الدرس الثاني: برامج الحكومة الإسلامية
في سورة الحج المباركة يبين الله سبحانه وتعالى برامج الحكومة الإسلامية بعد الدعوة
إلى القتال والدفاع:
{الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن
المنكر ولله عاقبة الأمور}(الحج:41).
1 ـ إقامة الصلاة: لإقامة الصلاة آثار عظيمة جداً، وما جاء في الآية الكريمة، {إن
الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر}(العنكبوت:45) هو جزء من هذه الآثار. في سورة
المعارج وبعد الحديث عن طبيعة الإنسان المتمردة وكيف أنه (هلوع) و (جزوع)، كانت
الصلاة أوّل ما ذكر كمعدّل لهذه الطبيعة المذكورة ثم تبعها في الآيات التالية ذكر
المسائل الاعتقادية والأخلاقية والاجتماعية.
{إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسّه الشرّ جزوعاً * وإذا مسّه الخير منوعاً * إلا
المصلّين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل
والمحروم * والذين يصدقون بيوم الدين...}(المعارج:19ـ26).
إذاً، فأداء الصلاة ليس لأجل اجتناب المعصية فحسب، وإنما لكي لا يكون الإنسان
حريصاً على منافعه الذاتية، ومانعاً الخير عن الآخرين، وجزوعاً مقابل الحوادث
المؤلمة. وبما أن الصلاة أبرز مصاديق ذكر الله، فقد جاء في أول الوحي لموسى عليه
السلام: {أقم الصلاة لذكري}(طه:14).
2 ـ إيتاء الزكاة:
في العديد من الآيات التي نزلت في مكة كثر الحديث عن الزكاة، في حين أن الزكاة في
الفقه مصطلح يتعلق بتسعة أشياء فقط وهي غير متضمّنة للخمس لأنه أوجب في المدينة.
لذلك فإن هذه الزكاة المقصودة إمّا أن تكون تزكية نفسانية أو صدقات مستحبة
وأمثالها.
وبناءً عليه، فإن أهل الإيمان إذا وصلوا إلى الحكومة فإنهم لا يعتبرون الزكاة
واجباً فقهيّاً مصطلحاً عليه فحسب، بل إنهم يرون أن في أموالهم حقاً مسلّماً. كما
جاء في سورة المعارج، فإن أول مسألة طرحت بعد بيان الصلاة هي:
{والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم * والذين يصدقون بيوم
الدين...}(المعارج:24ـ26).
3 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الفرق ببن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين التعزيرات والدّيات والحدود، هو
أن التعزيرات والحدود تزجر المخالف وتعاقبه، أما في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر فهناك تنبيه لأجل علاج سبب المخالفة.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ
من الانزجار القلبي، فالموعظة اللسانية، ثم يستمر إلى أن يصل إلى الضرب أو إلى
القتل أحياناً. ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما نوع من المنع عن ارتكاب
الجرائم والجنايات، فإن لهما آثاراً اجتماعية عظيمة الأهمية.
يعلم مما ظهر حول برامج الحكومة الإسلامية أن برامجها الأصلية هي تحكيم الارتباط
بين العبد والمولى بالدرجة الأولى، ومن ثم تنظيم الروابط الاجتماعية وإصلاح
المجتمع.
خصائص الحكم الإسلامي
يعِد الله سبحانه ـ في موارد عديدة من القرآن ـ فئةً خاصة من الناس بالحكومة؛ كما
جاء في الآية الكريمة: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة
ونجعلهم الوارثين}(القصص:5).
وفي الآية (55) من سورة النور المباركة يقول تعالى:{وعد الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي
ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد
ذلك فأولئك هم الفاسقون}
نلاحظ في تعبير {يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} أنها ليست إلا جملة واحدة، فعبارة
{لا يشركون بي شيئاً} لم ترتبط بكلمة (يعبدونني) بواو العطف، بل إنها جاءت متصلة
بها مباشرة مبيّنةً بذلك كيفية عبادة الحق تعالى. وهذا يعني أن هؤلاء الذين وصلوا
إلى الحكومة طبق الوعد الإلهي لن يجعلوا لله شريكاً مهما كلف الأمر، فهم لا يلتفتون
إلى أنفسهم أو حتى إلى قدرة عدوهم، بل إن كل اعتمادهم يكون على الله ولا يخافون في
جنب الله من أي أحد.
ويعلم أيضاً من الآية السابقة، أن معنى عبارة {وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً} هو
إشعارهم بالأمن، لا يعني أنهم لن يهاجموا من قبل العدو، فلا يمكن أن يكون هناك
مجتمع يدعو للولاية الإلهية ولا يكون فيه جهاد وقتال في سبيل الله. بل إن في القرآن
آيات كثيرة تخبر عن شهادة الأنبياء الإلهيين مثل: {يقتلون النبيين بغير حق}(آل
عمران:21)، أو {يقتلون النبيّين بغير الحق}(البقرة:61)، أو {قتلهم الأنبياء بغير
حق}(آل عمران:181).
إذن، فالقول بأن الحكام الإلهيين لا يخافون، لا يعني أنهم لا يقتلون ولا يستشهدون،
بل أن الرعب ليس له طريق إلى نفوسهم، ولا يمنعهم أي شيء من تنفيذ الأحكام الإلهية.
ولأن عبارة {يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} بيّنت التوحيد العبادي بلسان نفي الشرك
المحض، ففي خاتمة الآية {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}
المنصوبون بالولاية الإلهية
بعد معرفة بعض خصائص الذين نالوا الوعد الإلهي، ينبغي أن ننظر إلى من يتحقق فيه هذا
الوعد كما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}
وفي هذه الآية، يحقق الله تعالى ذلك الوعد الذي جاء في سورة النور حول خلافة
المؤمنين، ويقول إن يوم الغدير هو اليوم الذي أكمل فيه الدين بتعيين القيّم
والوالي، كما قال تعالى في صدر الآية:
{اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون}
هذا الدين إذا لم يكن عليه قيّم ومنفّذ، فلن يكون أكثر من سواد على بياض، أو مجرد
كلمة مكتوبة. ولهذا، فإنه يكون في معرض هجوم الآخرين ونفوذهم.
والدليل على أن يأس الكفار وإكمال الدين كان في يوم الغدير ببركة نعمة الولاية
والقيادة التي حددت من قبل الله، هو ما جاء في صدر الآية بشأن حرمة أكل الميتة
والدم ولحم الخنزير وأمثالها؛ فإن ذكر هذه الأمور لم يكن شيئاً جديداً، بل هي من
الأحكام التي نزلت قبل ذلك الوقت. إذن، فالتعبير بـ (اليوم)، وتكراره في جملتين:
{اليوم يئس الذين كفروا} و {اليوم أكملت لكم دينكم} يشير إلى النعمة الجديدة التي
أعطيت للمجتمع الإسلامي؛ تلك النعمة التي أكملت الدين ومنعت طمع الكافرين.
هذه النعمة التي ذكرت هنا بدون إضافة أو تقييد بأمر خاص، جاءت بصورة مطلقة، وبحسب
تعبير سيدنا الأستاذ الطباطبائي قدس الله نفسه الزكية هي (نعمة مطلقة)، والنعمة
المطلقة تنصرف إلى مصداقها الكامل وهو الولاية.
وكما جاء أيضاً في ذيل سورة التكاثر الآية المباركة: {ثم لتُسألنَّ يومئذ عن
النعيم}، يفسر كشّاف الحقائق الإمام الصادق عليه السلام الآية بقوله: "نحن أهل
البيت :النعيم"(تفسير مجمع البيان: ج10، سورة التكاثر)، فهم النعمة التي سيسأل الله
تعالى عنها يوم القيامة. وهو سبحانه أجلّ من أن يسأل الإنسان عن النعم المقيّدة
كالماء والخبز... وبالطبع إذا سار الإنسان في مسير ولاية أهل البيت عليهم السلام
واستعمل النعم المقيّدة وفق أوامرهم وتعاليمهم فإن حسابه يصبح واضحاً، أمّا إذا لم
يكن في هذا المسير فإنه سوف يسأل عن كل نعمة على حدة.
وإذا تتبعنا الآية نجد بعد عبارة {اليوم أكملت لكم دينكم} أن الله تعالى يقول
{ورضيت لكم الإسلام ديناً}؛ ويفهم من ذلك أن الدين الذي ارتضاه الله هو الدين الذي
تم بعد تحديد الولاية وهو الإسلام. ولأن الله سبحانه يقول: {إن الدين عند الله
الإسلام}(آل عمران:19)، يعلم أن الإسلام بدون ولاية أهل البيت عليهم السلام لن يكون
مرضياً عنه من قبل الله تعالى. وأمّا ما جاء في نهاية الآية حول الأحكام المتعلقة
بالميتة وأمثالها فكما تقدم، لم يكن هذا أمراً جديداً بحيث يؤدي إلى خصوصية إكمال
الدين وإتمام النعمة في ذلك اليوم. ثم تشير آيات سورة المائدة في النهاية بعد النهي
عن الرابطة الولائية مع اليهود والنصارى إلى الولاية الإلهية واستمراريتها في ولاية
الأوصياء عليهم السلام:
{إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو
راكعون}(المائدة:55).
في الدرس السابق، وأثناء الرجوع إلى الآية المذكورة ظهرت حقيقة هذه الآية، إذ بدليل
عدم وجود حكم خاص بشأن التصدق حال الركوع كانت الآية ناظرة إلى قضية خارجية خاصة.
وقد قيل أيضاً أن مجيء كلمة (الولي) بصيغة المفرد في الآية يشير إلى ولاية رسول
الله(ص) وولاية أهل بيت العصمة والطهارة(ع) باعتبار أنهم خلفاء الله، وليست هي
الولاية الشخصية المعيّنة، بل هي في الواقع نفس ولاية الله.
إذن ففي الإسلام لا يكون الأشخاص بحدّ ذاتهم هم الذين يحكمون، بل الله تعالى.
والدليل على هذا الأمر أنّ الفقيه الجامع للشرائط إذا قام بمسؤولية ولاية المجتمع
الإسلامي، فإنه لا يعود هناك أي امتياز بينه وبين الأمّة الإسلامية، وإذا أفتى
بوجوب أو حرمة شيء ما، فإن العمل طبق تلك الفتوى يكون واجباً على الجميع، حتى على
الفقيه نفسه؛ وإذا أعمل ولايته في شيء، أو أنشأ حكماً معيّناً فإن نقضه حرام، سواء
منه أو من الآخرين، لأن إطلاق دليل حرمة الرد على حكم الحاكم يشمل الحاكم نفسه.