مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

كتاب : ولاية الفقيه

الأمور التي هي وظيفة الفقهاء

ثم نقول: إن الأمور التي هي وظيفة الفقهاء ومنصبهم ولهم الولاية (فيها)[1] كثيرة يعلم مواردها مما ذكر. ونذكر هنا بعضها:
الإفتاء
فمنها: الإفتاء؛ فلهم ولايته، وعلى الرعية وجوب اتّباعهم في فتاويهم وتقليدهم في أحكامهم، وهي ثابتة بكل من الأمرين الكلّيين المذكورين. ويدل عليه أيضاً من الأخبار المتقدمة بخصوصها، المروي عن تفسير الإمام (عليه السلام)[2]، ومقبولة عمر بن حنظلة[3].
أما الأولى: فلدلالتها على ترغيب العاملين بعلومهم إلى هداية الجهّال بالشريعة، وحثّهم على إخراجهم من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي أُعطوه، وعلى مواساتهم مع أيتام الأئمة الذين هم الجهّال بالشريعة من علومهم التي سقطت إليهم، وعلى تفقدهم الجهّال وتعليمهم من علومهم، وعلى تكفّلهم لأيتام آل محمد (ص)، وهدايتهم الضعفاء ودعوتهم إلى العلوم ودلالتهم عليها؛ وبثبوت الجواز بل الرجحان يثبت الوجوب الكفائي بالإجماع، بل الضرورة، كما يثبت بذلك أيضاً وجوب اتّباع الناس لهم فيما دعوهم وهدوهم (وواسوهم)[4] ودلّوهم.
فإن قيل: المصرّح به في تلك الرواية الترغيب في تعليم علومهم، ومن أين ُيعلم أن ما استنبطه هؤلاء العلماء هو علوم الأئمة؟
قلنا: لا شك أنه ليس المراد أن علومهم بحسب علم العالم، أي ما يعلمه أنه من علومهم، إذ إرادة غير ذلك تكليف بما لا يُعلم، بل بما لا يُطاق، فيكون المعنى من علومنا بحسب علمه، ولا شك أن علوم العلماء علوم الأئمة (ع) بزعم العلماء وبحسب علمهم.
فإن قيل: لا نسلّم أن ما يعلمونه إنما هو من العلوم، فإن مستنبطاتهم ليست علماً، وإنما هي ظنون يجب العمل بها لأجل المخمصة.
قلنا: الظن المنتهي إلى العلم علم، فإنه إذا ظن وجوب السورة لأجل خبر واحد، وعُلم حجّية الخبر بالدليل القطعي، يُعلم وجوب السورة.
وأما الظن (غير المنتهي)[5] إلى العلم، فهو ليس مما يُتكلّم فيه.
فإن قيل: هو حجة في حقه وحق مقلديه بعد ثبوت وجوب تقليده عليهم، فهو معلوم وعلم في حقه دون حق الغير.
قلنا: هذا تخليط واشتباه؛ كيف مع أن المظنون من الخبر الواحد هو وجوب السورة مطلقاً دون وجوبها عليه خاصة؟ والمعلوم من الأدلة العلمية هو حجّية الخبر الواحد إما مطلقاً أو لكل من كان على مثله لا لهذا الشخص بخصوصه، فإنه لا دليل على حجّيته مخصوصاً بهذا الشخص. وعلى هذا فيعلم أن خبر الواحد واجب العمل مطلقاً، ويظن من الخبر أن السورة واجبة كذلك فيعلم وجوب السورة كذلك. نعم، لما لم يكن علم غير المعصوم حجة على غيره فيحتاج جواز اتباع علمه للغير أو وجوبه إلى دليل.
وهذا الخبر وما يؤدّي مؤدّاه من أدلة جواز التقليد أو وجوبه، دليل على حجّية علمه لمن يقلّده أيضاً، ومحطّ دلالته الثانية عموم قوله: "فإذا حكم بحكمنا" فإنه لا يمكن أن يكون المعنى؛ إذا حكم بما هو معلوم عند سامعه أنه حكمنا، إذ لا يكون حينئذٍ حاجة إلى قبول قول الغير والرجوع إليه، بل تتمة الحديث الدالة على اختلاف الخبر صريحة في جهل السامع بالحكم، فيكون المعنى إذا حكم بحكم ينسبه إلينا أو ما هو حكمنا باعتقاده، يجب القبول، وليس المراد بالحكم خصوص ما يكون بعد الترافع لأعمّيته لغة وعرفاً، وعدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه.
ومنه يظهر إمكان الاستدلال بروايتي أبي خديجة[6]، لأن القضاء أيضاً بمعنى الحكم.
ويدل على المطلوب أيضاً أخبار أخر كثيرة كالمروي في الأمالي بإسناده عن رسول الله (ص) أنه قال: "يرفع الله به ـ أي بالعلم ـ أقواماً، فيجعلهم في الخير قادة؛ تُقتبس آثارهم، ويهتدى بفعالهم، وينتهى إلى آرائهم"[7].
والمروي في غوالي اللئالي عن بعض الصادقَين(ع): "ان الناس أربعة: رجل يعلم وهو يعلم أنه يعلم فذاك مرشد حاكم فاتّبعوه"[8]. ورواية محمد بن مسلم المرويّة في الكافي وفيها: "فتعلّموا العلم من حملة العلم"[9].
والمروي في الاحتجاج عن مولانا الكاظم(ع) أنه قال: "فقيه واحد يتفقّد يتيماً من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه، أشد على إبليس من ألف عابد"[10].
وفيه أيضاً عن أبي محمد العسكري(ع): "فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه"[11].
ويدل عليه أيضاً مفاهيم الأخبار المستفيضة الناهية عن الإفتاء بغير علم[12].
ومن غير العلم بالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمبيّنة لصفات المعنى[13].
وأمر الأئمة بعض أصحابهم للإفتاء، وأمر الناس بالرجوع إليهم[14].
والأخبار المتكثّرة المتضمّنة لأن الله سبحانه لا يدع الأرض خالية من عالم يعرّف الناس حلالهم وحرامهم، ولئلاّ يلتبس عليهم أمورهم، كما في رواية عبد الله العامري عن أبي عبد الله (ع) قال: "ما زالت الأرض إلاّ ولله فيها الحجة يعرف الحلال والحرام، وبدعوا إلى سبيل الله"[15].
والمروي في إكمال الدين عنه (عليه السلام) أيضاً قال: "إن الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلاّ وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، ولولا ذلك لالتبست على المؤمنين أمورهم"[16].
والحجة والعالم فيهما لا يُحملان على الإمام المعصوم الغائب، لأنه لا يعرّف الناس مسائلهم ولا يدعوهم إلى سبيل الله ولا يبيّن لهم أمورهم.
ويدل على المطلوب أيضاً الإجماع القطعي، بل الضرورة الدينية، بل ضرورة جميع الأديان؛ فإن الكل قد أجمعوا على إفتاء العلماء للعوام، وعلى ترك الإنكار في تقليد غير العلماء لهم من غير مانع لهم من الإنكار، بل ترغيبهم عليه وذمّهم على تركه، بل هذا أمر واضح لكل عامي حتى النسوان والصبيان، لأنهم يرجعون فيما لا يعلمون إلى العلماء، وليس علم كل عامي بأن ما لا يعلمه من أحكام الله يجب أخذه من العالم، أضعف من علمه بوجوب الصلاة وكونها مثلاً أربع ركعات.
ويدل عليه أيضاً أنه لا شك أن الرسول (ص) مبعوث على العالم والعامي، وليس بعثه مقصوراً على العلماء، وأن أحكامه مقرّرة للفريقين من غير تفرقة بينهما. ولا شك أيضاً أنه لم يقرر هذه الأحكام لكل أحد، حتى من لم يتمكن من الوصول إليها وتحصيلها بعد السعي والاجتهاد، ولم يخصصها أيضاً بمن وصلت إليه هذه الأحكام من دون سعي وفحص، بل أتى بها وأمر بالفحص عنها فحصاً تاماً؛ بمعنى أنّا أُمرنا بالفحص عن أحكام الرسول، بل وجوب هذا الفحص مما يحكم به العقل القاطع، فمن وصل إليه بعد الفحص فهو حكمه، وإلاّ فهو معذور، فكل من العلماء والعوام بالفحص مأمور، وفي تركه غير معذور.
ثم إن الفحص تارة يكون بالفحص عن مآخذها ومداركها واستنباطها منها، بعد فهم المراد منها، وعلاج معارضتها، ودفع اختلالاتها، ورفع شبهاتها، ونحو ذلك، وأخرى بالفحص عمّن فعل ذلك.
ومن البديهيات القطعية أن أمر غير العلماء في زمان من الأزمنة بالفحص بالطريق الأول يوجب العسر الشديد، والحرج العظيم، واختلال أمر المعاش، وتعطيل أكثر الأمور، سيما بعد مرور الدهور. فغير العلماء الذين يسهل لهم الاجتهاد، ينحصر طريق فحصهم المكلّفين به في جميع الأزمنة بالسؤال عمّن فحص بالطريق الأول، فيكون واجباً عليه. وقد يتوهّم أن المرجع في التقليد إلى إفادته الظن. وقد بيّنا فساده في كتاب مناهج الأحكام.
فوائد
الفائدة الأولى: اعلم أن هاهنا مسألتين:
إحداهما: ثبوت ولاية الإفتاء للفقيه، ووجوب الإفتاء عليه كفاية.
والثانية: وجوب التقليد على العامي.
وكلتاهما متلازمتان، وجميع الأدلة المذكورة يثبت المسألتين وأدلة لهما.
والمسألة الأولى متضمنة لحكم الفقيه، فيجب عليه الاجتهاد فيه.
والثانية (متضمنة)[17] لحكم العامي، وحيث لا يجوز له التقليد له في هذه المسألة ـ لاستلزامه الدور ـ يجب عليه فيها الاجتهاد بنفسه أيضاً، وعمله في تلك المسألة باجتهاده.
وقد يتكلم فيها الفقهاء لأجل تحصيلهم العلم بحكم العامي، ولتقرير حال الإجماع فيها، بل قد يحتاج الفقيه إليها أيضاً حيث يضطر إلى التقليد لضيق الوقت عن الاجتهاد ونحوه.
ثم إن مستند الفقيه في المسألتين، هو الأدلة المذكورة بأجمعها، وأما مستند المقلد، ففي الغالب هو الدليلان الأخيران، أي دليل الإجماع، ودليل بقاء التكليف. وأما غيرهما، فليس من شأن غالب المقلدين الاستناد إليه لتوقفه على إثبات حجية الآحاد، وعلاج المعارضات، والاجتهاد في وجود الدلالات ونحوها.
الفائدة الثانية: كما يجب على العامي الاجتهاد في هذه المسألة، يجب عليه الاجتهاد في تعيين الفقيه الذي يقلّده من بين أصناف الفقهاء من الأصولي والأخباري[18]، والحيّ والميت، والأعلم وغيره، والمتجزئ[19] والمطلق، وطريق اجتهاده فيه سهل لا صعوبة فيه، ذكرناه في منهاج تقليد الأموات من كتاب مناهج الأحكام، ولم نذكره لخروجه عمّا نحن بصدده.
الفائدة الثالثة: مورد وجوب الإفتاء، والتقليد هو الذي يفهمه الفقيه من قول الشارع وينسبه إليه، ويستنبط إرادته من الأمور المتعلّقة بالدين الفرعي سواء كان حكماً شرعياً، أو وضعياً، أو موضوعاً، أو محمولاً، أو متعلّقاً له، استنباطياً أو غير استنباطي، من حيث موضوع، أو محمول، أو متعلّق للحكم الديني لا مطلقاً.
وبالجملة: (كل ما)[20] يخبره من الأمور الفرعية الدينية، مثلاً إذا استنبط الفقيه أن الخمر نجسة، وأن هذه الخمر هي العصير العنبي، وأن نجاستها عبارة عن كونها واجب الاجتناب في الصلاة، فيجب إفتاؤه بذلك، ويجب على مقلّده تقليده في ذلك، فيقلّده في تعيين الموضوع، وهو الاختصاص بالعصير العنبي، وفي معنى المحمول وهو كونه واجب الاجتناب في الصلاة وفي الحكم، وهو ثبوت المحمول للموضوع. ولا يجوز للمفتي حوالة المقلّد في فهم الخمر والنجاسة إلى العرف أو اللغة، ولو كانا مخالفين لما فهمه، بعد فهمه أن مراد الشارع من الخمر النجس هو العصير العنبي ومن النجاسة ما ذكر، إلاّ إذا استنبط أن مراد الشارع أيضاً هو المعنى العرفي، فيفتي بأن الخمر العرفي نجسة عرفاً، ولو فهم المقلّد من الخمر معنى عرفياً لا يفيده في هذا المقام، إذ لعل للفقيه دليلاً على التجوُّز أو اختلاف العرفين، أو غير ذلك. وإن علم المقلّد أنه ليس للفقيه قرينة ولا دليل على هذا التعيين، وإن معه يجب الرجوع إلى العرف، يكون بنفسه مجتهداً في هذه المسألة.
نعم لو لم يكن الخمر متعلّقة لحكم من الشارع، يعمل المقلّد فيه بما فهم، وكذا إذا حكم الفقيه بأن إناء الذهب غير جائز الاستعمال، وفسّر الإناء بما يشتمل المكحلة وظرف المرآة والاستعمال بما يشمل رؤية الوجه في المرآة أيضاً، فإنه يجب على المقلّد قبول الحرمة فيما فسّر به، ولا يجوز له أن يقول: لا تقليد في الموضوع بشمول جميع الأدلة لهذا الاستنباط أيضاً لأنه إخبار عن قول الشارع.
نعم لو قال الفقيه: إن مراد الشارع الإناء والاستعمال العرفيين، يجب على المقلّد قبوله، ولو اختلفنا حينئذٍ في فهم المعنى العرفي لا يجب فيه التقليد لأنه ليس إخباراً عن قول الإمام، بل قال: إن الإمام حرم الإناء العرفي، ولكني أفهم أن العرف يحكم بكون ذلك إناء. فهذا اختلاف في ما نسب إلى العرف. ولو قال المقلد إني أعلم أن مراد الشارع الإناء العرفي، فهو نفسه يكون مجتهداً في هذه المسألة.
وبالجملة: الثابت من الأدلة هو وجوب الإفتاء والتقليد في جميع ما يحكيه عن الشارع وينسبه إليه من الأمور الشرعية الفرعية من حيث هو هو، وأما غير ذلك فلا يجب على الفقيه الإفتاء ولا على المقلّد القبول ما لم يكن حكماً في مقام التخاصم والتنازع، فلا يقبل قوله في غير مقام المرافعة في رؤية الهلال ووقوع النجاسة في هذا الإناء ووقوع التذكية على ذلك الجلد ونحو ذلك مما ليس فيه إخبار[21] عن قول الشارع لعدم دليل عليه، فإن الأخبار إنما هي واردة في أحكام الأئمة وعلومهم وقضاياهم ونحو ذلك، ولا يشمل شيء[22] منها مثل رؤية الهلال.

وبالجملة: جميع الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الفقهاء وحكمهم واردة فيما يتعلق بالدعاوى والقضاء بين الخصوم، والفتوى في الأحكام الشرعية، ولا يتوهم شمول قوله "حكمنا" في المقبولة[23] له، لأن كون مثل ذلك من أحكامهم ممنوع جداً.
وإما قوله في التوقيع "وأما الحوادث الواقعة"[24] إلى آخره، ففيه أن الثابت منهم وجوب الرجوع إليهم، وهو مسلّم، والكلام فيما يحكم به الفقيه حينئذٍ، فإنه لاشك في أنه إذا ثبت عند الفقيه الهلال مثلاً وأفتى بوجوب قبول قوله فيه أيضاً، لكون فتواه كذلك، يجب القبول، وإنما الكلام فيما يُفتي به. ولا يدل الرجوع إليهم أنهم إذا قالوا ثبت عندنا الهلال يجب الصوم أو الفطر، بل هذا أيضاً حادثة واقعة، فيجب الرجوع فيها بأن يسأل عنه إذا ثبت ذلك عندك، فما حكمنا. والإجماع والضرورة أيضاً غير متحقق فيه، والدليل العقلي المتقدّم أيضاً لا يجري في غيره، إذ مأخذ هذه الأمور ليس منحصراً بالأدلة الشرعية، الموجب وجوب التفحص عنها العسر والحرج أو التقليد، إلاّ أن ما ذكرناه في القسم الثاني إنما هو من باب الأصل، ويمكن أن يوجد في مورد جزئي دليل على وجوب قبول قول الفقيه كما استدل له في مسألة رؤية الهلال بصحيحة محمد بن قيس[25]، ولكنها غير تامة كما ذكرناه في موضعه.
الفائدة الرابعة: اعلم أن أهل زمان الغيبة بين مجتهد وغير مجتهد.
ومرادنا من المجتهد: من كانت له ملكة الترجيح وقوة الاستنباط من مظانّ الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية. ولا شك في جواز التقليد للثاني، بل وجوبه فيما لم يحتط فيه، بل في أصل الاحتياط أيضاً.
وأما الأول: فإما اجتهد في المسألة فعلاً، أو لا. فعلى الأول لا يجوز له التقليد إجماعاً، ولا يدخل تحت شيء من أدلته أيضاً، كما سيظهر وجهه.
وعلى الثاني: فإما لا يتمكن من الاجتهاد لمانع من ضيق وقت أو فقد شرط ونحوه، أو يتمكن. فعلى الأول، فالظاهر جواز التقليد بل وجوبه له لكثير من الأخبار المذكورة، بل للإجماع والدليل العقلي. وعلى الثاني: لا يجوز له التقليد بل يجب عليه الاجتهاد أو الاحتياط بعد اجتهاده فيه، وكأنه إجماعي أيضاً لأصالة عدم حجية قول الغير وعدم كونه حكماً في حق الغير وعدم ثبوت الإجماع فيه، وعدم جريان الدليل العقلي لإمكان الرجوع إلى الأدلة الشرعية له. ولا يتوهّم شمول بعض الأخبار لمثل ذلك أيضاً، لأنها بين ما لا عموم فيه ولا إطلاق يشمل مثل ذلك، وبين ضعيف وغير منجبر في المقام، أو متضمن للعوام أو الضعفاء، أو الجاهل، أو نحو ذلك، مما لا يصدق على مثل ذلك الشخص، أو غير معلوم صدقه، أو مشتمل لأمر دالّ على الوجوب المنتفي في حق ذلك قطعاً، فيرجع إلى التخصيص. وتوهم إمكان إجراء الاستصحاب في حقه ضعيف، لتغير الموضوع ومعارضته مع استصحاب حال العقل. ولمسألة الإفتاء والتقليد فروع أخر مذكورة في كتب الأصول.
الفائدة الخامسة: لابدّ للفقيه المفتي أن يعلم ما يجب فيه الإفتاء عليه، وما لا يجب، فنقول: الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء في بلد المستفتي، أو في مكان لا يتعسر الوصول إليه، إما واحد، أو متعدد. فإن كان واحداً، فإما يكون وقت السؤال وقت الحاجة إلى السؤال، إما من جهة كونه وقت العمل، أو من جهة عدم إمكان السؤال وقته مع العلم بأنه يحتاج إليه في وقت، أو لا يكون؛ فعلى الثاني لا يجب على المفتي الجواب للأصل، وعلى الأول يجب الإفتاء إن اجتهد فيه، والاجتهاد ثم الإفتاء إن لم يجتهد، إذا اتسع الوقت للاجتهاد، إن كان السؤال مما يجب على المستفتي علمه، أو يتضرر بجهله.
وبالجملة: إذا كان السؤال عن واجباته ومحرماته، أو عن ما يدفع الضرر الحاصل به عن نفسه، كما إذا سُئل عن خيار الغبن بعد البيع بما فيه غبن ويستحب الجواب إن كان من المستحبات، بل سائر الفتاوى أيضاً لكونه تعليماً لمسلم وجواباً عن سؤاله. ولا يجب الإفتاء في غير ما ذكر من أنواع المعاملات والإيقاعات مما لا يجب تعلّمه، فلا يجب الجواب عن سؤال من يسأل عن مسقطات خيار الغبن إذا أراد إيقاع المعاملة بوجه يسقطه مثلاً ونحو ذلك، وإن كان متعدداً، أي باعتقاد المستفتي، فإن علم المفتي إصابته في ذلك الاعتقاد، لا يجب عليه الإفتاء عيناً أيضاً، بل يجب كفاية. وإن قال المستفتي: أنا أريد تقليدك، إلاّ في ما إذا تعيّن له تقليده. وكذلك إن علم خطأه مع عدم تقصيره وإن كان له تنبيهه على خطئه من باب الإرشاد والهداية. وإن كان لأجل تقصيره في السعي يجب عليه الإفتاء، لأنه يكون الجواب عليه واجباً عينياً. وإن لم يعلم خطأه أو إصابته واحتمل كونه مصيباً لا يجب عليه الإفتاء أيضاً. وإن تعدد المفتون ولم يعرفهم المستفتي ـ بل اعتقد الانحصار ـ يجب عليه أحد الأمرين من الإفتاء أو الإرشاد إلى غيره، إن قلنا بالاكتفاء في معرفة المجتهد بإخبار مجتهد آخر.
وخلاصة المقال: أنه (كلّ ما)[26] يجب فيه على المستفتي السؤال يجب على المفتي الجواب، فإن وجب على الأول السؤال عن ذلك عيناً، يجب عليه الجواب كذلك. وما يجب عليه عن أحد الفقيهين يجب عليه الجواب كفاية. وكذا ما يتضرر المستفتي بجهله يجب عليه الجواب إما عيناً أو كفاية، ولا يجب في غير ذلك. ودليل الكل الإجماع، مضافاً في الأوّلين إلى قوله سبحانه:
{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}[27].
والمروي في الصافي عن النبي (ص) أنه قال: "من سُئل عن علم يعلمه، فكتمه، أُلجم يوم القيامة بلجام من نار"ب الصافي: ج1، ص155..
ورواه في إحقاق الحق أيضاً هكذا: "من علم علماً، وكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار".
وما رواه في الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: "قرأت في كتاب علي (عليه السلام)، أن الله لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال"[28].
والأخيرة مخصوصة بالواجبات لأنها التي أخذ العهد على الجهّال بطلبها، وأما ما تقدمها ـ وإن كانت عامة ـ إلاّ أن صدق الكتمان في الآية الشريفة على سكوت الفقيه عن رأيه في مستحب، أو مباح، أو معاملة غير معلوم، سيما بعد انتشار الجميع في كتب الأحاديث والفقه، من العربية والفارسية، فإن المنهي عنه الكتمان المطلق دون الكتمان عن شخص خاص. والروايتان اللاحقتان ضعيفتان غير معلوم انجبارهما بعمومهما، ومع ذلك روي في الكافي بإسناده عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: "دخل رسول الله (ص) المسجد، فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال (ص): ما هذا؟ فقيل: علاّمة. فقال: وما العلاّمة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب؛ وقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية[29].
قال: فقال النبي (ص): ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع[30] من علمه.
ثم قال النبي (ص): إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة"[31].
وفسّرت الآية المحكمة بأصول العقائد التي براهينها الآيات المحكمات، والفريضة العادلة بفضائل الأخلاق وعدالتها، كناية عن توسّطها، والسنّة القائمة بشرائع الأحكام ومسائل الحلال والحرام.
وروى أيضاً بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول:
"وجدت علم الناس كله في أربع: أوّلها أن تعرف ربك، والثانية أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد منك، والرابعة أن تعرف ما يخرجك عن دينك"[32].
والمراد من الأول واضح، ومن الثاني علم نفس الإنسانية وصفاتها، وما يعود إليه من النشأة الأخروية، وما يوجب شكر المنعم، ومن الثالث الفضائل الإنسانية، والأوامر الشرعية، ومن الرابع الرذائل، والنواهي.
ويخرج من هاتين الروايتين كثير مما تعمّه الروايتان المرسلتان المتقدمتان، بل يمكن أن يقال بعدم خلو معاني الثلاثة المذكورة في الرواية الأولى عن إجمال، ولأجله يدخل الإجمال في العمومات أيضاً، فتأمل.
___________________________
[1] في الأصل (فيه) بدلاً من (فيها).
[2] التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (ع): ص337.
[3] وسائل الشيعة: ج18، ص98ـ 99، باب11، ح1.
[4] في الأصل (وواساهم)، والصحيح (وواسوهم).
[5] في الأصل (الغير منتهي)، والصحيح (غير المنتهي).
[6] الرواية الأولى: وسائل الشيعة، ج18، ص4، ح5. الرواية الثانية: وسائل الشيعة، ج18، ص100، ح6.
[7] بحار الأنوار: ج1، ص171، ح24، نقلاً عن الأمالي، وفيه: ينتهي إلى رأيهم.
[8] غوالي اللئالي: ج4، ص79، ح74، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
[9] الكافي: ج1، ص35، ح2.
[10] الاحتجاج: ج1، ص8، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
[11] الاحتجاج: ج2، ص263.
[12] الكافي: ج1، ص42، باب النهي عن القول بغير علم، ح1ـ3.
[13] الكافي: ج1، ص43، باب النهي عن القول بغير علم، ح9.
[14] الاحتجاج: ج2، ص263، ووسائل الشيعة: ج18، ص101، ح9.
[15] الكافي: ج1، ص178، ح3، وفيه: يدعو الناس إلى سبيل الله.
[16] إكمال الدين وإتمام النعمة: ص203، ح11.
[17] زائدة عن الأصل تناسب السياق.
[18] اعلم أنه لا فرق بين الصنفين إلاّ من جهتين:
الجهة الأولى: أن الأدلة عند الأخباريين، اثنان: الكتاب والسنة، والأدلة عند الأصوليين أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل.
الجهة الثانية: ان الأشياء عند الأخباريين ثلاثة: حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك. وعند الأصوليين اثنان: حلال بيّن، وحرام بيّن. وهذا بالضرورة ليس بفرق مهم، بل لا يعد فرقاً في الواقع، وليس في المقام مجال لتوضيحه.
[19] الاجتهاد على قسمين، إما في جميع المسائل كالعلماء الأعلام والمراجع العظام، أو في بعضها كمن علم بعض المسائل عن أدلتها التفصيلية فيسمى بالمتجزئ.
[20] في الأصل (كلّما).
[21] في الأصل (إخباراً).
[22] في الأصل (شيء) و(شيئاً) كلاهما.
[23] وسائل الشيعة: ج18، ص98ـ 99، باب11، ح1.
[24] وسائل الشيعة: ج18، ص101، ح9.
[25] وسائل الشيعة: ج7، ص201، ح1.
[26] في الأصل (كلّما).
[27] سورة البقرة:159.
[28] الكافي: ج1، ص41، باب بذل العلم، ح1.
[29] في الأصل (والأشعار والعربية). وفي الكافي (والأشعار العربية).
[30] في الأصل (ينتفع).
[31] الكافي: ج1، ص32، ح1.
[32] بحار الأنوار: ج1، ص212، ح6.
 

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية