مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة

أول الحديث

ان اليقين والشك في كل موضوع أو مسألة على نحوين أحدهما منطقي والآخر نفسي.
وينشأ المنطقي منهما نتيجة وضوح الأشياء والموضوعات والأحكام أو عدم وضوحها وعن ظهور المبادئ التصورية والتصديقية، فإذا ما اتضح أمر ما أو كان جلياً أو مبرهناً ومبيّناً إذ ذاك يحصل اليقين في نفس الإنسان، أما إذا وقعت حالة الإبهام في الموضوع أو الحكم، أو هيمنت حالة الاحتمال على المبادئ التصورية أو التصديقية حينذاك تبرز حالة الشك في نفس الإنسان.
أما النفسي من حالتي الشك واليقين فإنه يتعلق بالعناصر الداخلية والحالات النفسية للإنسان قبل ان يكون مرتبطاً بالأشياء والمسائل الخارجية، من هنا ربما يراود الشك المرء في قضية هي في غاية الوضوح والجلاء بالنسبة للآخرين، أو انه يرى يقينية وقطعية موضوع ما يلفه الغموض وموضع شك لدى الآخرين، والمطروح في مجال علم أصول الفقه تحت عنوان "قطع القطّاع" غالبا أما يكون من سنخ القطع النفسي لا المنطقي، وان ما يرد في علم الفقه تحت عنوان " كثير الشك" إنما هو الشك النفس الذي مرده الطبيعة النفسية للإنسان الشكاك.
من البديهي ان للبحث والحوار العلمي ـ ومن ضمنه ما يرد في هذا الفصل ـ تأثيره في دائرة البعد المنطقي من الشك واليقين ولا مجال له للتأثير في دائرة النفسي منها وذلك لتبعية الأوليين لعللهما الخاصة سواء في الوجود أو العدم.
وهذا الفصل ـ باعتباره فصل الختام ـ يأتي للرد على الاستفسارات والشبهات التي تثار أو ربما تثار حول ولاية الفقيه والحكومة الدينية، وهو يقدم صورة شاملة عن القضية ويميط اللثام عن مغالطات التصورات الإفراطية والتفريطية، والتصورات التي تظهر ولاية الفقيه على أنها تستدعي محجورية الأمة أو أنها زائدة على مبادئ القانون الأساسي، وكذلك التصورات التي ترى استحالة الجمع بين ولاية الفقيه والجمهورية الإسلامية وتفسير ولاية الفقيه بأنها وكالة الفقه أو هي حالة وسطية بين الحكومة الإسلامية وسائر الحكومات في الشرق أو الغرب. فلا نرى فارقاً يذكر بينها إلى غير ذلك...
 


القسم الأول: الحكومة الدينية، الحكومة الإسلامية

1ـ هل الزعامة الدينية تمثل جانباً من النبوة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فلماذا لم يقم بعض الأنبياء الحكم؟
الجواب:
نظراً لإقامة الدليل العقلي على ضرورة النبوة العامة، وكان محور ذلك البرهان بالإضافة إلى تهذيب النفوس وتركيزها وتنظيم علاقة الإنسان بنفسه ومع خالقه والعالم الخارجي المحيط به، هو إقامة نظام الحكم الذي يسود المجتمع في ضوء التعاليم الإلهية، بناء على ذلك فإنّ القيادة والزعامة السياسية للمجتمع أخذت في الحسبان في النبوة، وذلك لاستحالة مواصلة المجتمع لحياته عن طريق التعليم والإرشاد فقط دون الجهاد والدفاع وإقامة الحدود وتنظيم العلاقات الدولية ... الخ.
ان النبوة ضرورية لكمال الحياة الإنسانية، ولو ان شخصاً واحدا فقط كان على ظهر الأرض فإنه يحتاج إلى الوحي وان خلا ذلك الوحي من الأوامر الحكومية، أما إذا عاش أكثر من فرد على ظهر الأرض فإنهما يصبحان بحاجة ماسة إلى قانون مدون وحكم لغرض تنظيم العلاقات الاجتماعية.
وربما يتعذر على نبي ما الإمساك بزمام الأمور في ظل ظروف معينة كما هو شأن الرسول الأكرم "ص" على مدى السنوات الأولى من بعثته، حيث لم يستطع "ص" إقامة الحكومة وقتذاك، وقد يتولى أحد الأنبياء زمام الأمور في عصر ما ويخضع لسلطته أنبياء آخرون تكون مهمتهم تبليغ التعاليم الدينية، دون ان يكون لديهم الإذن بإقامة حكومة مستقلة على حدة، كما هو الحال بالنسبة لنبي الله لوط "ع" حيث كان يخضع في نبوته لنبوة إبراهيم "ع" (فآمن له لوط)[1] ولم تكن لديه حكومة مستقلة، وذلك مما لا يستبطن أي محذور لأن نبوة مثل هؤلاء تمثّل قبسا من نبوة تخلو من الحكومة سواء على نحو الاستقلال أو التبعية، ففي المثال المتقدم، كان النبي لوط "ع" يدير الحياة السياسية والاجتماعية له ولغيره في إطار محيطه في ظل حكومة النبي إبراهيم "ع".
من هنا فقد ورد تواجد الأنبياء عليهم السلام في الميادين السياسية والاجتماعية وزعامتهم على نحو الموجبة الجزئية في القرآن الكريم: (وكأيّن من نبي قاتل معه ربيِّون كثير)[2]. أما إذا لم يرد التصريح في القرآن الكريم بشأن كل من نوح وعيسى (عليهم السلام) وطائفة أخرى من الأنبياء (عليهم السلام) فيما يتعلق بأمور الحكم والسياسة، فإنّ عدم التصريح لا يمثل دليلاً على عدم وجود الحكومة، بل ذلك من قبيل قوله تعالى: (ورسلاً لم نَقصصهم عليك)[3]، أي مثلما لم يرد في القرآن الكريم ذكر لبعض أنبياء الله الذين شهدهم التاريخ البشري، لم تذكر جميع خصائص كل من الذي ورد ذكرهم في القرآن .
تنبيه: التلازم العقلي يمثل دليلاً مناسبا على هذا المطلب فمن المسلم به ان كل نبي يرسل ومعه برنامج حكم ديني، وان حرم الناس أحياناً من فيض حكومة نبي معين نتيجة لطغيان المستكبرين.
2ـ هل السياسة وإقامة الحكم آمر "عقلائي" أمضاه الدين، أم انه آمر "تأسيسي" متفرع عن الدين نفسه؟
الجواب:
ان اصل الحكم أمر عقلي يدرك العقل ضرورته، وقد تقبله العقلاء استناداً لضرورته العقلية وما أقيم عليه الدليل العقلي المعتبر سيكون حكماً شرعيا، وقد أمضاه الدليل النقلي أيضاً وشرح الشروط والمواصفات الضرورية بالتفصيل كما ان تعيين الحاكم في ضوء الشواهد العقلية والثقافية يتم من قبل الله سبحانه.
3ـ هل ان تدخل " الدين " في " السياسية " يمثل هدفاً مستقلاً أم انه في حدود الضرورة لتوفير السعادة الأخروية؟
الجواب:
ان الغاية المطلقة والنهائية للدين هي نورانية البشر وبلوغهم مقام الشهود ولقاء الله ودار القرار، من هنا فإنّ قيام الناس بالقسط والعدل (ليقوم الناس بالقسط)[4] بل وحتى العبادات جميعا تمثل غايات نسبية ووسطية في الدين.
ان المسائل العبادية والسياسية تمثل وسائل يصل من خلالها الفرد والمجتمع إلى ذلك الهدف النهائي، وجميعاً عبارة عن صراط أو سبيل ولا يسعها ان تكون هدفاً نهائي، بيد ان السياسة تمثل في نفس الوقت أمراً ضرورياً ملموساً في شؤون حياة الإنسان وفي أحكام الإسلام وتعاليمه بحيث ان الأحكام الدينية لا تنفصل عن السياسة كما ان السياسة الصحيحة لن تخرج عن إطار القوانين الإسلامية.
4ـ هل رسم الإسلام الخطوط العامة في دائرة المجتمع والسياسة أم انه طرح الجزئيات أيضاً؟ وما هي الخطوط العامة للسياسة في الإسلام؟
الجواب:
لقد قدم الإسلام الكليات وكذا الجزئيات في مجال العبادات والأحكام التي تتخذ طابع التعبد وهي كثيرة يعجز العقل البسيط عن إدراك خصوصيتها، بيد انه بين الخطوط العامة فقط في مجال الاقتصاد والسياسة والزراعة والرعي والشؤون العسكرية ثم أوكل إلى العقل مهمة الاجتهاد في الجزئيات، والعقل بطبيعة الحال يمثل أحد مصدري الدين.
وقد وردت الكثير من الخطوط العامة للسياسة في الإسلام في عهد أمير المؤمنين "ع" لمالك الأشتر "رض"[5] من قبيل: مواصفات الحاكم الإسلامي، حقوق مختلف الطبقات، واجبات الحاكم والحكومة والأمة، تقدم رضى العامة على رضى الخاصة، العلاقة مع المؤمنين من أهل القبلة، الموحدين من أهل الكتاب والملحدين غير الموحدين، العزة والاستقلال وحراسة الثغور، التصدي للأعداء وعدم اتخاذهم بطانة، تصنيف المال إلى شخصي وعام وحكومي إلى غير ذلك.
5ـ ان الحكم والسياسة تتعلق بالأمور التعاقدية والجزئية وهي ليست من مهام الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
الجواب:
ان لمفاهيم الدين وألفاظه قيمة مفهومية ولفظية وهي تعد مقدمة لتحقق أحكامه وحكمه في أوساط المجتمع، وان الحكم الإسلامي يمثل نشاطا الهدف منه نشر الدين في المجتمع وفي أرواح الناس، فكيف إذن يعتبر تبيين تلك المفاهيم و الألفاظ من مهمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام فيما يتناقض الحكم والسياسة التي تعد ضرورية ولازمة لتطبيق أحكام الدين مع مسؤوليتهم؟
6ـ استناداً إلى الآيات القرآنية من قبيل: (يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)[6]، (يقوم الناس بالقسط)[7]، (لا إكراه في الدين)[8]، (ما أنت عليهم بِجبّار)[9]، (لَستَ عليهم بِمُصَيطِر)[10]، فإنّ مهمة الأنبياء تتركز على تعليم الناس وتربيتهم عن طريق " التشويق " ومثل هذا الهدف لا يتحقق باستخدام القوة وإقامة الحكم، وعليه فإنّ إقامة الحكم موكول للأمة لا للأنبياء.
الجواب:
لا يعني إقامة الحكم فرض الدين على الناس، بل لتعليم وتزكية الناس الذين يرون حقّاًنية الدين وحكومته ويتمسكون بهما، ومما لا شك فيه ان التعليم والتزكية إنما يحصلان عن طريق التشويق والتشجيع وباختيار الناس ووعيهم وهذا ما تنتهجه الحكومة الدينية.
وبطبيعة الحال ثمة قوانين جزائية وعقابية في كل حكم سواء كان دينيا أم لا لمواجهة البغاة والخارجين عن القانون والمخلين بالنظام العام للمجتمع، وذلك أمر عقلائي ينسجم مع التعليم والتزكية ولا يتعارض معهما أبداً.
كما ينبغي الانتباه إلى ان الآيات من قبيل (لا إكراه في الدين)، (ليست عليهم بمصيطر)، (ولست عليهم بجبار)، (انك لا تهدي من أحببت)[11] إنما تتعلق بالتكوين لا التشريع، ففي دائرة التشريع تأخذ كل من عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك الحدود والتعزيرات طريقها.
ومن ناحية أخرى، ربما يوجد مواطن لم يتقبل العقائد الإسلامية وهو يعيش في ظل الحكومة الإسلامية آمناً يتمتع بحقوق خاصة.
7ـ إذا ما اعتبرنا إقامة الحكومة وتطبيق أحكام الدين من مسؤولية الأنبياء حينذاك سيسلب من الأمة الشعور بالمسؤولية.
الجواب:
مثل هذا الكلام يصح إذا استطاع الأنبياء إنجاز هذه المهمة لوحدهم دون ان يكون للأمة أي دور فيها، أما إذا كانت الحكومة دينية والحكم للإمام والأمة معا، وان مشاركة الأمة ودورها الخلاق تمثل الشرط الأول في قيامها، فإنّ قيادة وحاكمية الأنبياء عليهم السلام ووقوفهم على راس السلطة لن يضعف الشعور بالمسؤولية لدى الأمة وإنما يعد عاملا في ترسخيه في نفوس أبنائها أيضاً وهنالك آيات قرآنية من قبيل: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك)[12]، و (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)[13]. تكشف بوضوح عن دور الأمة إلى جانب الإمام، ومسؤوليتها في تطبيق أحكام الدين الإلهي، وأفضل شاهد على تجلي الشعور بالمسؤولية من قبل الأمة هو الحضور المسؤول والحيوي للأمة في نظام الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني قدس سره.
8 ـ لقد بقي منصب " الإمامة المعنوية" طاهرا على الدوام، على العكس من الحكومة والزعامة السياسية فقد تتصف بالطهارة أو عدمها، وهذا دليل على انفصال الدين عن السياسة. وإذا ما افلح النبي "ص" و أمير المؤمنين "ع" من إقامة الحكومة فلم يكن لمسؤوليتهم في إقامتها، وإنما لما كانت تراه الأمة من أفضليتهما على سائر البشر فانتخبتهما للحكم وهذا الانتخاب كان سبباً في رضى الله سبحانه: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة)[14] ، بناء على ذلك فإنّ مسؤولية تطبيق الأحكام الدينية إنما تقع على عاتق أبناء الأمة وما يتمتعون به من عقل عملي.
الجواب:
لقد كانت سياسية الأنبياء وحكمهم يتميزان على الدوام بالصلاح ولم يعتريهما ازدواجية الصلاح والفساد أبداً وذلك لقدسية ذواتهم عليهم السلام وان كانوا بشرا: (قل إنما أنا بشر مثلكم)[15] وبسبب تمتعهم بإسناد الوحي الإلهي: (يوحى إليّ)[16] فقد تميزت سياستهم بالحقّانية دائما، ومتى ما غُصبت هذه السياسة أصابها الفساد. وازدواجية السياسة من حيث الصلاح والفساد لا يمكن اعتباره دليلاً على انفصال الدين عن السياسة، لأن كل ما نزل إلى عالم الملك ولم ترفده العصمة فقد يصبح خالصا أو يكون مشوبا، كالعبادات إذا عرجت فهي تكون نزيهة عن الرياء بشكل تام ، أما الصلاة والزكاة وغيرهما فقد تلفهما الازدواجية في عالم الدنيا وهكذا الأمر بالنسبة للحكومة.
بناء على ذلك، ينبغي عدم توقع نزاهة عالم الملك عن كل عيب ونقص كما هو الحال بالنسبة لعالم الملكوت، أضف إلى ذلك ربما يتحمل شخص ما مسؤولية في الحكومة الدينية التي يقودها النبي "ص" أو الإمام "ع" لكنه لا يتحرز عن الأفعال الضالة، بيد ان هذا الفعل لا يسبب أي شائبة في صلاح اصل الحكومة التي يتزعمها المعصوم "ع".
أما ما قيل من نشوء حكومة النبي "ص" وأمير المؤمنين "ع" وسلطتهما عن بيعة الأمة وانتخابها، فإنّ خطأ ذلك يتضح بجلاء من خلال آيات القرآن الكريم ودراسة سيرة أولئك العظام. لقد انطلق الرسول الأكرم "ع" في رسالته بالدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد، ودعا الناس إلى طاعته، ثم توجه إلى المدينة وأقام حكومته بآمر من الله سبحانه، ومارس الجهاد بنوعيه الدفاعي والابتدائي وكاتب اليهود والنصارى وإمبراطوريات الروم والفرس قائلاً: "أسلم تسلم"[17] داعياً الجميع للدخول في دين الله، فيما أذعنت غالبية أهل الحجاز للإسلام بعد فتح مكة وليس قبله، وهذا ما لا علاقة له ببيعة الأمة وانتخابها.
وإذا كان المراد من " أطيعوا الرسول " في الآية الكريمة (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[18] هو إطاعة ما ورد من كلام عن الله سبحانه بشأن الرسالة، لم يعد هنالك داع لتكرار مفردة (أطيعوا) لأن طاعة الرسول هي نفسها طاعة الله، كما لا يمكن القول ان المراد من (أطيعوا الرسول) هو السنة والحديث القدسي، لأن طاعة الله اعم مدى من القرآن والسنة والحديث القدسي وهي تشملها جميعا، والآية (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)[19] إنما تكشف عن الولاية التعينيّة له "ع" على أرواح المؤمنين حيث تشمل نواميسهم كما تشمل أموالهم عن طريق أولى أيضاً.
وقوله "ع" في غدير خم: " يا أيها الناس من وليكم وأولى بكم من أنفسكم؟ إلى ان قال: من كنت مولاه فعلي مولاه"[20] يمثل شاهدا على " الولاية الحكومية" التي نص عليها الشرع.
والملاحظة المهمة هي ان حدود الإسلام تشمل كافة شؤون الإنسان ونظراً لأصالة الروح وعظمة الآخرة في قبال الدنيا فإنّ جانباً مهماً من الوحي اختص بتعليم الكتاب والحكمة والتزكية المعنوية لغرض ضمان سعادة الإنسان في الآخرة، بيد ان قضية الحكمة والسياسة والمعيشة والقضاء وسائر القضايا الإنسانية لم تهمل من قبل الباري تعالى أبداً ولم يعتبرها خارجة عن أمرها إلى جهات غير دينية، وآيات الجهاد والدفاع والقضاء والتنظيم الاقتصادي، وتثبيت دعائم السياسة داخليا وعالميا، والأحكام السياسة المتعلقة بعلاقات المسلمين مع أهل الكتاب، وكذا النصوص الروائية المتعددة والمتنوعة كلها تعد وثيقة ناطقة على جامعية الدين وواجبيته.
من هنا يتضح ان ما يتجلى على نحو الأصالة في السنة وسير المعصومين عليهم السلام هو نهضتهم وجهادهم الذي لم يأت باعتبار أي منهم كانسان متحرر وحكيم وعادل وعالم يصبوا إلى إقامة العدل والقسط، أو انه جاء نتيجة لتشخيص خاص من قبل أحدهم، وإنما تجلي في النص القرآني وفي سيرة المعصومين عليهم السلام كواجب ديني تبوء مكانته في اصل الإسلام المحمدي الأصيل، وحيث تجسد في سيرة أولياء الله ومن شايعهم ـ كمسلمين يستمدون كافة شؤونهم سواء في الحياة أو الممات من روح الدين الإلهي.
أي فارق عميق يفصل بين الفكر العلماني القائل بفصل الدين عن السياسة وتفسير سيرة أولياء الله عليهم السلام بأنها عبقرية شخصية، وبين الرؤية الثاقبة والشاملة للدين الإسلامي ازاء كافة شؤون الدنيا والآخرة واستفهام المسؤولية الدينية من صلب سيرة أولياء الله المجاهدين وصفوته المنتجبين؟ كما هو المستفاد من آيات القرآن الكريم من قبيل (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ان اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكّرهم بأيام الله ان في ذلك لآيات لكل صبّار شكور)[21] إذ ان الجهاد الدؤوب الذي خاضه موسى (ع) واتباعه ضد فرعون وملائه كان نابعاً من الوحي الإلهي لا انه مجرد تشخيص خاص منه (ع) يوحي من عبقريته.
ان الإيعاز القرآني بمقاتلة أئمة الكفر الذين لا يلتزمون بأي عهد وميثاق وإيمان وما شابه ذلك (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم)[22] ، وكذلك الأوامر الصادرة في القرآن الكريم بمقاتلة أقطاب الظلم ورؤوس الشرك والطغيان (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)[23] ومثيلاتها، ليس خارجا عن دائرة الدين وان المسلمين فعلوا ذلك دون ان يكون جزء من مسؤوليتهم الدينية، ولا هو جزء من الأعمال التي أمضاها الشرع قد سبقه بها تبني العقلاء ثم إمضاء الدليل النقلي، بل ان الدوافع الحقيقية التي تقف وراء بذل الغالي والنفيس في سبيل الله إنما هي من إشراقات الوحي وصناعة الدين الإلهي.
9ـ لم يشر الإمام الحسين "ع": " إنما خرجت لآمر بالمعروف وأنهي عن المنكر". كما رفض الإمام الرضا "ع" استلامه لولاية العهد، ولم يقم سائر الأئمة عليهم السلام ضد الحكومات المنحرفة التي عاصروها ولم يبادروا إلى إقامة الحكم، وهذه الموارد بأجمعها تعد دليلاً على انفصال الدين عن الحكم.
الجواب:
أولاً: لقد أقام النبي "ص" وأمير المؤمنين "ع" الحكم، والإمام الحسن "ع" بدور إقامة الحكم أيضاً وقاتل حتى فرض عليه الصلح.
ثانياً: صرح الإمام الحسين "ع" في وصيته تلك بعد قوله انه قام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالقول: " أسير بسيرة جدي وأبي "[24]. أي ان سيرتي هي نفسها سيرة جدي وأبي ومنهجهما فقد أقام النبي "ص" حكومته في المدينة المنورة، فيما أقام أمير المؤمنين "ع" حكومته في كل من المدينة والكوفة، وعلى هذا المنوال تأتي سيرتي حيث سأقوم بتشكيل الحكومة كما فعلوا، وفي تصريح رسمي له أعلن "ع" عن شروط الإمام والقائد مؤكدا انه لا بد ان يكون قائماً بالقسط والعدل[25].
وكان أخذ البيعة لمسلم بن عقيل من أهل الكوفة لغرض إقامة الحكم .
وحيث ان الإمام الرضا "ع" كان على علم بخديعة ولاية العهد فقد رفضها بشكل علني، وان ما تعرض له الأئمة عليهم السلام من سم وقتل وإدخالهم السجون وإخضاعهم للرقابة إنما كان لثورتهم بوجه الحكومات المنحرفة التي عاصروها، وإلاّ فلا شأن لأحد مع مَن يكتفي بنصيحة الحكام ومن التزم الزهد والعزلة والعالم الذي يقتصر نشاطه على الإجابة على المسائل الشرعية فحسب. روى العلامة المجلسي قدس سره في بحار الأنوار عن الإمام الصادق "ع" قوله لسدير:
"... والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود، ونزلنا وصلّينا، فلما فرغنا من الصلاة عطفت إلى الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر"[26].
10ـ الدين شأن ثابت والحكومة ترتبط بالشؤون الجزئية والمتغيرة لذلك يتعذر الجمع بينها.
الجواب:
ان الغرض من الدين توفير السعادة للإنسان في البعدين الفردي والاجتماعي، والإنسان من ناحية أخرى يمثل حقيقة لها ارتباط بالدنيا والآخرة معا، ولا بد من صيانة مثل هذا الوجود من الأضرار في الدنيا وكذلك يتعيّن المحافظة عليه من مداهمة الأخطار بعد الممات ودخول عالم الآخرة، بل بالإضافة إلى وجوب المحافظة عليه من الشر، لا بد من ان يتنعم بالخير الدائم في ضوء المراتب التي يقطعها، ومن جهة ثالثة ان في الإنسان فطرة مشتركة وثابتة عند جميع بني البشر: (فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)[27] وله إلى جانب هذه الفطرة الثابتة، طبيعة متغيرة ومتنوعة: (أنى خالق بشراً من طين)[28] وطبيعته هذه ترتبط جغرافيا بالمناطق وتاريخيا بالزمان، أما فطرته فهي ثابتة لا يعتريها التغير وذلك لارتباطها بالروح وكونها أمراً مجردا خارجا عن إطار الطبيعة.
لقد عنى الدين بالدعائم الأربع أي القضايا التي تتعلق بالدنيا، والمسائل التي ترتبط بالآخرة، الأحكام والحِكَم التي ترتبط بالفطرة، الأحكام والحِكَم التي ترتبط بالطبيعة، وقد تبلور من اجلها جميعا وحي نزل على هيئة كتاب سماوي، وهذا الوحي دعى الناس إلى التزام العترة الطاهرة عليهم السلام فتجلى الدين بصورة القرآن والعترة.
والعقل بدوره يمثل مصدراً ودليلاً، فذلك إلى الجانب من المبادئ الذي يعبر عنه بالمستقلات العقلية أو لوازم الحجج المأثورة، إمضاء الدليل النقلي في الدين، أما ذلك البعد من المبادئ الذي يسمى بمقدمات الواجب النقلي وله مهمة الإرشاد والهداية فهو موضع قبول الدليل النقلي.
بناءا على ذلك فإنّ الدين عنى بجميع شؤون الإنسان ولم يغفل شيئاً، ولم تبق الجوانب المتغيرة في الإنسان بمنأى عن مشرع الدين، وان مهمة الحاكم الإسلامي سواء كان معصوما أم لا تتلخص في بيان الأحكام الثابتة والمتغيرة وتطبيقها آخذاً بنظر الاعتبار تلك الأبعاد الأربعة الآنفة الذكر وما عنى به الدين. ويتولى على صعيد المسائل العقائدية بثلاثة واجبات هي " التبيين" و " التعليل" و " والدفاع العلمي " أي انه يقوم أولاً بشرح العقائد الدينية، ثم ايراد الدليل والبرهان لتصحيحها، وثالثا رد الشبهات المثارة ضدها.
وبطبيعة الحال فإنّ الشؤون الثانوية والمتغيرة للبشر في كل زمان ومكان تخضع لتقييم الحاكم بعد استشارته للخبراء والمتخصصين في كل فن، ونظراً إلى ان كلاًّ منها يعد جزءاً من كبرى كلية فذلك يكشف عن حكم تلك المواضيع ومصاديقها .
ويمكن مشاهدة نموذج لثبات الحكم وتغير المصداق عبر المناظرة العلمية التي قام بها الإمام محمد بن على الجواد "ع" مع يحيى بن اكثم، إذ ان مصداقا خارجياً معيناً شهد تغيرا خلال ظرف زماني استمر يوم ونصف وتقبل عشرة أحكام مختلفة وهو عبارة عن افتراض خاص قدمه الإمام الجواد "ع" يقضي بحرمة امرأة على رجل عند الفجر ثم حلت عليه عند شروق الشمس، ثم حرمت عليه عند منتصف النهار، ثم حلت عليه عند الزوال وعند العصر حرمت عليه، ثم حلت عليه عند الغروب وحرمت عليه عند شروق الشمس في اليوم التالي وهكذا حلت عليه عند منتصف النهار[29].
ولم تتغير هذه الأحكام المتنوعة نتيجة تبدل المصداق وتغيره فهي جميعا من صنف الحقيقة وتابعة من اللوح الإلهي المحفوظ ومصونة من أي تغيّر.
بناء على ذلك فإنّ الوحي الإلهي الذي يتصف بالثبات والشمولية يضم بين ثناياه الأمور المتغيرة دون ان تلحق بثباته ودوامه وشموليته أضرار من قبل الأمور الجزئية والمتغيرة، وان ثبات هذه الأحكام ودوامها وشموليتها لا تعد من دواعي الجمود والتحجر والركود والرجعية والاحتكار وضيق الأفق وما شابه ذلك.
11ـ ان تحكيم الدين يؤدي إلى تأطيره بالدنيا وذلك مما لا يتفق وقدسيته وشفافيته.
الجواب:
لقد جرى الرد على هذه الشبهة بشكل ضمني في الإجابة المتقدمة فلم يكن الدين أحادي البعد أو ناقصاً على الإطلاق، والدين إنما يكون كاملا حينما يأتي لتعليم الإنسان وتزكيته، ويكون الإنسان في حقيقته سائرا وسالكا ينطلق من نشأته "التراب" نحو لقاء "رب الأرباب" (يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)[30] ولا بد للدين ان يغذي هذا الإنسان الكادح على مدى مختلف النشآت، وان الباري جلت قدرته الذي له الآخرة والدنيا (فله الآخرة والأولى)[31] قد جعل الدين لضمان دنيا الإنسان وكذلك أخرته، فهو جل وعلا إنما يستجيب دعاء الذين يريدون حسنات الدنيا والآخرة معا: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)[32] ، ويتعذر بلوغ حسنة الآخرة دون الحصول على حسنة الدنيا.
بناء على ذلك، ان الدين يهتم بالدنيا بيد ان هذا الاهتمام لا يعني تغليب الدنيا على الدين، بل انه ذم التعلق بالدنيا، كما وردت مذمة الدنيا في الآية الكريمة: (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وما له في الآخرة من خلاق)[33].
12ـ لو أراد الدين وضع قانون حكومي وإجرائي، فإنّ ذلك القانون يستدعي قانونا إجرائيا آخر، وهكذا يستمر التسلسل؟
الجواب:
ان القانون الإجرائي يشمل نفسه أيضاً من هنا لا يحدث التسلسل فلا يستلزم التطبيق سوى القيام بالقسط والصلاح والإرادة الشعبية، ولا وجود لمحذور التسلسل من الأساس.
13ـ ان العقل البشري يعد كافيا لعملية التقنين ولا داعي للتشريع الإلهي.
الجواب:
ان أفضل دليل على النبوة العامة هو ان العقل البشري يصرح قائلاً إنني أنا الإنسان على صلة بكافة الموجودات في إطار حياتي المادية والمعنوية غير إنني أعاني الجهل ازاء الكثير من الأمور، ومن المتعذر مقايسة معلوماتي بالنسبة إلى الأمور التي أجهلها، من هنا فأنني بحاجة إلى الدليل والمرشد لغرض بلوغ أهدافي.
ان عقل الإنسان هو الذي يدرك بوضوح حاجته إلى المرشد كإدراكه للعملية الحسابية
2×2=4 ولا يساوره الشك في هذا الإدراك مقدار ذرة أبداً فالعقل يصرح بجهله ازاء المستقبل، فلا علم لي بالقبر، والبرزخ، والقيامة، إنني مسافر ولكني لا أدري إلى أين؟ وما هو السبيل والزاد، من هنا فمن الضروري ان يبعث الله سبحانه مرشداً إلي: النبي موجود بالضرورة لا بنحو الإمكان.
ان العقل يدرك الكثير من الخطوط العامة في الرؤية الكونية فيما يتعلق بالتوحيد والمعاد والوحي والرسالة والمعجزة ووجوب المعجزة بالنسبة للنبي، ومزايا المعجزة ومن هو النبي ومن المدعي للنبوة، والمئات من الأحكام الأساسية والشاملة، غير انه يدرك جهله للمئات من الأحكام الفرعية والجزئية، من هنا فهو بحاجة إلى الوحي والنقل، ان يأتي الوحي فيفتح ما يدركه العقل ويتجلى ما لا يفهمه العقل، وان المجتمع أو الإنسان الذي ينتفع بالوحي الإلهي يتحول إلى كيان من التعقل والتعبد فتمتزج عبادته بالعقل ولا يبتلى بالتحجر أو التعقل الإفراطي.
14ـ تمثل الأحكام الإسلامية قضايا حقيقية، وهي تلبي متطلبات كافة الأزمنة ولا مفر للبشرية من القانون الإلهي، لذلك فهم في غنى عن القوانين التي تضعها الحكومة الإسلامية، من هنا فلا ضرورة لقيام الحكومة الإسلامية.
الجواب:
يعد الدين الإسلامي أكمل الأديان وأكثرها شمولية استناداً إلى قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[34].
واستناداً إلى عدم مجىء دين أو شريعة بعده، وشموله على كل ما تحتاج البشرية حتى يوم القيامة، وان الأحكام الإسلامية إنما هي " قضايا حقيقية" غير ان بروز التطورات والتغيرات في الموضوعات مع مرور الزمن وتغير الظروف، حيث تندرس موضوعات وتظهر أخرى جديدة لم يسبق لها شهود، يحتم بيان هذه الأحكام الخاصة بهذه الموضوعات المستجدة.
وبالإضافة إلى بيان هذه الأحكام المستحدثة فإنّ الحكومة الإسلامية تتولى تطبيقها إلى جانب سائر الأحكام الإسلامية وتحقيق النظام والقسط والعدل وعملية التزكية والتعليم في ضوء التعاليم الإسلامية، والدفاع عن كيان الإسلام بوجه الأعداء على الصعيدين الداخلي والخارجي.. الخ. من هنا فإنّ مهمة الحكومة الإسلامية لا تتمثل في وضع تشريع القوانين في قبال القوانين الإلهية- معاذ الله ـ بل ان جميع القوانين والأحكام الجزئية التي تشرع في البلد لتطبيق النظام وتحقيق أهداف الحكومة، إنما هي لا تتعارض مع القوانين الكلية التي وضعها الشرع المقدس، بل متناسقة معها.
ملاحظة: ربما تتعلق بعض الأحكام الإسلامية بموجود خارجي معين من قبيل القبلة، الطواف حول الكعبة، الموقف في عرفات، المشعر، والمبيت في منى وما شابه ذلك، فإنّ توجه المصلين نحو الكعبة، والطواف حولها، وكذا وقوف الحجيج تعد من نحو " القضية الحقيقية " إلا أن تحديد الأماكن لأداء العبادات المعهودة لا يعد من صنف القضية الحقيقة.
15ـ لا وجود في الإسلام لـ" الولاية " التي تعني " الحكم والقيادة".
الجواب:
ان أحد المعاني لمفردة " الولاية" هو التدبير وإدارة المجتمع، وبالإضافة إلى الآيات التي وردت في القرآن الكريم وذكرت في البحوث المتقدمة، فقد وردتنا الروايات عن الأئمة المعصومين عليهم السلام استخدمت مفردة الولاية بهذا المعنى، وهنا نورد بعض الروايات على سبيل المثال:
أولاً: بعد مبايعة الناس لأمير المؤمنين "ع" ومعارضة طلحة والزبير وطرح مطالبهم غير المبررة قال "ع": " والله ما كانت لي في الخلاقة رغبة ولا في الولاية ...."[35].
ان دراسة محتوى الخطبة والتأمل في هذه العبارة يؤكد ان مراده "ع" من الخلافة ليست هي الخلافة الإلهية التي يطمع بها الجميع سواء الملائكة أو غيرهم، ولا الولاية التكوينية، بل هي إدارة المجتمع الإسلامي، والولاية على المسلمين.
ثانياً: وفي معركة صفين قال "ع": " أما بعد فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم ولكم علي من الحق مثل الذي عليكم"[36]، وفي مواضع أخرى من نفس الخطبة يقول"ع": " وأعظم ما افترض الله سبحانه وتعالى من تلك الحقوق، حق الولي على الرعية لا تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية"[37]. فمن الواضح ان المراد من الولاية في الخطبة المذكورة هي الحكومة وتدبير أمورهم، فقد جعلت الولاية جزء من الحقوق وفي المقابل فقد ورد الحديث عن حق الله أيضاً، في حين ان الولاية التكوينية وان كانت تمثل " حقيقة" فإنّ " الحق" لا يعد من مصطلحات الحكمة العملية والاعتبارية وليس من الحقوق التي تحمل هذا المعنى.
ثالثاً: بعد انصراف الإمام علي بن أبي طالب "ع" من صفين عرض "ع" أوضاع الجاهلية وخصائص أهل البيت عليهم السلام وخصال أقوام آخرين كما يلي: " لا يقاس بآل محمد عليهم السلام من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم... ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله[38].
من الواضح ان المراد من ولاية أهل البيت عليهم السلام في هذا الحديث هو ولاية أمور المسلمين، لأن قرينة الحال من ناحية وظهور السياق ومطلع الخطبة ومضمونها من ناحية أخرى والتعبير بـ " حق الولاية" من ناحية ثالثة كلها شواهد صدق على المدّعي، وكما تقدم القول فإنّ الولاية التكوينية لا تعد جزءاً من الحقوق الاصطلاحية، وان كان مقام التكوين السامي غير خاضع للتوصية أو الوراثة، من هنا فإنّ تعابير " الحق "، " الوصية "، "الوراثة" الواردة في هذا النص الشريف ناظرة إلى مسائل الحكمة العلمية وولاية أمور المسلمين وتدبيرها.
رابعاً: يقول علي "ع" فيما يتعلق بالأئمة عليهم السلام وصلاحيتهم للولاية وفقدان غيرهم لهذه الصلاحية: " ان الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم"[39].
لا ريب في ان التعبير بالولاية في مثل هذه الموارد هو القيادة والزعامة السياسية، لأن قيادتهم الملكوتية وولايتهم التكوينية لم تكن يوما موضع ادعاء من قبل الغير ولا هي في حدود تصرفهم حتى يحاول "ع" نفيها.
خامسا: ورد في نهج البلاغة، ان علياً "ع" كتب إلى واليه في البحرين عمرو بن أبي سلمة المخزومي يقول: " أما بعد فإني قد وليت نعمان بن عجلان الزرقي على البحرين .. فلقد احسنت الولاية وأديت الأمانة"[40].
سادسا: وفي عهده "ع" لمالك الاشتر طالما استخدم أمير المؤمنين "ع" مفردة الولاية بمعنى الارادة والتدبير، وفيما يلي نماذج منها:
أ: " فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاّك"[41]، أي انك حيث بعثت والياً على الناس هناك عليك بمراعاتهم، وان الذي ولاّك الأمر ووضعك في هذا المنصب هو الذي يتولى الإشراف على أعمالك والله سبحانه الرقيب على أعمال الجميع.
ب- " فإنّ في الناس عيوبا الولي أحق مَن سَتَرَها فلا تكشفن عما غاب عنك منها "[42].
سابعا: يرى علي "ع" بكل صراحة بطلان سياسة بني أمية وولايتهم وعدم صلاحيتهم للولاية على الأمة الإسلامية، فيقول "ع" في كتاب إلى معاوية: " متى كنتم يا معاوية ساسة الرعية وولاة أمر الأمة؟ "[43]، " وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟"[44].
ثامنا: ورد في كتاب غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ما يشابه تعابير نهج البلاغة فيما يتعلق بـ " الولاية الحكومية " حيث جاء عنه "ع" في ذلك الكتاب ما يلي: " لنا على الناس حق الطاعة والولاية، ولهم من الله سبحانه حسن الجزاء"[45]، " وعلى الإمام ان يعلم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان"[46]، " والجنود عز الدين وحصون الولاية"[47]، "من نام عن نصرة وليّه انتبه بوطأة عدوه"[48].
بناء على ما تقدم ومما ورد في القرآن الكريم وفي الروايات وما لم نستطع إيراده في هذا المقام يتضح عدم صوابية الادعاء بعدم وجود ولاية في الإسلام تعني الحكم والإدارة، وان هذا الادعاء بعيد عن التأمل.
________________________
[1] العنكبوت: 26.
[2] آل عمران: 146.
[3] النساء: 164.
[4] الحديد: 25.
[5] نهج البلاغة: الرسالة 53.
[6] آل عمران: 164.
[7] الحديد: 25.
[8] البقرة: 256.
[9] ق: 45.
[10] الغاشية: 22.
[11] القصص: 56.
[12] هود: 112.
[13] الفتح: 29.
[14] الفتح:18.
[15] فصلت: 6.
[16] الأعراف: 203.
[17] البحار: 20/386، الحديث 8.
[18] النساء: 59.
[19] الأحزاب:6.
[20] الكافي: 1/ 295، ح3.
[21] إبراهيم:5.
[22] التوبة: 12.
[23] البقرة: 193.
[24] البحار: 44/329، ح2.
[25] البحار: 44/235.
[26] البحار 47/372،ح93.
[27] الروم: 30.
[28] ص:71.
[29] الاجتماع: 2/474.
[30] الانشقاق: 6.
[31] النجم: 25.
[32] البقرة: 201.
[33] البحار: 67/235، الباب 54.
[34] المائدة: 3.
[35] نهج البلاغة: الخطبة 205، البند 3.
[36] نفس المصدر: الخطبة 216، النبد1.
[37] نفس المصدر: البند 6.
[38] نهج البلاغة: الخطبة 2، البند 13.
[39] نفس المصدر: الخطبة 144، البند: 4.
[40] نهج البلاغة: الرسالة 42، البند1.
[41] نفس المصدر: الرسالة 53، البند 1.
[42] نفس المصدر: الرسالة 53، البند 24.
[43] نفس المصدر: الرسالة 10 ـ البند 5.
[44] نفس المصدر: الرسالة 28، البند 4.
[45] شرح غرر الحكم: 5/129.
[46] نفس المصدر: 4/318.
[47] نفس المصدر: 2/89.
[48] نفس المصدر: 5/344.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية