مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ولاية الفقيه

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

 وإياه نستعين
مقدمة البحث
1 ـ إن هداية كل موجود متناسبة مع كيانه الخاص، ولأن الموجودات غير متساوية بلحاظ درجة الوجود، فإن تربيتها تكون مختلفة أيضاً؛ فبناء الصناعات المعدنية، وتربية النباتات والكائنات الحية ليست متساوية مع تربية المجتمع الإنساني، وكذلك فإن القوانين الحاكمة على كل منها لا تتساوى أيضاً.
2 ـ إن تعيين صفات قائد الناس، وبيان شروط القيادة الإنسانية مرهونان بمعرفة الإنسان والمجتمع، وهذه المعرفة ترتبط أيضاً بالرؤية الكونية، سواء كانت مادية أو إلهية، لكن الرؤية الإلهية للمفكر العارف بالإنسان تؤثر تأثيراً كبيراً في كيفية طرح قضايا القيادة الإنسانية.
3 ـ إن نتاج معرفة المفكر المتألّه بالإنسان هو حاجته إلى الإرشاد الغيبي، وبدون الهداة المعصومين ـ عليهم السلام ـ لن يتيسر له طريق الوصول إلى الكمال اللائق، وعلى ضوء هدايتهم تتضح الخطوط الأصيلة لهذا الكمال؛ {قد تبيّن الرشد من الغيّ}(البقرة:256). ولأن معرفة عصمة أولئك الذين يدّعون القيادة بالأصالة ليست بمقدور عامة الناس، ينبغي أن تأتي واسطة ما كالعلاقة العقلية والدلالة العامة كالمعجزة الثابتة، وبعدها تثبت القيادة للمعصوم الآخر من خلال النص عليه من قبل الأول. وكذلك فإن قيادة المعصوم الآخر قابلة للإثبات من خلال المعجزة. والمعجزة حجة برهانية وليست حجة ظنية أو عامية.
4 ـ إن الفكر الإلهي حول الإنسان مثل الفكر الإلهي حول سائر الموجودات. وقد تصور بعض المفكرين الإلهيين أن كل ظاهرة تحتاج في أصل حدوثها إلى مبدأ فاعلي ولا يمكن أن تخرج إلى حيّز الوجود بدون العلة الأولى، ولأن صفة الحدوث تزول عن الشيء بمجرد تحققه، ليأتي بعدها دور البقاء، فإن ذلك الشيء يترك وشأنه، ومسؤولية دوامه تقع على عاتقه وهو في بقائه غير محتاج إلى سبب وعلة!
والبعض الآخر من الحكماء أصحاب الرأي يعتقدون أن سبب الاحتياج إلى المبدأ الفاعلي هو نفس الفقر الذاتي للموجود الذي يكون وجوده عين ذاته، ولهذا فلا فرق بين الحدوث والبقاء؛ فكما أنه محتاج إلى المبدأ الأول، وهو واجب الوجود، فإن المبدأ الأول لا يتركه كما هو إطلاقاً.
وهذان المنهجان اللذان يشكلان رؤيتين مختلفتين في العقيدة الإلهية، رغم اشتراكهما في بعض المعارف الدينية إلا أنهما يفترقان في نقاط مهمة. ومن المتحمل أن لا يستطيع صاحب الرأي الثاني المحافظة على مبناه الفكري في جميع المراحل. وعلى هذا فإنه قد ينتقل في إثناء المسير إلى أصحاب الرأي الأول. وفي المقابل هناك من يحافظ على البنية التحتية للفكر الثاني في جميع المراحل، ولا يحيد عنها أبداً.
5 ـ هناك فئة تتصور أن المجتمع البشري بلحاظ معرفة الإنسان لا يمكن أن يسير في طريق السعادة بدون المصلح الغيبي. ولهذا اعتبرت أن أصل الوحي والنبوة والرسالة ضروري، وأن هداية المجتمع الإنساني مرهونة بوجود النبي المعصوم ـ عليه السلام ـ، وأي نظام ـ مهما كان ـ لن يصل إلى الثمرة المطلوبة بدون القيادة النبوية المعصومة. لكن المجتمع النبوي يمكنه أن يستغني عن المعصوم بعد وفاة النبي، ويكفي الرجوع إلى القرآن ولا حاجة إلى المعصوم المبيّن والهادي والمعيّن من الله! وبشعار (حسبنا كتاب الله) لم تستغن هذه الفئة بعد وفاة النبي عن القائد المنصوص عليه فحسب، وإنما قامت بالاجتهاد مقابل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وجعلت أقواله ترتحل معه تاركة الأمة الإسلامية بدون تعاليمه!
وهذا المنهج الفكري ناشئ في اللاوعي من ذلك النهج الفكري الذي يعتقد بعدم حاجة الممكن للمبدأ الفاعلي في مرحلة البقاء، مادامت صفة ضرورة الحدوث قد أزيلت عنه!
الفئة الأخرى من الإلهيين العارفين بالإنسان لم تر أي استغناء للمجتمع الإنساني عن المصلح الغيبي، بل أن وجود القائد المعصوم ضروري على نحو الدوام، سواء كان ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً، ولهذا فهم لا يفرقون بين عصر النبي(ص) وعصر وفاته حيث أن الأئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ خلفاؤه. لكن المجتمع الإنساني في عصر غيبة الإمام المعصوم متروك حسب رأيهم، من الناحية السياسية، وهو يستفيد من فيوضاته المعنوية وألطافه الغيبية فقط، ولا يوجد أي نوع من الارتباط القيادي معه، وبشعار فصل الدين عن السياسة لم يخرجوا الدين من الساحة السياسية ضعيفاً عاجزاً فحسب، بل جعلوا السياسات الإلحادية حاكمة على الدين! وقد يفصل بعض المتدينين الدينَ عن السياسة ليكتفوا بالأعمال العبادية والأخلاقية، ولكن، هل تتركهم السياسات الاستكبارية التي تنهب كل ما تراه وتهيمن على كل ما تريده؟ أم أنها سوف تتدخّل في كل شؤونهم، حتى في مناهجهم الفكرية، وتجعل الدين أسيراً بيدها؟ كما جاء في عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر:
"إن هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى ويُطلب به الدنيا".
علماً أن أولئك لم يفصلوا الدين عن السياسة بالظاهر.
ومن الأمثلة البارزة في هذا المجال ما شاهدناه من الكنيسة التي كانت متواطئة مع سياسات الحكام على الضعفاء. مثلما فهم البعض، أو أرادوا، من الآية الشريفة {وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} بأنها تشير إلى الهيئة الحاكمة!
والفئة الثالثة من المتألهين العارفين بالإنسان لم تر استغناءً للمجتمع الإنساني عن المصلح الغيبي في أي بعد من أبعاده، سواء من ناحية الفيض المعنوي والولاية التكوينية والواسطة في الإفاضة وأمثالها، بدون القول بوجود أي فارق بين المعصوم المشهور والمعصوم المستور، أو من ناحية فيض السلطة والقيادة للمجتمع الإنساني في المسائل السياسية وغيرها.
وقد اعتبرت هذه الفئة أن ارتباط المجتمع بذلك القائد المعصوم يعدّ من الضروريات، وأن هذا الارتباط يبقى محفوظاً دائماً في ظل خلافة نوّابه بالحق. وهذه هي ولاية الفقيه التي تشكل استمراراً لحكومة المعصومين. أما اتباع هؤلاء الحكام الجامعين لشرائط الفقاهة والعدالة والكفاءة والسياسة فهو بمنزلة طاعة الأئمة المعصومين(ع)، لأن الفقيه العادل والمدير والسائس هو خليفة الإمام المعصوم عليه لسلام.
وصحيح أن هذه الفئة لا تفصل السياسة عن الدين، بل تعتبر الفقه السياسي قسماً من أصول الفقه الإسلامي الذي لا ينحصر في محور فقه العبادات، لكنها اعتبرت أن وجود الفقيه العادل على رأس هرم الحكومة كافٍ وأن استقلال الأفراد الآخرين في سائر شؤون الحكومة لا يتنافى مع ولاية الفقيه، وإنما ينسجم معها.
الفئة الرابعة من المتألهين المتعبدين الذين اعتبروا أن حضور الفقيه الجامع للشرائط لازم في جميع شؤون الدولة الإسلامية، وأن تدخله ـ أعم من المباشرة والتسبيب ـ شرط في شرعية الأعمال، وأن أي شكل من أشكال الاستقلالية في أية زاوية من زوايا الدولة وشؤونها يتنافى مع ولاية الفقيه، فإشراف الفقيه الجامع للشرائط وقيادته شرط لا ينفصل أبداً عن شرعية أي شأن من الشؤون؛ فسياسة هذه الفئة عين عبادتها.
6 ـ كما سوف يأتي في طيّات الكتاب، إن ولاية الفقيه العادل ترجع إلى ولاية الفقاهة والعدالة، والفقيه ليس له أية سمة أخرى غير الفقاهة، وهو في جميع الأحكام مساوٍ للأمة، وليس له أية ميزات موهومة أو امتيازات متوهمة أو رفعة مصطنعة، فلا فرق بينه وبين الآخرين؛ فشخصيته الحقوقية هي شخصية الفقاهة والعدالة التي لا تمضي على أي تحريف ولا تقبل أي تعالٍ لأن الأول عين السفاهة والجهل، والثاني عين الخيانة والضلال.
فإذا كان للفقيه الجامع للشرائط حقوقاً كثيرة واختيارات عديدة، فإن مرجعها جميعاً هو المسؤوليات الثقيلة التي ليس فيها أي امتياز مادي. ولا شك أن الأجر المعنوي محفوظ عند الله تعالى.
واستقلال الناس لا يقلل من قيمة الشرائط والصفات الحساسة للقيادة، كذلك فإن معرفة الشرائط المذكورة والتحقيق حول واجديها، ومبايعة الجامع لها، كل هذه تعتبر من الفضائل العظيمة للمجتمع.
إن معنى نيابة الفقيه الجامع للشرائط العلمية والعملية عن الإمام المعصوم ـ عليه السلام ـ لا ينحصر في أصل إدارة شؤون الأمة الإسلامية، بل ينبغي أن يتلقى الأصول الحاكمة على السياسة والقوانين القابلة للاتباع من الهداية الإلهية؛ فالاختلاف الوحيد بين النائب والمنوب عنه هو أن ما يعلمه المنوب عنه يكون في ظل العصمة الإلهية، على أثر شهود الغيب والعلم الحضوري، وليس بالاجتهاد من الظواهر والاستنباط من الأدلّة، ولهذا فإن كل معارفه تكون يقينية. أما نائبه، وبسبب عدم العصمة، فإن جميع ما يعلمه ناتج عن الاستنباط من الأدلة التي يكون أغلبها ظنياً في السند والدلالة، وعدد منها يكون قطعياً بلحاظ السند (كالقرآن الكريم وبعض النصوص المتواترة)، ولكنه ظني بلحاظ الدلالة، وإن كان هناك بعض الأدلة القطعية بلحاظ السند والدلالة أيضاً.
بناء على هذا، فإن علم الفقيه لا يتجاوز في الغالب حدود الظن، وتكون جميع معارفه طبق الاجتهاد. ولهذا فهو يصيب فيثاب أحياناً، ويخطئ في بعض الأحيان فيؤجر (في حال لم يكن مقصراً في الاستنباط). وفي تشخيص الموضوعات غير المستنبطة التي ينبغي أخذ حدودها من عرف الناس الجاري ـ بدون الابتعاد عن عرف عصر النزول، حيث تعرف بتجميعها بشكل كامل ـ، لا يغفل عن مشاورة الخبراء المتخصصين ومراعاة خصوصية الزمان والمكان والظروف الأخرى. وفي مثل هذه الصورة سوف تكون طريقة إدارة الفقيه الجامع نيابةً لطريقة إدارة المنوب عنه أيضاً، لأن كيفية إدارة المنوب عنه تكون بالاستمداد من الهداية الإلهية فقط، كما جاء بشأن النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ: {لتحكم بين الناس بما أراك الله}(النساء:105).
7 ـ إن ولاية الفقيه في إدارة نظام الحكومة مثل منصب القضاء وسمة المرجعية تعين من قبل الشارع المقدس، أما قبول الناس فإنه مؤثر في مرحلة الإثبات دون أصل الثبوت؛ فكما أن الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء يكون صاحب منصب الإفتاء، سواء قبل أحد بمرجعيته أم لم يقبل ـ والاختلاف الوحيد هو أنه إذا قبل الناس به فإن العنوان الإضافي لمرجعيته سوف يصل إلى مرحلة الفعلية، ويصاحبه الآثار العينية، وإلا بقي في إطار القوة دون ترتب آثار خارجية عليه ـ، وكما أن الفقيه الجامع للشرائط يكون حائزاً على منصب القضاء سواء رجع الناس إليه أم لم يرجعوا ـ مع فارق، وهو أنه إذا قُبل من الناس لفصل الخصومات فسوف تنتقل الصفة الإضافية (القضاء) إلى مرحلة الفعلية مع ترتب آثار عينية كثيرة، وإلا بقي في مرحلة القوة دون ترتب الآثار ـ؛ فإن جريان ولايته بالنسبة لإدارة أمور الأمة الإسلامية هو أيضاً هكذا. فأصل المقام محفوظ وترتب الآثار الخارجية منوط بتولي الأمة.
8 ـ إن قبول منصب الولاية والإيمان بها واجب على الفقيه نفسه، قبل الأمة؛ فالفقيه الذي لا يعتقد بمقام الولاية لن يكون متصفاً بهذه السمة إطلاقاً؛ كما إذا أنكر الفقيه قضية الاجتهاد وحصر الفقه في بيان معاني الروايات وجعل وظيفته عبارة عن الحديث، فإن السمة الوحيدة التي تثبت له هي منصب (المحدّث) دون الإفتاء، كما هو حاصل بالنسبة لطائفة من الإخباريين.
فمنصب الولاية ثابت لذلك الفقيه الجامع للشرائط قبل الآخرين، إذا كان معتقداً بسمة الولاية، ومؤمناً بها، ومعتقداً بأن تجاوزها يعد مخالفة صريحة، كما كان الأنبياء والأئمة المعصومون ـ عليهم السلام ـ مؤمنين بمنصب الرسالة والإمامة الذي أوكل إليهم ومعتقدين بعدم جواز مخالفتها، ومن بعدهم يأتي الآخرون: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون}(البقرة:285).
وبهذا التحليل لن يكون لشخص الفقيه أي امتياز، بل إن مسؤوليته تجاه منصب ولاية الفقه والعدل تكون قبل الأمة. وبهذا الوضع فإن أي امتياز لن يكون ترجيحاً لشخص الفقيه ولا تقليلاً للرأي العام، بل إن الجميع مسؤولون أمام القانون الذي يقوم الفقيه الجامع للشرائط بحفظه، كما جاء في الدستور الإسلامي في إيران: أن القائد يتساوى مع الشعب أمام القانون.(الأصل 112).
9 ـ إن رأي المعصوم أو إخباره عن معصوم آخر يعدان سنداً فقهياً، وهما بدورهما يوجدان الحكم أو يثبتان حقاً فردياً أو اجتماعياً، وإن كان إيجاد جميع الأحكام وإثبات جميع الحقوق و إحداثها بيد الله سبحانه، لكن في حدود عالم الإمكان ونطاق البشرية فإن كلام المعصوم هو الوحيد الذي يوجد الحكم أو الحق.
أما رأي غير المعصوم أو إخباره فليس له أي دور في إنشاء حكم أو إحداث حق، بل يكون ـ في حالة الاعتبار ـ كاشفاً، سواء كان رأي عالم متخصص أو عامي معروف، أو كان نتيجة اتفاق الآراء أو اجتماع الأكثرية.. ولهذا فإن الإجماع والعقل ليسا مثل القرآن وسنة المعصومين ـ عليهم السلام ـ مصدراً للأحكام أو مبنى لإنشاء الحقوق، وإنما هما مصباح لتشخيص الحكم ونور لتبيين الحق. وتوضيح هذا الأمر بما يلي:
أ ـ الإجماع، وهو اتفاق آراء الفقهاء، له دور الكشف عن الواقع، ولا يكون موجداً لحكم أو حق أبداً.
ب ـ الشهرة الفتوائية، التي هي عبارة عن اشتهار حكم خاص بين الفقهاء دون أن يكون معلوم السند، أو الشهرة العملية التي هي عبارة عن إفتاء طبق خبر معروف بين الفقهاء دون معرفة سر استنادهم إليه، (لأن الخبر المذكور لا يكون في الظاهر واجداً لجميع شرائط الحجية والاعتبار) لا تكونان (الشهرة الفتوائية والعملية) منشئتين للحكم وإنما كاشفتين عنه.
ج ـ الشهرة الروائية عبارة عن نقل حديث مشهور بين المحدثين، وتكون هذه الشهرة عند بعض الأصوليين سبباً لرجحانه أو اعتباره. وكما أن رأي الفقهاء، سواء في الإجماع أو في الشهرتين المذكورتين، لا يكون إلا كاشفاً، فإن اخبار المحدثين هو من هذا القبيل.
د ـ الشياع المطلبي وهو الذي يكون أرضية لحكم أو حق خاص بين عامة الناس، مثل شياع أعلمية إنسان في مستوى خاص، أو شياع رؤية الهلال في مستوى عام ليس له أي أثر بلحاظ إيجاد الحكم أو الحق، إنما يكون علامة على ثبوت الموضوع وليس علة وجوده فضلاً عن أن يكون سبب تحقق الحكم أو الحق.
10 ـ البيعة في ثقافة التشيع وفي فقه الشيعة الإمامية علامة على الحق، وليست علة له.
وتوضيحه: أن الحاكمية في النظام الإسلامي هي حق الله سبحانه الذي يتجلى في القرآن وسنة المعصومين ـ عليهم السلام ـ، ويجب على جمهور الناس أن يقبلوا هذا النظام ويبايعوا القرآن والمعصومين ـ عليهم السلام ـ (بالوجوب العيني). وهذا الأمر ليس له أي أثر في ثبوت أصل حق حاكمية القرآن والمعصوم. وبعد البيعة يجب الالتزام بلوازمها؛ فالمجتمع الإنساني مكلف بتكليفين طوليين: الأول: أن يبايع ما تبيّن بالقرآن والسنة ويؤمن به. والثاني: أن يعمل بكل ما جاء فيهما من تعاليم ومضامين.
والسر في أن البيعة في فقه الشيعة ليس لها إلا جهة الكشف، هو أن المعصومين ـ عليم السلام ـ لهم ولاية تشريعية إضافة إلى الولاية التكوينية؛ فالناس يتولونهم في ساحة الولاية التشريعية وحق الحاكمية التي لهم، كما أنهم يؤمنون بولايتهم التكوينية.
11 ـ ما ورد عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في نهج البلاغة أو في غيره حول الاحتجاج بالبيعة إنما هو من باب قاعدة الإلزام. كما أن الله تعالى يؤاخذ المؤمنين بما أُلزموا به، وهو العمل بالقرآن واتباع قيادة النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ؛ فمبايعة علي بن أبي أبي طالب ـ عليه أفضل صلوات المصلين ـ ليست سبباً لحقه في الحكم، حتى يستدل بها لأجل تثبيت موقعه السياسي.
12 ـ إن آراء الناس في الأحداث السياسية وغيرها تكون سبباً لنشوء حقوق متقابلة هي أيضاً في منتهى الحرمة، وهذا ما يثبته العقل الاجتماعي، وسيرة العقلاء مسؤولة عن إجرائه، وتمضيه الأحكام الشرعية. وهذا الأمر مشهود في الكثير من بيانات قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني العظيم ـ دام ظله العالي ـ، وهو أحد بنود الدستور. أما مجلس الخبراء فهو خبير بتشخيص تعيين الفقيه الجامع، أو عزله، وليس سبباً في تنصيبه أو عزله، فالحاكم الإسلامي لا يعين من قبل الناس أو الخبراء، كذلك فإن هؤلاء لا يقومون بعزله.
13 ـ إن رأي الأمة بالنسبة لقبول حاكمية القانون الإلهي يكون علامة على ثبوت الحق وليس علة له؛ فقبل أن يدلي الناس بآرائهم بالنسبة لحاكمية القانون الإلهي، قام النبي الأكرم والأئمة المعصومون ـ عليهم السلام ـ بالبيعة والقبول، وفي عصر الغيبة، فإن الإيمان بنيابة الفقيه الجامع للشرائط، العارف بزمانه وعالَمه، والمدير والكفوء، واجب شرعي، إضافة إلى الإيمان بإمامة المعصوم الغائب القائم ـ عجل الله فرجه الشريف ـ.
هذا، في حال آمن الفقيه نفسه، وقبل الآخرين، بنيابة مقام الفقاهة والعدالة لمقام العصمة السامي، فحراسته لهذا الحكم السياسي للشرع الإسلامي يأتي قبل الأمة وأشدّ منها.
وبناء على عدم وجود أي امتياز مادي بين الفقيه الجامع للشرائط والأمة، واعتقاد الجميع أن دخان جهنم سوف يحرق أكوام رؤية النفس عندهم قبل أن يزيل كل رأي فاسد، ويمحق الفقيه الخادع ويجعل أهواءه هباءً منثوراً، فإن أحداً لن يحتمل أن كاشفية البيعة للفقيه الجامع للشرائط سوف تكون سبباً للتقليل من شأن الرأي العام.
هل كانت كاشفية البيعة ودلالة الرأي العام على جميع الأنبياء والرسل الإلهيين ـ عليهم السلام ـ عبر التاريخ وفي ساحة جميع الكتب السماوية المقدسة كانتا لتوهين رأي عامة العقلاء؟!
هل كانت كاشفية آراء الناس بالنسبة للقرآن الكريم وساحة الرسول الأكرم(ص) المقدسة، وعتبة الأئمة المعصومين(ع) الملكوتية ومحضر بقية الله ـ أرواح من سواه فداه ـ سبباً لتحقير آراء العقلاء؟!
لا يمكن أن نتصور أن آراء الناس بالنسبة لأصل قبول الدين وحقانية القرآن وحاكمية النبي والأئمة المعصومين تكون علامة وليست علة، ثم تكون بالنسبة لقيادة الفقيه الجامع للشرائط علة وليست علامة؟
وجوهر الكلام حول آراء الناس بالنسبة لإيجاد حق حاكمية الفقيه الجامع للشرائط سوف يؤدي إلى القول بأن الفقيه العارف بجميع قوانين الحكم هو ممثل ونائب للأمة وليس لإمام العصر ـ عليه السلام ـ، لأنه في مثل هذه الحالة يكون قد حصل على نيابته من الأمة ووكالته من موكّليه، ولم يحرز نيابته من صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ!
14 ـ إن دراسة الأدلة الفقهية تحتاج إلى فرصة أوسع، مع أن ظاهرها هو جعل الولاية والتنصيب وليس الانتخاب، وتعضدها الأدلة العقلية في النظام الإسلامي التي تؤيد نيابة الفقيه للإمام المعصوم ـ عليه السلام ـ دون نيابته عن الناس.
إنّ أساس حرمة الولاية وقيمتها هو عظمة المسؤولية وأهمية الشروط وتساوي القائد مع الناس دون التقليل من حرمة الرأي العام.
ينبغي أن يتجه المجتمع الإسلامي إلى المستوى الذي لا ينعدم فيه أي مائز بين الولي والمولّى عليه فتتضح في هذه الحالة حرمة الرأي العام.
إن تأثير حضور الناس في ساحة العمل، و إظهارهم للآراء في محيط الفكر، لا يكون ضامناً لتطبيق ولاية الفقيه فحسب، بل يكون أساساً في نجاح أصل الدين وحاكمية القرآن والنبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ وقيادة المعصومين ـ عليهم السلام ـ. ولا ينبغي أن نخلط بين التأثير الخارجي لحضور الناس وبين تأثيره في إيجاد حق الحاكمية والعلّية بالنسبة لأصل الولاية؛ فنجعل حق الحاكمية بيد الناس لأجل تكريم آرائهم ونترك جهته الربانية!
تذكير: هذا الكتاب هو القسم الثاني لبحث الولاية الذي درّس في السنة الدراسية 1989ـ 1990 طبق برنامج شورى إدارة الحوزة العلمية في قم المشرفة.
والحمد لله رب العالمين
قم المقدسة ـ جوادي آملي
1367هـ ش: 1990م

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية