مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ولاية الفقيه

الدرس الأوّل: الولاية بمعنى الحكومة والقيادة

ضمن الفصول التي جرى البحث فيها تحت عنوان الولاية في القرآن الكريم ذكرنا عدة تقسيمات للولاية، منها تقسيمها إلى الولاية التكوينية والولاية التشريعية. وقد تركز البحث حينها على الولاية التكوينية وبيان حقيقتها؛ أما الآن فإننا سنسلط الضوء على الولاية التشريعية، وبيان الولي بمعنى الوالي والقائد.
حاجة المجتمع إلى الوالي
قبل الدخول في صلب الموضوع لابد من تقديم كلام حول حاجة المجتمعات الإنسانية إلى الولاية والحكومة، فالبعض يشكك في أصل حاجة المجتمع للوالي والحاكم؛ وهؤلاء إما أنهم من المتحررين الذين لا يعترفون بأي نوع من القيود والقوانين ولا يرضخون لأي حساب أو كتاب، وإما أنهم من الذين عانوا كثيراً من ظلم الحكومات.
هذه الفئات المختلفة التي تنكر حاجة المجتمع إلى الحكومة تشترك فيما بينها في الدافع وهو (الشهوة العملية).
والقرآن الكريم يذكر أناساً دفعتهم شهواتهم العملية لإنكار النظام والحساب الأخروي:
{أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوّي بنانه * بل يريد الإنسان ليفجر أمامه}(القيامة:3ـ5).
فلا مورد لشبهتهم من الناحية العلمية. أما السبب الذي دفعهم لحمل هذا الإشكال، فهو طبيعة الإنسان المادي الذي يريد دوماً أن يتخلص من اللجام ويرد إلى ميدان الفجور حراً طليقاً.
وبالطبع، فقد وجد بعض من يطرح الشبهات العلمية في موضوع (حاجة المجتمع الإنساني للحكومة والإدارة)، ومن جملتهم الماركسيون الذين ينفون حاجة المجتمع إلى الحكومة بعد وصوله إلى مرحلة الشيوعية، بقولهم أن الحكومة هي وليدة الطبقات، وتنشأ لأجل الحفاظ على المنافع والمصالح الاقتصادية للطبقة الحاكمة. ولهذا فعندما تنعدم الطبقات، فإن الحكومة سوف تنعدم أيضاً.
وقد نشأت هذه الشبهة من تصورهم أن الاقتصاد هو أساس جميع الشؤون الإنسانية، غافلين عن أن العقيدة هي البناء الأساسي للحياة، وتبعاً للعقيدة تنشأ الأخلاق التي تصوغ طريقة الحياة وأساليب العمل. من هنا، فإنه حتى لو أزيلت الطبقات المادية والاقتصادية، فسوف يبقى الاختلاف في العقيدة والأخلاق، وبالنتيجة يبقى الاختلاف في السلوك والعمل. كما يحدث، نتيجة السهو، وقوع في المعصية، وأحياناً يكون ذلك نتيجة العمد. والاختلاف بين الأمرين في مقام الإثبات وتعيين الحكم بلحاظ الوضع والتكليف يحتاج إلى القانون والمحكمة القضائية؛ فالحياة الاجتماعية بدون النظام الذي يحقق الانسجام بين السلوكيات المختلفة، وبدون الوالي الذي يحرس هذا النظام، لن تخرج إلى حيز الوجود ولن تستمر. غاية الأمر، أن هذا الوالي إما أن يكون فرداً أو جماعة، وطريقة الولاية إما أن تكون بالمشورة أو بغيرها.
إذن، فالمجتمع بدون الوالي الذي يحفظ الانسجام وينظم القوانين الفردية والاجتماعية لن يكون له قوام ودوام.
وفي تاريخ الإسلام، كان الخوارج من الذين طرحوا شعار {إن الحكم إلا الله} (الأنعام: 57)، منكرين بذلك أيّ إشراف أو حاكمية على المجتمع. فقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام راداً عليهم: "كلمة حق يراد بها باطل".
بمعنى أنه لو كان المقصود أن الحاكمية بالأصالة لله فهذا مما لا شك فيه، ولكن إذا كان المقصود أنه لا يمكن لأحد أن يكون حاكماً، فهذا كلام باطل، لأن لازم ذلك شيوع الهرج والمرج؛ فأصل الحكم، وإن كان مختصاً بالله تعالى لكن الولاية هي للعباد الصالحين الذين يعيّنهم الله مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
وقال عليه السلام: "وأنه لابد للناس من أمير برّ أو فاجر".
الأصل الأولي في ولاية الأفراد
بعد إثبات حاجة المجتمعات البشرية إلى الوالي والحاكم، يأتي هذا البحث حول عدم أحقية أي إنسان بالولاية والقيمومة على الأفراد الآخرين؛ فالإنسان يطيع من أفاض عليه نعمة الوجود، وحيث إن الناس العاديين لم يمنحوه الوجود، ولم يكونوا مؤثّرين في بقائه ودوام وجوده، فإن رأي أي واحد منهم لن يكون ملزماً للآخر. وعدم لزوم اتباع الناس بعضهم لبعض هو الأصل الأولي في ولاية الأفراد بالنسبة للجميع.
ولاية الله سبحانه
فيما مضى، ذكرنا بعض الآيات التي تشير إلى انحصار الولاية التكوينية والتشريعية بالله سبحانه؛ أما ما سنبيّنه الآن، فهو أن الإنسان بحصوله على جميع شؤون وجوده من الله تعالى، فهو مكلف بإطاعته وحده. أما اتباع القوانين الصادرة من غير الله فهو مشروط بتحديد من الله تعالى.
ولاية وقيادة الأنبياء العظام(ع)
الأنبياء هم رجال أثبتت رسالاتهم من الله تعالى من خلال الإعجاز والتحدي، وجاء الأمر الواضح باتباعهم وإطاعتهم.
وفي مورد إطاعة الأنبياء (بإذن الله) التي هي إطاعة لله يقول القرآن الكريم: {وما أرسلنا من رسول الله إلا ليطاع بإذن الله}(النساء:64).
استمرار الولاية الإلهية وقيادة الأوصياء(ع)
بما أن القيادة أمر ضروري للمجتمعات الإنسانية، فإن الحاجة إليها بعد رحيل الأنبياء تبقى كما هي.
وإضافة إلى هذا البرهان العقلي الذي يحدد ضرورة استمرار القيادة الإلهية، يمكن إقامة برهان آخر بالاستعانة بما جاء في الوحي الإلهي؛ فإضافة إلى مجموعة الأحكام الفردية المطروحة في الدين، يوجد سلسلة من التعاليم الاجتماعية (الداخلية) كالحدود والديات والقصاص والتعزيرات وأمثالها، وسلسلة أخرى من التعاليم الاجتماعية (الخارجية) كالجهاد والدفاع وأمثالها؛ وإن وجود هذه الأحكام يشير إلى حاجة الدين للقوة التنفيذية والولاية الاجتماعية.
أضف إلى ذلك البراهين النقلية الكثيرة جداً، والتي تؤكد ـ ضمن النهي عن تولي غير القيادة الإلهية ـ على ضرورة القيادة الإلهية واستمراريتها.
منطق القرآن الكريم في قطع الولاءات الباطلة
ينهى القرآن الكريم، في معرض قطع جذور الولاءات الباطلة وكل ما يمكن أن يؤدي إليها، عن أي تولٍّ أو نصرة للذين خرجوا عن الدين.
وبالطبع، فإن هؤلاء الخارجين عن الدين طائفتان: الطائفة الأولى هم الذين يمكن العيش معهم بسلام؛ فيجوز إقامة العلاقات الحسنة معهم، بشرط عدم سريان محبتهم إلى القلوب. أما الطائفة الثانية فهم الذين يؤذون المسلمين دينياً، فينبغي إظهار الانزجار والعداوة منهم.
فإذا لم يلتفت المسلمون إلى هذا الأمر القرآني، ومالوا إلى الكفار، فإنهم سوف يصبحون منهم. أما إذا راعوا حدود التبرّي جيداً، فإنهم سوف يكونون لائقين لمقام "أولياء الله".
ولأن النفي في مثل هذه الأمور مقدم على الإثبات، فقد جاء الحديث عن التبرّي أولاً، لقطع العلائق مع الكفار، وبعدها طرح التولّي. وإن كان التولّي الموجود في فطرة الإنسان مقدماً على التبرّي الذي هو أمر عارض.
فتقدم التولّي على التبرّي، كتقدم التوحيد على الشرك؛ ففي كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" يتقدم النفي "لا إله" على الإثبات "إلا الله"، لكن بما أن "إلا" ليست للاستثناء حتى تنحل جملة "لا إله إلا الله" إلى جملتين، وإنما هي بمعنى "غير"، فمجموع كلمة التوحيد لن يكون أكثر من جملة واحدة. وهكذا فإن غير "الله" الذي يمكن أن تقبله الفطرة الإنسانية ليس إلهاً آخر. أي أن أصل "الله" كعنوان مسلّم أمر مفروغ منه، وغيره هو المسلوب من حيث إنه أمر عارض. إذن، فهذا النفي ليس لتثبيت ذلك الأمر الأصيل والذاتي، بل لأجل سلب أمر عارض.
إذن، ينبغي الالتفات إلى أن التبرّي من أعداء الله، وإن كان من حيث ترتيب الآيات القرآنية ـ كما في سورة المائدة وكثير مثلها مما يرتبط بالتبرّي. ـ قد ذكر مقدماً على التولّي، لكن في الواقع، أن التولّي كالتوحيد أصيل ومتقدم، والتبرّي كالشرك عارض ومتأخر.
وكشاهد، نذكر هذه الآيات التالية في التبرّي من الولاءات الباطلة، والتمسك بالولاية الإلهية، وفي تعريف بعض الأوصياء الذين عيّنوا لاستمرار الولاية الإلهية بعد رحيل النبي الأكرم(ص):
{يا أيها آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}(المائدة:51ـ56).
وفي القرآن الكريم، كلما أتى الحديث عن الدين المشترك، أو عن الدعوة إلى السلام وأمثاله، فإن اليهود والنصارى يأتي ذكرهم بعنوان "أهل الكتاب"، لأن لهذا العنوان جاذبية خاصة بدليل الارتباط بين الإنسان والكتب السماوية.
أما إذا جاء الحديث عن إعلان الانزجار والتبرّي، فإنه يذكرهم باسم اليهود والنصارى؛ كما مر في سورة المائدة:
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء}
فجامع الأمم الواحدة هو المحبة، ومن يصل به الأمر إلى حبهم فإن أرضية الميل إليهم تصبح معدة أكثر، لأن الحب والبغض يصبحان مانعين من الحكم الصحيح، كما قيل:
"حب الشيء يعمي ويصم".
وكذلك "بغض الشيء يعمي ويصم".
وبسبب الدور الحساس الذي تلعبه المحبة في علاقات الأمم والشعوب تقول الآية الكريمة:
{بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم}
وفي القسم الأخير من الآيات المذكورة في البداية، يقول الله تعالى، بعد الأمر بالبراءة من اليهود والنصارى: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وهذا البيان يشير إلى أنهم ظالمون، والظالم لن يتمتع بأي لون من ألوان الهداية ولن يصل إلى المقصد أبداً، بل يبقى دائماً في وسط الطريق؛ فإذا أصبحتم في زمرتهم لن تصلوا إلى المقصد. وكلمة (لا يهدي) في هذه الآية هي من الهداية التكوينية والايصال إلى المطلوب، ولا يعني ذلك أن باب الهداية التشريعية مسدود أمام الظالم، لأن الظالم إذا تاب فإن توبته سوف تقبل.
وتعليق حكم عدم الهداية التكوينية وعدم وصول اليهود والنصارى على وصف الظلم مُشعر بعلّية هذا الوصف؛ بمعنى أن الظالم من حيث هو ظالم سوف يبقى محروماً من الهداية التكوينية الإلهية ويبقى في منتصف الطريق. وأما هداية الله التشريعية فهي عامة، وقد أرسل الله تعالى الأنبياء لأجل هداية جميع الناس، وكذلك القرآن الذي يأتي ذكره {هدى للناس}
كما أشير من قبل، فإن النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء إنما هو لمنع التعلّق القلبي بهم، وإلا فالحياة المسالمة والعيش الآمن وإقامة العلاقات التجارية وغير التجاربة، بل وإقامة العلاقات الإنسانية مع أهل الكتاب جائز بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى نصرتهم ومحبتهم.
وفي سورة الممتحنة وفي مورد العيش السلمي مع الكفار يقول تعالى:
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون}(الممتحنة:8ـ9).

فبالنسبة للكافر الذي يلجأ إلى دولة الإسلام، أو يقيم معاهدة مع الدولة الإسلامية، يصبح التعدي على حقوقه وأمواله محرماً وغير جائز. وأما الكافر الذي لم يقم معاهدة مع دولة الإسلام ولم يلجأ إليها، بل هو مشغول بمحاربة المسلمين وإخراجهم و إبعادهم، أو أنه يساعد من يحاربهم، ففي هذه الصورة فإن حكمه حكم الحربيين، وأمواله من فيء المسلمين، وليس لأي مسلم الحق في تولّيه، وإذا فعل ذلك كان من زمرة الظالمين.
ويقول أمير المؤمنين(ع) في عهده لمالك الأشتر حول حرمة التعدي على حقوق الكفار الذين هم تحت ظل دولة الإسلام أو معاهدة المسلمين:
"ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".
وفي رواية مرسلة، نقل أيضاً أن "الإنسان أخو الإنسان أحب أو كره". فهذا الحديث وإن لم يكن له سند، فإنه حديث صادق، لأن الناس إخوة ما لم يقوموا بإيذاء وقتل وتفريق بعضهم لبعض.
وفي الآيات المذكورة من سورة المائدة يقول الله سبحانه وتعالى بعد النهي عن محبة اليهود والنصارى:
{فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم}
إن تعبير {يسارعون فيهم} مكان (يسارعون إليهم)، يشير إلى أن الاندفاع والحضور في جمع الكفار عند هؤلاء المنتحلين للإسلام لم يكن قد نشأ بعد.
وتوضيحه: أن التبرّي من اليهود والنصارى وإن كان هو الأصل الكلّي الدائم والثابت، لكن الآيات المذكورة نزلت في المدينة، لأن مكة لم يكن فيها سوى المشركين والوثنيين. وأما اليهود والنصارى فلم يكن لهم أي حضور حتى ينهى الله عن محبتهم ومعاشرتهم. أما في المدينة، فإن فرقة من أهل الكتاب كانت حاضرة، وفي هذا الجو كان في المسلمين من هو ضعيف الإيمان أو المصاب بالنفاق، ويحاول أن يستغل التقرب إليهم، على أساس أنه إذا تقدم مشركو مكة نحو المدينة وانتصروا على المسلمين فسوف يكون لهم ملجأ آمن، ولأجل ازاحة الستار عن هذه الروابط السرية ذكر القرآن هذه الحالة بأنها مرض سياسي يصيب القلوب. كما فعل في سورة الأحزاب عند الحديث عن أحد الأمراض الأخلاقية، حيث يقول آمراً نساء النبي(ص): {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض}(الأحزاب:32).
فمثل هذه الأمراض القلبية ينبغي أن تعالج؛ فإذا لم يتم ذلك، فإن الشيطان وبناءً على الأصل الكلي {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً}(البقرة:10)، سوف يهيّئ أرضية تفاقم المرض.
وفي السورة المباركة (الفتح) يكشف النقاب عن بعض الأمراض السياسية الأخرى: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزُيّن ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً} (الفتح:12).
وفي الآيات التي دار البحث حولها من سورة المائدة يتم فضح هذا الظن الباطل وكشفه أيضاً. إن منطقهم في الارتباط والتوجه السياسي نحو الكفار بقولهم: {نخشى أن تصيبنا دائرة} يرد عليه: {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده}، وعندها يصبح أولئك الذين في قلوبهم مرض نادمين.
وعند متابعة الآيات، يقول الله تعالى بعد آية لا ترتبط مباشرة بمسألة اتخاذ الولاية:
{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} إشارة إلى أن ما يساعد على التقدم في الحرب وتثبيت الإسلام هو المحبة ذاتها؛ وبما أن هذه الطائفة محبة لله ومحبوبة عنده، فإنها سوف تكون من أنصاره. أما إذا كنتم تحبون اليهود والنصارى فسوف تضلون معهم.
إذن، فمحاربة الكفار تتطلب محبة الله، لا ما يصطلح عليه بالمعلومات (الاختصاص)؛ فإن العلوم العادية لا يكون لها أي أثر، ولا يكون لسوق الدرس والبحث رواج، إلا ببركة بطولة المجاهدين المرابطين في متاريس العشق والمحبة والصبر والاستقامة. وإذا تفاقم الخطر، تعطلت الدروس كلها؛ ففي لحظات الامتحانات والخطر لا شيء ينفع سوى المحبة.
وفي بقية الآية عند وصف المقاتلين الذين هم أهل المحبة الإلهية يقول الله تعالى: {أذلة على المؤمنين}؛ فكل واحد منهم يكون ذلولاً وليس ذليلاً، لأن الذلة عذاب، ولا يحق لأحد أن يذل نفسه أمام مؤمن آخر؛ فالممدوح هو التواضع لا المذلة، كما ورد في الحديث الشريف في أحد جوامعنا الروائية: "إن الله عز وجل فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يذل نفسه"،(فروع الكافي، ج5، ص64).
وتعدي أذلة على حرف (على) بدلاً من (لدى) أو (عند) يشير إلى حفظ الاستعلاء والعظمة عند المجاهدين الذين بتواضعهم يفرشون سفرتهم المليئة بالكرامة والجود لأهل الإيمان.
الأثر الأخير للمحبة، والذي جاء في الآية غير حفظ النظام والعطف بين المؤمنين، هو الانزجار من الكفار والعزة عليهم؛ {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}
وبعد بيان التبرّي في بقية الآية يأتي إظهار التولّي: {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهو راكعون}؛ فالإنسان بعد أن يطرد عن نفسه كل أنواع الأمراض والضعف الروحي، وكل أنواع المحبة والنصرة لغير الله، سوف يدخل تحت لواء الولاية الإلهية، ويكون وليه: الله ورسوله، ومن تصدق أثناء الركوع.
النقطة الأولى في الآية أن في بدايتها ـ ورغم الحديث عن ولاية الله ورسوله وبعض المؤمنين ـ فإن كلمة الولي وردت بصيغة المفرد، وهذا يشير إلى أن هناك ولاية واحدة هي لله تعالى بالأصالة، وبالتبعية لرسوله والأئمة الأطهار عليهم السلام.
وفي القرآن الكريم نجد نماذج عديدة من هذا القبيل، حيث يأتي الحديث عن الله سبحانه والنبي الأكرم(ص) ثم يكون رجوع الفعل أو الضمير إلى المفرد:
{استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}(الأنفال:24)، أو {وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون}(النور:48). ففي هذه الموارد يكون العمل أو الحكم من قبل الله تعالى، والنبي(ص) هو المظهر للعمل أو المبلّغ لذلك الحكم.
النقطة الأخرى في آخر الآية هو ارتباطها، وبدون شك، بإحدى الحوادث التاريخية؛ ففي الفقه، ليس من المستحبات أو الواجبات في الصلاة أن يتصدق الإنسان في حال الركوع.
ولهذا جاء حول سبب عدم إشارة الآية الكريمة إلى أي حكم من الأحكام أن رسول الله(ص) سأل بعد نزول الآية: من الذي قام بهذا العمل؟ وإذا برجل يحمل بيده خاتماً ويشير إلى أمير المؤمنين(ع) مجيباً: ذاك الذي يصلي هو الذي أعطانيه.
وبالنتيجة فإن الآية تعرّف الإنسان الذي سوف تكون ولايته واجبة على المؤمنين بعد النبي الأكرم(ص).
وبعد تثبيت مسألة الولاية مقابل الظالمين والضالين عن المقصد والبعيدين عن الولاية الإلهية، تذكر الآية التالية غلبة وانتصار أناس وصلوا إلى المقصد ببركة الولاية الإلهية والهداية الربانية: {ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية