مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

الإمامة والولاية فى القرآن الكريم

في نهاية المطاف

نتائج البحث في الآيات الشريفة

رأينا في خاتمة هذه البحوث أن نلخص نتائجها لتسهل عملية الربط وتتوضح الصورة المطلوبة، وذلك كما يلي:
1ـ نتيجة البحث في آية الخلافة:

الأول: أن الخلافة جعل إلهي ولا دخل لغيره في جعله
الثاني: أنّ الخلافة الإلهية المذكورة مطلقة غير مخصوصة بجهة معيّنة.
الثالث: أنّ منح هذه الخلافة الإلهية المطلقة متوقف على علم المرشح لها بجميع أسماء الله الحسنى وصفاته العليا؛ لكي يتمكن من التعبير عنها، كما هو متوقف أيضاً على معرفته لجميع المخلوقات؛ ليتمكن من القيام بمهمة تدبيرها وقيادتها.
الرابع: أنّ الخلافة لا تنحصر في شخص آدم عليه السلام، وذلك لما يرشدنا إليه اعتراض الملائكة بسفك الدماء, هذا من جهة، ومن جهة فإنه لا يستحقها جميع أبناء آدم المفسدين في الأرض، وإنما يختص بها العالم بجميع الأسماء.
الخامس: إنّ وجود ذلك الخليفة هو الغاية القصوى والهدف الأسمى لخلق الإنسان في كل زمان، أما غيره فهم تبع له سائرون تحت ظل قيادته الحكيمة.
2ـ نتيجة البحث في آية الإمامة:

الأول: أنّ الإمامة المجعولة لشيخ الأنبياء ابراهيم عليه السلام لم تكن مقاماً نفسياً خاصاً له لا يمتلك بعداً اجتماعياً، بل إنما جعل للناس إماماً.
الثاني: أنه منح هذا المقام العالي بعد أن كان نبياً رسولاً، وعندما كان قد كَبُر ومرّ بامتحانات كبرى، فأتمّ الكلمات التي ابتلاه الله بها.
فلم يكن منحه هذا المقام مما يرجع إلى شريعته وأحكامها التي أعطيت للناس، بل هو راجع إلى هدايته الحقّة التي تصل إلى كل من يستعد لها تكويناً.
الثالث: أنّ ذلك العهد الإلهي(الإمامة) لا ينال أي ظالم أبداً ولو لنفسه، وهذه هي العصمة.
الرابع: أنّ الإمامة عهد إلهي، وليس أمراً يترك للناس تعيينه وانتخاب صاحبه.
الخامس: إنّ كون الشخص إماماً يقتضي أن يكون قوله وفعله وتقريره مطلقاً حجة على الخلق فتجب طاعته.
السادس: إنّ إمامته وهدايته الباطنة للناس تستلزم علمه الشهودي بمجاري تلك الهداية.
3ـ نتيجة البحث في آية أولي الأمر:

الأول: إنّ للرسول مقامين:
(المقام الأول) الرسالة أي كونه واسطة في إبلاغ ما يوحى اليه من الله تعالى من الأحكام وغيرها إلى العباد.
(المقام الثاني) القيادة والزعامة وولاية الأمر أي الحكومة على الأمة، فتجب طاعته في أوامره الحكومية كما تجب طاعته في أوامره التبليغية عن الله سبحانه.
الثاني: أنّ إطاعته في كل المقامين على نسق واحد، فهو إذاً معصوم لإطلاق الأمر بالطاعة واقتران إطاعته بإطاعة الله تعالى.
الثالث: أنّ إطاعة أولي الأمر هي نفس إطاعة الرسول في ما يرجع إلى مقامه الثاني.
الرابع: أنّ الظاهر من الإطلاق الزماني لإطاعة أولي الأمر عدم خلو زمان من أحدهم.
الخامس: أنّ المراد من أولي الأمر أفراد معصومون من الأمة، فلا ينطبق هذا العنوان على الهيئة الاجتماعية أو أهل الحل والعقد ـ كما اصطلحوا عليه.
السادس: أنّ أولي الأمر كما أنهم المرجع في المجالات الإدارية العامة كذلك هم المرجع في معرفة التشريعات الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله.
4ـ نتيجة البحث في آية الولاية:

الأول: أنّ الولاية لا تعني في تمام مواردها إلا القرب والدنو.
وهذا القرب والدنو يقتضي الاتصال والتأثير، ويستلزم التصرف والتدبير، أو المحبة، أو التسلط. فلا تكون مشتركاً لفظياً بين هذه المعاني، بحيث يكون استعمالها في أحدها يختلف تماماً عن استعماله في الآخر.
الثاني: أنّ الركوع هو الانحناء، واستعماله في الخضوع والتذلل مجازي.
الثالث: أنّ الله وحده هو ولي المؤمنين أصالة، ثم وليهم ـ تبعاً لولاية الله تعالى ـ الرسول صلى الله عليه وآله، ثم الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، وهم غير المخاطبين المولى عليهم.
الرابع: أنّ العلاقة بين المؤمنين وهؤلاء الأولياء إنما هي العلاقة التي يتصرف بها الولي في أمور المولى عليهم، فليست إلا الأولوية في التصرف.
الخامس: أنّ من ينطبق عليه عنوان(الَّذِينَ آمَنُوا..) هنا هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، كما أطبقت عليه روايات الفريقين.
وهذا من باب انطباق العنوان على مصداقه ومعنونه، كما وجدنا ذلك في موارد كثيرة أخرى، وليس من استعمال لفظ الجمع في المفرد.
السادس: أنه لا يختلف الموقف من هذه النتائج في حالة وحدة السياق عنه في ما إذا فرضنا التعدد وانفصال هذا المقطع عن المقاطع الأخرى من الآية.
السابع: أنّ الإمام علياً عليه السلام نفسه احتجّ بهذه الآية مراراً.
5ـ نتيجة البحث عن آية التبليغ:

هي أننا إذا استعرضنا جميع الأحكام الإسلامية لم نجد فيها ما يصح أن يجعل ترك تبليغه للناس بمنزلة ترك تبليغ مجموع الرسالة الإسلامية، وما يمكن معه أن يخاف الرسول صلى الله عليه وآله من الناس في إبلاغه وينتظر الفرصة السانحة الثمينة. اللهم إلا إذا كان ذلك أمراً في مستوى أمر الرسالة، وهو الولاية التي اثبتتها آية الاكمال، وذلك باعتبار أنّ الإمامة والولاية هي سر بقاء الشريعة وخلودها. وهناك روايات تؤيد ذلك.
6ـ نتيجة البحث في آية الاكمال:

الأول: أنّ الآية لاترتبط بما قبلها وما بعدها بسياق واحد.
الثاني: أنّ المراد من اليوم الذي يئس فيه الكفار وكمل فيه الدين هو يوم الغدير لا غير.
الثالث: أنّ علة يأس الكفار وكمال الدين هو وضع نظام الإمامة والنيابة الدائمة التي تجعل الدين الإسلامي غير قائم بالشخص.
الرابع: أنّ المراد بالنعمة هنا هي الولاية.
الخامس: أنّ هذه الأمور لَمّا لم تكن برهانية فقد أثبتت بالروايات من الفريقين.
7ـ نتيجة البحث في آية علم الكتاب

الأول: أنّ هذه الآية بصدد تقوية قلب النبي صلى الله عليه وآله وتثبيته في قبال تأثيرات إنكار المنكرين لرسالته، وذلك بإعلان شهادة الله على ذلك ـ وكفى به شهيداً ـ وشهادة من عنده علم الكتاب.
الثاني: أنه يمكن معرفة المراد بعلم الكتاب ـ إلى حدّ ما ـ بملاحظة قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[1].
الثالث: أنّ اقتران شهادة من عنده علم الكتاب بشهادة الله ووصفها بأن فيها الكفاية دليل على رفعة شأن صاحبها. وقد وردت روايات كثيرة من الفريقين تدل على أنه أمير المؤمنين علي عليه السلام.
8ـ نتيجة البحث في آية البينة:

الأول أنّ الشاهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته، ويكون تالياً له (ص) وبمنزلة نفسه.
الثاني: أنّ مبادئ تحمل هذه الشهادة تختلف عن مبادئ سائر الشهادات، إذ الشهادة هنا عن حضور وشهود لحقيقة النبوة، ورؤية جبرائيل حين الوحي.
الثالث: أنه لابد وأن يكون الشاهد معصوماً من الخطأ والنسيان ومن تصرفات الشيطان، لكي لا يبقى أي ريب في الشهادة.
الرابع: أنّا إذا جمعنا هذه الآية مع آية(عِلْمُ الْكِتَابِ) عرفنا أنّ هذا الشاهد هو مَنْ عنده علم الكتاب. وقد دلّت الروايات من الفريقين على أنه هو أمير المؤمنين علي عليه السلام.
9ـ نتيجة البحث في آية المباهلة:

الأول: مدى فضل أهل البيت، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وأنهم أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأخص خاصّته لديه، وأنّ علياً عليه السلام ينطبق عليه عنوان (نفس النبي) كما صرّح به الرسول( ص) في الأخبار واحتجّ به علي عليه السلام يوم الشورى.
الثاني: أنّ أهل البيت عليهم السلام الذين شاركوا النبي صلى الله عليه وآله في المباهلة قد شاركوه في الدعوى والدعوة أيضاً.
10 ـ نتيجة البحث في آية التطهير:

الأول: أنّ ارادة الله تعالى نوعان: تشريعية يمكن تخلّف مرادها عنها، وتكوينية لا يمكن فيها ذلك.
الثاني: أنّ ارادة الله سبحانه تعلّقت بإذهاب الرجس عن أهل البيت عليهم السلام تكويناً دون غيرهم، ذلك أنّ الارادة التشريعية بالتطهير لا تختص بهم. بل تعمّ جميع الناس المكلفين.
الثالث: أن ليس القصر هنا قصر قلب ليشمل عنوان( أهل البيت) نساء النبي صلى الله عليه وآله، وذلك لتذكير الضمير في هذا المقطع خاصة مع تأنيثه في غيره من المقاطع.
الرابع: أنّ هناك روايات جمّة من الفريقين متطابقة على نزول الآية في شأن الخمسة الطيبة عليهم السلام.
11ـ نتيجة البحث في آية المودة:

هي أنّ القرآن يحدّثنا في آيات مختلفة عن سنّة ثابتة للأنبياء جميعاً وهي عدم سؤال الأجر، وهذا القانون لا استثناء فيه مطلقاً. أما الأجر المسؤول في هذه الآية فليس من سنخ الأجر المنفي بذلك القانون، وإنما يرجع إلى مسألة بقاء الرسالة الإسلامية وارتباط الأمة بقيادتها، فيجب مودة ذوي القربى لذلك.
12 ـ نتيجة البحث في آية الشهادة:

الأول: أنّ الله تعالى منّ على المؤمنين بأن جعلهم أمة وسطاً، والوسطية هي الاعتدال الكامل وعدم الافراط والتفريط.
الثاني: أنّ غاية ذلك الجعل هي كونهم شهداء على الناس وكون الرسول شهيداً عليهم.
الثالث: أنّ هذه الشهادة تقوم على أساس الحضور والإشراف في مرحلة تحملها ثم إظهارها في مرحلة الأداء.
الرابع: أنّ الشهيد في هذا المقام لابد وأن يحضر الأعمال بتمام الجهات: ظواهرها ومبادئها، حتى يتمكن من الأداء وكشف الواقع كما كان.
الخامس: أنه لا يمكن اتّصاف جميع أفراد الأمة بهذه الصفة، فلابد أن يكون فيهم من يكون متّصفاً بها.
السادس: أنّ هؤلاء الشهداء معصومون بحكم اطلاق الوسطية المجعولة.
السابع: أنهم عالمون بالغيب؛ لأنهم يشهدون ويشرفون على ضمائر الناس.
الثامن: أنهم يشكّلون واسطة الفيض الإلهي، فلهم الولاية التكوينية بمقتضى كون علمهم هذا حضورياً ـ بناءً على ما برهن في محله.
التاسع: أنه لا تخلو الحياة الإنسانية من وجود هذه الحجة الإلهية.
13 ـ نتيجة البحث في آية الاجتباء:

هي أنّ الله تعالى اجتبى من عباده المؤمنين طائفة ليكون الرسول شاهداً عليهم ويكونوا شهداء على الناس. وهذا الاجتباء يلازم الإسلام والتسليم الحق الذي استوهبه ابراهيم عليه السلام في دعائه بعد أن كان قد حاز على مقام شامخ من التسليم والنبوة. ولذلك فإن المجتبى في هذه الآية لا يمكن أن يكون إلا الفرد المتميّز المسلم مطلقاً لله تعالى.
ولَمّا كانت غاية ذلك الاجتباء الشهادة على الناس كشهادة الرسول صلى الله عليه وآله عليهم، لزم أن يكون هؤلاء الشهداء مطّلعين على أعمال العباد بجميع منابعها النفسية.
14 ـ نتيجة البحث في آية رؤية الاعمال:

الأول: أنّ أعمال الناس مطلقاً بمرأى ومنظر من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله والمؤمنين المصطفين، وأنهم يرونها قبل موقف القيامة.
الثاني: إنّ رؤية الرسول صلى الله عليه وآله والمؤمنين ـ بمقتضى وحدة السياق ـ تكون بحضور العمل لديهم وإشراف الرائي على المرئي دون الرؤية البصرية، فإنها لا تخصّهم. ومثل هذه الرؤية ليست متوفرة لجميع المؤمنين، فالمراد هنا بعضهم.
الثالث: أنّ ذلك هو ما تقصده روايات عرض الأعمال على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الأئمة المعصومين عليهم السلام التي وردت في ذيل الآية تفسيراً لها.
________________________________
[1] سورة النمل، الآية: 40.


مسك الختام

وفي ختام هذا البحث لابد من التعرّض لموضوعين هاميّن وملاحظة الإشكالات التي قد تثور في الأذهان حولهما، وهما: العلم بالغيب. والعصمة.
الأول: العلم بالغيب

ربما يستشكل على القول بعلم النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بالمغيّبات:
أولاً: بأنه مناف للآيات الدالّة على انحصار العلم بالغيب بالله تعالى كقوله عزوجل: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}[1] وقوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}[2]والآيات الدالة على عدم علم النبي صلى الله عليه وآله بالغيب كقوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}[3] وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}[4] إلى غير ذلك.
وثانياً: بأنه مناف لسيرتهم العملية من التوسل بالأسباب العادية لحصول العلم، بل مشاورة غيرهم في الأمور، كما هو المأمور به في الكتاب العزيز.
وثالثاً: بأنه لا يمكن تصحيح كثير مما أقدموا عليه طيلة حياتهم إلا بالجهل بالعواقب، كسوق الجيش إلى معركة غير ناجحة، والتضحية بأعز الأنفس وأخلص الأصحاب في قتال غير ظافر، فإن مثل هذه الأفعال مع العلم بالخيبة والهزيمة غير سائغ عقلا وشرعاً، فوقوعها منهم دليل على عدم علمهم بعواقبها.
وهذه الإشكالات تنشأ من قلّة التدبّر في الآيات، وضعف البصيرة في الدين، وقصور الباع في مجال الحقائق العقلية. وترتفع هذه الشبهات بمعرفة أمور:
(الأول): إنّ العلم بالغيب ربما يطلق على العلم بما غاب عن حواس الإنسان بأي طريق حصل، ولو كان من البرهان العقلي أو الدليل النقلي، كالعلم بوجود الصانع ووحدته تعالى، وربما يطلق على العلم بما غاب عن الحس والعقل، كأحوال البرزخ والقيامة، وأخيراً يطلق على العلم الاستقلالي بما غاب عن مشاعر الخلق اطلاقاً.
ومن الواضح إمكان العلم بالغيب بغير المعنى الأخير لغير الله تعالى. فمنه ما هو حاصل لجميع المؤمنين بل لغيرهم أيضاً بدلالة العقل. فإن الإيمان بالغيب يستلزم العلم به، فالمتقون الذين يؤمنون بالغيب عالمون به. كما أنهم عالمون ببعض الغيب عن طريق إخبار الله تعالى في كتابه، كغلبة الروم مثلاً قبل أوانها، وكعلمهم بالحوادث الماضية التي لا تنالها حواسّهم مما كشف عنه القرآن الكريم، وقد قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ}[5].
ولا يرتاب أحد في عدم شمول الآيات النافية لمثل هذه العلوم، ولا يرى أحد تعارضاً بينها، وذلك لأجل انصراف الآيات النافية إلى العلم الذاتي الذي لا يكون بتعليم من الله تعالى بوحي أو الهام أو غيرهما ـ إذا كان هناك طريق آخر ـ فإذا اختصّ الله تعالى عبداً من عباده بالعلم بالمغيّبات بأحد هذه الطرق صحّ نفي العلم بالغيب عنه بالمعنى الأخير كما صحّ إثباته له بمعنى آخر، إلى ذلك يشير قول أمير المؤمنين عليه السلام(إنما هو تعلّم من ذي علم)[6].
(الثاني): إنّ العناوين التي تطلق على الإنسان ـ كنفس هذا العنوان (الإنسان) ـ قد يلاحظ فيها مرتبة خاصة من وجوده، كالجانب المادي منه مثلا، كما في قوله تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ}[7] وقوله عز وجل {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[8]فإن من المعلوم أنّ الماء والتراب هما مادة البنية البدنية للإنسان، ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}[9]. وقد يلاحظ فيها الجانب الروحي فقط.
كقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}[10] فان الذي يقبضه ملك الموت هو الروح، وقد أشير اليه بضمير المخاطب (كم). وقد يلاحظ فيها مجموع الجانبين بصرف النظر عن الكمالات الحاصلة له في طريق التكامل. وقد يلاحظ فيها مع ذلك ما يكسبه بالطرق العادية، كما أنه قد يلاحظ فيها جميع شؤونه الوجودية، حتى أعلى الكمالات النورية التي يصل في غاية سيره الصعودي بنحو من الأنحاء، تلك الكمالات المنزّهة عن شوائب المادة، والمحيطة بآفاق الزمان والمكان، والمهيمنة على جميع ما دونها من الكمالات الإمكانية إن ساعده التوفيق.
فإذا اطلق الإنسان أو عنوان آخر على شخص أو أتي بضميره وأريد به بعض هذه المراتب لزمه الحكم الخاص بتلك المرتبة، ولا ينافي ذلك ثبوت مرتبة أخرى له وإثبات حكم آخر بالنظر إليها، ففي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}[11]جعل الموضوع للقضية الضمير الذي يشير إلى الجانب البشري وحمل عليه البشرية المشتركة بينه وبين سائر الأفراد، ثم أضيف اليه أنّ له خاصة أخرى هي إدراك الوحي الذي يلقى اليه من الله تعالى. وفي قوله {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[12] اُشير إلى المرتبة البدائية من الخلقة الفاقدة للهداية الإلهية، ولا ينافي ذلك ثبوت مرتبة عليا له ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ بالنظر إلى ما خصّهم الله تعالى به من الكرامات التي لا مطمع فيها لسائر الناس. فنفي صفة عنه بلحاظ مرتبة دانية من وجوده الشريف لا ينافي إثبات نفس الصفة لها بالنظر إلى مرتبة عليا، وإنما يترجّح اعتبار مرتبة خاصة دون أخرى حسب ما تقتضيه مقامات التخاطب المختلفة كما لا يخفى. وبهذا الوجه يجمع بين طوائف من الآيات والروايات الموهمة للتعارض، فتأمل هذا جيداً.
(الثالث): إنّ العلم إما حضوري يتعلق بعين المعلوم بلا واسطة كعلم الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله، وإما حصولي بواسطة الصورة الحاصلة في القوة المدركة كعلمنا بالأعيان الخارجية وبالأمور الاعتبارية بواسطة الصور والمفاهيم. أما العلم الحضوري في الإنسان فيختص بنفسه وقواه وأفعاله وانفعالاته، كما أنّ علمه الحصولي يحصل له بتأثير من الخارج فيه من طريق حواسّه الظاهرة والباطنة التي هي كالنوافذ التي تتفتح على الخارج، فتنعكس صور الأشياء بسببها في قواه الإدراكية.
ثم يحصل له نوع آخر من العلم بفعالية ايجابية من الذهن، وهو أيضاً من سنخ العلوم الحصولية. وهذا لا ينافي كون نفس المفاهيم والصور العلمية معلومة للنفس بالعلم الحضوري، فإنها من هذه الحيثية تكون من أفعالها أو انفعالاتها.
وهذه العلوم هي التي تعد علوماً إنسانية بحسب النظر المتعارف، كما أنّ الأفعال المرتبطة بها تعد أفعالاً إنسانية، لكن يمكن النظر إلى الإنسان وعلومه وأفعاله من منظر آخر، وهو أنه موجود رابط تعلّقي لا استقلال له في ذاته وشؤونه ولا يملك لنفسه ضرّاً ولا رشداً.
وفي هذه النظرة يرى الإنسان فاقداً لأي كمال وجودي من علم وقدرة وغيرهما.
كما أنه يمكن أن ينظر إلى بعض أفراد الإنسان من منظر ثالث، وهو النظر إلى من بلغ مرتبة عالية من الكمال فوق ما يناله الإنسان العادي، فأوتي من عند الله علماً إلهياً بما هو مختف عن مدارك الناس ومحتجب تحت أستار الغيب، وأوتي قدرة ربانية على ما يعجز عنه عامة الخلق كإحياء الموتى وشفاء المرضى بل الخلق بإذن الله تعالى.
ولكل نظر من هذه الأنظار حكمه الخاص به، ولا منافاة بين الاحكام المختلفة على شخص واحد من الجهات المتعددة. كما أشرنا اليه في الأمر الثاني. فعلم عيسى بن مريم عليه السلام بما كان الناس يدّخرون في بيوتهم وقدرته على إبراء الأكمه والأبرص بحسب النظر المتعارف لا يعدّان علماً وقدرة إنسانيين، كما أنّ علومه وأفعاله العادية أيضاً تعد بحسب النظر الثاني ملكاً لله تعالى وتسلب عنه حقيقة.
لكن جميع علومه وأفعاله تنسب إليه بحسب النظر الثالث، فكان له أن يقول: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}[13] فيقول: لي هذه القدرة والعلم بحسب هذا النظر، وله أن يقول: إنّي لا أملك شيئاً لا علماً ولا قدرة، وهذا بحسب النظر الثاني، وله أن يقول: أنا مثلكم، لي مالكم من العلم والقدرة، ولكن يعلّمني ربّي مالا يعلّمكم، ويقدرني على مالا تقدرون عليه، وهذا بحسب النظر المتعارف.
ثم إنّ العلم قد يتعلق بأمور منتظمة في نظام ضروري من العلل والمعاليل بما فيه إرادة الإنسان واختياره، ومثل هذا العلم لا تأثير له في الإرادة؛ لأنه كاشف عن مجموع المراد والإرادة المنبثقة عن مبادئها، بخلاف سائر العلوم الحصولية التي تؤثر في انتشاء الإرادة، سواء حصلت من الأسباب العادية أو غيرها.
***
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أنّ اثبات العلم بالمغيّبات للنبي والأئمة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ إذا كان بمعنى العلم الحضوري كان بلحاظ مقامهم النوري الذي هو فوق وعاء الحركات والتغيرات والتقدمات والتأخرات الزمانية. ووصولهم إلى ذلك المقام وإن كان بلحاظ ظرف المادة ووعاء الحركة متأخراً زماناً إلا أنه بحسب المرتبة الوجودية وبلحاظ القوس النزولي متقدم دهراً. وهذا أمر لا تسعه الأفهام المنغمرة في الماديات، ولا ينبغي القاؤه اليهم. ولسان الروايات في هذا المقام أنّ نورهم عليهم السلام خلق قبل كل شيء وانتقل بعد خلق آدم إلى صلبه وأصلاب أبنائه إلى أن خلقت أجسادهم فاستقر فيها.
وإذا كان بمعنى العلم الحصولي فيتصور له معنيان: أحدهما العلم بالنظام الضروري بما فيه الإرادة ومبادئها، وقد سبق أنّ مثل هذا العلم لا يكون من مبادئ الإرادة ولا مؤثراً فيها، بل علم بالعلوم التي تشكّل مبادئ الإرادة وبالإرادة المنبثقة عنها وبالمراد الذي يحصل بها. وثانيهما العلم بالأشياء الجزئية من طرق الوحي والإلهام، وهذا كالعلم العادي يؤثر في الإرادة، لكن مرتبة وجوده أدنى من مرتبة العلم بالنظام الضروري، وهي مرتبة من النفس تتجلّى فيها الارادة.
ولا يرد على شيء من هذه العلوم إشكال اختصاص العلم بالغيب بالله تعالى؛ لأنها كلها حاصلة بنوع من التعليم المناسب لها من الله سبحانه، وقد عرفت أنّ هذا غير العلم بالغيب بالمعنى المختص بالله تعالى.
ولا تنافيها سيرتهم العملية؛ لأن العلم الحضوري والعلم بالنظام الكلي متعلق بالحوادث بما لَها من العلل والمعدات. وأما العلم الحصولي بمعناه الثاني فهو ثابت بالإيجاب الجزئي لا الكلي.
وبذلك يظهر الجواب عن الإشكال الثالث أيضاً؛ لأن العلمين الأولين وإن كانا شاملين لجميع الموارد إلا أنه لا تأثير لهما في انتشاء الإرادة كما مرّ توضيحه. وأما العلوم المؤثرة فيها فليست كلها حاصلة من الطرق غير العادية التي تعد علوماً غيبية، بل كثير منها حاصل من الطرق العادية، وشأنها في التأثير في الأفعال المنسوبة إلى جانبهم المادي شأن علوم سائر الناس.
وينبغي التنبيه على أنّ تضيحة الأنفس وتعريضها للقتل ـ حتى مع العلم بعدم النصر العاجل ـ ليست بممنوعة مطلقاً، فإنها ربما تؤدي إلى النصر الآجل ولو بعد سنين أو قرون، وربما تكون سبباً لهداية قوم إلى الله ووصولهم إلى ساحة قربه الأسمى ولغايات أخرى لا نحيط بها علماً.
فالإقدام على التضحية والقتال غير الناجح ليس دليلاً على عدم العلم بالعاقبة اطلاقاً.
الثاني: العصمة

إنّ ما سبق من الآيات يكفينا مؤونة البحث عن عصمة هؤلاء الصفوة مستقّلاً، فلا يرتاب سليم الفطرة عن رجس الآفات وسقم العاهات بعد إمعان النظر فيها حق الإمعان في أنهم ـ صلوات الله عليهم ـ مطهّرون عن كل عيب وشين، وأنه لا يجوز في عناية الله تعالى أن يتخذ للرسالة والإمامة رجلاً تزدريه الأعين وتستحقره النفوس لِمَا به من مهانة النفس ورعونة الأخلاق وسابقة الخطأ والجفاء، وهو القائل عزّ من قائل: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[14]{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}[15].
وقد أكد ـ تبارك وتعالى ـ عصمتهم تصريحاً وتلويحاً في كتابه الكريم مرات عديدة وبأساليب مختلفة:
(فمنها) قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}[16] فإن ظاهر هذه الآيات أنّ الوحي مصون من الإلقاءات الشيطانية من لدنّ مصدره إلى البلوغ إلى الناس، بإرسال المراقبين الحارسين له من قِبَل الله تعالى.
(ومنها) قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [17]حيث جعل الرسول مطاعاً مطلقاً في جميع ما من شأنه أن يطاع فيه من الأفعال والأقوال والآداب. فلو احتمل وجود خطأ منهم في بعض ما له مساس بالطاعة ـ كائناً من كان ـ للزم أن يكون قد أمر الله تعالى بإتباع الخطأ والضلال، وهذا مستحيل على الله سبحانه.
(ومنها) قوله عزوجل: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[18]ويقرب منه قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ..} [19] فتأمل في قوله تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}فهل يظنّ الشين والخطأ بمن كان في حراسة الله وشدة عنايته به؟!
(ومنها) قوله تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[20]وهذا كما ترى اعتراف من ابليس ـ وهو مبدأ الضلال ـ بعجزه عن إغواء هؤلاء الذين أخلصهم الله واصطنعهم لنفسه، وقال تعالى في شأن سيدنا يوسف الصدّيق عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[21]وهذه الآية تدل على تعلق عناية الله تعالى بصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين، فما ظنّك بمن يتولّى الله أمره ويكون في كلاءته وحراسته ويؤكد عصمته بمثل هذا الضمان الصريح؟!
ولسنا بصدد احصاء الآيات الدالة على عصمتهم وبيان وجوه دلالتها، بل المقصود هو التنبيه على أنّ القلوب السليمة عن الأمراض المعنوية لا يعتريها ريب في ذلك. وأما المبتلى بنزغات الشيطان الممرور الذوق فربما يتذوّق حلاوة أعمالهم وآدابهم فيجدها بمقتضى ذوقه الصفراوي مريراً، فينسب الشين اليهم ـ والعياذ بالله ـ وهو لا يدري أنّ أصل تلك المرارة هو مداركه المؤوفة، ولو عرف المسكين وكان ذا نصفة لعلم أنه ينسب الشين لنفسه هو دون غيره.
ولذلك تصدّى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام لدفع تلك الشبهات وتنزيه ساحة الأنبياء من هذه النسبة.
ولكن بِمَ تمسك المبطلون من الآيات فنسبوا الشين والعصيان إلى ساحتهم المقدسة؟
نحن هنا نقتصر على استعراض الآيات التي استندوا اليها في نسبة الشين إلى النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والعياذ بالله تعالى.
(فمنها) الآيات التي تنسب الذنب له صلى الله عليه وآله، وهي ثلاث:
إحداها: قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}[22] .
والثانية: قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}[23].
والثالثة: قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[24].
قال الراغب في المفردات: الذنب هو الأخذ بذنب شيء يقال: ذنبته أصبت ذنبه. ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه، اعتباراً بذنب الشيء، ولهذا يسمّى الذنب(تبعة) اعتباراً لما يحصل من عاقبته.
ويقرب منه ما عن غيره.
والفعل الذي تخاف مغبّته على أنحاء:
منها ـ التمرد على القوانين المشرعة لتنظيم الحياة الاجتماعية، إذ يعدّ المتمرّد عليها مذنباً وتناله العاقبة السيئة المتناسبة ومدى تمرّده شدّة وضعفاً. وهذا هو الذنب الوضعي الذي يقابله الجزاء الوضعي.
ومنها ـ الخروج على القوانين الأخلاقية. ذلك أنّ الأخلاق الفاضلة كالشجاعة والعفة والعدالة بكل تفريعاتها وبناءاتها العلوية وإن كانت جيمعاً أوصافاً نفسية لا ضامن لإجرائها عملياً لأنها ملكات لا اختيارية بنفسها، لكنها اختيارية بالقدرة على محصّلاتها ومقدماتها بإمكان تكرار العمل. فهناك أوامر عقلية بتحصيل تلك الفضائل، ونواهٍ مثلها عن ما يقابلها من الرذائل. ولهذا يعدّ المتخلف عنها مذنباً ذنباً خُلقياً، وله, جزاؤه المنسجم معه وعاقبته الوخيمة.
ومنها ـ عدم الاتيان بالعمل على هيئته الصالحة التي تنبغي له أو بما ينسجم من الآداب. ذلك أنّ العامي البسيط قد يقوم بعمل يعدّ مشروعاً اجتماعياً أخلاقياً وبشكل لا يلام عليه بملاحظة إدراكه وظروفه، في حين يعدّ نفس هذا العمل بتلك الهيئة من السيئات إذا قام به شخص يعيش مستوى أرقى وظرفاً أسمى من ذلك. والى هذا المعنى يشير ما اشتهر من أنّ ((حسنات الأبرار سيئات المقربين)). ولذا، فلا مانع من تسمية هذا الذنب بالذنب الأدبي، وله من الجزاء ما يناسبه أيضاً.
ثم إنّ من البديهي أنّ للحب مراتب، وأنّ غاية الشريعة هي السير بالمؤمنين نحو الكمال المطلق، حيث لقاء الله والتكرم بولايته. وهذا لا يتمّ للإنسان إلا إذا طهرت نفسه من أدران عبادة الأوثان وأتباع الإلهة الباطلة، فلم يبقَ له في توجّهاته إلا وجه الإله الحق، وإلا إذا انغرس حب الله جل وعلا في أعماق قلبه حتى استوى لديه الأنعام والايلام.
ومثل هذا الانسان المكرم الذي أخذت محبة الله بمجامع قلبه واتجهت نفسه بشوق ما بعده شوق نحو الكامل المطلق فلم يعد له مطلوب سواه، ولا دين إلا هذا الحب وتحقيق مقتضياته بالقيام بصالح الأعمال والابتعاد عن الموبقات؛ لأن الله يحب ذلك، لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره وإنما لصرف الحب الأصيل، وبعد هذا الحب لا يريد جزاءاً ولا شكوراً.
مثل هذا الانسان إذا عرضت له غفلة ما عن محبوبه عدّ ذلك ذنباً عظيماً، ولا ذنب أشد من ذنب البعد، حتى ليكون الانشغال بضروريات الحياة معدوداً عنده من الذنب الذي يلقى سدل البعد بقدره.
وعلى هذا المعنى تحمل الآيتان الأوليان من الآيات الثلاث الماضية.
وعليه أيضاً يحمل ما ورد في الأدعية المأثورة عن المعصومين عليهم السلام من الاعتراف بالذنوب والمعاصي وطلب التوبة والاستغفار منها، وهكذا الآيات التي تنسب الظلم إلى الأنبياء الكرام، صلوات الله عليهم أجمعين.
وأما قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ..} فإن عبارة الذنب إنما هي بلحاظ تصوّر الآخرين لذلك. فإن الآية تربط غفران هذا الذنب بهذا الفتح المبين وتجعله نتيجة له، وهذا لا يتمّ إلا إذا قلنا بأن الذنب هنا هو ما تصوّره الأعداء ذنباً.
ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وآله واجه قبل الهجرة وبعدها بعاصفة من المعارضة والتشويش والاتّهام، بعد أن أعلن دعوته الحنيفية ورفض آلهتهم وسفّه أحلامهم, إلا أنّ معارضاتهم لم تنفع؛ لأن حجج الإسلام كانت أقوى من كل شيء، وكان الإسلام يخاطب الفطرة السليمة الوجدان الإنساني، فانتصر الفكر الإسلامي على أعدائه الذين لم يجدوا لعنادهم إشباعاً إلا أن يحاربوه بالضغط والسيف. فحمل السيف بدوره وجاهدهم وقتل صناديد الكفر والنفاق. وكان هذا هو ذنبه الكبير في نظرهم. لذا كانوا يتربّصون به الداوئر، إلا أنّ الله تعالى أتى بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم، وأدار عليهم دائرة السوء بالفتح المبين، ففنيت شوكتهم وخمدت نار فتنتهم بعد أن أطفأها الله العزيز الجبار.
وبهذا يكون الله قد غفر ما ظنّوه ذنباً بمنحه هذا الفتح المبين.
وهذا نظير ما حكاه الله من قول الكليم عليه السلام: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}[25] ولربما كان وصف جهاد النبي صلى الله عليه وآله الرائع بأنها ذنب هو نوع من أنواع المشاكلة البلاغية والمحسنات البديعية فيها.
وهذا الذي ذكرناه هو تفسير الإمام الرضا عليه السلام للآية حين سأله المأمون عن الذنب المذكور فيها رغم أنّ الأنبياء عليهم السلام معصومون، فقال عليه السلام: (لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنباً من رسول الله صلى الله عليه وآله.. ) فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن!
(ومن الآيات) التي تمسكوا بها ما يظهر منه العتاب الذي يقصد به اللطف وتأكيد المدح، كقوله تعالى: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}[26] الذي نزل بعد أن أذن صلى الله عليه وآله لبعض المنافقين الذين استأذنوه في عدم الخروج إلى الجهاد والذين لو خرجوا في المسلمين ما زادهم إلا خبالاً ولا وضعوا خلالهم يبغونهم الفتنة ولقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لرسول الله الأمور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون. فإذنه صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين. وكأنه تعالى يقول لرسوله: يا أيها الإنسان الرحيم العفو الستار، مازلت في كنف عفو الله، وتلك الملكة هي دعتك لئلا تكشف عن خبث سرائرهم، وذلك على شريطة القضايا التي قياساتها معها، وهذا من ألطف المدح.
(ومنها) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[27] فإنه نزل بعد أن حرّم صلى الله عليه وآله على نفسه الخلوة بمارية، أو حرم شرب العسل ابتغاءاً لمرضاة أزواجه، وذلك بمقتضى ما آتاه الله من الرحمة الواسعة، فضحّى بطيب خاطره لأجلهن ولهنائهن، وآثرهن على نفسه رغم العناء والمشقّة، فأشاد الله تعالى بهذا الايثار بشكل الاعتراض تأكيداً للمدح.
(ومنها) قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}[28].
ووجه نزول الآية واضح بملاحظتها، ذلك أنّ الله تعالى أراد محو تشريع جاهلي لتحريم نكاح زوج الدعي، وكان زيد بن حارثة دعي رسول الله صلى الله عليه وآله وقد زوّجه زينب بنت جحش، فأوحى اليه أنه سيأتيه زيد طالباً طلاق زوجته ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. فلما حضره زيد عازماً على طلاقها أمره الرسول صلى الله عليه وآله بإمساك زوجه وبتقوى الله تعالى، وهو يخفي في نفسه الشريفة ما أوحي اليه من مآل الأمر؛ خشية الناس إشفاقاً عليهم ورحمة بهم، كراهة أن يقعوا في الفتنة لا خشية على نفسه، لقوله تعالى: بعد آية {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}[29] بنحو قصر الافراد وقطع الشركة الدال على مرجوحية خشية غير الله.
وعليه، فكلمة (أحق) الواردة في الآية ليست للتفضيل، وذلك كما في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}[30]وإلا للزم تجويز تفضيله وكون خشيتهم لغير الله حقاً، وهو مناف للقصر المذكور في الآية.
وهكذا نجد أنّ هذه الآية كسابقتها هي في معرض بيان رأفة الرسول بالناس وحرصه على صلاح شأنهم، وكأنها جميعاً بمضمونها تشير إلى قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[31].
(ومن الآيات) التي تمسّكوا بها ما نزل على اسلوب (إيّاك أعني واسمعي يا جارة) كما في الحديث المروي عن الصادق عليه السلام. وهو من مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}[32] وقوله تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ}[33] وقوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[34]وهذا الصنف كثير جداً.
وبهذا يتضح ما قلناه سابقاً من أنّ سقيم الذوق يجد حلاوة أعمالهم مرارة، لذا ينسب الشين إلى تلك الساحات المقدسة معبّراً عن جهله العميم.
(ومنها) بعض الآيات التي فسّرتها روايات دخيلة مدسوسة بتفسيرات تتنافى والعصمة، كالآية الكريمة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}[35].
وهذه الآية الكريمة تعبّر عن حقيقة هامّة في تاريخ العمل الرسالي، وأنه لابد وأن يواجه العقبات الكؤود في طريقه. فما أن يتمنّى الرسول والنبي أمنية في نجاح عمله التبليغي ويقدر انتصاره على أعدائه ونفوذه إلى قلب الأمة لهدايتها وارشادها حتى تبدأ الخطوات الشيطانية والوساوس الكافرة في تلغيم طريقه، إلا أنّ الله غالب على أمره، فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته.
هذا ما يظهر من الآية الشريفة. أما بعض المفسرين والمؤرخين فقد نقلوا أخباراً واهية يذكر بعضها أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يتمنّى أن ينزل الله ما يرتضيه أعداؤه ليجلب بذلك قلوبهم، فلما شرع في تلاوة سورة النجم وتلا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}[36] أجرى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى. وأن شفاعتهن لترتجى).
وهذا صريح في نسبة الكفر اليه صلى الله عليه وآله. وكيف يتمنّى ذلك الإنسان العظيم أن ينزل الله عليه كلاماً في مدح الأصنام؟!
وهذا ذيل الآية الكريمة يصرّح: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}[37].
وقد أنكر تلك الروايات الواهية محققو القوم ، مثل ابن حزم الأندلسي والقاضي عياض والقسطلاني وغيرهم وأبطلوها وأثبتوا وضعها.
والحمد لله رب العالمين.
__________________________________
[1] سورة الانعام، الآية: 59.
[2] سورة النمل، الآية: 65.
[3] سورة الاحقاف، الآية: 9.
[4] سورة الاعراف، الآية: 188.
[5] سورة هود، الآية: 49.
[6] نهج البلاغة: رقم الخطبة 128، ص 186 ط صبحي صالح.
[7] سورة ص، الآية: 71.
[8] سورة الرحمن، الآية: 14.
[9] سورة الحجر، الآية: 29.
[10] سورة السجدة، الآية: 11.
[11] سورة الكهف، الآية: 110.
[12] سورة الضحى، الآية: 7.
[13] سورة آل عمران، الآية: 49.
[14] سورة الانعام، الآية: 124.
[15] سورة القصص، الآية: 68
[16] سورة الجن، الآية: 26 ، 27، 28.
[17] سورة النساء، الآية: 64.
[18] سورة الطور، الآية: 48.
[19] سورة الاسراء، الآية: 74.
[20] سورة ص، الآية: 82، 83.
[21] سورة يوسف، الآية: 24.
[22] سورة غافر، الآية: 55.
[23] سورة محمد، الآية: 129.
[24] سورة الفتح، الآية: 1، 2.
[25] سورة الشعراء، الآية: 14
[26] سورة التوبة، الآية: 43.
[27] سورة التحريم، الآية: 1.
[28] سورة الاحزاب، الآية: 37
[29] سورة الاحزاب، الآية: 39.
[30] سورة البقرة، الآية: 228.
[31] سورة التوبة، الآية: 128.
[32] سورة الاحزاب، الآية: 1.
[33] سورة آل عمران، الآية: 60.
[34] سورة الانعام، الآية: 52.
[35] سورة الحج، الآية: 52.
[36] سورة النجم، الآية: 19، 20.
[37] سورة النجم، الآية: 23.

السابق

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية