة والنظارة،
فيستعمل مع لفظة (على) الاستعلائية. ومنه ما تكرر في القرآن الكريم من اطلاق الشهيد
على الله تعالى، مثل قوله سبحانه {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[3].
الأمة الوسط
وغير خفي على الناظر في الآية المبحوث عنها في وصف الأمة بالوسيطة تكريم لهم وتعظيم
لشأنهم ومنّة من الله سبحانه عليهم، وأنّ غاية هذا الجعل كونهم شهداء على الناس،
وكون الرسول عليهم شهيداً.
فالشهادة المذكورة علّة غائية للجعل المذكور، متفرّع عليه نحو تفرّع الغاية على
ذيها.
هذا كله مما لا ريب فيه، وإنما الكلام في ما هو المراد من كونهم وسطاً وفي ارتباط
الشهادة به.
فقد قيل: إنّ المراد هو كون هذه الأمة على النهج الأوسط المعتدل، فلا إفراط ولا
تفريط.
والى هذا القول يرجع ما قيل من أنّ الله سبحانه أقام في دينه توازناً بين متطلبات
الروح ومتطلبات البدن تحقيقاً للواقعية الكاملة.
ولذا، فإن هذه الأمة تشكّل النموذج الكامل الذي يشهد على المادّيين المفرطين بأنهم
عطّلوا الجانب المعنوي الراقي في الوجود الإنساني وأخلدوا إلى البهيمية، كما يشهد
على أولئك الذين اغرقوا في الجانب الروحي فخرجوا عن صراط الاعتدال وراحوا إلى
الرهبنة المقيتة.
وعليه، فتكون هذه الأمة مثلاً أعلى للناس، كما أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه
وآله هو المثال الأكمل لهذه الأمة.
ويقرب من هذا الرأي ما قيل من أنّ هذه الآية تؤدّي ما بيّنته الآية الكريمة الأخرى
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..}[4] فهذه الأمة المسلمة هي أسمى
أمة وأكملها، وهي واسطة العقد بين الأمم.
وقيل: إنّ المراد هو جعل هذه الأمة حجة ومناراً للخلق، فهي تبلغ أحكام الإسلام،
وتعلم الناس سبيل الكمال، كما أنّ الرسول صلى الله عليه وآله حجة عليها، إذ تأخذ
معالم الدين منه (ص) ويأخذ الناس منها هذه المعالم السامية، فتكون وسطاً بينهم وبين
(ص)، كما أنه وسط بين الأمة وبين الله تعالى.
وقيل: إنّ هؤلاء المخاطبين جعلوا في حاق الوسط والاعتدال تكويناً؛ ليقوموا بمهمة
الاشراف على الناس ومراقبة أعمالهم وأقوالهم، بل والإشراف على مبادئ نيّاتهم، وبذلك
يتحمّلون الشهادة ليؤدّوها يوم القيامة.
ومهما كان مبلغ ما قيل أو يقال من الصحة، فإنه من غير المشكوك فيه أنّ وصف
(الوسطية) السامي إنما هو للخواص من الأمة دون من ينتحل الإسلام وهو لا يفهم منه
إلا لماماً، أو هو أشقى من غير المسلمين، بل قد يكون أشقى الآخرين كما جاء في بعض
الروايات.
فإذا وصفت الأمة بأنها (الأمة الوسط) فإن ذلك على أساس وجود من يتّصف بهذا الوصف
العالي فيها، وذلك على حد قوله سبحانه وتعالى موجّهاً الخطاب إلى بني إسرائيل {:
وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا}[5] وقوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ}[6] رغم أنّ الملك كان واحداً في كل عصر، وأنّ الأفضلية على العالمين
كانت لخصوص فئة منفردة منهم. ومثله قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ..}[7] رغم أنّ
فيهم المنافقين والفاسقين.
الآية الكريمة بعد التأمل فيها وفي ما يناسبها من الآيات تؤكّد على حقيقة قرآنية
يتكرر التعبير عنها في الكتاب المجيد، وهي موقف الشهادة يوم القيامة، وتنوع الشهود
فيه على أعمال العباد. فهناك الاعضاء والجوارح، والملائكة المكرمون، والأولياء
المقربون من النوع الإنساني كالأنبياء والصالحين. فيقول تعالى: {وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ}[8] ويقول سبحانه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ
فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا
عَلَى هَؤُلاء} [9] ويقول عز وجل {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا *
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء
شَهِيدًا}[10].
فكل هذه الآيات تتحدث عن ذلك الموقف بصراحة، ولا سيّما الآيتين المذكورتين من سورة
النساء. إذ نفي الظلم أولاً عن الله سبحانه في مجال الجزاء، ثم فرّع عليه المجيء من
كل أمة بشهيد، وإحضار الرسول صلى الله عليه وآله شهيداً مما يكاد يكون صريحاً في
الحديث عن ذلك الموقف العظيم.
وأصرح من ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا
أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ
كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ}[11]وقوله تعالى: في عيسى بن مريم {وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [12].
فإذا تمّ هذا قلنا: إنّ من الطبيعي أن لا تتحقق الشهادة إلا بالحضور والإشراف على
المشهود عليه ثم أداء الواقع بدقة. كما أنّ الشهادة ليست على مجرد شكل العمل وصورته
الظاهرة المتقضية، وإنما تتكون أيضاً على ما هو السر في كون العمل طاعة أو عصياناً،
أي النية والسريرة ونوعها. فلابد إذن من أن يكون مثل هذا الشاهد واقفاً على
الضمائر، ومطّلعاً على السرائر في النشأة الأولى، لكي تتحقق مقوّمات الشهادة يوم
القيامة وفي النشأة الأخرى.
وهذا المعنى يظهر من قوله سبحانه حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام وجوابه لله
سبحانه في ذلك الموقف العظيم يوم الحساب {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ
فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[13] ذلك أن اقترن شهادة المسيح على أمته ورقابته عليهم
بشهادة الله ورقابته عليهم يدل على مدى التشابه بينهما, رغم أنّ شهادة المسيح شعاع
من تلك الشهادة. وهذا لا يتمّ إلا بالإشراف والاطلاع على القلوب.
وربما يشير إلى هذا قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[14] إذ جعلت رؤية الرسول والمؤمنين لأعمال العباد
إلى جنب رؤية الله تعالى مما يشير إلى نوع مسانخة بينهما.
وبهذا تبيّن أنّ المراد من الشهادة في الآية المبحوث عنها هي الشهادة على الأعمال،
وأنّ هؤلاء الخواص من الأمة جعلوا وسطاً ومنحوا هذه الكرامة؛ لارتباط هذه الشهادة
بهذا الوصف، سواء كان المراد بالوسطية كونهم واسطة بين الرسول والناس، أو كونهم
عدولاً غير مائلين إلى الافراط والتفريط فهم مثل عَلْيا للناس، أو غير ذلك.
ويقرب من هذه الآية في الدلالة قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}[15] وسيجيء البحث عنها إن شاء
الله تعالى.
فخلاصة الكلام: إنّ في الأمة المسلمة طائفة معيّنة فازت بمقام الشهادة على الأعمال،
وأنّ هذه الطائفة هي من ذرية ابراهيم عليه السلام على ما يقتضيه انطباق آية
الاجتباء الأخيرة على آية الشهادة.
وقد وردت روايات من الفريقين تؤيّد بل تدل على ما استفدناه من نفس الآيات من كون
الشهادة هي الشهادة على الأعمال:
فعن طريق القوم ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقول: هل
بلّغت؟ فيقول: نعم.
فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد
صلى الله عليه وآله وأمته. فيشهدون أنه قد بلّغ {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا}[16]، فذلك قوله {: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[17]
والوسط: العدل[18].
وفي الكشاف: روي أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله
الأنبياء بالبيّنة، ويقرب منه ما في الدر المنثور وروح المعاني ومجمع البيان.
وعن طريقنا روى الكليني عن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله عزوجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: نحن الأمة الوسطى،
ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه.
قلت: قول الله عزوجل {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[19]؟ قال: إيّانا عنى خاصة
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}[20] في الكتب التي مضت(وفي هذا) القرآن
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ}[21] فرسول الله صلى الله عليه وآله
الشهيد علينا بما بلّغنا عن الله عزوجل، ونحن الشهداء على الناس، فمن صدّق صدّقناه
يوم القيامة، ومن كذب كذّبناه يوم القيامة[22].
وقد عقد في الكافي باباً عنوانه(في أن الأئمة شهداء الله عزوجل على خلقه) وكذا في
البحار[23]، والمفيد في الاختصاص.
وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[24] فإن ظننت أنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل
القبلة من الموحّدين، أفترى أنّ من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع تمر يطلب الله
شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟! كلا! لم يعنِ الله
تعالى مثل هذا من خلقه، يعني: الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم، وهم الأمة الوسطى،
وهم خير أمة أخرجت للناس[25].
وهذا الصنف من الأخبار وإن كان أضيق مدلولاً من آية الشهادة ـ من جهة ـ حيث إنّ
مدلوله نوع من العمل وهو التبليغ لا جميع الأعمال من الطاعات والمعاصي كما هو مدلول
الآيات، إلا أنّ دلالته على كون الشهادة هي الشهادة على الأعمال مما لا يقبل
الإنكار.
نعم، أخبار عرض الأعمال على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الأئمة عليهم السلام
الوارد جلّها في تفسير الآية الاتي ذكرها {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[26] كالنص في علمهم بأعمال العباد. مثل
ما رواه في البحار عن البصائر عن يونس عن ابي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته
يقول في الأيام حين ذكر يوم الخميس قال عليه السلام: هو يوم تعرض فيه الأعمال على
الله وعلى رسوله وعلى الأئمة عليهم السلام[27].
وفي بعض تلك الروايات أضيف إلى الخميس يوم الاثنين، وفي بعضها كل صباح ومساء.
وهنا لابد وأن ننبّه على ما يبدو من الاختلاف بين ما دلّت عليه آيات الشهادة بل
دلّت عليه آية الرؤية أيضاً ـ التي اقترنت فيها رؤيتهم لأعمال الخلق برؤية الله
تعالى ـ وبين مدلول تلك الأخبار. فالآيات تدل ظاهراً على إشرافهم المستمر على
الأعمال, بل على أسسها ومبادئها النفسية التي تصبغ العمل بالطاعة والعصيان، في حين
نجد أنّ الأخبار تُوهِم عدم إشرافهم على الأعمال حين صدورها من الفاعلين حيث عبّرت
بالعرض عليهم، فلماذا العرض إذا كانوا مشرفين على الأعمال وعلى مبادئها النفسية؟
إلا أنّ هذا الاختلاف يرتفع بعد التأمل في مراتب العلم والشهود.
ذلك أنّ للعلم مراتب متفاوتة، والتعبير بالعرض تعبير عن بعض مراتبه, ومن هنا يمكن
أن نصحح العرض على الله سبحانه وتعالى يوم الخميس، مع أنه لا يعزب عن علمه مثقال
ذرة في الأرض ولا في السماء.
مقتضيات هذا المقام الرفيع.
وإذا استعرضنا جلال هذا المقام الرفيع وما أثبتته آيات الشهادة لهؤلاء الكرام من
العلم الحضوري أمكننا أن نتوصّل إلى بعض مقتضيات هذا المقام، وها نحن نذكر بعضها:
الأول: علمهم عليهم السلام بالغيب بسبل تختلف عن سبل غيرهم من الناس، وهو ظاهر.
الثاني: إنهم واسطة الفيض الإلهي المعبّر عنه بـ (الولاية التكوينية) فإن العلم
الحضوري هو حضور المعلوم بوجوده الخارجي عند العالم وهذا ـ كما برهن في محله ـ لا
ينطبق في المقام إلا على علم العلة بمعنى ( ما به ) على المعلوم.
ويدل على ذلك روايات، منها ما رواه في الكافي عن مولانا الصادق عليه السلام قال:
إنّ الله خلقنا فأحسن خلقنا وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه
الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه،
وبابه الذي يُدلّ عليه، وخزانه في سمائه وأرضه. بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار،
وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد الله، ولولا
نحن ما عُبد الله[28].
الثالث: العصمة من الضلال، فإن إطلاق الوسط وعدم تقييده في قوله سبحانه يدل على
أنهم في قلب الوسط الحقيقي، ولذا فهم معصومون عن الانحراف والإفراط والتفريط.
على أنّ قوله سبحانه وتعالى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[29] يدل ـ كما سبق ـ
على أنّ الله تعالى قد اصطفاهم من بين الناس، وهو ما نطق عليه قوله تعالى: {هُوَ
اجْتَبَاكُمْ}[30]. وقد رأينا القرآن الكريم ينص على اجتباء ثلّة من الأنبياء
كإبراهيم ويوسف عليهما السلام، وواضح أنّ الاجتباء يعني اصطفاءهم وجعلهم خالصين من
كل ما يدنّس الفطرة ويشوبها بالأكدار، وبذلك يئس ابليس من إغوائهم حيث قال: {قَالَ
رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[31] وقال سبحانه في حق
يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [32]وما ظنّك بمن كان الله عزوجل يتولّى أمره
ويصرف عنه السوء والفحشاء؟!
الرابع: أنّ هؤلاء الشهداء موجودون في الناس ولو على سبيل البدل والتدريج ما دام
السلام إلى يوم القيامة.
روى الكليني ـ قدس سره ـ عن سماعة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام في قول الله
عزوجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلاء شَهِيدًا}[33] قال: نزلت في أمة محمد صلى الله عليه وآله خاصة، في كل منهم
إمام منّا شاهد عليهم، ومحمد (ص) شاهد علينا[34].
___________________________________
[1] سورة البقرة، الآية: 143.
[2] شرح الشفا: ج 1، ص 209.
[3] سورة البروج، الآية: 9.
[4] سورة آل عمران، الآية: 110.
[5] سورة المائدة، الآية: 20.
[6] سورة البقرة، الآية: 47.
[7] سورة الفتح، الآية: 29.
[8] سورة الزمر، الآية: 69.
[9] سورة النحل، الآية: 89.
[10] سورة النساء، ، الآية: 40 ـ 41.
[11] سورة هود، الآية: 18.
[12] سورة النساء، الآية: 159.
[13] سورة المائدة، الآية: 117.
[14] سورة التوبة، الآية: 105.
[15] سورة الحج، الآية: 78.
[16] سورة البقرة، الآية: 143.
[17] سورة البقرة، الآية: 142.
[18] صحيح البخاري: ج6.
[19] سورة الحج، الآية: 78.
[20] سورة الحج، الآية: 78.
[21] سورة الحج، الآية: 78.
[22] الكافي: ج1، ص 190.
[23] راجع الجزء 23 من الطبعة الحديثة.
[24] سورة البقرة، الآية: 142.
[25] راجع الجزء23 من الطبعة الحديثة.
[26] سورة التوبة، الآية: 105.
[27] البحار: ج23، ص 346.
[28] الكافي: ج1، 144، ح5.
[29] سورة البقرة،الآية: 142.
[30] سورة الحج، الآية: 78.
[31] سورة الحجر، الآية: 39، 40 ص: 83.
[32] سورة يوسف، الآية: 24
[33] سورة النساء، الآية: 41.
[34] الكافي: ج1، ص 190، ح1.