القضاء
ومنها القضاء؛ فلهم ولاية القضاء والمرافعات، وعلى الرعية الترافع إليهم، وقبول
أحكامهم. ويدل على ثبوتها لهم مع الإجماع القطعي بل الضرورة، والقاعدة بأن
الكلّيتين المتقدمتين المروي عن كنز الكراجكي[1]، والتوقيع الرفيع[2]، ومقبولة ابن
حنظلة[3]، وروايتي أبي خديجة[4] المتقدمة ـ جميعاً ـ في صدر العائدة، والمروي عن
الغوالي[5] المتقدم في الإفتاء.
ورواية داود بن الحصين عن أبي عبد الله (ع) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما
بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين واختلف العدلان بينهما، عن قول
أيّهما يمضي الحكم؟ فقال: ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا، وأورعهما، فينفذ
حكمه ولا يلتفت إلى الآخر[6].
ورواية البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ
له منازعة في حق، فيتفقان على رجلين ـ إلى أن قال ـ ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في
دين الله فيمضي حكمه[7].
والظاهر وجوب القضاء على الفقيه للإجماع، فإن اتّحد في البلد فعيناً، وإلاّ فكفاية،
على التفصيل المتقدم في التقليد، ولا يصير باختيار المدّعي أحد المجتهدين واجباً
عينياً عليه وإن كان الاختيار مع المدّعي، للأصل، إلاّ أن يكون بحيث لا يجوز له
الرجوع إلى الآخر.
الحدود والتعزيرات
ومنها الحدود والتعزيرات؛ واختلفوا في ثبوت ولايتها للفقيه في زمن الغيبة، فذهب
الشيخان[8] إلى ثبوتها له، واختاره الديلمي[9]، والفاضل[10] في كتبه،
والشهيدان[11]، وصاحب المهذّب هو الشيخ العالم العامل العارف جمال الدين أبو العباس
أحمد بن شمس الدين محمد بن فهد الأسدي الحلي المتوفى سنة 841هـ.، وصاحب
الكفاية[12]، والشيخ الحرّ[13]، بل أكثر المتأخرين، ونسب إلى المشهور، بل ادّعى
بعضهم عليه الإجماع في مسألة عمل الحاكم بعلمه في حقوق الله، ونقل عن الحلّي منعها،
وظاهر الشرايع والنافع التردد.
والأول هو الحق للقاعدتين المتقدمتين مضافتين إلى رواية حفص بن غياث المنجبر ضعفها
ـ لو كان ـ بالشهرة، قال: سألت أبا عبد الله (ع) من يقيم الحدود، السلطان أم
القاضي؟ فقال: "إقامة الحدود إلى من إليه الحكم"[14].
ويؤيده رواية أبي مريم قال: قضى أمير المؤمنين(ع): "إن ما أخطأت القضاة في دم أو
قطع فعلى بيت مال المسلمين"[15].
ورواية أبي عقبة[16] الواردة في حكاية أبي عبد الله (ع) مع عيلان قاضي أبن هبيرة،
وفيها: "يا عيلان، ما أظن ابن هبيرة وضع على قضائه إلاّ فقيهاً. قال: أجل. قلت: يا
عيلان، تجمع بين المرء وزوجه؟ قال: نعم. قلت: وتفرّق بين المرء وزوجه؟ قال: نعم.
قلت: وتقتل؟ قال: نعم. قلت: وتضرب الحدود؟ قال: نعم. قلت: وتحكم في أموال اليتامى؟
قال: نعم... الحديث"[17].
وقد يستدل أيضاً بالإطلاقات، مثل قوله تعالى: {فاقطعوا}[18]، وقوله عزّ شأنه
{فاجلدوا}[19] ونحوهما.
ويمكن الخدش فيه بعدم معلومية شمول تلك الخطابات لمثل الفقهاء، وهل ذلك لهم على
سبيل الوجوب أو الجواز؟ الظاهر من القائلين بثبوت الولاية لهم، الأول، حيث استدلّوا
بإطلاقات الأوامر، وبإفضاء ترك إجراء الحدود إلى المفاسد، وصرّحوا بوجوب مساعدة
الناس لهم، وهو كذلك لظاهر الإجماع المركّب، وقول أمير المؤمنين (ع) في رواية ميثم
الطويلة ـ والتي رواها المشايخ الثلاثة[20] ـ الواردة في حدّ الزنا: "وإنك قد قلت
لنبيك (ص) فيما أخبرته به من دينك يا محمد (ص): من عطّل حداً من حدودي فقد عاندني
وطلب بذلك مضادّتي. اللّهم وإني غير معطِّل حدودك، ولا طالب مضادّتك، ولا مضيّع
أحكامك... الحديث"[21].
ويمكن الاستدلال بعموم هذه الرواية على نفس ثبوت هذه الولاية أيضاً للفقهاء.
ثم ما ذكر وإن اختص بالحدود، ولكن يتعدّى إلى التعزيرات بالإجماع المركّب، مضافاً
إلى أن الظاهر دخول التعزيرات في الحدود أيضاً.
أموال اليتامى
ومنها: أموال اليتامى، وثبوت ولايتها للفقهاء الجامعين لشرائط الحكم والفتوى
إجماعي، بل ضروري، وحكاية الإجماع وعدم الخلاف فيه مستفيضة بل متواترة، ويدل عليه:
أولاً: الإجماع القطعي.
ثانياً: الآية الشريفة وهي قوله سبحانه: {ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي
أحسن}[22]؛ دلّت على جواز قرب ماله بالتي هي أحسن لكل أحد من الناس، ومنهم الفقهاء،
فيجوز لهم قطعاً، وكذا يجوز قرب غيرهم مع إذن الفقيه أيضاً كذلك، وأما بدونه فجوازه
من الآية غير معلوم، لجواز أن يكون الأحسن كونه مع إذن الفقيه الذي بيده مجارى
الأمور والمرجع في الحوادث والحجة والحاكم والقاضي من جانب الإمام وأمين الرسول
وكافل الأيتام وحصن الإسلام ووارث الأنبياء وبمنزلتهم وأعلم بوجوب التصرف، بل يظهر
منه عدم جواز قرب الغير بدون إذنه.
ثالثاً: القاعدة الثانية من القاعدتين المتقدمتين وبيانها: إنه لاشك ولاريب في أن
الصغير ممنوع عن التصرف في ماله شرعاً، إجماعاً ونصاً، كتاباً وسنة، فإما لم ينصّب
ـ من جانب الله سبحانه ـ أحد لحفظ أمواله وإصلاحه والتصرف (فيها)[23] فيما يصلحه،
أو نصب. والأول غير جائز على الحكيم المتقن عقلاً كما صرح به في رواية العلل[24]
المتقدمة أيضاً. ويدلّ عليه استفاضة الأخبار بأن الشارع لم يدع شيئاً مما يحتاج
إليه الأمة إلاّ بيّنه لهم، ولا شك أن هذا أشد ما يحتاجون إليه، بل يبطله في الأكثر
نفي الضرر والضرار فتعيّن الثاني.
وهذا المنصوب لا يخلو، إما يكون معيّناً أو لا على التعيين، (أي كل من كان). وعلى
التعيين أما يكون هو الفقيه، أو الثقة العدل، لعدم القول بتعيين آخر. وعلى التقادير
الثلاثة يكون الفقيه منصوباً فهو المتيقّن، والباقي مشكوك فيه، مع أن المرجحات
المتقدمة لتعيين الفقيه موجودة[25] أيضاً.
رابعاً: الأخبار المتكثرة كصحيحة ابن بزيع، قال: "مات رجل من أصحابنا ولم يوص،
فرُفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبد الحميد القيّم بماله، وكان الرجل خلّف ورثة
صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري، ضعف قلبه
في بيعهن، إذ لم يكن الميت صيّر إليه وصيته، وكان قيامه بهذا بأمر القاضي، لأنهن
فروج، (قال) فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام)، فقلت له: يموت الرجل من أصحابنا،
ولم يوصِ إلى أحد، وخلّف الجواري، فيقيم القاضي رجلاً منّا لبيعهن، أو قال يقوم
بذلك رجل منا، فيضعف قلبه لأنهن فروج، فما ترى في ذلك القيّم؟ قال: فقال: إذا كان
القيّم به مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس"[26].
وجه الدلالة: أن مثل عبد الحميد إما يراد به في الفقاهة والعدالة، أو العدالة خاصة.
وعلى التقديرين يجوز التصرف للفقيه. ولاشك أن نصب قاضي الكوفة لا مدخلية له في ذلك
يضاً.
وصحيحة ابن رباب، قال: "سألت أبا الحسن موسى (ع) عن رجل بيني وبينه قرابة، مات وترك
أولاداً صغاراً، وترك مماليك (غلماناً وجواري) ولم يوصِ، فما ترى فيمن يشتري منهم
الجارية يتّخذها أُمّ ولد؟ وما ترى في بيعهم؟ قال: فقال: إن كان لهم وليّ يقوم
بأمرهم، باع عليهم، ونظر لهم، كلن مأجوراً فيهم. قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم
الجارية يتخذها أُمّ ولد؟ قال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم الناظر فيما
يصلحهم، فليس لهم أن يرجعوا فيما صنع القيّم لهم، الناظر فيما يصلحهم"[27].
وجه الدلالة: إنها تدل على ثبوت الولاية لغير الأب والجد والوصي، حيث انتفت هذه
الثلاثة في المورد، وأما الأب والوصي فظاهر، وأما الجد فلأنه أيضاً لو كان
(وكان)[28] هو المتولّي لأمرهم، لذكره. وبعد ثبوت الولاية لغير الثلاثة، يثبت
للفقيه بالإجماع.
وصحيحة إسماعيل بن سعد: "عن الرجل يموت بغير وصية، وله ورثة، صغاراً وكباراً، أيحلّ
شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولاّه قاضٍ قد
تراضوا به ولم يستعمله الخليفة، أيطيب الشراء منه أم لا؟ قال (ع): إذا كان الأكابر
من ولده معه في البيع فلا بأس به، إذا رضي الورثة بالبيع، وقام عدل في ذلك"[29].
وموثقة سماعة، قال: "سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار
من غير وصية، وله خدم ومماليك وعُقد، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال (ع):
إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله، فلا بأس"[30].
وجه دلالة هاتين الروايتين أنهما دلّتا على جواز بيع العدل وقسمة الثقة، ولاشك في
صدقهما على الفقيه الجامع للشرائط.
والمروي في الفقه الرضوي أنه قال: "لم ينسَ القبيلة ـ وهو فقيهها وعالمها ـ أن
يتصرف لليتيم في ماله فيما يراه خطأً وصلاحاً، وليس عليه خسران وله الربح، والربح
والخسران لليتيم وعليه"[31].
وقد ثبت من هذه الأدلة برمّتها ثبوت الولاية للفقيه على الأيتام في أموالهم، بمعنى
جواز تصرّفه فيها ونفوذ بيعه وشرائه ومعاملاته، وبها يخرج عن أصل عدم جواز التصرف
في مال الغير وعدم نفوذ التصرفات.
وهاهنا فوائد
الأولى:
هل هذه الولاية ثابتة مطلقاً، أو بعد انتقاء الأب والجد والوصي؟
الظاهر عدم الخلاف في الترتيب، وأنها مخصوصة بصورة انتفاء هؤلاء، ولم يثبت من
الأدلة أزيد من ذلك أيضاً. أمّا الإجماع فظاهر، وأما الآية فلعدم معلومية كون قرب
الفقيه مع وجود أحد الثلاثة بدون إذنه أحسن.
أما الدليل العقلي فلعدم جريانه مع أحد هؤلاء. وأما الروايات فكلها واردة في صورة
فقد الأب، وغير الرضوي في صورة فقد الوصي أيضاً.
وأما هو ـ وإن شمل بظاهره لصورة وجوده أيضاً ـ إلاّ أن ضعفه المانع عن العمل به في
غير صورة الانجبار يمنع من العمل بعمومه.
وأما الجد، فإن شملت الروايات بإطلاقها صورة وجوده أيضاً، إلاّ أن أدلة ثبوت
الولاية للجد المذكور في مظانها خصصتها بصورة انتقائه، مضافاً إلى كون ذلك الإطلاق
مخالفاً لعمل الأصحاب، شاذاً، فلا يكون معمولاً به.
ثم أدلة ثبوت ولاية هذه الثلاثة، فذكرها ليس من وظيفة هذا المقام.
الثانية:
الظاهر من صحيحة إسماعيل[32] وموثوقة سعد[33] ـ وإن كان جواز التصرف في أموال
اليتامى لكل واحد من عدول المسلمين وثقاتهم، وثبوت الولاية له، ومال إليه المحقق
الأردبيلي[34] (قدس سره) في شرح الإرشاد أيضاً ـ لهاتين الروايتين إلاّ أنه مخالف
لعمل الأصحاب الثابت بالتتبع وحكايات الإجماع على اختصاص جواز التصرف من العدول، أو
العدل بصورة فقد الفقيه، فلا يكون معمولاً به، مضافاً إلى عدم كون تصرفه أحسن في
صورة إمكان الوصول إلى الفقيه وإلى إشعار الرضوي، بل ظهوره في الاختصاص بالفقيه،
وكذا يشعر به تحف العقول المتقدمة في صدر العائدة المصرِّحة بأن مجارى الأمور بيد
العلماء[35]، فالحق اختصاص الولاية للثلاثة المذكورين بالفقهاء مع وجودهم وعدم تعسر
الوصول إليهم.
الثالثة:
بعدما عرفت من اختصاص الولاية الثابتة بمعنى جواز التصرف ونفوذ تصرفاته في الفقيه،
تعرف عدم جواز تصرف غيره، لأصالة عدم جواز التصرّف في مال الغير بدون وجه مجوّز
إجماعاً ونصاً. ففي الحديث النبوي:
"لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جادّاً، ولا لاعباً"[36].
وفي المروي عن صاحب الزمان (ع): "لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال الغير بغير
إذنه"[37]، وللنهي في الآية الشريفة عن قرب مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن[38]. ولم
يعلم كون تصرف غير الفقيه بدون إذنه أحسن، فيكون حراماً، مضافاً في عدم نفوذ
معاملات غير الفقيه إلى الأصل، ومفهوم الشرط في صحيحتي ابن بزيع[39]، وابن
رباب[40]، وبعد عدم جواز تصرف الغير ثبت وجوب منع الفقيه له عن التصرف نهياً
للمنكر.
الرابعة:
وإذا ثبت عدم جواز تصرف الغير بدون إذن الحاكم ووجوب نهيه أيّاه عنه، فهل يجب على
الحاكم التصرف بنفسه، أو الإذن فيه، أم لا؟
التحقيق إنه إن كان في معرض التلف وخوف الضرر على الصغير بدونه يجب للإجماع، وإلاّ
فلا يجب من غير جهة النهي عن المنكر. فلو كان لصغير مال مدفون في موضع مأمون أو
محفوظ في بيت، لا يجب على الفقيه التصرّف فيه، أو في ذمة شخص مأمون ونحو ذلك.
الخامسة:
تصرّف الفقيه في أموال اليتامى، تارة يكون بمجرد الحفظ عن التلف وحكمه ظاهر، وأخرى
بنحو الإقراض والتجارة والبيع والشراء والصلح ونحوها، ولا كلام في الأول، وأما
الثاني، فلاشك في جوازه، والأخبار المتقدمة تدل عليه، ولكنه مخصوص بصورة انتفاء
المفسدة فيه، وإلاّ فلا يجوز للإجماع، وقوله سبحانه: {ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ
بالتي هي أحسن}[41].
وهل يكفي عدم المفسدة، أو يشترط وجود المصلحة؟ الظاهر الثاني للآية الشريفة، فإن
المراد بالأحسن: إما الأحسن من جميع الوجوه، أو من تركه ـ كما قيل ـ، ومع عدم
المصلحة لا يكون أحسن بشيء من المعنيَين. وكذلك يدل عليه قوله "ونظر لهم" في صحيحة
ابن رباب المتقدمة[42] فإن معنى النظر لهم ملاحظة نفعهم ومصلحتهم، بل مفهوم الشرط
في قوله "إذا باع..." إلى الآخر يدل على ثبوت البأس الذي هو العذاب، إذا لم يكن
البيع ما يصلح لهم.
فإن قيل: لهذا إذا كان ما يصلحهم متعلقاً بقوله "باع أو صنع"، ولو تعلّق بالناظر لم
يفد ذلك المعنى.
قلنا: يكفي الاحتمال الأول، إذ معه يحصل الإجمال، وبهذا المجمل يخصّص مطلقات جواز
بيع الحاكم، فلا يكون حجة في موضع الإجمال، فلا يكون دليلاً على جواز البيع في موضع
عدم المصلحة. وهل يكفي تحقق المصلحة، أو يجب مراعاة الأصلح مهما أمكن وتيسّر؟ فلو
كانت مصلحته في بيع ملكه وكانت قيمته مائة، وله من يشتريه بهذه القيمة، ويشتريه
غيره بمائة وعشرين، هل يجوز بيعه بالمائة أم لا؟ الظاهر الثاني، لعدم معلومية كون
البيع بالمائة حينئذٍ مصلحة عرفاً. سلّمنا ولكن لاشك أنه ليس بأحسن.
فإن قيل: فلعل المعنى الأحسن من الترك لا من جميع الوجوه.
قلنا: المخصص بالمجمل المتصل حجة في غير ما عُلم خروجه وتخصيصه، ولم يعلم خروج
الأحسن من الترك خاصة، فيكون منهيّاً عنه.
فإن قيل: إطلاق صحيحة ابن رباب[43] وسائر المطلقات المتقدمة، يكفي في إثبات جواز
البيع بالصالح، ولو لم يكن أصلح.
قلنا: الآية[44] لها مخصصة، مع أنه قد عرفت الإجمال في الآية، والمخصّص بالمنفصل
ليس بحجة في مقام الإجمال، فلا يكون المطلقات حجة في مقامه. ولا يخفى أن ذلك إنما
هو فيما إذا تصرّف بأحد الأمرين مجدداً. وأما لو لم يتصرّف أصلاً تصرفاً جديداً،
فلا يجب ملاحظة الأصلحية، لعدم دلالة الآية، فلو ضبط المال في مكان محفوظ أو في يد
أمين وأراد أحد الاتجار به، لا يجب دفعه إليه، ولو مع المصلحة، إذ لا يقرب حينئذٍ
حتى يجب مراعاة الأصلح. نعم، لو دفعه حينئذٍ إلى أحد الشخصين يجب مراعاة الأصلح،
وكذا لو اشترى أحد ملكه بأضعاف قيمته وكانت فيه المصلحة لم يجب. نعم لو باعه يجب
مراعاة الأصلح.
وهل يجب على الفقيه إجارة ضياعه ونحوها مما له غلّة ونفع؟ الظاهر نعم، فيما يعدّ
تركه ضرراً، وهو ما ثبت أجرة مثله على متصرفه، إذا كان له راغب إجارة، لأن تركه
إتلاف وإضرار عرفاً.
أموال السفهاء والمجانين
ومنها أموال المجانين والسفهاء، فإن ولاية أموالهم مع الحاكم إذا لم يكن وليٌّ آخر.
بيان ذلك: ان المجنون بجميع فنونه، والسفيه ببعض أقسامه، أي من ليس له ملكة إصلاح
المال أو له ملكة إفساده، ممنوعان من التصرّف فيه بالإجماع القطعي والمحقّق،
والمحكي متواتراً، ويدل عليه مع الإجماع، الكتاب والسنة. قال الله سبحانه: {ولا
تؤتوا السفهاء أموالكم}[45]، وقال سبحانه: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم
أموالهم}[46].
ففي موثقة ابن سنان: "وجاز أمره إلاّ أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً". فقال: وما السفيه؟
فقال: "الذي يشتري الدرهم بأضعافه". قال: وما الضعيف؟ قال: "الأبله"[47].
وفي صحيحة عيص، قال: سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال: "إذا علمت أنها
لا تفسد ولا تضيّع"[48].
وفي صحيحة هشام بن سالم: "وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد، وكان سفيهاً أو ضعيفاً،
فليمسك عنه وليّه ماله"[49].
وفي رواية أبي بصير: "فإن احتلم ولم يكن له عقل، لم يدفع إليه شيئاً أبداً"[50]...
إلى غير ذلك.
ثم وليّهما ومن له التصرّف في أموالهما، حيث لم يكن وليّ آخر من أب أو جدّ أو وصي
فيما لهم الولاية. كما حقق في كتب الفروع للحاكم بدليل الإجماع المقطوع به،
وللقاعدة الثانية من القاعدتين المتقدمتين.
بيانه: إن بعد حجر الشارع عليهما ومنعهما من التصرّف في أموالهما، لابد وأن يقيم
مقامهما قيّماً ووليّاً لهما، يحفظ أموالهما بحكم العقل والشرع كما تشعر به رواية
العلل[51] المتقدمة، ونفي الضرر، والعلة المعلومة من منعهما عن التصرف، والمستفاد
من قوله في صحيحة هشام المتقدمة "فليمسك عنه وليّه ماله"[52]، وثبوت الولاية
للحاكم، حيث لا دليل على ولاية غيره متيقّن، إذ كل من يحتمل كونه وليّاً يدخل فيه
الحاكم ولا عكس.
وأيضاً صرّح في رواية (التحف) المتقدمة "أن على يده مجاري الأمور"[53] التي منها
ذلك الأمر.
وصرّح في النبوي "بأن السلطان وليّ من لا وليّ له"[54]، والحاكم أما السلطان ـ إن
أريد منه من له السلطنة الشرعية من الله ـ أو خليفته ووارثه، وبمنزلته، وحجّته
وأمينه ـ كما مر في الأخبار المتقدمة ـ إن حُمل على النبي والإمام؛ فيكون هو
وليّهما وقيّمهما في أموالهما، على أن بعد ثبوت ولاية السلطان تثبت ولايته بحكم
القاعدة الأولى.
وهل تنحصر ولايته في الحفظ والإصلاح، أو يجوز له التصرف فيها على نحو التصرف في
أموال الأيتام من البيع والشراء والتجارة والتبديل وسائر أنواع التصرفات على الوجه
الأصلح؟
ظاهر الأصحاب الثاني، بل الظاهر أن عليه الإجماع البسيط والمركب من وجهين: أحدهما
عدم الفصل بين الحفظ وسائر التصرفات المصلحة، وثانيهما عدم الفصل بين أموالهما
وأموال اليتامى.
أموال الغُيَّب
ومنها أموال الغيّب؛ والتحقيق: أن الغيّاب على ثلاثة أقسام:
الأول: الغائب عن بلده، المعلوم خبره وناحيته، كالمسافرين للتجارة والزيارة والحج
ونحوها، والمتمكن من رجوعه، والمتوقّع رجوعه عادة وعرفاً، والمظنون إيابه ولو
باستصحاب البقاء أو توكيله ولو بالكتابة ونحوها.
الثاني: نحو الأول، إلاّ أنه غير متمكن من استخبار أحواله والتصرّف في أمواله ولو
لبعد مسافة وامتداد مدة أو حبس ونحوه.
الثالث: الغائب المفقود خبره.
وللحاكم القضاء على كل من الأنواع الثلاثة، وبيع ماله لقضاء دينه المعجّل بعد
مطالبة الدائن، إن لم يمكنه التخلص بوجه آخر بلا عسر وحرج؛ كما حقّق في كتاب القضاء
من الفروع، ويدل عليه مرسلة جميل عنهما (ع)، قالا: "الغائب يُقضى عليه إذا قامت
عليه البيّنة، ويُباع ماله، ويُقضى عنه دينه وهو غائب... الحديث"[55]. وإن أمكنه
التخلص بوجه آخر من غير عسر، فالظاهر التخيير لإطلاق المرسلة.
وأما الولاية في أموالهم على الإطلاق، فإن كان الغائب من القسمين الأوّلين فلا
ولاية للحاكم من حيث هو حاكم على ماله من حيث هو غائب، للأصل والإجماع، فليس له
استيفاء حقوقه ومطالبته ما أحلّ أجله من مطالباته، وإجارة ضياعه، ونحو ذلك.
نعم لو كان مال منه في معرض الهلاك ومشرفاً على التلف، ومنه منافع ضياعه وعقاره،
يجوز حفظه إجماعاً، ولقوله سبحانه: {وما على المحسنين من سبيل}[56]، وللإذن الحاصل
بشاهد الحال، بل قد يجب كفاية على كل من اطّلع عليه، وليس ذلك من باب الولاية، لعدم
ثبوت الولاية عليهما، بل لحفظ حقوق الأخوة وإعانة البر.
وإن كان من القسم الثالث، فظاهر سيرة العلماء وطريقتهم، والمصرّح به في كلام جماعة،
ثبوت ولاية الحاكم في أمواله، بل الظاهر أنه إجماعي، فهو الدليل عليه، مضافاً إلى
القاعدة الثانية من القاعدتين.
وهل ولايته فيها منحصرة بالحفظ، وله أنواع التصرفات من جهة المحافظة، ومراعاة
المصلحة فيها ولو بالبيع والتبديل، أو له التصرفات النافعة كالبيع مع المصلحة بدون
مفسدة في الترك؟ الظاهر الأول للأصل، فتأمل.
___________________________
[1] بحار الأنوار: ج1، ص183، ح92.
[2] إكمال الدين وإتمام النعمة: ص484، ح4.
[3] وسائل الشيعة: ج18، ص98ـ99، ح1.
[4] وسائل الشيعة: ج18، ص4، ح5، وص100، ح6.
[5] غوالي اللئالي: ج4، ص79، ح74.
[6] وسائل الشيعة: ج18، ص80، ح20.
[7] لم نعثر على هذه الرواية في كتب الأحاديث، إلاّ أن متن هذه الرواية عن موسى بن
اكيل النميري في وسائل الشيعة، ج18، ص88، ح45.
[8] وهما: الشيخ المفيد المتوفى 413هـ، والشيخ الطوسي المتوفى 460هـ.
[9] هو الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الملقب بـ (سلار الديلمي) المتوفى 463هـ.
[10] هو المولى بهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن المتوفى 1135هـ.
[11] وهما الشهيدان الأول والثاني، أما الأول فهو محمد بن جمال الدين مكي العاملي،
وقد تقدم ذكره سابقاً، وأما الثاني فهو الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد بن محمد بن
علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن أشرف الجبعي العاملي الذي استشهد سنة 966هـ.
[12] لعله الإمام الفقيه والمجتهد الأكبر الشيخ زين الدين علي التوليني النحاريري
العاملي تلميذ فاضل المقداد، أو أنه المحقق السبزواري المولى محمد باقر بن المولى
محمد مؤمن الشريف الخراساني المتوفى سنة 1090هـ.
[13] هو الشيخ المحدث الفقيه والعالم الجليل والإمام المحقق العلامة الشيخ محمد بن
الحسن الحر العاملي، صاحب وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، والمتوفى 1104هـ.
[14] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص51، ح1، والتهذيب: ج6، ص314، ح78، ووسائل الشيعة:
ج18، ص220، ح1.
[15] لم نعثر على هذه الرواية في كتب الأخبار، إلاّ أن نصها عن الأصبغ بن نباتة
مذكور في الوسائل، ج18، ص165، باب1، ح1، وهكذا في من لا يحضره الفقيه، ج3، ص5،
وهكذا في التهذيب، ج6، ص315، وفي الجميع: فهو على بيت.
[16] الرواية ليست من أبي عقبة، بل هي من عقبة بن خالد، كما في الكافي: ج7، ص429،
ح13. وفيه: غيلان بدلاً من عيلان.
[17] الكافي: ج7، ص429، ح13.
[18] سورة المائدة:38.
[19] سورة النور:2.
[20] وهم: الأول: شيخ الطائفة الشيخ الطوسي. الثاني: الشيخ الأعظم أبو جعفر الصدوق
المتوفى سنة 381هـ. الثالث: ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 328هـ.
[21] الكافي: ج7، ص185ـ187، ح1، ومن لا يحضره الفقيه: ج4، ص22ـ23، ح32 مع اختلاف
يسير في بعض ألفاظ الحديث فيهما.
[22] سورة الأنعام:152.
[23] في الأصل (فيه).
[24] علل الشرايع: ص251ـ252، ح9.
[25] في الأصل (موجود).
[26] الوسائل: ج12، ص270، ح2، والتهذيب: ج9، ص240، ح25، مع اختلاف يسير في بعض
ألفاظ الحديث فيهما.
[27] الكافي: ج7، ص67، ح2 مع اختلاف يسير في بعض ألفاظ الحديث.
[28] في الأصل (ولكان).
[29] الكافي: ج7، ص66ـ67، ح1.
[30] التهذيب: ج9، ص240، ح22.
[31] الفقه الرضوي: ص333 مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
[32] الكافي: ج7، ص66ـ67، ح1.
[33] هكذا في الأصل، والصحيح موثّقة سماعة، التهذيب، ج9، ص240، ح22.
[34] وهو المولى الأجل أحمد بن محمد المشهور بـ "المقدس الأردبيلي".
[35] تحف العقول: ص169.
[36] غوالي اللئالي: ج1، ص224، ح107.
[37] وسائل الشيعة: ج6، ص377، ح6.
[38] سورة الأنعام:152.
[39] التهذيب: ج9، ص240، ح25.
[40] الكافي: ج7، ص67، ح2.
[41] سورة الأنعام:152.
[42] الكافي: ج7، ص67، ح2، وفيه: (ابن رئاب) بدلاً من (ابن رباب).
[43] الكافي: ج7، ص67، ح2، وفيه: (ابن رئاب) بدلاً من (ابن رباب).
[44] سورة الأنعام:152.
[45] سورة النساء:5.
[46] سورة النساء:6.
[47] وسائل الشيعة: ج13، ص430، ح8.
[48] وسائل الشيعة: ج13، ص142، ح3.
[49] وسائل الشيعة: ج13، ص141، ح1، وفيه: رشده.
[50] وسائل الشيعة: ج13، ص433، ح5.
[51] علل الشرايع: ص251ـ523، ح9.
[52] وسائل الشيعة: ج13، ص141، ح1.
[53] تحف العقول: ص169.
[54] فتح الباري: ج9، ص190ـ191، الباب40 من كتاب النكاح.
[55] وسائل الشيعة: ج18، ص216، ح1.
[56] سورة التوبة:91.