الأنكحة
ومنها: الانكحة، فإن للحاكم ولاية فيها في الجملة إجماعاً، وإن اختلفوا في مواردها.
وتحقيق الكلام في المقام: إنه لا خلاف في عدم ثبوت ولاية له في النكاح على غير
الصغيرين والمجنونين والسفيهين، وإنما الكلام في هذه الثلاثة، ونذكرها في مسائل
ثلاث:
الأولى:
في الصغيرين الخاليين عن الأب والجد. والمشهور عدم ثبوت ولاية النكاح لهما للحاكم.
ونسبه في الحدائق[1] إلى الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع، واحتمل الإجماع جماعة.
وقال صاحب المدارك[2] في شرح النافع[3]: "إنه المعروف من مذهب الأصحاب". انتهى.
وينظر في ذلك صاحب المسالك[4]، وبعض آخر ممن تأخّر عنه. والحق هو الأول: للأصل..
ومفهوم الشرط في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) في: الصبي يتزوج
الصبية (هل) يتوارثان؟ فقال: "إذا كان أبواهما اللذان زوّجاهما، فنعم"[5].
والأخرى: عن الصبي يتزوّج الصبية. قال: "إن كان أبواهما اللذان زوّجاهما، فنعم
جايز"[6].
واشتمال ذيل الأخيرة على إثبات الخيار غير ضائر، لأن خروج جزء من الخبر عن الحجية
لا يضر في الباقي.
ورواية داود بن سرحان، عن أبي عبد الله (ع)، وفيها: "واليتيمة في حجر الرجل لا
تزوّج إلاّ برضاها"[7].
والاستدلال بالأخيرة بناءً على أن يحمل على أنه إلاّ برضاها، في زمان يعتبر رضاها ـ
أي بعد البلوغ ـ ولو حملت اليتيمة على البالغة، كما في قوله سبحانه: {وابتلوا
اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً}[8] مجازاً لخرجت عن المسألة،
وما يمكن أن يستدلّ به للثبوت. ولأجله ينظر فيه من ينظر الحديث النبوي المشهور:
"السلطان وليّ من لا وليّ له"[9] بضميمة عموم نيابة المتقدم ثبوته.
وصحيحة ابن سنان: "الذي بيده عقدة النكاح هو وليّ أمرها"[10].
ولاشك أن الحاكم ولي أمر الصغيرين، وسائر الأخبار الواردة في بيان من بيده عقدة
النكاح، وعُدّ وليّ الأمر منه.
ورواية زرارة، عن أبي جعفر (ع)، قال: "إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع وتشتري
وتعتق وتشهد وتعطي من مالها ما شاءت، فإن أمرها جائز، تزوّج إن شاءت بغير إذن
وليّها، وإن لم يكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلاّ بأمر وليّها"[11].
وصحيحة الفضلاء، عن أبي جعفر (ع)، قال: "المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة ولا
المتولّى عليها، إن تزويجها بغير وليّ جايز"[12].
وصحيحة ابن يقطين: أتزوج الجارية وهي بنت ثلاث سنين، أو يزوّج الغلام وهو ابن ثلاث
سنين؟ وما أدنى حد ذلك الذي يزوجان فيه؟ فإذا بلغت الجارية فلم ترض؟ فما حالها؟
قال: "لا بأس بذلك إذا رضي أبوها ووليّها"[13].
ويرد على الأوّل بقبول ولاية السلطان والحاكم، وإنما الكلام في جواز عقد كل وليّ
ونكاحه، وما الدليل عليه والصحيحة بمعارضته مع المفهومين بالعموم والخصوص من وجه،
حيث إن المفهومين واردان في غير الأب وليّاً كان أو لا، والصحيحة واردة في الوليّ
أباً كان أو غيره، فيرجع إلى الأصل لولا ترجيح المفهومين، بالشهرة، بل مخالفة
العامة، بل المفهومان أخص مطلقاً من الصحيحة لاختصاصها بالصغيرين وعموم الصحيحة،
فيجب تقديم الخاص، مضافاً إلى ما سيأتي في رد الاستدلال بالصحيحة في المسألتين
الآتيتين.
وبمثله يردّ الاستدلال بسائر الأخبار الواردة في بيان من بيده عقدة النكاح، مضافاً
إلى ورودها جميعاً في المرأة فيخرج عن المسألة، وهو الجواب عن رواية زرارة[14]،
وصحيحة الفضلاء[15]، مضافاً إلى ما يأتي في ردّ الاستدلال بهما ـ في المسألتين
الآتيتين والصحيحة الأخيرة ـ بالشذوذ الموجب للخروج عن الحجّية، مضافاً إلى
معارضتها مع موثّقة أبي عبيدة الحذّاء، قال: سألت أبا جعفر (ع) عن غلام وجارية
زوّجهما وليّان لهما، وهما غير مدركين، فقال: "النكاح جايز، وأيّهما أدرك كان له
الخيار؛ وإن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما، ولا مهر، إلاّ أن يكونا قد أدركا
ورضيا" ـ إلى أن قال ـ قلت: فإن كان أبوها هو الذي زوّجها قبل أن تدرك؟ قال: "يجوز
عليها تزويج الأب ويجوز على الغلام، والمهر على الأب للجارية"[16].. دلّت على عدم
نفوذ نكاح غير الأب من أولياء الصغير، فتعارض الصحيحة المتقدمة، وكذا تعارضها رواية
داود المتقدمة، ويرجع إلى الأصل المتقدم.
الثانية:
في المجنونَين البالغَين، وثبات ولاية النكاح عليهما للحاكم، فيما إذا لم تثبت
ولاية الغير من أب أو جد أو وصيّ مصرّح به في كلام أكثر المتأخرين كالشرائع[17]،
والنافع[18]، والقواعد[19]، والتذكرة[20]، والتلخيص[21]، والتبصرة[22]،
والإرشاد[23]، والتحرير[24]، وشرح القواعد للمحقق الثاني، واللمعة[25]، والروضة[26]
وكنز العرفان[27]، والكفاية[28]، والمفاتيح وشرحه[29] والحدائق[30]، وغيرها.
بل الظاهر أنه متّفق عليه بين المتأخرين. وفي كلام كثير منهم دعوى الشهرة عليه، وفي
كلام بعضهم نفي الخلاف، وفي آخر دعوى الإجماع، ولكن الكل يشترطونه بالصلاح، وجماعة
كالمبسوط[31]، والإرشاد[32]، والتحرير[33]، والمحقق الشيخ علي[34]، والفاضل
الهندي[35]، وشارح المفاتيح، يشترطونه بالحاجة والضرورة، بل يظهر من الشيخ علي
ادّعاء الإجماع على اشتراطه.
وكلمات أكثر القدماء خالية عن ذكر ولاية الحاكم على النكاح، بل يظهر من كثير من
مصنفاتهم انتفاؤها: كالفقيه[36]، والخلاف[37]، والمبسوط[38]، والنهاية[39]،
والتبيان[40]، والجامع[41]، والوسيلة[42]، والغنية[43]، وغيرها.
والحق ثبوت ولايته في النكاح عليهما، في ما لم تثبت ولاية غيره، بشرط مسيس الحاجة
وادعاء الضرورة وعدمه، ما لم يكن كذلك.
أما الأول: فللقاعدة الثانية من القاعدتين الكليتين المذكورتين المؤيدة بمظنة
الإجماع.
وأما الثاني: فللأصل السالم عن المعارض، إذ ليس شيء هنا يوهم الولاية سوى النبوي
المصرّح بـ "أن السلطان وليّ من لا وليّ له"[44]، وقد عرفت ما فيه، وأخبار من بيده
عقدة النكاح، وسيأتي ما يرد عليها.
ورواية زرارة[45] السابقة، حيث دلّت بمفهوم الاستثناء على جواز تزويج من لم يكن
كذلك بأمر وليّها، وفيه أنه إنما يتمّ لو كان لفظ التزويج فيها مضافاً إلى المفعول،
أي يكون الضمير الراجع إلى المرأة مفعولاً له، وأما لو كان فاعلاً كما هو محتمل ـ
بل الأظهر ـ سيما على نسخة تتزوّج مكان تزوّج، والأنسب بقوله "فإن أمرها جائز" فلا
يتم؛ إذ لابدّ من تخصيص الرواية حينئذٍ بالسفيهة دون المجنونة، إذ المجنونة لا
اعتبار بفعلها، ولا يجوز لها تزويج نفسها، لا بأمر الولي ولا بدونه، ولا يُعبأ
بقولها.
الثالث في السفيهَين (بمعنى خفيفَي العقل) الشامل لمن ليس له أهلية إصلاح المال
أيضاً. وقد وقع الخلاف في ثبوت ولاية الحاكم في النكاح لهما مع عدم وليّ آخر، وعدمه
في كلمات المتأخرين، وأما القدماء فكلام من عثرت على كلامه خال من ذكر ولاية الفقيه
على السفيهة والسفيه بالمرة؛ كالصدوق[46]، والمفيد[47]، والشيخ[48]، وأبناء زهرة
وحمزة وإدريس[49]، والحلبي[50]، والديلمي[51]، ويحيى بن سعيد، بل ظاهر بعضهم ـ
كالصدوق في الفقيه ـ العدم، بل ظاهر الخلاف والتبيان ادّعاء الإجماع على اختصاص
ولاية النكاح بالأب والجد.
وأما المتأخرون، فقد اختلفوا فيه؛ فذهب المحقق في الشرائع، والفاضل[52] في القواعد
والتحرير والإرشاد، إلى عدم ثبوت الولاية أصلاً، وصحة عقده بنفسه لو أوقعه بدون إذن
الوليّ كما صرّحوا به جميعاً في مسألة نكاح المحجور عليه، وإن كان لهم كلام في
المهر، وذهب جمع آخر كما في التذكرة[53]، ونكت الإرشاد[54]، والمسالك[55]، وشرح
القواعد للمحقق الشيخ علي إلى ثبوت الولاية، لا بمعنى استقلال الحاكم في تزويجها،
بل بمعنى عدم استقلالهما، وتوقّف صحة نكاحهما على إذن الحاكم، وإن لم يجز للحاكم
تزويجهما بنفسه أيضاً. وأما بمعنى استقلال الحاكم فلم أر مصرحاً به.
وربما ينسب إلى المحقق الشيخ علي في كتاب الحجر من شرح القواعد، وليس كذلك، بل
كلامه فيه أعم من الولاية الاستقلالية وغيرها، وصرّح في موضع آخر بعدم الاستقلال،
قال: "لاريب أن السفيه لا يجبر على النكاح، لأنه بالغ عاقل، ولا يجوز له الاستقلال
لأنه لسفهه وتبذيره محجور عليه شرعاً، ممنوع من التصرفات المالية". انتهى.
والحق هو الثاني، أي ثبوت الولاية بمعنى توقف صحة العقد على إذن الحاكم، ولا يستقل
الحاكم في الولاية على النكاح، أي ليس وليّاً إجبارياً.
أما عدم استقلال الحاكم، وتوقّف النكاح على إذن السفيه أو السفيهة أيضاً، فللأصل
السالم عن المعارض، بل ظاهر الإجماع. وإطلاق قوله سبحانه: {فإذا بلغن أجلهن فلا
جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن بالمعروف}[56]، وقوله سبحانه: {حتى تنكح زوجاً
غيره}[57].
والنصوص المستفيضة كصحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبد الله(ع) قال: "تُستأمر البكر
وغيرها ولا تُنكح إلاّ بأمرها"[58].
وصحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما (ع): "لا تُستأمر الجارية إذا كانت بين أبويها ليس
لها مع الأب أمر"، وقال: "يستأمرها كل أحد ما عدا الأب"[59].
ورواية إبراهيم بن ميمون عن أبي عبد الله(ع)، وفيها: "وإذا كانت قد تزوّجت، لم
يزوّجها إلاّ برضا منها"[60].
وموثقة البقباق عن أبي عبد الله(ع): "وأما الثيّب فإنها تُستأذن، وإن كانت بين
أبويها، إذا أرادا أن يزوّجاها"[61].
ومرسلة الكافي: عن رجل يريد أن يزوّج أخته، قال: "يؤامرها، فإن سكتت فهو إقرارها،
وأن أبت لا يزوّجها"[62].
ورواه في الفقيه بطريق صحيح، وزاد في آخرها: "فإن قالت زوّجني فلاناً، فليزوّجها
ممن ترضى"[63].
وموثّقة الحذّاء المتقدمة[64] حيث دلّت على كفاية رضاء غير المدركين بعد الإدراك
مطلقاً، مضافاً إلى أن الغالب في أوائل الإدراك السفاهة.
ورواية داود بن سرحان[65] المتقدمة، فإنها بكلا احتماليهما تدل على المطلوب.
ورواية يزيد الكناسي، وفيها: "وإذا بلغت تسع سنين، جاز لها القول في نفسها بالرضا
والتأبّي، وجاز عليها بعد ذلك"[66].
ورواية محمد بن هاشم عن أبي الحسن (ع) قال: "إذا تزوّجت البكر بنت تسع سنين فليست
مخدوعة"[67].
وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: في المرأة الثيّب تُخطب إلى نفسها، قال:
"هي أملك بنفسها، تولّي أمرها من شاءت"[68].
وصحيحة البزنطي، قال: قال أبو الحسن (ع): "والثيّب أمرها إليها"[69]. إلى غير ذلك.
وصحيحة زرارة، قال سمعت أبا جعفر(ع) يقول: "لا ينقض النكاح إلاّ الأب"[70].
ومثلها موثقة محمد بن علي[71].
وجه الدلالة: إنه لو تزوّجت البالغة حد التسع، الفاقدة للأب والجد، بدون إذن
الحاكم، لم يكن للحاكم نقضه، لحصرهم (ع) جواز النقض بالأب، فإذا لم يكن نقضه
جائزاً، كان صحيحاً. إلى غير ذلك من الأخبار.
وأما الثاني، أي توقف صحة تزويج السفيهين على إذن الولي، فلصحيحة الفضلاء[72]
المتقدمة الدالة بالمفهوم على عدم جواز تزويج السفيهة بغير وليّ، ورواية زرارة
المتقدمة المصرّحة بأنه لا يجوز تزويجها إلاّ بأمر وليّها[73].
ومقتضى الجمع بينها وبين الأخبار المتقدمة، إيقاع النكاح بإذن المولّى عليه والوليّ
معاً، ولا تنافي بين هاتين الروايتين، والأخبار المتقدمة سوى صحيحة الحلبي[74] وما
بعدها[75].
وأما صحاح الحلبي[76] والبزنطي[77] وزرارة[78]، وإن تعارضت (مع) تلك الروايتين[79]،
إلاّ أنها أخص مطلقاً من الثلاثة لاختصاصها بالسفيهة، وشمولها للبكر لا يوجب جهة
عموم لأنها غير ملحوظة فيها قطعاً، وكذا تختص بالوليّ. وصحيحة زرارة[80] تعمّ غير
الأب مطلقاً.
احتجّ النافي للولاية مطلقاً بالأصل، وإنه ليس في نفسه من التصرفات المالية، فإن
المهر غير لازم في العقد بنفسه، والنفقة تابعة كتبعية الضمان للإتلاف.
وجوابه: ان الأصل مندفع بما مر، والدليل الآخر اجتهاد في مقابل الحديث[81]. ودليل
الولاية الاستقلالية لو كان به قائل، يمكن أن يكون أمور:
أوّلها: التلازم بين ولاية المال، وولاية النكاح.
وجوابه: منع التلازم كما في المفلس والمفقود والصغيرين.
وثانيها: مسيس الحاجة إلى ولايته عليهما.
وفيه: انه فرع ثبوت حجرهما ومنعهما عن النكاح مطلقاً، وعدم جواز تزويجهما أنفسهما
عند الحاجة، ولم يثبت.
وثالثها: الحديث النبوي "السلطان وليّ من لا وليّ له"[82].
وجوابه: ان معناه انه وليّ من لا وليّ له ويحتاج إلى الوليّ، لا انه وليّ من لا
وليّ له سواء كان محتاجاً إلى الوليّ أم لا.
ورابعها: انه تصرّف مالي، أما من جهة الرجل فظاهر، وأما من جهة المرأة فلأنها تجعل
البضع في مقابل الصداق، وهو ملحق بالأشياء المتقوّمة.
وجوابه: منع كونه مالياً من جهة الزوجة، وإنما هو اكتساب، وهو ليس ممنوعاً منه، ولو
كان كذلك لزم عدم صحة خلع السفيه، وأخذ مال الخلع، وهو خلاف الإجماع المصرّح به.
وخامسها: صحيحة الفضلاء[83] المتقدمة.
وجوابه: عدم الدلالة بوجه من الوجوه، غايته عدم جواز تزويج السفيهة بغير وليّ، وهو
أعم من الولاية الاستقلالية.
وسادسها: رواية زرارة[84] السابقة دلّت بالمفهوم على جواز تزويجهما بأمر الوليّ
سواء أذنت سفيهاً أم لا.
وجوابه: انه إنما يتم لو كان إضافة التزويج إلى الضمير المؤنث إضافة إلى المفعول،
ولو كان من باب الإضافة إلى الفاعل ـ كما هو الأظهر ـ لم يدل على المطلوب، بل يدل
على ثبوت الولاية الاشتراكية[85]، مضافاً إلى انه لا عموم ولا إطلاق في مفهوم
الاستثناء ـ أي الحكم الإيجابي ـ لأن المقصود من الجملة الاستثنائية هو الحكم
السلبي، وأما الإيجابي فمقصود في الجملة، فيكون من باب المطلق الوارد في مقام حكم
آخر، كما هو المتبادر عرفاً. وعلى هذا فيكون مفاد المفهوم جواز التزويج مع إذن
الولي في الجملة، فيمكن أن يكون هو فيما إذا أذنت السفيهة أيضاً، كما هو قول جمع
كثير من الفقهاء، مع أنه على فرض الدلالة معارض مع الأخبار المتقدمة الدالة على
استيمار البالغة بالعموم من وجه الموجب للرجوع إلى الأصل.
وسابعها: صحيحة ابن سنان[86] السالفة.
وجوابه:
أولاً: بالمعارضة المذكورة الموجبة للرجوع إلى الأصل، حيث إن الصحيحة وإن اختصت
بالوليّ إلا أنها شاملة للصغيرة والمجنونة وغيرهما. والأخبار المتقدمة وإن اختصت
بالبالغة العاقلة، إلاّ أنها شاملة للوليّ وغيره.
وثانياً: إنه كما يمكن أن يكون المراد تعريف من بيده عقدة النكاح يمكن أن تكون
واردة في بيان تعريف وليّ الأمر، وأدّى بلفظ من بيده عقدة النكاح، اقتباساً من كلام
الله سبحانه، بل هو الظاهر، والأصل بمقتضى القواعد الأدبية في القضايا الحملية، فإن
الأصل والظاهر فيها إثبات المحمولات المجهولة للموضوعات المعلومة، لا إثبات
الموضوعات المجهولة للمحمولات المعلومة. وعلى هذا فيكون المعنى: كل من كان بيده
عقدة النكاح، كان بيده ولاية المال دون العكس. ومطلوبهم إنما يثبت على الثاني دون
الأول، وليس في كلام الراوي سؤال حتى يقال بتعيين العكس بقرينة السؤال.
فإن قيل: يدل حينئذ على أنه ليس عقدة النكاح بيد غير الوليّ، ومنه السفيهة بنفسها،
فإذا لم يكن العقد بيدها، يكون بيد وليّها لا محالة.
قلت: هذا كلام سخيف، إذ الصغيرة الخالية عن الأب والجد ليست بيدها عقدة النكاح، ولا
بيد وليّ أمرها، وأيضاً الاشتراك غير كون النكاح بيده، فيمكن أن تكون السفيهة شريكة
مع الوليّ. ولو كانت الشركة أيضاً موجبة لصدق أن النكاح بيده، لجرى ذلك في الوليّ
أيضاً. مع أنه لو كان المراد من بيده عقدة النكاح، لكان هو الوليّ الذي بيده العفو
عن الصداق لا مطلقاً، كما يستفاد من الآية الشريفة، وصرّحت به الأخبار المستفيضة،
كصحيحة رفاعة، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: "الوليّ
الذي يأخذ بعضاً، ويدع بعضاً، وليس له أن يدع كله"[87]،وغيرها، وعليه الإجماع في
كلام الفاضل الهندي[88] وصاحب الكفاية[89]، ونقله الأول عن الخلاف[90]،
والمبسوط[91]، وقال: وفي التبيان[92]، ومجمع البيان[93]، وروض الجنان للشيخ أبي
الفتوح[94]، وفقه القرآن للراوندي[95]: إنه المذهب، والذي بيده العفو هو الأب
والجد، أو مع الوصي والوكيل للرشيدة لا غير ـ كما في مجمع البيان ـ مشعراً بدعوى
الإجماع عليه، وفي كنز العرفان[96] ناسباً له إلى أصحابنا، وفي التحرير[97]،
والقواعد[98]، وشرحه[99]، والروضة[100]، والشرائع[101]، والمسالك[102]، وغيرها،
وتدل عليه الأخبار المستفيضة أيضاً.
وثامنها: مفاهيم الأخبار المصرحة بأنها إذا كانت مالكة أمرها، تزوّجت من شاءت.
وفيه:
أولاً: المعارضة المذكورة.
وثانياً: غايتها إن مع عدم مالكية الأمر لا تتزوّج من شاءت، لا أن الوليّ يزوّجها
من شاء، لجواز أن لا يكون تزويجها بيد أحد، أو يكون موقوفاً بإذنها وإذن الوليّ.
ومنه يظهر الجواب على الاستدلال بالعامي المتضمن لقوله "لا نكاح إلاّ بوليّ"[103]
وما بمعناه[104].
ويؤيد المطلوب أيضاً تصريح جماعة من الأصحاب باختصاص الولاية الإجبارية ـ أي
الاستقلالية في النكاح ـ بالأب والجد، بحيث تظهر منه مسلّمية القاعدة.
قال المحقق الشيخ علي[105]: وغير الأب والجد لا يملك الإجبار. وقال في موضع آخر:
وولاية الإجبار لا تثبت لغير الأب والجد.
وقال الفاضل الهندي[106]: إلاّ أنه لا يكفي في إثبات الولاية للحاكم، فإنه لا يملك
الإجبار. ويؤيده أيضاً اكتفاء العلماء طرّاً في شرائط المتزوّجين بالبلوغ والعقل
والحرية في باب النكاح، وتفريعهم عليه عدم صحة عقد الصبي والصبية والمجنون
والمجنونة والسكران فقط من غير تعرض لذكر السفيه أصلاً، وتفريعهم عدم صحة التصرفات
المالية من السفيه في المعاملات على اشتراط الرشد.
ولاية السفهاء والأيتام في إجارتهم
ومنها: ولاية الأيتام والسفهاء في إجارتهم، واستيفاء منافع أبدانهم مع ملاحظة
المصالح، للإجماع، ولأن في انتفائها ضرراً عليهم، وهو منفي في الشريعة. وفي عموم
بعض الأخبار المتقدمة في أمور الأيتام شمول لذلك أيضاً كالرضوي[107]، وصحيحة ابن
رباب[108].
استيفاء حقوقهم المالية وغيرها
ومنها: استيفاء حقوقهم المالية، وغيرها؛ كحق الشفعة المفسخ بالخيار، ودعوى الغبن،
والاحلاف، وردّ الحلف، وحق القصاص في الدم والجنايات، وإقامة البيّنة وجرح الشهود،
وأمثالها.
وقد ادّعى بعض معاصرينا الفضلاء الشهرة عليه في حق القصاص، وقوّاه. وفي كل ذلك
الولاية للحاكم مع المصلحة، لصحيحة ابن رباب[109]، الرضوي[110] المنجبرَين، بل قد
يجب إذا كانت في تركه مفسدة من ضرر ونحوه. كما انه لا يجوز التصرف إذا كانت المصلحة
في الترك.
ولو تساوى الطرفان، فهل يجوز له التصرف والاستيفاء، وينفذ ويمضي، أم لا؟ الظاهر
الثاني للأصل الخالي عن الدافع.
التصرف في أموال الإمام
ومنها: التصرف في أموال الإمام من نصف الخمس، والمال المجهول مالكه، ومال من لا
وارث له، ونحو ذلك.
وقد يستدل بثبوت ولايته فيها: بأنها أموال الغائب، والتصرف فيها للحاكم. وضعفه
ظاهر، إذ لا دليل على ولايته في أموال مطلق الغائب، حتى الإمام، مع أن الولاية في
أموال الغُيّب إنما هي بالحفظ لهم، لا التفريق بين الناس.
وقد يُستدل أيضاً بعموم الولاية، وهو أيضاً ضعيف، لأن مقتضاه ثبوت الولاية فيما
يتعلق بأمر الرعية لا ما يتعلق بنفس الإمام وأمواله.
والصواب الاستدلال فيه بالقاعدة الثانية، فإن بعد ثبوت لزوم التصرف في هذه الأموال
والتفريق، لابدّ له من مباشر، وليس أولى من الحاكم، بل هو المتيقّن، وغيره مشكوك
فيه.
وأيضاً تفريق هذه الأموال إنما هو بإذن شاهد الحال، وهو إنما هو إذا كان المباشر له
الفقيه العادل كما بيّناه في كتاب مستند الشيعة.
جميع ما ثبت مباشرة الإمام له من أمور الرعية
ومنها: جميع ما ثبت مباشرة الإمام له من أمور الرعية: كبيع مال المفلّس، وطلاق
المفقود زوجها بعد الفحص، ونحو ذلك، للقاعدة الأولى من القاعدتين المتقدمتين،
وللإجماع.. وعلى الفقيه في كل مورد أن يفتّش عن عمل السلطان والإمام، فإن ثبت فيحكم
به للفقيه أيضاً.
كل فعل لابدّ من إيقاعه
ومنها: كل فعل لابدّ من إيقاعه لدليل عقلي أو شرعي، كالتصرف في الأوقاف العامة،
والإتبان بالوصايا التي لا وصيّ لها ابتداءً، أو بعد ممات الوصي، وعزل الأوصياء،
ونصب العوام، وغير ذلك للقاعدة الثانية من القاعدتين المذكورتين. ويلزم أن تكون
القاعدتان ملحوظتين عندك، في كل مقام يرد عليك من أعمال الحكام والفقهاء ووظائفهم،
وتحكم بمقتضاهما، ولا تحكمنّ بشيء ما لم يثبت من القاعدة، أو من دليل آخر.
فمن الموارد التي لا أرى عليها دليلاً، ما تداول في هذه الأعصار في المبايعات
الشرطية التي فيها خيار الفسخ للبائع، بشرط ردّ الثمن إلى المشتري في زمان معيّن،
فإذا لم يحضر المشتري في الزمان المعيّن يجيئون بالثمن إلى الفقيه ويفسخون
المبايعة. ولا أرى لذلك وجهاً، فإن شرط الخيار هو ردّ الثمن إلى المشتري، فإذا لم
يتحقق الشرط كيف يتحقق الفسخ، وكون الفقيه قائماً مقامه حتى في ذلك مما لا دليل
عليه أصلاً.
وتوهّم أن ذلك ـ لدفع الضرر والضرار ـ فاسد، إذ هذا الضرر مما أقدم البائع بنفسه
عليه، مع أن الفسخ لا عند المشتري متضمن لضرر المشتري. سلّمنا.. الضرر المنفي، فلم
يجبر بردّ الثمن إلى الفقيه والفسخ عنده، إذ بعد ما جاز للحاكم التجاوز عن مقتضى
الشرط لدفع الضرر، فيمكن دفعه بزيادة مدة الخيار، أو بإلزام المشتري على ما يجبر به
الضرر، أو بغير ذلك من الاحتمالات.
ومن تلك الموارد ما ذكروه في باب النسيئة: انه إذا لم يقبل البائع الثمن في الأجل،
يؤديه إلى الحاكم ويبرأ بذلك، ويكون التلف من البائع حينئذٍ. وهو أيضاً مما لا دليل
عليه. وحديث الضرر يعلم ما فيه مما مر. إلى غير ذلك من الموارد.
فإن قيل: لابدّ في أمثال تلك الموارد من الرجوع إلى الحاكم.
قلت: نعم، لاشك في ذلك، وهو المرجع في جميع الحوادث، وله منصب المرجعية في جميع ما
يتعلق بالشريعة، ولكن الكلام في وظيفة الحاكم بعد الرجوع إليه أنه ما هو. والله
العالم بحقائق أحكامه.
تم الكتاب بعون الله تعالى
__________________________
[1] أي الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة، للمحدث الشيخ يوسف البحراني
المتوفى 1186هـ.
[2] هو العلامة جمال الملة أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي المتوفى
776هـ.
[3] للشيخ الأجل أبو القاسم جعفر بن حسن بن أبي زكريا يحيى بن حسن بن سعيد الهذلي
الحلي الملقب بالمحقق والمتوفى 676هـ.
[4] هو الفقيه الكبير الشيخ زين الدين بن علي الجبعي العاملي المشتهر بالشهيد
الثاني.
[5] وسائل الشيعة: ج14، ص220، ح1.
[6] وسائل الشيعة: ج15، ص326، ح2، وفيه (هل يتوارثان؟).
[7] وسائل الشيعة: ج14، ص201، ح3، وفيه: (لا يزوّجها).
[8] سورة النساء:6.
[9] فتح الباري: ج9، ص190ـ191، باب40 من كتاب النكاح.
[10] وسائل الشيعة: ج14، ص213، ح2.
[11] وسائل الشيعة: ج14، ص215، ح6.
[12] وسائل الشيعة: ج14، ص69، ح2، وفيه (المولّى عليه) بدلاً من (المتولّى عليها).
[13] وسائل الشيعة: ج14، ص208، ح7.
[14] وسائل الشيعة: ج14، ص215، ح6.
[15] وسائل الشيعة: ج14، ص69، ح2.
[16] الكافي: ج5، ص401، ح4.
[17] للمحقق الحلي.
[18] للمحقق الحلي.
[19] للعلامة الحلي.
[20] للعلامة الحلي.
[21] للعلامة الحلي.
[22] للعلامة الحلي.
[23] للعلامة الحلي.
[24] للعلامة الحلي.
[25] للشهيد الأول الشيخ محمد بن جمال الدين مكي العاملي.
[26] للشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي العاملي.
[27] للشيخ مقداد بن جلال الدين عبد الله السيوري الحلي المتوفى 826 هـ.
[28] للشيخ زين الدين علي التوليني.
[29] للفيض الكاشاني المتوفى 1091 هـ.
[30] للشيخ يوسف البحراني.
[31] لشيخ الطائفة الطوسي.
[32] للعلامة الحلي.
[33] للعلامة الحلي.
[34] هو الشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن عبد العالي العاملي الكركي
المعروف بالمحقق الثاني.
[35] هو المولى بهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن.
[36] لرئيس المحدثين محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى 381 هـ.
[37] لشيخ الطائفة الطوسي.
[38] لشيخ الطائفة الطوسي.
[39] لشيخ الطائفة الطوسي.
[40] لشيخ الطائفة الطوسي.
[41] المراد منه إما جامع المقاصد في شرح القواعد للمحقق الكركي، وإما جامع الفوائد
في تلخيص قواعد الشهيد لتلميذه الفاضل المقداد.
[42] لعل المراد منه الوسيلة إلى المسائل الضئيلة من القواعد، شرح قواعد الأحكام
لفخر الدين أحمد بن عبد الله بن سعيد بن المتوّج البحراني.س
[43] لعل المراد منه الغنية عن الحجج والأدلة للسيد جمال الدين عبد الله بن علي بن
زهرة.
[44] فتح الباري: ج9، ص190ـ191، الباب40 من كتاب النكاح.
[45] وسائل الشيعة: ج14، ص215، ح6.
[46] مرّ ذكرهم سابقاً.
[47] مرّ ذكرهم سابقاً.
[48] مرّ ذكرهم سابقاً.
[49] وهم: السيد أبو القاسم عبد الله بن علي بن زهرة، ومحمد بن علي بن حمزة الطوسي
المشهدي الفقيه المعروف، والشيخ الفقيه أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن
الحسين بن القاسم العجلي الحلي المتوفى سنة 598 هـ.
[50] هو أبو الصلاح، تقي بن نجم الدين الحلبي المتوفى 447 هـ.
[51] تقدم ذكره سابقاً.
[52] هكذا في الأصل، والصحيح العلامة.
[53] للعلامة الحلي.
[54] للشهيد الأول.
[55] للشيخ السعيد زين الدين الشهيد ابن علي.
[56] البقرة:234.
[57] البقرة:230.
[58] وسائل الشيعة: ج14، ص203، ح10.
[59] وسائل الشيعة: ج14، ص205، ح3.
[60] وسائل الشيعة: ج14، ص214، ح3.
[61] وسائل الشيعة: ج14، ص202، ح6.
[62] الكافي: ج5، ص393ـ394، ح4، وفيه: لم يزوّجها.
[63] من لا يحضره الفقيه: ج3، ص251، ح7.
[64] الكافي: ج5، ص401، ح4.
[65] الكافي: ج5، ص393، ح3، ووسائل الشيعة: ج14، ص201، ح3.
[66] وسائل الشيعة: ج14، ص209، ح9.
[67] وسائل الشيعة: ج14، ص206، ح6.
[68] وسائل الشيعة: ج14، ص202، ح4.
[69] وسائل الشيعة: ج14، ص206، ح1.
[70] وسائل الشيعة: ج14، ص205، ح1.
[71] وسائل الشيعة: ج14، ص205، ح1.
[72] وسائل الشيعة: ج14، ص201، ح1.
[73] وسائل الشيعة: ج14، ص215، ح6.
[74] وسائل الشيعة: ج14، ص215، ح7، و8.
[75] وسائل الشيعة: ج14، ص215، ح7، و8.
[76] وسائل الشيعة: ج14، ص202، ح4.
[77] وسائل الشيعة: ج14، ص206، ح1.
[78] وسائل الشيعة: ج14، ص205، ح1.
[79] أي صحيحة الفضلاء، ورواية زرارة.
[80] وسائل الشيعة: ج14، ص215، ح6.
[81] هكذا في الأصل، والصحيح: في مقابل الحديث.
[82] فتح الباري: ج9، ص190ـ191، الباب40 من كتاب النكاح.
[83] وسائل الشيعة: ج14، ص201، ح1؛ وص69، ح2.
[84] وسائل الشيعة: ج14، ص215، ح6.
[85] هكذا في الأصل، والأنسب: الولاية المشتركة.
[86] وسائل الشيعة: ج14، ص213، ح2.
[87] وسائل الشيعة: ج14، ص213، ح3.
[88] مر ذكرهما.
[89] مر ذكرهما.
[90] لشيخ الطائفة الطوسي.
[91] لشيخ الطائفة الطوسي.
[92] لشيخ الطائفة الطوسي.
[93] للشيخ أبي علي أمين الدين الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي.
[94] هو شيخ المفسرين جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد بن أحمد بن
الحسين الخزاعي النيسابوري المدفون في جوار سيدنا عبد العظيم الحسني.
[95] هو الشيخ الإمام قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي المتوفى 573 هـ.
[96] للشيخ أبي عبد الله مقداد بن جلال الدين عبد الله السيوري الحلي.
[97] مر ذكره.
[98] مر ذكره.
[99] مر ذكره.
[100] مر ذكره.
[101] مر ذكره.
[102] مر ذكره.
[103] غوالي اللئالي: ج1، ص306، ح9.
[104] وسائل الشيعة: ج14، ص214، ح5.
[105] أي المحقق الكركي، وقد مر ذكره.
[106] مر ذكره.
[107] الفقه الرضوي: ص333.
[108] الكافي: ج7، ص67، ح2، وفيه (ابن رئاب) بدلاً من (ابن رباب).
[109] الكافي: ج7، ص67، ح2، وفيه (ابن رئاب) بدلاً من (ابن رباب).
[110] الفقه الرضوي: ص333.