مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة

القسم الثاني: ضرورة ولاية الفقيه وموقعه العلمي

16ـ إذا كانت ولاية الفقيه مسألة كلامية فهل هي من أصول الدين والمذهب ويلزم الاعتقاد بها؟
الجواب:
بالرغم من ان المسائل المتعلقة بأصول الدين والمذهب تعد جزء من علم الكلام ولكن لا يعد كل مطلب كلامي بالضرورة من اصل الدين أو المذهب، وإلاّ لتوجب على الناس تحصيل جميع مباحث وسائل علم الكلام.
الولي الفقيه خليفة الإمام المعصوم "ع" الذي تعتبر إمامته من أصول المذهب لا الدين، وإذا ما طرح مفكروا الإسلام ولاية الفقيه على أنها مسألة كلامية فإنما ذلك لنيابة الفقيه للإمام المعصوم"ع" لا لأن ولاية الفقيه تصل إلى مستوى التوحيد والنبوة والمعاد بحيث تعد من أصول الدين أو أنها بمستوى الإمامة فتعد من أصول المذهب.
ان الكثير من المسائل التي يتناولها علم الكلام من قبيل: ما إذا فعل الله سبحانه هذا الفعل أم لا؟ أو هل يفعل الله هذا الفعل يوم القيامة أم لا؟ تعد من فرعيات المبدأ والمعاد وهي لا تعد من أصول الدين التي يتوجب العلم المبرهن والإيمان بها، ولا هي من أصول المذهب فيتعين على الإنسان الإيمان بوجود القيامة والجنة والنار، ولكن ما هي عدد الجنان وما هي مراتبها وما هي طبقات جهنم، كل ذلك لا يعد من الأصول التي تستلزم قيام البرهان والاعتقاد بها.
إذا كانت مسألة من ضروريات الدين وإنكارها يؤدي إلى إنكار الرسالة والدين، وكان الإنسان على علم بملازمة إنكار الرسالة لإنكار تلك القضية الضرورية وبادر لإنكارها عامدا عالما، في تلك الحالة يكون قد خرج عن الدين، وهكذا الأمر بالنسبة لأصول المذهب، أي ان الإنكار العمدي لضرورة من ضروريات المذهب، وان الإنسان على علم بأنها من ضروريات المذهب وان إنكارها يؤول إلى إنكار ونفي أحد أصول المذهب بيد انه لم يخرج عن الدين، غير ان المسألة ليست بذلك التعقيد والعمق النظري وعلى فرض أنها ضرورية فلا بد من تلازم إنكارها مع إنكار الرسالة.
بناء على ذلك فإنّ ولاية الفقيه لا هي كالنبوة ولا هي كالإمامة، ولو ثبتت ولاية الفقيه بالبرهان لأحد ثم أنكرها بعد ثبوتها والقطع باستنادها للشارع المقدس ففي ذلك حكم إنكار إحدى ضروريات الدين من غير إنكار التوحيد أو النبوة بل لا بد ان يكون مستلزما لإنكار احدهما، وكما تقدم القول فإنّ إنكار إحدى ضروريات الدين عن عمد وعلم يعد سبباً في الخروج منه، وعليه فإنّ مجرد ثبوت ولاية الفقيه ووجوب الإيمان القلبي بها ولزوم الالتزام العلمي بها لا يعد دائما دافعا لأن تكون بمستوى التوحيد والنبوة والمعاد أو تناظرها.
17ـ إذا كانت ولاية الفقيه مسألة كلامية، فهل يمكن إثباتها عن طريق ظواهر الآيات والروايات المشكوكة السند وغير القطعية؟
الجواب:
اتضح خلال بحث ولاية الفقيه انه بالرغم من التطرق إلى إثبات أو نفي ولاية الفقيه في علم الكلام، فإنّ الحديث يدور في علم الفقه عن لوازم تلك المسألة الكلامية، ففي علم الكلام الذي يتركز الموضوع فيه عن فعل الله، هل الله سبحانه مخطط خلال عصر الغيبة أم لا؟ وهل نصب أحداً للولاية أم لا؟ فإذا قلنا ان الله لم يعين أحدا للولاية في عصر الغيبة، فإنّ الأثر الفقهي لذلك عدم وجوب تولّي الفقيه من قبل الآخرين، أما إذا قلنا بتعيين الله لولي في عصر الغيبة، فلازمة هذا الحكم العقلي هي وجوب تولّي ذلك الولي والخضوع له من قبل الأمة، فكل مسألة كلامية لها اتصال بفعل المكلف تستلزم مسألة فقهية وهذه اللازمة ربما تثبت عن طريق التلازم حينها يقوم العقل نفسه بالإفتاء، وربما يجري إثباتها عن طريق الأدلّة الظنية الأخرى.
من هنا فإنّ ولاية الفقيه تناظر ولاية المعصوم "ع"، فلولاية المعصوم "ع" صيغتان واحدة كلامية والأخرى فقهية ففي صيغتها الكلامية يجري الحديث عن تنصيب الله سبحانه للمعصوم "ع" للخلافة والولاية، أما في الصيغة الفقهية فإنّ الحديث يدور حول: بما ان الإمام المعصوم "ع" منصوب للولاية من قبل الله سبحانه، إذن يتوجب على المسلمين الإذعان لخلافته وولايته، واستناداً إلى هاتين الصبغتين فإنّ ولاية الأئمة المعصومين عليهم السلام تعد تارة بمستوى النبوة والرسالة، وتارة أخرى يشاهد أنها تقع بمستوى الصلاة والصوم وفروع الدين كما في الرواية " بني الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية" [1]، والسبب في ذلك بما ان الولاية تقترن بتولي الأمة ولها صيغة فقيهة فإنها تقع إلى جانب الصوم والصلاة والحج والزكاة وما شابه ذلك وان كان اصل الولاية يمثل مسألة كلامية.
والآن نصل للإجابة على السؤال المتقدم وهي ما دامت ولاية الفقيه تعد مسألة كلامية فلا بد من إثباتها عن طريق البرهان العقلي وفي تلك الحالة فإنها تحظى بتأييد الأدلّة النقلية أيضاً.
وإذا أفاد الدليل النقلي على ولاية الفقه بالقطع فإنه يعد بدورة دليلاً مستقلاً وإلاّ فلا يمكن إثبات ولاية الفقيه عن طريق الأدلّة النقلية الظنية لوحدها، بيد ان الصبغة الفقهية لولاية الفقيه، وهي ما يتعلق بمسؤولية المكلفين وهل يتعيّن على الأمة قبولها أم لا؟ فإنّ ذلك ما يمكن إثباته عن طريق الأدلة الظنية.
سؤال: لو فرضنا عدم إثبات ولاية الفقيه عن طريق علم الكلام، فهل يمكن إثبات وجوب قبول الأمة لها عن طريق الأدلّة الروائية الظنية أو ظواهر الآيات القرآنية؟
الجواب: نعم يثبت بعدها الفقهي، وذلك لعدم ثبوت تنصيب الولي من خلال علم الكلام، ولن يثبت أبداً، وبطبيعة الحال لو ثبت في علم الكلام على نحو اليقين عدم نصب الفقيه الجامع للشرايط من قبل الله تعالى، ولم يعد هنالك مجال للحكم الفقهي، بيد ان بعدها الكلامي يبقى في مستوى الظن ولا يمكن إثبات الحكم الكلامي القطعي من خلال الأدلّة الظنية أما على صعيد الفقه فإنّ تلك الأدلة الظنية تعد حجة، والمراد من ذلك الأدلة الظنية المعتبرة لا المطلقة وذلك لبطلان قاعدة " انسداد العلم ".
سؤال: كيف يتسنى لنا من الناحية الفقهية تكليف الأمة بقبول الولاية في حين لم يزل أصلها غير ثابت على صعيد علم الكلام؟
جواب: هنالك سبيلان لإثبات التكليف الفقهي، أحدهما يأتي عن طريق ملازمة المسألة الفقهية للمسألة الكلامية، أما الآخر فهو مستقل ومباشر إذ تقوم الروايات الفقهية بتوضيح مسؤولية المكلفين، أي ربما لا تتوفر لدينا أدلّة قطعية بخصوص مسألة كلامية ما، أو عدم وصول الأدلة النقلية القطعية من قبيل الخبر الواحد المقترن بالقرينة القطعية أو الخبر المتواتر، لذلك تعترضنا مشكلة إثبات تلك المسألة الكلامية، بيد أننا نستطيع العثور على الوظيفة الفقهية بصورة مستقلة عن طريق الأدلّة النقلية الظنية.
وبالنتيجة فإنّ جميع الأحكام الفقهية تعود في جانب منها إلى علم الكلام، لأن المجتهد المتتبع عندما يصرح على صعيد الفقه بوجوب العمل الفلاني من قبل الله سبحانه، فربما يتعذر إثبات صدور ذلك التكليف عن الله سبحانه على صعيد البحث الكلامي ولا يكفي الدليل عليه، أما من الناحية الفقهية فحيث ان الدليل على المسألة قد وصل إلى مستوى الحجية التي جرى تقريرها في أصول الفقه فإنه يعد كافيا ولو تعذر علينا إقامة الدليل على المسألة من الناحية الكلامية، فقد ورد إلينا الأمر على الصعيد العملي ان لو وصلتنا رواية صحيحة أو موثقة معتبرة من ناحية السند وهي تامة الدلالة وورد فيها التكليف بالعمل، عد ذلك العمل واجباً على المكلف.
والخلاصة هي:
1- ان الدليل النقلي القطعي في المسألة الكلامية يعد حجة شأنه شأن الدليل العقلي اليقيني.
2- عدم الثبوت القطعي لولاية الفقيه في علم الكلام ليس هو الثبوت القطعي لعدمها في علم الكلام.
3- ان الحكم الفقهي متفرع عن نصاب الحجِّية في الفقه لا في الكلام.
4- لا فرق ـ على صعيد الحكم الفقهي ـ بين الصلاة التي هي عمود الدين وبين سائر الأحكام الفرعية لأن المعيار في الجميع هو الحجِّية المعتبرة فقهياً لا كلاميا.
5- ان للمسألة الكلامية بعداً أصليا يمثل ركنها، وآخر فرعيا هو أثرها أما المسألة الفقيهة فلها أثر علمي فقط.
18ـ إذا كانت ولاية الفقيه تعد مسألة كلامية فلماذا هذا الاختلاف بين العلماء والفقهاء بشأنها؟
الجواب:
ان الاختلاف يطال الكثير من المسائل النظرية في الدين ما خلا الضروريات الأولية أو بعض النظريات التي لا تنفصل عن الضروريات كثيراً.
وحتى فيما يتعلق بمبطلات الصلاة وشرائطها وكذا شرائط الصوم التي تعد من الأمور الجلية في الإسلام، فإننا نلاحظ وجود اختلاف بين المختصين بشأنها، ومثل هذا الاختلاف يمثل أمراً طبيعيا للغاية، ولكن لأن الاختلاف في تلك الموارد ـ وهي عبادية محضة وليست سياسية أو اجتماعية ـ لا تمس الممارسات اليومية للناس، فإنها لا تبرز إلى الوجود كثيراً. أما ولاية الفقيه فلأنها تمثل أمراً عينياً خارجياً ولا بد من تطبيقها في المجتمع، وكذلك لوجود غير المسلمين في المجتمع الإسلامي فإنّ الاختلاف بشأنها هو الذي يبرزها، ومن ناحية أخرى فإنّ الأجانب لا يوسعون الاختلاف في الرأي بين الفقهاء بشأن المسائل الفقهية الفردية، أما فيما يتعلق بالحكم فلأنه يرتبط بمصالحهم فإنهم يتدخلون بشكل مباشر ويحاولون توسيع هوة الاختلاف بين الفقهاء وممارسة التهويل الإعلامي.
على أية حالة، فقد اثبت التاريخ البشري والعلوم الإنسانية عدم الاتفاق فيما يخص المسائل النظرية المعقَّدة واستحالته وإنها تتخذ سيرا تكامليا أما فيما يخص ولاية الفقيه، فإنّ الاختلاف سيتقلص كثيراً لو جرى النظر في الطبيعة السائدة على النصوص الفقيهة من ناحية، والفكر الأصيل لفقهاء الإسلام من ناحية أخرى وجرى دراستها في ضوء ذلك.
19ـ إذا كانت الولاية مبحثا كلاميا فلم تطرح على صعيد الفقه ويراها بعض الفقهاء على أنها جزء من الفقه؟
الجواب:
كما تقدمت الإشارة، بالرغم من تعلق ولاية الأئمة المعصومين عليهم السلام بعلم الكلام، فإنها جاءت كفرع من الفروع الفقهية وذلك نتيجة صبغتها الفقهية واللوازم الفقهية للولاية لا أن الولاية بذاتها لا تعدّ بالأساس مسألة كلامية وهي فقهية محضة. وإذا ما بادر فقيه لإثبات ولاية الفقيه عن طريق الفقه فذلك لبيان تكليفه وكذا تكليف المقلدين أيضاً حتى يتجلى تكليفه في التصدي وتكليف الأمة في توليه، وكلا التكليفين يعودان إلى الفقيه.
فربما تجري الإشارة خلال البحث الفقهي إلى مسألة كلامية ثم يحال تفصيلها إلى علم الكلام، وان ما يعد من المسائل في علم الكلام يعتبر من المبادئ في الفقه وجزء من أصوله الموضوعية.
وقد اتضح في الفصل السادس من الكتاب ان ولاية الفقيه شأنها شأن الكثير
من المسائل الإسلامية تشهد تطورا وتكاملا ولقد طرحت بادئ الأمر على صعيد الفقه بنحو مسألة فقهية ثم جاء صاحب الجواهر قدس سره، وعلى صعيد الفقه نفسه بالاستدلال الكلامي حولها وبالتالي بلغت ولاية الفقيه ذروة تكاملها على يد الإمام الراحل قدس سره حيث نقل ولاية الفقيه من الفقه إلى موقعها الحقيقي أي علم الكلام.
20ـ هل وجوب طاعة الولي الفقيه وحدود صلاحياته أمر تنفيذي أم تحقيقي؟
الجواب:
إن أصل وجوب طاعة الولي الفقيه كأصل وجوب تقليد المرجع، تحقيقي لا تقليدي، وهو كحكم العقل بوجوب مراجعة الطبيب حين المرض والرجوع للمهندس حين بناء الدار، وهكذا الأمر بالنسبة للشؤون الدينية فلا بد من الرجوع إلى مرجع التقليد الذي يعتبر بمثابة الخبير بشؤون الدين. ويختلف العقلاء فيما بينهم، فمنهم من يبدي المزيد من الدقة فيعتنون بهذا الدليل العقلي بكافة مضامينه وبالتفصيل، بيد أن هنالك من يتخذ من هذا الحكم مداراً ويفهمه على نحو الإجمال ومن ثم يعمل به، فالفقيه يطرح وجوب الالتزام بولاية الفقيه كطرحه لقضية وجوب التقليد.
والغرض، إن أصل ولاية الفقيه كذلك، أي ان وجوب طاعة الولي الفقيه أمر تحقيقي لا تقليدي بيد أن حدود صلاحيات الفقيه أمر آخر ليس بمقدور الجميع التحقيق فيه. فإذا ما أراد الإنسان الالتزام بما يمليه العقل فهو بحاجة إلى فقيه عالم بأوضاع زمانه لفهم أحكام الموضوعات المستجدة في كل زمان، وإذا ما انتبه إلى حاجة الآخرين لمثل هذا الخبير كما هو شأنه، وان تطبيق الأحكام الإسلامية والمحافظة على أرواح المسلمين وممتلكاتهم ونواميسهم وعملية تعليم وتزكية الناس لا سيما الجيل الناشئ، كل ذلك بحاجة إلى وجود العالم الخبير العادل والمدبر والمدير عندها تتضح حدود ولاية الفقيه، كإدراك الإنسان بحكم العقل بوجوب مراجعة الطبيب إذ يرى حاجة الجميع للطبيب بدء من لقاح الأطفال وانتهاء بدور العجزة والخبراء بقوانين الطب والوقاية الصحية، فلا بد من حضور الطبيب في وسط كافة شرائح المجتمع في كل مكان وزمان.

21ـ ان كانت ولاية الفقيه مسألة كلامية ووجوب طاعة الولي الفقيه تمثل قضية عقلية وتحقيقية، فهل يعد رأي مرجع التقليد في هذا المجال واجب التنفيذ، أم ان وجوب طاعة الولي الفقيه تتعين على من أحرز وجوبها عن طريق التحقيق؟
الجواب:
ان لكل من علم الكلام وعلم الفقه حكمه الخاص ولا بد من الفصل بينهما، أي ربما يتوصل أحد علماء الكلام من خلال الدليل العقلي إلى عدم وجوب ولاية الفقيه، لكنه على صعيد الفقه ربما يصبح ملزماً بقبول ولاية الفقيه، مستندا إلى بعض النصوص أجل، إذا ما رأى الفقيه على صعيد الفقه عدم كفاية وتمامية الأدلّة الفقهية في وجوب طاعة الولي الفقيه لم تجب عليه طاعة. وان تعين عليه القيام بعمل ما من شأنه إلحاق الخلل بالنظام العام للمجتمع، أما إذا كان مقلدا فعليه اتباع رأي مرجعه، وان لم يصل على صعيد علم الكلام إلى النتيجة القاضية بعدم صحة ولاية الفقيه.
والغرض من الكلام، من قطع على صعيد علم الكلام بعدمية ولاية الفقيه لم يكن ملزما على صعيد الفقه بإطاعة ولاية الفقيه، أما إذا لم يستطع القطع بعدميتها على صعيد علم الكلام فإنه في مثل هذه الحالة يتبع على صعيد الفقه دليله الظني والفقهي أو رأي مرجعه.
22ـ هل يعتبر الدليل العقلي لإثبات ولاية الفقيه من المستقلات العقلية؟
الجواب:
يعد الدليل العقلي المحض على ولاية الفقيه من المستقلات العقلية لكنه ليس كتلك المستقلات العقلية من قبيل حسن العدل وقبح الظلم، وللتوضيح نقول: ربما تثبت ولاية الفقيه بعد عثور العقل على الحكم الشرعي النقلي ومن ثم الحصول على لازمته وعن طريق ذلك يتوصل إلى إثبات ولاية الفقيه.
وذلك هو الدليل المتفق من العقل والنقل، وفي مثل هذه الحالة، فإنّ حكم العقل ليس حكماً مستقلاً. أما في الدليل العقلي المحض على ولاية الفقيه الذي يضاهي الدليل العقلي على النبوة والإمامة وهو يثبت تنصيب النواب الخاصين في عصر الغيبة، فنظراً لحكم العقل مستقلاً دون الحاجة للأحكام النقلية. إذ ذاك يصبح من المستقلات العقلية، وبالطبع فإنّ ذلك لمن يرى تمامية هذا الحكم العقلي.
فعلى سبيل المثال، ربما هنالك من يرى اجتماع الأمر والنهي من المستقلات العقلية’، أي إذا حكم العقل على مستوى الشريعة ـ حيث الأمر والنهي ـ بإجتماعهما أو عدم إجتماعهما دون الحاجة إلى الدليل النقلي فإنّ ذلك يعد من المستقلات العقلية، أي انه مفترض من المستقلات العقلية في هذا المجال، وإلاّ فإنّ هذا الفرض يعد غير صحيح مع افتراض حاجته إلى وجود الأمر والنهي النقلي.
23ـ هل الدليل النقلي على ولاية الفقيه يؤيد الدليل العقلي أم انه دليل مستقل بذاته على ولاية الفقيه؟
الجواب:
لو كان بحثنا يجري في مجال يتوفر فيه حكم عقلي قطعي قبل ان يكون نقلياً، فمن قبل ذلك الحكم العقلي ورأى تماميته فإنّ الأدلّة اللاحقة ستكون مؤيدة لذلك الحكم العقلي، أي ان كلاًّ من الدليل النقلي المحض أو التلفيقي من العقلي والنقلي على ولاية الفقيه يعد مؤيداً للقائلين بتمامية الدليل العقلي المحض، لأن الأدلّة اللاحقة تعد دليلاً عقلياً تاما سواء وجدت أم لا، أما إذا أردنا غض الطرف عن تقدم وتمامية ذلك الدليل العقلي المحض وأخذنا بنظر الاعتبار كل واحد من تلك الأدلّة النقلية المحضة أو التلفيقية على نحو الاستقلال دون الدليل الآخر سيكون كل من هذه الأدلّة مستقلاً لا مؤيداً.
ولا بد من الانتباه إلى ان حكم العقل يختلف عن متبنى العقلاء وذلك لقطعية حكم العقل وصلته بالعلم، أما متبنى العقلاء فهو متعلق بآداب وأعراف المجتمع ويحتاج إلى إمضاء الشارع المقدس، وان كان على هيئة عدم الردع، أي ان مجرد بناء العقلاء لا يعد حجة في الموارد التي يتوفر فيها متبنى العقلاء كي نقول بتأييد الدليل النقلي لا الذي يليه له. وإنما ذلك الدليل النقلي يعتبر " مُمضياً " لبناء العقلاء لا مؤيداً له وذلك لافتقاد بناء العقلاء للحجة دون الدليل النقلي.
فإذا كان للدليل النقلي نفس أداء الدليل العقلي فهو مؤيد، أما إذا تضمن أداء جديداً من خلال إطلاقه أو عموميته بحيث يقصر العقل خلال ذلك الإطلاق أو العموم، أو ان أمراً جزئياً اعترض الدليل النقلي حيث يقصر عنه الدليل العقلي، حينذاك يكون الدليل النقلي مجدداً لا مؤيداً، ويمكن تحليل مفادات الدليل فيكون جانب فيها مؤيداً للدليل العقلي الآخر ـ وهو الاكتشافي ـ مؤسساً لا مؤيداً.
سؤال: يقال بشأن الدليل العقلي بأنه جلي لا غموض فيه، فكيف يكون الدليل النقلي مزيلاً للغموض عن الدليل العقلي؟
جواب: إن مدى الدليل العقلي محدود، وهو يمارس عملية الإيضاح إلى مدى خاص، ويلتزم الصمت في بعض الموارد لا سيما على صعيد الجزئيات، أي ما إذا كان حكم عقلي خاص شاملا لحالات أخرى أم لا؟ أو لأفراد آخرين أم لا؟ فربما لا تخضع جميع هذه الأشياء لحكم عقلي محدد. وبطبيعة الحال فإنّ للحكم العقلي قدراً متيقناً مضافاً إليه انه مشكوك به فيتضح من خلال الاستعانة بالدليل النقلي أو بدليل عقلي آخر في بعض الأحيان.
24ـ إذا كانت ولاية الفقيه أمراً مسلماً وقطعياً، فلماذا لم ترد بشكل صريح في الروايات؟
الجواب:
أولاً: ان أكثر ما كان يتطرق له الأئمة عليهم السلام في زمانهم ما كان يمثل موضع ابتلاء، ولم يكن منهم آنذاك إلا من هو مسموم أو مقتول، فلم يكن هنالك مجال لبحث موضوع ولاية الفقيه بالتفصيل.
ثانياً: هنالك أدلّة نقلية معتبرة بما فيه الكفاية حول ولاية الفقيه، وان لم يدر حولها بحث فقهي واسع وشامل كما هو الحال بالنسبة لسائر المسائل التي يكثر فيها الابتلاء على مدار الساعة، أو لم يصل المتأخرين.
أما ثالثاً: فقد وردت نصوص صريحة فيما يتعلق بقضاء الفقيه وفيها تتضح ولاية الفقيه أيضاً وذلك لملازمة القضاء في كل عصر لإقامة الحكومة والولاية.
وليس هناك بين فقهاء المسلمين من يحمل رأياً مخالفاً فيما يخص منصب القضاء للفقيه الجامع للشرائط، وثمة فارق عميق بين نزاعات اليوم ونزاعات الأمس، ان النزاعات التي تحصل بين الشعوب والدول المتناحرة لا يمكن فضها إلا عن طريق اللجوء إلى القضاء وتدخل الخبراء والمتخصصين والمراكز الحقوقية وسائر المسؤولين وتخصيص الميزانيات وإقامة السجون... الخ وهذا ما سيتم توضيحه أكثر ان شاء الله.
بناء على ذلك، فإنّ وجود النصوص الدالة على منصب القضاء بالنسبة للفقيه تعد كافية لإثبات منصب الولاية للفقيه ولا حاجة لتصريح جديد، ولا بد من الانتباه إلى ان اصل ضرورة الحكومة يدركه العقل وقبله العقلاء بنحو عملي، ونظراً لقيام الدليل على ضرورتها إذ ذاك ستكون شرعية أيضاً، لأن الدليل العقلي يعد أحد المصادر الشرعية المعتبرة ولا داعي لدليل نقلي مستقل، وحيث ان العقلاء بنوا عليه ولم يردع عنه الشارع المقدس، بل انه ـ واستناداً لبعض الشواهد النقلية ـ قد أمضاه، إذن سيكون شرعياً بالضرورة .
25ـ هل بإمكان غير الفقيه ان يصبح حاكماً إسلامياً ويأخذ المسائل الدينية والفقيهة من فقهاء ومراجع عصره؟
الجواب:
على الذي تصدى لمسؤولية أية مؤسسة ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو عسكرية... الخ ان يتوفر على ثلاث مزايا. أولها ان يكون خبيراً ومتخصصاً بذلك الفرع الذي أسست دائرته من اجله كي يستطيع إدارتها على النحو الأحسن، والثانية، ان يكون أميناً، والثالثة ان يتمتع بقدرة عالية على الصعيد العملي وهذا أمر جلي وواضح يجري العمل به على المستوى العالمي.
ان الحاكم على أي بلد بالإضافة الى تمتعه بالكفاءة على صعيد الجوانب العلمية فإنه لابد ان يكون محيطاً بقانون ذلك البلد على نحو الدقة والاطلاع ويلتزم به، ولديه القدرة على تطبيقه ومن الطبيعي لا ان يكون الحاكم على البلد الإسلامي عالما بالإسلام ومحيطاً بأحكام الدين وتعاليمه كي يتسنّى له إدارة البلد وفقاً للتعاليم الإسلامية، وهذا هو الفقيه الجامع للشرائط الذي ثبتت ولايته خلال الأبحاث المتقدمة عن طريق الأدلّة الثلاثة: العقلي المحض، الدليل الملفق من العقلي والنقلي، والإجمالي من الدليل النقلي.
والسؤال المثار هنا هو: هل يستطيع غير الفقيه الذي لا يملك الإحاطة بالمسائل الدينية ان يمسك بالحكومة الإسلامية ويأخذ الأحكام الفقهية والتعاليم الإسلامية من الفقيه الأعلم؟
هنالك فرضان في القضية أحدهما: ان ذلك الحاكم يكون ملزماً بتعلّم المسائل الدينية من الفقيه الجامع للشرائط وفي مثل هذه الحالة تكون الولاية والحكومة لذلك الفقيه الجامع للشرائط ويكون ذلك الحاكم منفذاً للأحكام فقط. ومثل هذا وارد في القانون الأساسي أيضاً من إمكانية إيكال القائد بعض مسؤولياته لشخص آخر [2]. فالحاكم في هذا الفرض منصوب من قبل الفقيه الجامع للشرائط لا انه يحكم مستقلاً. أما الفرض الآخر فهو ان لا يكون الحاكم ملزماً باستلام آراء الفقيه وتطبيقها، بل ان يقوم بذلك متى ما رأى صلاحاً وتوفرت لديه الرغبة لذلك، ولا ضمان في هذا الفرض ان تدار الحكومة على النهج الإسلامي، وربما يسوق الحاكم الحكومة ويجعلها غير إسلامية بمرور الزمان بعد ان يستوي على السلطة ويستحوذ على زمام القوات المسلحة.
وحري بالانتباه هنا إلى ان حكومة الفقيه الجامع للشرائط تتمتع بكل مزايا حكومة غير الفقيه من الخبرة والاختصاص وغير ذلك، وسيأتي تفصيل ذلك خلال الرد على بعض الشبهات ان شاء الله.
26ـ ما هو مصير الحكم إذا فقد الفقيه الجامع للشرائط في عصر ما؟
الجواب:
يجب إقامة الحكومة الإسلامية، وان شرط وجود الفقيه والعالم الذي يعد شرطاً في إقامة الحكومة الإسلامية هو شرط تحصيلي لا حصولي أي بمثابة الوضوء بالنسبة للصلاة لابد من تحصيله، لا كشرط الاستطاعة بالنسبة للحج فهو حصولي ولا يجب تحصيله بل ان الحج يجب ذاتيا متى ما حصل. إن تحصيل الفقاهة يعد واجباً كفائياً على من لديهم الكفائة العالية لتحصيله، ويصبح واجباً عينياً على الذين يمتلكون القدرة على حمل راية الفقاهة ولم يوجد غيرهم، والسر في وجوبه عينياً على مجموعة من الناس هو عدم كفاية فقيه واحد لسد حاجة المجتمع الإسلامي وإذا لم ينجز هذا الواجب في ظل ظروف خاصة ولم تحصل الفقاهة التي تعد شرطاً جوهرياً في الحكومة الإسلامية حينها يصل الدور للعدول من المؤمنين الذين يستلهمون طريقة إدارة البلاد من المصدر الذي يتعلمون دينهم منه ويقومون بتشكيل الحكومة من باب الحسية، وإذا توفر العدول من المؤمنين فمن يعدون بمستوى المجتهد المتجزىء من حيث الفقاهة والاجتهاد،أي انهم يمتلكون القدرة على استنباط الأحكام الفرعية من مبادئها ومصادرها الأصلية في بعض الأبواب الفقهية فإنهم يقدمون على من سواهم، وإلاّ فيتولى العدول من المؤمنين العارفين بالمسائل الإسلامية زمام الحكومة الإسلامية.
27ـ هل استطاع نظام ولاية الفقيه العمل كحكومة الرسول الأعظم "ع" وأمير المؤمنين؟
الجواب:
بالرغم من عدم إمكانية مقارنة أي شخص بأنبياء الله وأوليائه الأئمة المعصومين عليهم السلام ممن تحملوا أعباء قيادة الحكومات الدينية، بيد انه من الممكن مقارنة قوم عصر ما مع قوم عصر آخر، ومقارنة نظام حكم ما مع نظام حكم آخر.فعلى سبيل المثال: لقد خاض رسول الله "ص" غمار ثمانين معركة على مدى عشر سنوات غير انه لم يتم تطبيق أحكام الدين بأكملها في زمانه "ع" فلقد كان ثلث أهل المدينة في ذلك الزمان يمارسون مع الرسول "ع" أفعالاً تنمُّ عن النفاق، ففي معركة أحد خرج من المدينة ألف رجل للمشاركة فيها كان المنافقون يشكلون أكثر من ثلاثمائة نفر منهم رجعوا خلال مسيرتهم، بيد انه "ع" لم يصرح بأسمائهم [3] . وليس هنالك من يداني أمير المؤمنين "ع" من الأولين والآخرين سوى رسول الله "ص" وإذا ما قارنا بين حكمه وحكومة الجمهورية الإسلامية سنجد شعبنا المسلم كان أكثر نجاحا مع حكومتنا الإسلامية من القوم الذين عاصروا حكومة أمير المؤمنين "ع". وكما تقدم القول فلا يمكن مقارنة أي أحد بأمير المؤمنين "ع" ولكن من الممكن مقارنة الحكومة الإسلامية المعاصرة إلى حكومة صدر الإسلام ومقايستها بها، ويمكن إدراك الأوضاع التي شهدتها حكومته "ع" من خلال الكتب والرسائل التي تضمنتها الكتب الروائية من قبيل نهج البلاغة.
لقد كان ولاته "ع" على ثلاثة أصناف فمنهم من على شاكلة مالك الاشتر "رض" وهم القلّة، فقد كان مالك فقيهاً جامعاً للشرائط، قائداً عسكرياً، مديراً ومدبراً له القدرة على إدارة بلاد مصر الشاسعة على أحسن وجه، ولقد قال الإمام علي "ع" بشأنه: " مالك وما مالك، والله لو كان جبلاً لكان فنداً ولو كان حجراً لكان صلداً لا يرتقيه الحافر ولا يوفى عليه الطائر"[4].
والصنف الثاني من هم على شاكلة كميل "رض" فلقد كان عارفاً من بين أصحاب أمير المؤمنين "ع"، الذين يتوقون لمرافقته "ع" غير ان الفرصة لم تكن تسنح لهم، بيد انه اخذ بيد كميل يوما وسار به خارج مسجد الكوفة ومنحه وقتاً خاصاً وقرأ عليه ذلك الحديث الهام: " يا كميل بن زياد ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها[5] بالإضافة إلى العشرات من المسائل الأخرى، كما عمله ذلك الدعاء المعهود عن الخضر "ع" والذي عرف بدعاء كميل.
ورد في نهج البلاغة انه "ع" ولّى كميلاً على منطقة هيت التي كانت تعتبر مستودعاً للذخيرة الحربية ووسائل الحرب الأخرى وعهد إليه مسؤولية إدارتها غير ان لصوص بني أمية داهموها ونهبوا كل ما فيها فبعث إليه أمير المؤمنين "ع" معاتباً محتجاً فيقول "ع": "أما بعد فإنّ تضييع المرء ما وُلّي وتكلّفه ما كُفي لعجز حاضر و رأي معتبر وان تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا..."[6].
أما الصنف الثالث فهم من ذوي التاريخ السيء والأفعال الدنيئة، وقد كتب "ع" إليهم برسائل يوبخهم ويهددهم فيها وردت بعضها في نهج البلاغة، ومن هذه الرسائل الرسالة التي بعثها إلى زياد بن أبيه خليفة الولي على البصرة التي كانت تشمل الضواحي المحيطة بها والأهواز وضواحيها وتمتد حتى كرمان وضواحيها، وهي بذلك تمثل في واقع الأمر بلداً بأكمله في ذلك الوقت. وكان الوالي عليها ابن عباس ويعاونه زياد ابن أبيه من أكثر الذين ساء صيتهم في ذلك الزمان، كتب إليه أمير المؤمنين "ع" قائلاً: " و إني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خُنتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدّن عليك شدة تدعك قليل الوقر ثقيل الظهر ضئيل الأمر والسلام"[7].
ان السر الذي يقف وراء مخالفات عمال حكومة علي "ع" هو تعلقهم بالدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، وبطبيعة الحال فإنّ الأمة التي ابتليت بخداع بني أمية من ناحية وسوء التصرف من قبل عمال الحكم السابق من ناحية أخرى وحيل بينهم وبين تقبل المواعظ والنصائح، قليلاً ما ينصتون إلى نصائح علي "ع" المشفقة، ولم يكن القتل والنفي والسجن ليجدي نفعاً في حل مشكلتهم، بل كان سبباً في ازدياد حدة المشكلة. من هنا فقد صرح "ع" قائلاً: "مازلت مظلوماً"[8]. انه "ع" أول مظلوم، فقد كان مظلوماً حينما كان جليس الدار، ثم كان مظلوما أيضاً وهو يدير أمور الدولة على مدى خمس من السنين.
وإذا ما قارنّا نظام الجمهورية الإسلامية وشعب إيران المسلم مع أهل ذلك الزمان الذي حكم فيه أمير المؤمنين "ع" سيتضح أمامنا أيهما الافضل والأكثر نجاحاً، فلم يكن حضور أهل صدر الإسلام كحضور الأمة في إيران اليوم ولا بكثرتهم، فأبناء شعبنا لهم حضور دائم في ميادين الثورة والإسلام، فحينما احتاج النظام الإسلامي للحضور الشعبي من حيث التضحية بالنفس والنفيس سواء كان على صعيد المظاهرات أو الانتخابات أو الحضور في جبهة الدفاع المقدس أو بناء البلاد فسريعاً ما تلبي الجماهير دعوة القادة الدينيين .
من الواضح ان الأمة هي التي تخرج النظام ومبادئه الراسخة إلى حيز الوجود لأن الأمة لم تقم إلا بما طرحه النظام الإسلامي، وقد أثبتت التجربة أن الحكومة الإسلامية إذا ما تعرضت للإختبار فإنها ستخرج منه مرفوعة الرأس وان الحضور الجماهيري يمثل وثيقة حاسمة لنجاح النظام الإسلامي.
28ـ لو ثبت ـ استناداً للدليل العقلي ـ ضرورة وجود القائد الرباني بالنسبة لكافة البشر وفي جميع الأعصار، فلا بد والحالة هذه ان تشهد وجود القادة والزعماء الإلهيين، في حين لم يكن الأمر كذلك، فبعد مجيء الإسلام لم تشهد من يبادر لتولي القيادة الإلهية سوى النبي الأكرم "ص" وبضع سنين من حكومة الإمام علي"(ع)" والإمام الحسن"ع"؟
الجواب:
هنالك من حاز شرطي الإحاطة بالإسلام، والعدالة بالإضافة إلى الشرط الثالث وهو القدرة على تطبيق القانون وعاش في زمان لم يتحكم فيه أولئك العظام، وبمقتضى البرهان ان وجود مثل هؤلاء الأشخاص لا يعني تحقق الحكومة الإسلامية لأن ذلك يتوقف على عدة شروط منها قبول الأمة، كما هو الحال بالنسبة لأمير المؤمنين "(ع)" الذي كان قائدا إلهياً سواء قبل إقبال الأمة أو بعد ذلك، وان عدم قبول الأمة له ـ حيث عاش ربع قرن مظلوماً ـ لم تؤثر على كفاءته وصلاحيته للقيادة، فالذي تغيّر هي الأمة لا الإمام، أي ان الأمة كانت سابقاً "أمة بالقوة" ثم تكاملت واسترشدت من قبل الله سبحانه وكان يمتلك شروط القيادة بالفعل.
ملاحظة: 1 ـ المهم هو وجود الشخصية الاعتبارية للقادة الإلهيين فقد تقترن بوجود شخصياتهم الحقيقية، أو بوجود نوابهم الخاصين، وتارة بوجود النواب والأوصياء العامين، إذن لم ولن يكن هنالك فراغ في القيادة أبداً.
2- هنالك تبادل بين المفهومين الإضافيين "الإمام والأمة" أي ان الأمة ما لم تكن أمة بالفعل لم يكن لها إمام بالفعل وبالعكس، ولكن يمكن التفكيك بينها من حيث الظروف العلمية والعملية أي ربما يتمتع شخص ما بجميع الشروط العلمية والعملية للقيادة بيد ان الأمة وبسبب جهلها أو غفلتها أو تجاهلها وغفلتها لا تقبل إمامته، وبعد بلوغها مرحلة الوعي السياسي وتحول لديها الجهل والغفلة إلى علم ودراية وتغير تعاميها إلى وعي سياسي وتفتح في تحديد القائد وقبول إمامته، فإنّ المتحول هنا من مرحلة القوة إلى الفعلية هو الرشد السياسي للأمة لا الإمام، وان كان مفهوم الإمامة الإضافي سابقاً بالقوة وأصبح الآن بالفعل .
29ـ لقد حُدِّدت مسؤولية علماء الدين في القرآن الكريم بهداية الناس معنوياً وإذا ما كان لديهم مسؤولية القيادة السياسية أيضاً، كان الحريُّ ان ترد في القرآن الكريم!
الجواب:
اتضح خلال البحوث الآنفة ان القيادة السياسية تعد جزء من مسؤوليات الأنبياء والأئمة "عليهم السلام" وهذا ما أبانته الآيات والروايات بجلاء. فالقران الكريم يرى العلماء بأنهم السائرون على خطى الأنبياء، من هنا فلا حاجة لأن يصرح القرآن الكريم بجميع المسائل الدينية، ان الله سبحانه يوعز للمسلمين ـ ومن باب أولى علماء الدين- ان يتخذوا من سيرة رسول الله "ص" أسوة وقدوة فيقول تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [9]، ويدعو الجميع للإقتداء بإبراهيم الخليل "ع" وسائر الأنبياء في مقاومة الظلم ومقارعة الشرك. يقول تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة في إبراهيم والذين معهم إذ قالوا لقومهم إنّا براء منكم}[10].
لقد أحال القرآن الكريم الكثير من الأمور إلى السنة والأحاديث ولا داعي لأن يتناولها هو بالذات. أضف إلى ذلك مسؤولية علماء الدين تتضح أيضاً من خلال الأمر الوارد باتباع الأنبياء وبيان سيرتهم السياسية والاجتماعية وتحملهم لمسؤولية تطبيق الدين وان ذلك لا ينحصر بعصر الرسول وأمير المؤمنين عليهم السلام وإلاّ فإنّ الظاهر من معنى {أولى الأمر} في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [11] هم المعصومون عليهم السلام وهم أولو الأمر بالأصالة، وان العقل يحكم كذلك في ضوء التعاليم الصادرة عن المعصومين عليهم السلام بأن نوابهم في عصر الغيبة يعتبرون أيضاً "أولي الأمر" لكنهم "أولو أمر بالتبع" كما هو الحال بالنسبة لعصر حضور المعصوم، فقد تولى نوابهم الخاصون مسؤولية الكثير من الأمور ولم يكن هنالك تدخل مباشر من قبل المعصوم فيها، وهكذا في عصر الغيبة فإنّ النواب العامين يتولّون مسؤولية إدارة الأمور.
وكما تقدّم القول فإنّ النواب العامين والمنصوبين من قبل الأئمة عليهم السلام للقيادة يتعيّن ان يكونوا علماء فقهاء حازوا الشروط الثلاثة وهي الفقاهة والعدالة والقدرة على تدبير شؤون النظام الإسلامي وإدارته، وإلاّ فإنّ هنالك من العلماء والفقهاء من يصلح للدروس العلمية والتدريس وإقامة الجماعة لا غير، فلا بد ان يتوفر الفقيه العادل المنصوب للقيادة على الرؤية السياسية السليمة، أولاً، وان يكون محيطاً بفن الإدارة ثانياً لأن الإدارة ليس علماً فحسب بل هي فن وكفاءة متميزة لا يحظى بها كافة الناس، وبهذا السبب لم يُنط الرسول الأكرم "ص" وأمير المؤمنين "ع" أيّة مهام إدارية لأبي ذر "رض" وذلك لعدم قدرته على هذا الأمر [12]، وان الفقهاء الذين يفتقدون الرؤية السياسية والاجتماعية السليمة إنما هم منصبون فقط لمهمة القضاء والمرجعية لا القيادة.
ملاحظة: ان البحث في النصوص المتعددة التي نرى ان مسؤولية علماء الدين تتمثل في تحسين الاقتصاد، إزالة الإجحاف عن الجياع، التصدي لحالة الإشباع التي يتصف بها الظالمون... الخ، من قبيل: " وما أخذ الله على العلماء ان لا يُقاروا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم"[13] يكشف بجلاء عن وجوب تدخلهم بل وإقامتهم للحكم.
30ـ ان ولوج العلماء والفقهاء في عالم السياسة والحكم يؤدي إلى عدم قدرتهم على هداية الناس علمياً ومعنوياً.
الجواب:
ان الفقيه الجامع للشرائط يتحمل ـ تبعاً للائمة المعصومين عليهم السلام ـ مسؤوليات من أبرزها وأهمها بيان الأحكام وتعليمها، الدفاع عن التعاليم والمحافظة على سلامتها ورسوخها عبر الرد على الشبهات وموارد النقد وتطبيق الأحكام، ولغرض تحقيق هذه الأهداف فهو يبادر إلى تعيين مجموعة لبيان الأحكام وأخرى لتعليلها وطائفة للدفاع عنها، وآخرون لتطبيق أحكام الدين، ولا داعي لأن يتدخل الإنسان بنفسه في جميع الأمور بل يتولى أمر الزعامة والإدارة والتدبير شخصياً بشكل عام. وليس الأمر بحيث ينهمك جميع العلماء بالأمور التنفيذية وتتوقف عملية إرشاد الأمة الإسلامية علمياً ومعنوياً. وكما يروي ابن هشام في سيرته، فقد عيّن النبي "ص" بعد فتح مكة اثنين من الصحابة بمنصبين كل على حدة أحدهما منصب ثقافي والآخر سياسي ـ اجتماعي، وكما يصطلح عليه عين أحدهما وزيراً للتربية والتعليم والآخر وزيراً للداخلية[14].
بناء على ذلك، من المستحيل ان يدخل جميع العلماء والفقهاء، المفاصل الإجرائية، بل ان بعضهم يرد القضاء، وآخرون يردون القطاع التنفيذي وبعضهم يتولون الشؤون الثقافية والعلمية والتربوية، ولا ضرورة تستدعي تولّي العلماء والفقهاء للأمور الإجرائية بصورة مباشرة، وإنما يكفي لأن يتصدى لها من يتصف بالتدين والأمانة والإحاطة بالأعمال، وهكذا كان الحال في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام، أي لم تتوقف عملية تعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس، ولا هم كانوا يباشرون العمليات الإجرائية بأنفسهم.
31ـ تدل بعض الروايات على حتمية فشل كل حكومة تقوم قبل ظهور الإمام صاحب الزمان "ع"، واستناداً إلى تلك الروايات فإنّ الحكومة الدينية ونظام ولاية الفقيه في عصر الغيبة لن يرى النجاح ولا يحظى برضى المعصومين عليهم السلام؟
الجواب:
روي عن الإمام الصادق (ع) قوله: " ما خرج ولا يخرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقّاً إلا اصطلمته البليّة وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا"[15].
وقد ورد هذا التصريح في سند الصحيفة السجّادية على لسان المتوكل بن هارون راوي الصحيفة إذ يقول:
لقيت يحيى بن زيد بن علي "ع" وهو متوجه إلى خراسان بعد قتل أبيه فسلمت عليه، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من الحج، فسألني عن أهله وبني عمه بالمدينة وأحفى السؤال عن جعفر بن محمد "ع"، فأخبرته بخبره وخبرهم، وحزنهم على أبيه زيد بن علي "ع"، فقال لي: قد كان عمي محمد بن علي "ع" أشار على أبي بترك الخروج وعرّفه ان هو خرج وفارق المدينة ما يكون إليه مصير أمره فهل لقيت ابن عمي جعفر بن محمد "ص"، قلت: نعم، قال: فهل سمعته يذكر شيئاً عن أمري؟ قلت: نعم. قال: بم ذكرني؟ قلت: جعلت فداك ما أحب ان استقبلك بما سمعته منه، فقال: أبالموت تخوفني؟ هات ما سمعته، فقلت: سمعته يقول: انك تقتل وتصلب كما قتل أبوك وصلب.
ولما سمع يحيى نبأ مقتله دفع بالصحيفة إليّ، وكان قد أملاها علي بن الحسين "ع" وخطها زيد بن علي "ع" بيده وقال: فاقبضها واكفنيها وتربص بها، فإذا قضى الله من أمري وأمر هؤلاء القوم ما هو قاض فهي أمانة لي عندك حتى توصلها إلى ابنَي عمي محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن "عليهما السلام" فإنهما القائمان في هذا الأمر بعدي ـ أي المحافظة على الصحيفة ـ .
قال المتوكل: فقبضت الصحيفة، فلما قتل يحيى بن زيد صرت إلى المدينة فلقيت أبا عبد الله "ع" فحثته الحديث عن يحيى فبكى واشتد وجده به وقال: رحم الله ابن عمي وألحقه بآبائه وأجداده.
يستفاد من هذه الرواية ان الذي يقوم قبل قيام القائم "ع" ويدعي الإمامة ويدعو الناس إليه، فهو محكوم بالفشل، والوحيد الذي يدعو إلى نفسه ويدعي الإمامة هو الإمام المهدي "ع" بالإضافة إلى ان من يقوم ولا يدعو الناس إليه ولا يدعي الإمامة، بل يدعو الأمة الإسلامية إلى الإمام صاحب الزمان "ع" دون ان تتوفر شروط قيامه فهو محكوم بالفشل أيضاً.
أما من يقوم ويدعو الناس إلى إمام الزمان سواء كان هو إمام الزمان كالحسين بن علي "ع" أو لم يكن، ومن ناحية أخرى يتوفر شرط: " حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر " [16]أي تتوفر ظروف قيامه، فإنّ مثل هذا القائد ربما يستشهد غير ان الدين يشهد تقدماً بسب قيامه، كما هو الحال بالنسبة لسيد الشهداء "ع" الذي استشهد فيما بقي دين الله مصوناً، فلا منافاة بين الشهادة وبين ضرورة القيام، ولقد ردَّ الإمام السجاد عند بوابة الشام على من سأله: " من غلب؟" قائلاً: " إذا أردت ان تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذِّن ثم أقم"[17].
أي لقد مضينا في طريقنا فأحيينا ذكر رسول الله بل أحيينا جوهر الإسلام وعُدنا، إذن، ليست الشهادة أو الأسر دليلاً على هزيمة القائد الديني، وان الهزيمة الظاهرية لا يمكنها ان تكون دليلاً على خطأ النهضة، بل هي إحدى الحسنين في ضوء التعبير القرآني.
ولو افترضنا وجود رواية تصرح على نحو الإطلاق بحتمية فشل وخطأ كل نهضة، فإنّ مثل هذه الرواية تعد مرفوضة ولا يمكن القول بها لتعارضها مع الخطوط العامة التي يرسمها القرآن الكريم وسنة المعصومين "ع". لأن كل ما لدينا من آيات وروايات تأمرنا بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحياء الدين وإقامة الحدود الإلهية وهي لا تختص بزمن معين، وتكشف عن خطأ القول بالتقاعس عن إحياء الدين وان ذلك مما لا يمكن قبوله أبداً. فإذا ما افتقدت الحكومة الدينية في عصر الغيبة فإنّ لازمة ذلك سيادة القوانين غير الدينية وهيمنة الفاسدين على المسلمين، وهذا مما لا يرتضيه الله ورسوله "ص" البتة.
والآن نلقي نظرة على أوضاع الثورة والنظام الإسلامي . فهل بادر مؤسس الجمهورية الإسلامية أو قائد الثورة الإسلامية إلى دعوة الناس إليهما. أم ان شرائط إقامة الحكومة لم تكن متوفرة؟
لقد دعت الثورة الإسلامية الناس إلى إمامة المهدي "ع" ولما تزل كذلك، وليس هنالك من يدعوا الناس إليه سواء كان إماماً أو مأموماً. فكلاهما ينادي: إننا أمة الإمام المهدي"ع" وهو "ع" إمامنا و والحوزات حية ببركة الإمام المهدي "ع" وكذلك البلاد برمتها، وان أي نشاط إيجابي تشهده البلاد إنما يأتي بفضل وجوده "ع" والأمة تعيش انتظاره بفارغ الصبر لتسلمه لواء النظام الإسلامي.
ان مهمة الفقهاء في عصر الغيبة تتمثل بالإفتاء والقضاء لا الحكم.
الجواب: أ ـ ان معنى الإفتاء هو مرجعية الفقيه الجامع للشرائط للأمة وقد منحه الدين هذا المنصب بأن يخلف الإمام المعصوم "ع" ان الفقيه الجامع للشرائط لا يعدُّ مسؤولا على صعيد المسائل المثارة لحد الآن والتي جاءت على هيئة كتب فقهية من قبيل الجواهر، وإنما هو مسؤول أيضاً عن المسائل المستحدثة كالأحكام المتعلقة بالفضاء والبحار والسفن والغواصات مما لا سابقة لها، فعليه بيان اتجاه القبلة وكيفية الصلاة والصوم والمعاملات فيها، وأنواع الأسماك وإحكامها، وكيفية الصلاة وسائر الأحكام على سطح الكواكب، وكذلك شؤون المصارف والتأمين والشؤون البحرية وبيع الدم ونقل أعضاء البدن من الحي إلى الميت وعشرات بل مئات المسائل المستحدثة الأخرى .
ألا يحتاج العمل على تماس مع هذه الأمور إلى خبير ومتخصص وجامعة ووزارة وميزانية والى مؤسسات أخرى؟ وهل يستطيع الفقيه الجامع للشرائط الذي يتولى مهمة الإفتاء، ان يباشر هذه الأمور بأجمعها وإصدار رأيه بشأنها دون الاعتماد على مؤسسات اجتماعية.؟
ب ـ لو ادعى أحد القبول بتولي الفقيه الجامع للشرائط لمنصب القضاء في عصر الغيبة وانه منصوب بالواسطة من قبل الله لخلافة الإمام المهدي "ع" لفض النزاعات وإصدار الحكم، فلا بد من مساءلته هل يمكن في عصرنا ان يكون القضاء بيد الفقيه المذكور فيما يكون الحكم بيد غيره؟
الجواب: لا وجود للقضاء بلا قانون، وان القانون يغطي كافة المجالات بدءاً من الرعي في سفوح الجبال ومروراً بالزراعة والطيران وانتهاءاً بأحكام الغواصات التي تجوب المحيطات ولا بد ان يكون ملبياً لكافة المتطلبات وان الشكاوى التي يشهدها عصرنا الراهن ليس بمستوى الدعاوى القائمة بين زيد وعمر وحول قضيّة بيع للقماش أو للماشية وما شابه ذلك، فإذا ما ادعى الإسلام العالمية وحمل الرسالة لجميع العالمين وإمكانيته في معالجة مشاكل الدنيا حتى قيام الساعة، فعليه ان يتوفّر على قانون شامل لجميع المجالات، وعلى العشرات من الكتب والقوانين، وعلى مجلس للتقنين، وان يحظى بالحضور الجماهيري، فهل يصح ان يتولّى الفقيه الجامع للشرائط منصب القضاء وإصدار الأحكام، حين تطبيق الحكومة قوانين الشرق والغرب غير الإسلامية في المجتمع؟ وهل من الصحيح ان يعمل المسلمون وفق قوانين وضعها غير المسلمون؟ أو ليس من الحرام العمل بقوانين الطاغوت والاحتكام له: {يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت}[18].
بناءاً على ذلك نقول: أولاً ان لازمة منصب الإفتاء والقضاء من قبل الفقيه امتلاك قوانين مدونة تشمل كافة المجالات هي موضع حاجة في التربية والتعليم العالي والجامعات على مختلف أنواعها ومن قبل المتخصصين في مختلف الفروع والسلطة التشريعية. وثانيا: ان تدوين القوانين دون تطبيقها يفتقد القيمة العلمية ولا بد من وجود قوى الأمن والمؤسسات والسجون ... الخ لغرض تطبيقها في كافة مفاصل المجتمع الإسلامي. من هنا فإنّ القبول بمنصب الإفتاء والقضاء للولي الفقيه في عصر الغيبة يستلزم القبول بحكومته وولايته، أما ثالثاً: فنظراً إلى ان الإفتاء والقضاء يشملان القضايا العامة والعلاقات الدولية فلا بد من وجود سفراء وقائمين على المصالح وخبراء في الحقوق الدولية ... الخ في ظل قيادة الحكومة الإسلامية لصيانة حقوق المسلمين و الأمة الإسلامية خلال ما يحصل من محاكمات دولية، وكل ذلك إنما يتيسر في ظل الحكومة الإسلامية.
33ـ إن الفقهاء لا يمكنهم ان يصبحوا حكاماً وذلك لقولهم بأن معرفة الموضوعات ليست من شأن الفقهاء فالفقه إنما يبحث في أحكام الموضوعات لا الموضوعات نفسها.
الجواب:
ان الفقيه لا يصرح بعدم علاقته بمعرفة الموضوعات، وإنما يقول بأن الفقه بما انه فقه لا يتطرق للموضوعات، أي ينبغي عدم التوقع بأن يتطرق الفقيه إلى الموضوعات ويضعها بين أيدي الناس بالإضافة إلى بيان الأحكام، بيد ان ذاك الفقيه نفسه عندما يقف في منصب القضاء فإنه يمارس عملية معرفة الموضوع بدقة سواء بشكل مباشر أو عن طريق التشاور مع الخبراء، ومن ثم يصدر الحكم، وان حكمه القضائي يتوقف على معرفة الموضوع من قبيل ما إذا دفع الرجل النفقة أم لا؟ أو ان هذه المرأة نشزت أم لا؟ وهل ان هذا الشخص سارق وقد سرق بالفعل أم لا؟ أو ما إذا كان هذا الطبيب قد حافظ على القواعد الطبية خلال العملية التي اجراها للقلب أم لا؟ وكذا الحال بالنسبة لمنصب الولاية والحكومة، فمما لا شك فيه ان الفقيه الجامع للشرائط يحتاج إلى معرفة الموضوع والخبرة والتشاور مع المتخصصين وهو انما يقوم بهذا العمل لضرورته في تطبيق أحكام الدين في المجتمع.
من هنا فإنّ الفقه بما انه فقه فلا شأن له بمعرفة الموضوعات، وان الفقيه وهو في منصب المرجعية وعلى تماس مع الفقه فقط، فإنه لا يمارس عملية معرفة الموضوع،غير ان الفقيه نفسه يمارس هذه العملية حينما يكون في منصب القضاء والولاية وهذا يعد جانباً من مهمته سواء عن طريق المباشرة، أو التشاور، أو الاستتابة.
34 ـ ان الفقيه الذي جعلت له الولاية في الروايات هو ذلك العالم المفكر المتعمق الخبير بالدين، لا ذلك الفقيه وفق المصطلح المعاصر أي العالم بالفقه فقط ويجهل سائر الأبعاد في الإسلام.
الجواب:
ان أغلبية الفقهاء يمتلكون المعرفة بجميع الأبعاد الدينية، بيد ان معرفتهم تزداد في الفقه. ولقد جرى تثبيت شروط القيادة في القانون الأساسي في ضوء ذلك، أي " الفقاهة الجامعة " لذلك فإنّ الذي يقتصر فهمه على " الفقه الاصطلاحي " لا " الفقه القيادي" لا يملك الزعامة والقيادة لمثل هذا الفقيه، وبوسع مثل الفقيه ممارسة الأعمال المرتبطة باختصاصه كسائر المختصين.
ان الفقيه الجامع لشرائط القيادة يمثل أنموذجاً من القادة الربانيين سواء على صعيد ما يتصل بالمعتقدات والأخلاق والأحكام، أو ما يتصل بالإرشاد والدفاع والإحاطة في سبيل تحقيق الأهداف الإسلامية.
ان ما ورد في الأصل الرابع من القانون الأساسي: "يجب ان تقوم كافة القوانين والأحكام المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية، والإدارية، الثقافية، العسكرية، السياسية وغيرها على أساس الموازين الإسلامية" فمن أجل ان يكون زعيم النظام الإسلامي فقيهاً متضلعاً بجميع الأبعاد الإسلامية.
ملاحظة: ما ورد في القانون الأساسي يمثل نفحة من معطيات العقل والنقل في الإسلام في بحث شؤون الحكومة الإسلامية وبالذات ولاية الفقيه.
35 ـ ان تدبير المجتمع والحكم يحتاج إلى " إدارة علمية " ولا قدرة للادارة الفقهية ـالتي تستند إلى الفقه والرسالة العملية ـ على إدارة البلد.
الجواب:
ادعى البعض ان الدين يخلو من الحديث عن التنمية والإدارة والقيادة وهذه الأمور إنما يتولاها العلم والعقل، والخطأ الذي وقع فيه هؤلاء هو انهم حصروا مصادر الدين في الدليل النقلي أي القرآن والحديث، من هنا فقد قالوا بقصور الدين وعدم كفايته، ثم وضعوا "الإدارة العملية" في قبال "الإدارة الفقهية" في حين يتسع مصدر الدين ليشكل الدليل النقلي والدليل العقلي، أي ان ما يفهمه العقل المبرهن يمثل الدين، وقد ورد في كتب الأصول بأجمعها ان مصادر الفقه هي القرآن والسنة والعقل والاجتماع وإذا كان الإجماع يعود بأصله للسنة، فإنّ العقل يمثل مصدراً مستقلاً، وإذا ما جرى التخطيط لإعمار البلد وبنائه وتنظيم السياسة ببعديها الداخلي والخارجي بواسطة عقل سليم وبعيدا عن الأهواء والرغبات فإنّ ذلك ما ينطبق مع الدين. ان العقل والنقل يمثلان مصدرين لأحكام الدين فيتولى العقل بيان رؤية الدين فيما يتعلق بالمطالب التي لم ترد في النقل أي الكتاب والسنة.
والمشكلة تكمن في ان البعض عزلوا العقل عن الدين وجعلوه في مقابله، في حين ان العقل لم يقف في مواجهة الدين على الإطلاق، ان العقل يقابل النقل وكلاهما ينضويان تحت لواء الدين، والبعض يقطعون الدين إرباً إرباً، فيوماً يدعون فصل الدين عن العقل، وآخرون يقولون بفصل الدين عن العلم ويحصرون الدين في المسائل الفقهية خاصة، ومن ثم يزعمون عجز مثل هذا الدين عن إدارة الدولة والحكم. انهم هم الذين جعلوا الدين عضين ومن الواضح عدم قدرة الدين ان كان مقطّع الأوصال ومسلوب العمامة والرداء عن إدارة كافة شؤون الإنسان، والدين الحقيقي هو الذي يشمل النقل والعلم والعقل معا، ومثل هذا الدين لا يعوزه شيء لإقامة الحكم والبلوغ بالإنسان إلى السعادة دنيوياً وأخرويا وإدارة شؤون الأمة، فالعقل مصدر للدين في المسائل الفردية وهي المسائل الاجتماعية أيضاً.
وينبغي الانتباه إلى ان المصدر الأصلي للدين شيء واحد لا غير وهو إرادة الله: {ان الحكم إلا لله}[19]، أما العقل والنقل فهما يقومان بدور الكشف عن إرادة الله فظاهر القرآن يقوم بالكشف عن إرادة الحق تعالى وهكذا الأحاديث فهي تقوم بالتبع بالكشف عن إرادة الحق، والعقل الذي هو هبة للإنسان: {فطرة الله التي فطر الناس عليها}[20]، فألهمها فجورها وتقواها}[21] إذا ما فهم شيئاً فإنّ فهم العقل وفتواه يمثلان كشفاً عن إرادة الذات الإلهية المقدسة أيضاً.
بناء على ذلك، إذا ما اعتبر القرآن والسنة والعقل والإجماع ـ يعود للسنة ـ مصادر للدين فذلك لكشفها بصورة مباشرة عن المصدر الأصلي للدين أي حكم الله.
أما لماذا أصبح العقل مصدر الدين وهل ان كونه مصدراً جاء بسبب العقل أم النقل؟ فإنّ الإجابة تتمثل في ان ذلك ما يقوله العقل من ان الله موجود واحد لا شريك له، والعقل الذي يثبت أسماء الله وصفاته والنبوة وما شابه ذلك، فإنه إذا ما فهم شيئاً وتوصل إلى مطلب من خلال تلك المبادئ البرهانية الخاصة، فهو في ذاته يمثل حجة ولا يمكن الشك في حجيته أبداً. ان الدين نفسه ثبت بالعقل، فأنّى يتطرق الشك في حجيته؟
على هذا الأساس فإنّ الروايات التي نقلها المرحوم الكليني وغيره التي تثبت حجية العقل من قبيل" ان لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة"[22] تؤيد أو ترشد إلى اعتبار وحجية الدليل العقلي وإلاّ فإنّ حجته الدليل العقلي ذاتية.
وهنا ينبغي الانتباه إلى أمرين، الأول: ان المراد من العقل هو الأدلّة العقلية التي لها موقعها الخاص وليس الوهم والخيال والمغالطة.
والثاني: ان حجية العقل بالذات لا تعني استغناء الإنسان عن الوحي، لأن العقل يصل إلى نقطة يدرك معها عدم فهمه للكثير من الأشياء وحاجته للهداية الغيبية والوحي الإلهي، وفي الجوانب التي يجد العقل طريقه إليها يكون الدليل النقلي مؤيداً للدليل العقلي من باب: " يثيروا لهم دفائن العقول "[23]، أما في الجوانب التي لا يجد طريقاً إليها فإنّ النقل والوحي يقومان بإرشاده من الجوانب التي لا يجد طريقاً إليها فإنّ النقل والوحي يقومان بإرشاده من باب التعليم الابتدائي والتأسيسي " لا التأييدي " فيكون النقل في هذه الحالة مؤسساً لا مؤيداً صرفاً فيما يكون العقل في مثل هذه الحالات مستمعا لا مصدراً وكما يعبر عنه يكون مستهلكا ولا منتجا.
ان العقل يحكم تارة في دائرة المستقلات العقلية، تارة في دائرة الملازمات العقلية، وأخرى يحكم من باب استلزام المقدمة وذي المقدمة، أي حينما يوجب الشارع ذا المقدمة فإنّ العقل يحكم بوجوب المقدمات، والعقل هو صاحب اليد الطولى في مفاصل واسعة من أصول الفقه، وبالرغم من عدم وجود مجال في اغلب أفعاله العبادية ذات التعبد المحض، وان العقل بالذات يدرك ذلك ويتحرز عن تجاوز حرمتها، ولكن النقل يؤيد العقل في المعاملات، وان البحوث الحقوقية والاقتصادية المعمقة التي قد تجري على هيئة بيع أو تأمين أو مصارف دون ربا، وقد تجري بصور أخرى بالرغم من استعانتها بالخطوط الأساسية للرواية إلا ان العقل يتحمل جانباً جديراً بالاهتمام فيها، وبحوث البيع من قبيل صحة البيع الفضولي، الكشف الحقيقي، الكشف الحكمي، التنجيز والتعليق، شرط المتأخر، وما شابه ذلك إنما هي من حكم العقل ولا رواية تكشف عن أي منها، واغلب المعاملات في الإسلام كانت سابقة للإسلام وقد عمل بها العقلاء، وذلك للحكم الذي أبدته عقولهم وبدورهم عملوا بما حكم العقل به، فيما أمضى الإسلام تلك الموارد وأيدها، كما في الآيات: {أوفوا بالعقود} [24] و {احل الله البيع} فهي دليل شرعي إمضائي وليس تأسيسي. فأي قوم من بني البشر يدعون نقض العقد بعد حصول المعاملة ولم يقع الغبن بحق أي من الطرفين؟
ان بناء العقلاء إذا ما أراد ان يصبح حجة فلا بد ان يقترن بالدليل العقلي وان يرتبط بقانون عقلي، لأن عمل العوام بما انه صادر عن العوام فلا حجية له، إلاّ ان يخضع العمل لإشراف الشارع المقدس ويكون الشارع قادراً على الردع غير انه لا يفعل، إذ ذاك يصبح حجة، لأن الشارع وان لم يؤيده لفظيا فإنّ سكوت المعصوم وعدم رفضه يعد دليلاً على تأييد المطلب، أما ما اعتبره مرفوضا كالمصارف الربوية التي يتقبلها العقلاء وهي رائجة إذ ذاك يعد غير جائز وغير شرعي بالرغم من قبول العقلاء له لنهي الشارع عنه.
وهكذا الأمر في البحوث الحقوقية والأخلاقية، فإنّ جانباً مهماً منها يفهمه العقل ويؤيده النقل، فإنّ وجوب الوفاء بالعهد وحرمة خيانة الأمانة ووجوب الدفاع، كل ذلك مما يوجب دخول النار لمن يتخلف عنها وان ادعى عدم رؤيته للآيات والروايات المتعلقة بها، إذ يقال له: انك صاحب عقل وعقلك يحكم بهذه الأمور، فالعقل " حجة الإسلام " وحديثه حديث الدين.
وقضية القيادة وإدارة المجتمع تمثل أمراً عقلياً، وعلى فرض عدم ورود آيات وروايات صريحة بشأنها فإنّ العقل السليم بحكم بها بجلاء، وهذا الحكم العقلي أمر إلهي.
وعلى صعيد مسألة مقدمة الواجب فإنّ كافة الأعمال التي يحتاجها المجتمع المتدين تعد واجبة شرعاً، فهنالك المئات من الأعمال بدءاً من الصناعة والطب والزراعة وانتهاءاً بالخياطة وغيرها، كل تلك الأعمال تعد واجبة شرعاً، ولكن أية آية نزلت بشأنها؟ وأنها وجبت بحكم العقل.
لقد صرح العقل بهذا الأصل الكلي ـ رغم توقف النظام الإنساني عليه والحاجة إليه تعد واجبة ـ وأيّده الدليل النقلي، وعلى أساس هذه القاعدة العقلية الكلية يرى العقل نفسه ان الأعمال التي تحتاجها الأمة الإسلامية واجبة كفائية، وإذا ما اقتصرت ممارستها على شخص معين ولا قدرة لغيره على إنجازها وأصبحت عينياً عليه لا كفائياً وهذا ما يحكم به العقل أيضاً.
على سبيل المثال، لو ان شخصاً قرر تأمين معيشة عياله وبعد الدراسة أدرك انه لا يستطيع ذلك عن طريق ممارسة الزراعة وعليه المبادرة إلى ذلك عن طريق الصناعة، فإذا ما عمل مثل هذا الشخص خلافاً لما أدركه عقله ولم يتجه إلى الصناعة، فإنه يكون مسؤولا أمام الله ويناله العقاب يوم القيامة.
وهكذا بالنسبة للمسائل الاجتماعية، فالذي يتولى إدارة بلد ما فهل يتعيّن ان ينزل الله أية بشأن إدارة ذلك البلد، أو يأتي زرارة برواية تبين طريقة إدارة ذلك البلد، أين تقام السدود؟ وأين تتم الزراعة؟ وأين تتم عمليات الصيد... الخ، فهل يتعيّن نزول أية أو ورود رواية كي نعرف تكاليفنا الدينية؟ أم ان حكم العقل يكفي لها؟
لا شك في كفاية حكم العقل، وان التخلف عنه سيكون سبباً في نزول العقاب ودخول جهنم، وسيقول الله تعالى يوم القيامة لمن خالف: لقد كنت ذا عقل، وعقلك حجتي عليك ورسولي إليك فكان عليك ان لا تتمرد على أوامره.
من الضروري هنا الرد على بعض الشبهات الفرعية في هذا المجال:
الشبهة الأولى: يقول البعض: نظراً لما ورد في الروايات " دين الله لا يصاب بالعقول"[25]، إذن ليس من الصواب القول بأن العقل مصدر للدين.
الجواب:
ان المراد من هذه الرواية أو ما ناظرها من الروايات هو القياس والاستحسان أو المصالح المرسلة التي عدها أهل السنّة من العقل والقياس الفقهي والأصولي ـ وهو المتمثّل المنطقي ـ باطل استناداً للدليل النقلي وكذلك العقلي، وكثيرة هي الروايات الواردة بشأن ذلك كما في الحديث: " ان السنة إذا قيست محق الدين"[26].
ويحتج القرآن الكريم بالدليل العقلي في أقوى المسائل الاعتقادية ويحث البشر التعقل، ولم يقتصر الاهتمام بالعقل على ما ورد في عدة مئات من الآيات حيث يقول تعالى: {أفلا تعقلون} [27]، {أفلا تتفكرون}[28]، {أفلا تتدبرون}[29] رغم تصريح هذه الآيات بالدعوة للتعقل، بل ان المعارف الإلهية جرى بيانها في القرآن الكريم بأسلوب عقلي وعن طريق البرهان، وهذا يعد دليلاً على تأكيد الدين على العقل والتدبر وأهميته، فلو لم يكن الدليل العقلي مصدراً للدين لكان الترغيب به والترهيب على تركه عبثا، ولو لم تمثل معطيات الدليل العقلي سندا للدين، لكان من غير الصواب حث القرآن في الدعوة إليه.
الشبهة الثانية: ان تعاليم الدين ترتبط بالواجبات والمحرمات أما الأعمال العلمية والتكنولوجية والصناعية والعلوم العقلية في هذا المجال فهي على صلة بما هو موجود ومعدوم ولا علاقة تجمع بين الاثنين، وعليه فإنّ العقل لا يحكم في هذه المواضيع فلا يعدّ مصدراً للدين.
الجواب:
ان العقل يتعلق بما هو موجود أو معدوم بعد بلوغه النصاب اللازم يعلم بالأمور كإدراكه لفائدة اللقاح إذا ما حضر بطريقة خاصة وإلاّ فإنه يكون مضرا، ومن ناحية أخرى فإنّ العقل يصرح بأن الدين يقول له: ان ما هو نافع أما ان يكون واجباً أو مستحباً، وان ما هو مضر فهو محرم، وإذا ما كان اللقاح مفيدا إذا ما حضر بطريقة معينة وبدونها يكون مضرا، إذاً " يجب القيام بهذا العمل و يحرم القيام بذلك العمل الضار، ويقول العقل ان في العمل الفلاني مصلحة للمجتمع وكل ما فيه مصلحة المجتمع يعد واجباً. إذ انه لا بدّ من القيام بهذه الأعمال بناءاً على ذلك. فإنّ المسلم الذي ربما يأخذ هذه الواجبات والمحرمات تارة عن طريق النقل وأخرى عن طريق العقل نفسه، فإنه يمزجها مع الموجودات والعدميات العلمية والتشخيص العقلي، ومن ثم يحدد التكاليف بحكم العقل نفسه.
وعلى هذا الأساس فإنّ العقل على امتداد جميع الموارد الآنفة الذكر يشكل قضية لها مقدمتان أحداهما تحصل من الوجود والعدم " الحكمة النظرية" والمقدمة الأخرى تحصل من الواجب والحرام " الحكمة العملية وحيث ان النتيجة تتبع ايسر المقدمتين فإنّ نتيجته ستكون أما " الواجب " أو " الحرام ".
الشبهة الثالثة: ربما يقال بأن العقل إذا كان مصدراً للدين فإنّ ذلك يستلزم ان تعمل المجتمعات غير الدينية بأحكام الدين وذلك لعلمهم بحكم العقل الذي هو مصدر الدين، إذن سيكونون من أهل الجنة والسعادة يوم القيامة.
الجواب:
ان هذا النقض ليس وارداً فلا بد من الاعتراف بالتفاوت بين " حسن الفعل " و " حسن الفاعل "، فالأول يعني صلاح الفعل، أما الثاني فيعني صلاح الفاعل، ان ما يقوم به أولئك وان اتسم بحسن الفعل في بعض الحالات غير أنهم يفتقدون لحسن الفاعل وهم لا يمارسون هذه الأعمال كواجب ديني وتنفيذ للأمر الإلهي وبقصد القربة إلى الله، من هنا بالرغم من عدم ارتكابهم لعمل قبيح يستحقون بسببه دخول جهنم، غير انهم لا ينالون الثواب لعدم توفر النية لديهم في التقرب إلى الله، وبطبيعة الحال فإنهم ينفعون من المعطيات الدنيوية لعملهم الحسن وسيترتب على عملهم كل ما يترتب من اثر وضعي على العمل المطابق للدين.
36 ـ نظراً لاختصاص الفقهاء في الواجبات والمحرمات فلا قدرة لهم على إدارة المجتمع الإسلامي على كافة الأصعدة العلمية والتخصصية، وذلك لاتساع متطلبات المجتمع عن مجرد الواجبات والمحرمات الفقهية.
الجواب: تتضح الإجابة على هذه الشبهة عبر المطالب المتقدمة، وذلك لتصدي الفقه لعملية بيان الخطوط العامة لسائر العلوم وواجباتها ومحرماتها وهو بمثابة القانون الأساسي لتلك العلوم، وبوسع الفقيه العارف بهذه الخطوط بيان رأي الإسلام في الأمور الفرعية والجزئية على كافة الأصعدة بعد الرجوع والتشاور مع الخبراء والمتخصصين في كل فن فلا بد ان تتمحور كافة شؤون البلد الإسلامي الثقافية والاقتصادية والطبية والسياسية وكذا السلام والحرب حول محور القانون الإلهي، وتتمثل مهمة الفقيه وواجبه التنفيذي في مطابقة إعمال الخبراء في مختلف الشؤون مع تعاليم الدين وتقييمها كي يعلن صحتها من سقمها وحلالها من حرامها وقبيحها من حسنها، ومن ثم يصدر الايعازات بتنفيذ المطابق منها ومنع المخالف. من هنا فقد جرى تشكيل مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص المصلحة واخيراً يأتي القائد نفسه، ومن خلال هذه التشكيلات يتجسد التخصص والخبرة بأوسع صورها من ناحية، وأخذت بالاعتبار مسألة انسجام الأمور العلمية والخبروية تماماً مع الدين وعدم مخالفتها لقوانين الإسلام وتعاليمه من ناحية أخرى.
__________________________
[1] وسائل الشيعة: 1/18، ح10.
[2] القانون الأساسي:الأصل 110.
[3] نهاية الارب: 2/83.
[4] نهج البلاغة: الحكمة 443.
[5] نهج البلاغة: الحكمة 147.
[6] نفس المصدر: الرسالة 61.
[7] نهج البلاغة:ا لحكمة 20.
[8] شرح ابن ابي الحديد: 9/201.
[9] الأحزاب: 21.
[10] الممتحنة: 4.
[11] النساء: 59.
[12] كتاب الخراج: 9.
[13] نهج البلاغة: الخطبة 3:البند 16.
[14] سيرة ابن هشام 4/143.
[15] رياض السالكين: 1/888.
[16] نهج البلاغة: الخطبة 3،البند16.
[17] البحار: 45/177، الحديث 37.
[18] النساء: 60.
[19] يوسف: 76.
[20] الروم:30.
[21] الشمس: 8.
[22] الكافي: 1/16، ح12.
[23] نهج البلاغة: الخطبة 1، البند 37.
[24] المائدة: 1.
[25] البحار: 2/302، ح41.
[26] نفس المصدر: 101/405،ح5.
[27] البقرة: 76.
[28] الأنعام: 50.
[29] النساء: 82.
 

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية