مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

كتاب : ولاية الفقيه

المقدمة
الكتاب الذي بين يديك ـ عزيز القارئ ـ جزء من كتاب "عوائد الأيام" للمولى النراقي، والذي هو بدوره من الكتب الفقهية القديمة ويبحث في أبواب الفقه المختلفة. وقد اختار المحقق موضوع ولاية الفقيه من بين مواضيع الكتاب المتعددة لكون هذه القضية من القضايا المطروحة ـ وبإلحاح ـ في الوقت الحاضر، سواء على صعيد المجتمع الإسلامي أو الحوزة العلمية، لا سيما بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران على قاعدة ولاية الفقيه.
 


عائدة: ولاية الفقهاء
بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم أن الولاية[1] من جانب الله سبحانه على عباده ثابتة لرسوله وأوصيائه المعصومين (عليهم السلام)، وهم سلاطين الأنام، وهم الملوك والولاة والحكام، وبيدهم أزمّة الأمور، وسائر الناس رعاياهم والمولّى عليهم.
وأما غير الرسول وأوصيائه فلا شك أن الأصل[2] عدم ثبوت ولاية أحد على أحد إلاّ من ولاّه الله سبحانه، أو رسوله، أو أحد من أوصيائه على أحد في أمر، وحينئذ فيكون هو وليّاً على من ولاّه فيما ولاّه فيه.
والأولياء كثيرون[3]؛ كالفقهاء العدول، والآباء، والأجداد، والأوصياء، والأزواج، والموالي، والوكلاء، فإنهم الأولياء على العوام والأولاد، والموصى له، والزوجات، والمماليك، والموكلين، ولكن ولايتهم مقصورة على أمور خاصة على ما ثبت من ولاة الأمر. ولا كلام لنا هنا في غير الفقهاء، فإن أحكام كل من الباقين مذكورة في موارد مخصوصة من كتب الفروع.
والمقصود لنا هنا بيان ولاية الفقهاء الذين هم الحكام في زمان الغيبة والنواب عن الأئمة، وإن ولايتهم هل هي عامة فيما كانت الولاية فيه ثابتة لإمام الأصل أم لا؟
وبالجملة في أن ولايتهم فيما هي فإني قد رأيت المصنفين يحوّلون كثيراً من الأمور إلى الحاكم في زمن الغيبة، ويولّونه فيها، ولا يذكرون عليه دليلاً، ورأيت بعضهم يذكرون أدلة غير تامة، ومع ذلك كان ذلك أمراً مهماً غير منضبط في مورد خاص، وكذا نرى كثيراً من غير المحتاطين من أفاضل العصر وطلاّب الزمان، إذا وجدوا في أنفسهم قوة الترجيح والاقتدار على التفريع، يجلسون مجلس الحكومة ويتولّون أمور الرعية، فيفتون لهم في مسائل الحلال والحرام، ويحكمون بأحكام لم يثبت لهم وجوب القبول عنهم كثبوت الهلال ونحوه، ويجلسون مجلس القضاء والمرافعات، ويجرون الحدود والتعزيرات، ويتصرفون [في] أموال اليتامى والمجانين والسفهاء والغيّاب، ويتولّون أنكحتهم، ويعزلون الأوصياء وينصبون القوام، ويقسّمون الأخماس، ويتصرفون [في] مال المجهول مالكه، ويؤجّرون الأوقاف العامة، إلى غير ذلك من لوازم الرئاسة الكبرى، ونراهم ليس بيدهم فيما يفعلون دليل، ولم يهتدوا في أعمالهم إلى سبيل، بل اكتفوا بما رأوا وسمعوا من العلماء الأطياب، فيفعلون تقليداً بلا اطلاع لهم على محطّ فتاويهم، فيهلكون وفيُهلكون، أأذن الله لهم أم على الله يفترون؟! فرأيت أن أذكر في هذه العائدة الجليلة وظيفة الفقهاء وما فيه ولايتهم ومن عليه ولايتهم على سبيل الأصل والكلّية.
ولنقدم أولاً شطراً من الأخبار الواردة في حق العلماء الأبرار المثبّتة لمناصبهم ومراتبهم، ثم نستتبعه بما يستفاد منها كلية.
ثم نذكر بعد ذلك بعض موارد هذه الكلّية. فهاهنا مقامان:
1ـ في ذكر الأخبار اللائقة بالمقام.
2ـ في وظيفة العلماء وحدّ ولايتهم.
المقام الأول
في ذكر الأخبار اللائقة بالمقام
فنقول: إن الأخبار[4] في ذلك كثيرة جداً إلاّ أننا نذكر شطراً منها:
الأول: ما ورد في الأحاديث المستفيضة، منها صحيحة أبي البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: "العلماء ورثة الأنبياء"[5].
الثاني: رواية إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
"العلماء أمناء"[6].
الثالث: مرسلة الفقيه: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: "اللّهم ارحم خلفائي. قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسنتي"[7]. ورواه في معاني الأخبار[8] وغيره[9] أيضاً.
الرابع: رواية علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) وفيها: "لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها"[10].
الخامس: رواية السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (ص): "الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان؛ فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"[11].
السادس: ما رواه في جامع الأخبار، عن النبي (ص) أنه قال: "أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي، فأقول علماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي"[12].
السابع: المروي في الفقه الرضوي أنه قال: "منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل"[13].
الثامن: المروي في الاحتجاج في حديث طويل. قيل لأمير المؤمنين (ع):
من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: "العلماء إذا صلحوا"[14].
التاسع: المروي في المجمع عن النبي (ص) أنه قال: "فضل العالم على الناس كفضلي على أدناهم"[15].
العاشر: المروي في المُنية أنه تعالى قال لعيسى: "عظّم العلماء، واعرف فضلهم، فإني فضّلتهم على جميع خلقي، إلاّ النبيّين والمرسلين، كفضل الشمس على الكواكب، وكفضل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على كل شيء"[16].
الحادي عشر: المروي في كنز الكراجكي عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه قال: "الملوك حكّام على الناس والعلماء حكّام على الملوك"[17].
الثاني عشر: التوقيع الرفيع المروي في كتاب إكمال الدين[18] بإسناده المتصل، والشيخ في كتاب الغيبة[19]، والطبرسي في الاحتجاج وفيها: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم"[20].
الثالث عشر: ما رواه الإمام[21] في تفسيره (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (ص) أنه قال: "أشدُّ من يتم اليتيم، يتيم انقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يُبتلى به من شرائع دينه؛ فمن كان من شيعتنا عالماً، فهدى الجاهل بشريعتنا إذا انقطع عن مشاهدتنا كان معنا في الرفيق[22] الأعلى"[23].
قال: وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): "من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا، فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه[24] به جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضيء لأهل تلك العرصات..." الحديث[25].
إلى أن قال: وقال الحسين بن علي (عليه السلام): "من كفل لنا يتيماً قطعته عنّا محنتنا[26] باستتارنا، فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله عزّ وجلّ: يا أيّها العبد الكريم المواسي أنا أولى منك بهذا الكرم؛ اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه أخاه ألف ألف قصر..." الحديث[27].
إلى أن قال: وقال موسى بن جعفر (عليه السلام): "فقيه واحد يتفقّد يتيماً من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا والتعلّم من علومنا، أشد على إبليس من ألف عابد..." الحديث[28].
إلى أن قال: "ويقال للفقيه: أيّها الكافل لأيتام آل محمد (ص)، الهادي لضعفاء محبّيه ومواليه، قف حتى تشفع في كل من أخذ عنك أو تعلّم منك..." الحديث[29].
إلى أن قال: وقال علي بن محمد (عليه السلام): "لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه"[30].
إلى أن قال: "لما بقى أحد إلاّ ارتد عن دين الله، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ".
الرابعة عشر: رواية أبي خديجة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): "انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه"[31].
الخامس عشر: رواية أخرى له: "اجعلوا بينكم رجلاً ممّن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضياً"[32].
السادس عشر: مقبولة عمر بن حنظلة، وفيها: "ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله"[33].
السابع عشر: ما روي عن النبي (ع) في كتب الخاصة والعامة أنه قال: "السلطان وليُّ من لا وليَّ له"[34].
الثامن عشر: ما رواه الشيخ الجليل محمد بن الحسن بن علي ابن شعبة في كتابه المسمّى بـ (تحف العقول) عن سيّد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام). والرواية طويلة ذكرها صاحب الوافي في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[35] وفيها: "وذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه"... الحديث[36].
التاسع عشر: ما رواه في العلل بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال فيه: "فإن قال (قائل)[37]: فلِمَ وجب عليكم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة؟ قيل له: لأنه لمّا لم يكن في خلقهم وقواهم ما يكملون به مصالحهم، وكان الصانع متعالياً عن أن يُرى ويباشر، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهراً، لم يكن بدٌّ لهم من رسول بينه وبينهم معصوم يؤدّي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويوقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم، إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم؛ فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته، لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة ولا سدُّ حاجة، ولكان إثباته عبثاً بغير منفعة ولا صلاح، وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شيء.
فإن قال (قائل)[38]: فلِمَ جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة:
منها: أن الخلق لما وقفوا على حدّ محدود، وأُمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم فيه أميناً يأخذهم بالوقت عند ما أبيح لهم ويمنعهم من التعدي فيما حظر عليهم، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها: أنا لا نجد فرقة من الفرق، ولا ملة من الملل، بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس، لما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا؛ فلم يَجُز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلاّ به، فيقاتلون به عدوّهم ويقسمون به فيئهم ويقيمون به جمعهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم.
ومنها: أنه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً، لدرست الملة، وذهب الدين، وغُيّرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبّهوا ذلك على المسلمين. لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتّت حالاتهم، فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول، لفسدوا على نحو ما بيَّنّا وغيّرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين"[39].
المقام الثاني
في وظيفة العلماء وحدّ ولايتهم
المقام الثاني في بيان وظيفة العلماء الأبرار والفقهاء الأخيار في أمور الناس، وما لهم فيه الولاية على سبيل الكلية، فنقول وبالله التوفيق: إن كلية ما للفقيه العادل تولّيه وله الولاية فيه أمران:
أحدهما: (كلّ ما)[40] كان النبي والإمام الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضاً ذلك، إلاّ ما أخرجه الدليل[41] من إجماع أو نص أو غيرهما.
وثانيهما: إن كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولابد من الإتيان به، ولا مفرّ منه، إما عقلاً أو عادة، من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به، أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم، أو دليل آخر، أو ورد الإذن فيه من الشارع، ولم يجعل وظيفة لمعيّن واحد أو جماعة ولا لغير معيّن، أي واحد لا بعينه، بل علم لابدّيّة الإتيان به، أو الإذن فيه ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه وله التصرف فيه والإتيان به.
أما الأول: فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع، حيث نص به كثير من الأصحاب، بحيث يظهر منهم كونه من المسلّمات ما صرحت به الأخبار المتقدمة من كونه وارث الأنبياء[42] أو أمين الرسل[43] وخليفة الرسول[44] وحصن الإسلام[45] ومثل الأنبياء وبمنزلتهم[46] والحاكم والقاضي والحجة من قبلهم وأنه المرجع في جميع الحوادث[47] وإن على يده مجاري الأمور والأحكام[48] وأنه الكافل لأيتامهم[49] الذين يُراد بهم الرعية؛ فإن من البديهيات التي (يفهمها)[50] كل عامي وعالم ويحكم به بأنه إذا قال نبي عند مسافرته أو وفاته: فلان وارثي ومثلي، وبمنزلتي، وأميني، وحجتي، والحاكم من قبلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري أموركم وأحكامكم، وهو الكافل لرعيتي، له[51] كل ما كان لذلك النبي في أمور الرعية وما يتعلق بأمته، بحيث لا يشك فيه أحد ويتبادر منه ذلك. كيف لا، مع أن أكثر النصوص الواردة في حق الأوصياء المعصومين المستدل بها في مقامات إثبات الولاية والإمامة المتضمنين لولاية جميع ما للنبي فيه الولاية، ليس متضمناً لأكثر من ذلك، سيما بعد انضمام ما ورد في حقهم أنهم خير خلق الله بعد الأئمة[52]، وأفضل الناس بعد النبيّين، وفضلهم على الناس كفضل الله على كل شيء[53]، وكفضل الرسول على أدنى الرعية[54].
وإن أردت توضيح ذلك، فانظر إلى أنه لو كان حاكم أو سلطان في ناحية، وأراد المسافرة إلى ناحية أخرى، وقال في حق شخص بعض ما ذكر فضلاً عن جميعه، فقال: فلان خليفتي، وبمنزلتي، ومثلي، وأميني، والكافل لرعيتي، والحاكم من جانبي، وحجتي عليكم، والمرجع في جميع الحوادث لكم، وعلى يده مجاري أموركم وأحكامكم، فهل يبقى لأحد شك في أن له فعل كل ما كان للسلطان في أمور رعيته تلك الناحية إلاّ ما استثناه؟ وما أظن أحداً يبقى له ريب في ذلك، ولا شك ولا شبهة. ولا يضر ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب[55] وانضمام بعضها ببعض، وورود أكثرها في الكتب المعتبرة.
وأما الثاني، فيدل عليه بعد الإجماع أيضاً أمران:
أولهما: أنه مما لا شك فيه أن كل أمر كان كذلك، لابدّ وأن ينصّب الشارع الرؤوف الحكيم عليه والياً وقيّماً ومتولّياً، والمفروض عدم الدليل على نصب معيّن، أو واحد لا بعينه، أو جماعة غير الفقيه؛ وأما الفقيه فقد ورد في حقه ما ورد من الأوصاف الجميلة والمزايا الجليلة، وهي كافية في دلالتها على كونه منصوباً منه.
وثانيهما: أن بعد ثبوت جواز التولّي منه، وعدم إمكان القول بأنه يمكن أن لا يكون لهذا الأمر من يقوم له ولا متولّ له، نقول: إن كل من يمكن أن يكون ولياً ومتولّياً لذلك الأمر ويحتمل ثبوت الولاية له، يدخل فيه الفقيه قطعاً من المسلمين أو العدول أو الثقات ولا عكس. وأيضاً كل من يجوز أن يقال بولايته يتضمن الفقيه. وليس القول بثبوت الولاية للفقيه متضمناً لثبوت ولاية الغير، سيّما بعد كونه خير خلق الله بعد النبيّين، وأفضلهم، والأمين والخليفة والمرجع، وبيده الأمور، فيكون جواز توليته وثبوت ولايته يقينياً، والباقون مشكوك فيهم، ينفي ولايتهم وجواز تصرفهم النافذ بالأصل المقطوع[56] به، وكذا الوجوب الكفائي فيما يثبت الأمر به ووجوبه.
فإن قلت: هذا يتم فيما يثبت فيه الإذن والجواز، وأما في ما يجب كفاية، فالأصل عدم الوجوب على الفقهاء.
قلنا: الوجوب الكفائي عليهم مقطوع به، غاية الأمر أنه يشك في دخول غيرهم أيضاً تحت الأمر الكفائي وعدمه، والأصل[57] ينفيه.
فإن قيل: الأصل عدم ملاحظة خصوصيتهم.
قلنا: الأصل عدم ملاحظة جهة العموم أيضاً، مع أن إثبات الجواز كافٍ لنا، ولا معارض له. ثم يثبت له الوجوب في ما يجب بالإجماع المركب. ولتكن هاتان الكلّيتان نصب عينيك وبين يديك، تجريهما في جميع المقامات الفرعية والموارد الجزئية، ويندرج تحتهما جميع ما ذكره الفقهاء في المسائل الشخصية، ولا حاجة إلى ذكر الأنواع والأصناف من تلك الأمور بعد الإحاطة بما ذكر.
إلاّ أنّا نذكر بعض أنواع هاتين الكلّيتين لما فيها من الأدلة الخاصة أو الفروع (اللازم)[58] بيانها أو لبيان ورود الإذن والأمر من الشارع فيه. وقد ذكر بعض تلك الأمور الشهيد[59] في قواعده[60]، قال ما خلاصته: قاعدة في ضبط ما يحتاج إليه الحاكم: كل قضية وقع النزاع فيها في إثبات شيء أو نفيه أو كيفيته، وكل أمر فيه اختلاف بين العلماء كثبوت الشفعة[61] مع الكثرة[62]، أو احتيج فيه إلى التقويم كالأرش[63]، وتقدير النفقات، أو إلى ضرب المدّة كالإيلاء[64]، والظهار[65]، أو إلى الالقاء كاللعان[66]، ومما يحتاج إليه القصاص نفساً أو طرفاً، والحدود والتعزيرات وحفظ مال الغياب كالودائع واللقطات[67]. انتهى.
___________________
[1] الولاية: كما في (مجمع البحرين) بالفتح بمعنى النصرة، وبالكسر الإمارة، مصدر وليت، ويقال: هما نعتان بمعنى الدولة.
وفي النهاية: هي بالفتح: المحبة، وبالكسر: التولية والسلطان.
والمراد من الولاية في المقام، الكسر، فتكون بمعنى الإمارة والتولية والسلطان، فهذه بالضرورة ثابتة من قبل الله سبحانه عزّ وجلّ كما أفاده (قدس سره) لا من قبل البشر بالشورى ونحو ذلك.
[2] الأصل: أي أصالة العدم الجارية عند الشك في وجود وثبوت شيء وعدمه، فالشك في ثبوت ولاية شخص آخر يرجع إلى أصالة العدم التي تنفي هذه الولاية.
[3] هي سبعة أنواع (الأول) ولاية الفقهاء العدول على الناس، و(الثاني والثالث) ولاية الآباء والأجداد على الأولاد، و(الرابع) ولاية الأوصياء على الموصى لهم، و(الخامس) ولاية الأزواج على الزوجات، و( السادس) ولاية الموالي على المماليك، و(السابع) ولاية الموكلين على الوكلاء.
[4] اعلم أن الأحاديث على أقسام:
المتواتر: وهو الذي أخبر به جماعة يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب في كل طبقة.
والآحاد: وهو بخلاف المتواتر حيث لا يمتنع عند العقل التواطؤ فيه على الكذب.
والمستفيض: وهو الذي يخبر بها ثلاثة أو أكثر.
والمشهور: وهو الذي لا يوجد في جميع الأصول (من كتب الحديث) وقيل: في الأكثر.
والشاذ: وهو بخلاف المشهور الذي لا يوجد في أكثر الأصول، بل يوجد في بعض الأصول.
والمردود والمنكر: وهو الذي لا يوجد في جميع الأصول.
والصحيح: ما اتصل سنده إلى المعصوم (ع) بنقل المؤمن العدل عن مثله في جميع الطبقات.
والموثق: ما كان كل من رواته ممن نص الأصحاب على توثيقه في خبره وإن كان مناقشاً في عقيدته.
والحسن: ما اتصل سنده إلى المعصوم (ع) بإمامي ممدوح من غير نص على عدالته وتوثيقه.
والضعيف: ما لا تجتمع فيه شروط أحد الثلاثة المتقدمة بأن يشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه أو مجهول الحال، فإن اتصل السند إلى المعصوم فيعبّر عنه بالمتصل الضعيف من جهة عدم وثاقة رواته.
والموقوف: ما اتصل سنده إلى غير المعصوم ممن صاحب المعصوم (ع).
والمقطوع: ما انقطع السند من الوسط.
والمرفوع: ما حُذف فيه أحد الرواة أو كان أحدهم مجهولاً.
والمرسل: وهو ما حُذف فيه الرواة جميعاً أو ذكر مجهولاً.
هذا ولا يخفى أن الأربعة الأخيرة مشتركة في الضعف، فجميعها ضعاف لا يمكن العمل بها.
[5] الكافي: ج1، ص32، ح2، ط3، دار الكتب الإسلامية ـ طهران ـ عام 1388هـ.
[6] الكافي: ج1، ص33، ح5.
[7] من لا يحضره الفقيه، ج4، ص302 و95.
[8] معاني الأخبار: ص374 ـ375، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
[9] عيون أخبار الرضا: ج2، ص37، ح94، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
[10] الكافي: ج1، ص38، ح3.
[11] الكافي: ج1، ص46، ح5.
[12] جامع الأخبار: ص38، مع اختلاف يسير في يعض الألفاظ.
[13] الفقه الرضوي: ص338.
[14] الاحتجاج، ج2، ص264.
[15] مجمع البيان: ج9ـ10، ص253، وفيه: على سائر الناس.
[16] منية المريد: ص36، وبحار الأنوار: ج2، ص25، ح91.
[17] بحار الأنوار: ج1، ص183، ح92.
[18] إكمال الدين وإتمام النعمة: ص484، باب التوقيع، ح4، وفيه: رواة حديثنا.
[19] كتاب الغيبة: ص198.
[20] الاحتجاج: ج2، ص283.
[21] هو الإمام الحادي عشر من أئمة الهدى المعصومين الحسن بن علي العسكري (ع).
[22] الرفيق: اسم جاء على فعيل، ومعناه الجماعة، كالصديق والخليط يقع على الواحد والجمع. وفي المقام بمعنى جماعة من الأنبياء والأولياء الذين يسكنون أعلى طبقات الجنة.
[23] التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (ع): ص339، وبحار الأنوار: ج2، ص2، ح1، وهكذا في الاحتجاج للطبرسي: ج1، ص5ـ7 مع اختلاف في بعض الألفاظ في الجميع.
[24] حبوناه: أعطيناه بلا عوض.
[25] التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (ع): ص339، وبحار الأنوار: ج2، ص2، ح1، وفيه: لأهل جميع العرصات، والاحتجاج: ج1، ص7، وفيه: لجميع أهل العرصات.
[26] وفي بعض النسخ "قطعته عنّا محبّتنا باستتارنا" أي كان سبب قطعه عنّا، أحببنا الاستتار عنه لحكمة؛ وما في المتن أظهر.
[27] تفسير الإمام العسكري (ع)، ص341، وبحار الأنوار، ج2، ص4، ح5، والاحتجاج، ج1، ص7، مع اختلاف في الجميع.
[28] تفسير الإمام العسكري (ع): ص343، وبحار الأنوار: ج2، ص5، ح9، وهكذا في الاحتجاج: ج1، ص8، مع وجود الاختلاف في الجميع.
[29] تفسير الإمام العسكري (ع): ص344، وبحار الأنوار: ج2، ص6، ح10، والاحتجاج: ج1، ص9، مع وجود الاختلاف في الجميع.
[30] تفسير الإمام العسكري (ع): ص344، وبحار الأنوار: ج2، ص6، ح10، والاحتجاج: ج1، ص9، مع وجود الاختلاف في الجميع.
[31] وسائل الشيعة: ج18، ص4، ح5.
[32] وسائل الشيعة: ج18، ص100، ح6، وفيه: جعلته عليكم قاضياً.
[33] وسائل الشيعة: ج18، ص98ـ99، باب11، ح1.
[34] فتح الباري: ج9، ص190ـ 191، الباب40 من كتاب النكاح.
[35] الوافي: المجلد 2، الجزء التاسع، ص29ـ30.
[36] تحف العقول: ص169.
[37] زائدة عن الأصل.
[38] زائدة عن الأصل.
[39] علل الشرايع: ص251ـ 253، ح9.
[40] في الأصل (كلّما).
[41] الأدلة الشرعية: وهي أربعة: الكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع.
[42] في صحيحة البختري: الكافي، ج1، ص32، ح2.
[43] في رواية السكوني: الكافي، ج1، ص46، ح5.
[44] في مرسلة الفقيه: من لا يحضره الفقيه، ج3، ص302، ح95.
[45] في رواية علي بن أبي حمزة: الكافي، ج1، ص38، ح3.
[46] كما في الفقه الرضوي: ص338.
[47] كما في التوقيع المروي في إكمال الدين وإتمام النعمة، ص484.
[48] تحف العقول: ص169.
[49] التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري: ص344، وبحار الأنوار: ج2، ص6، ح10، وهكذا في الاحتجاج: ج1، ص9.
[50] في الأصل (يفهمه).
[51] أي لذلك الشخص.
[52] الاحتجاج: ج2، ص264.
[53] منية المريد: ص36.
[54] مجمع البيان: ج9ـ10، ص253.
[55] إشارة إلى مسألة أصولية: وهي أن ضعف سند الرواية، وهكذا صحة سند الرواية فهل تكون الرواية مجبورة في الأول، موهونة في الثاني بعمل المشهور أم لا؟ فذهب إلى كلٍّ فريق، والمسألة محل إشكال واختلاف العلماء الأعلام. والمستفاد من المؤلف (قدس سره) هو الأول، أي ان ضعف الرواية مجبور بعمل المشهور بتلك الرواية.
[56] أي أصالة عدم ذلك.
[57] أي أصالة عدم دخول غيرهم تحت الأمر الكفائي.
[58] في الأصل: (اللازمة)، والصحيح: (اللازم).
[59] هو الشيخ الشهيد السعيد شمس الملة والدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن الشيخ شمس الدين محمد بن حامد بن أحمد النبطي العاملي الجزيني من قرى جبل عامل.
[60] كتاب جليل يضم ما يقرب من ثلاثمائة قاعدة فقهية ما عدا الفوائد والتنبيهات.
[61] وهي استحقاق الشريك الحصة المبيعة في شركته.
[62] وهي مسألة اختلافية بين العلماء عند كثر الشركاء. والمشهور هو عدم ثبوت الشفعة لروايات صحيحة.
[63] وهو نسبة التفاوت بين القيمتين صحيحاً ومعيباً.
[64] الإيلاء: مصدر آلى يولي إيلاءً: إذا حلف مطلقاً. وشرعاً هو الحلف على ترك وطء الزوجة الدائمة المدخول بها قبلاً أو دبراً إما أبداً وإما مطلقاً من غير تقيّد بزمان أو زيادة على أربعة أشهر للإضرار بها.
[65] الظهار: وهو فعال من الظهر، وهو عبارة هن قول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي أو أختي أو بنتي ولو من الرضاع على الأشهر.
[66] اللعان: وهو لغة المباهلة المطلقة، أو وزن فعال بمعنى اللعن، أو أنه جمع لعن وهو الطرد والإبعاد من الخير، والاسم اللعنة، وشرعاً هو المباهلة بين الزوجين في إزالة الحد أو نفي ولد بلفظ مخصوص عند الحاكم.
[67] اللقطات: جمع لقطة، وهي بضم اللام وفتح القاف، اسم للمال الملقوط أو للملتقط.
 

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية