الدرس الثالث: الحكومات الجاهلية واتّباع الهوى
كما مر في الأبحاث السابقة، فإن أصل الحكم هو للباري عز وجل، والأصل الأولي
المتعلّق بالأفراد هو أنه لا حق لأحد بالولاية والقيادة على أحد. والله تعالى يشير
في الآية {إن الحكم إلا لله}(الأنعام:57)، إلى انحصار الولاية في جميع الشؤون
التشريعية والتكوينية بالله تبارك وتعالى.
ولأن الحكم القطعي يعود للعقل في إثبات أن القانون الإلهي هو الوحيد الذي ينبغي أن
يدير العباد، لذلك نحن نعتقد أن الحكومة التي تقام ضمن حدود المعايير والضوابط
الإلهية هي الحكومة التي بنيت على العقل والإدراك، وأن ما لا يقام على أساس المعيار
الإلهي هو حكم الجاهلية؛ {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم
يوقنون}(المائدة:50).
وعلى هذا فإن كل حكومة لا تقوم على أساس الوحي هي حكومة جاهلية، ولا فرق هنا بين
جاهلية ما قبل الإسلام وما بعده.
في السورة المباركة(ص)، وفي خطاب داود(ع)، نجد أن التمايز بين الحكومة الإلهية
والحكومات الأخرى هو الحكم على أساس الحق ـ في محور حركة العقل العملي ـ مقابل
اتباع الهوى في محور الباطل: {يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس
بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}(ص:26).
ومفاد هذه الآية أن الحكومة إما أن تكون تابعة للحق أو تكون تابعة للهوى.
برامج الحكومات الجاهلية
قد بيّنا سابقاً أن برامج حكومة المؤمنين التي تتصل بحكومة الحق هي إقامة الصلاة
وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي مقابل هذا البرنامج للحكومة
الإسلامية، يذكر القرآن الكريم برامج الحكومات المبنية على الهوى بقوله:
{قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك
يفعلون}(النمل:34).
هذا البرنامج وإن جاء على لسان ملكة سبأ، لكن في نهاية الآية وبعبارة {وكذلك
يفعلون} ظهر أن هذه هي السيرة الدائمة للطواغيت. لأن العبارة الأخيرة إمّا أن تكون
تصديقاً إلهياً أو تتمة لكلام ملكة سبأ. وفي الصورة الأولى تكون تصريحاً بالسيرة
المذكورة، وفي الصورة الثانية، يظهر من خلال سكوت القرآن الكريم والاكتفاء بنقلها
تقريرها وإمضاؤها؛ فالقرآن الكريم لا ينقل باطلاً بدون أن يشير إلى بطلانه، لهذا
فلو كان كلام ملكة سبأ غير صحيح لفنّده القرآن حتماً.
خصائص الحاكم الطاغوتي
قد تبيّن سابقاً تحت عنوان (خصائص الحاكم الإسلامي) أن الوعد بالحكومة الإلهية هو
لأولئك الذين يعملون الصالحات على أنهم الوارثون للأرض {ولقد كتبنا في الزبور من
بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}(الأنبياء:105).
العباد الصالحون هم أولئك الذين إذا وصلوا إلى الحكم ـ كداود(ع) ـ فإنهم يحكمون على
أساس الحق، ويبتعدون عن اتباع الهوى، كما خاطب الله تعالى رسوله الأكرم(ص):
{إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}(النساء:105).
وكما أن محور الحكومة الإلهية هو الحق، فكذلك تكون الهيئة الحاكمة والذين ينفذون
الأوامر الإلهية. أما في الحكومات الجاهلية، فإن الحكام مفسدون، لا يرضون بإجراء
القوانين الإلهية، فيتخبطون في النهاية بالضلال والضياع، لأنه {فماذا بعد الحق إلا
الضلال}(يونس:32).
إن الحكم الجاهلي ومن يطيعه من الناس، إضافة إلى القوانين التي تقام في مثل هذه
الحكومة، لن تكون على أساس محور الحق، بل تدور مدار (الهوى)؛ ففي الحكومة الجاهلية
لا يكون الحاكم عبداً للهوى لوحده، وإنما جميع الناس الذين يرضون بالقوانين الباطلة
أو الذين يجرونها.
في سورة آل عمران يُذكر الحكام الإلهيون بأنهم الذين يدعون إلى عبودية الله ويمنعون
عن عبودية غيره سبحانه: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول
للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب
وبما كنتم تدرسون}(آل عمران:79).
فلا يوجد أي نبي قد دعا الناس إلى نفسه، بل إن جميع الأنبياء قد دعوا الناس إلى
الحق والعبوديّة له. والعبودية شاملة للطاعة والرضوخ للقوانين الإلهية أيضاً. أما
الطواغيت فإنهم عندما منعوا الناس عن عبودية الحق وادّعوا أنهم معبودو الناس
بقولهم: {ما علمت لكم من إله غيري}(القصص:38)، أو {فقال أنا ربكم
الأعلى}(النازعات:24)، أو {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا
عابدون}(المؤمنون:47)، لم يكن ذلك بمعنى أنهم هم الذين خلقوا السماء والأرض، وأن
الناس مشغولون بالسجود لهم، لأن فرعون وأمثاله كانوا عبدة للأصنام.
والشاهد على أن فرعون كان عابداً للأصنام كلام قومه، كما جاء في القرآن الكريم:
{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك
وآلهتك}(الأعراف:127).
إذن، قصد فرعون والفراعنة من مثل هذه الأقوال هو دعوة الناس إلى تنفيذ أوامرهم
والاعتراف بأنهم أصحاب القوانين وواضعوها.
وبينما نجد الحكام الإلهيين يدعون الناس إلى عبادة الحق ويقولون: {أدعو إلى الله
على بصيرة أنا ومن اتبعني}(يوسف:108)، فإن الطواغيت ـ كفرعون ـ يدعون الناس إلى
أنفسهم.. الأنبياء لم يدعوا الناس يوماً إلى أنفسهم، وإنما أرادوا من الناس أن
يكونوا ربانيين دوماً في ظل الارتباط الشديد بربهم عن طريق التعليم ودراسة الكتاب.
{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي
من دون الله ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}
ويذكر القرآن الكريم عند الحديث عن أبناء إبراهيم(ع) أنه قد أعطاهم ملكاً عظيماً
{فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً}(النساء:54)، ولكن في
نفس الوقت وفي سورة المائدة في الآيات المتعلقة بحكومتهم ـ سواء بمعنى القضاء أو
بمعنى الإشراف ـ نجد أن محور حكومتهم وقدرتهم هو الكتاب الإلهي:
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا
والربانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس
واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون * وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن
بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدّق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الظالمون * وقفّينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدّقاً لما بين يديه
من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدىً ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى
وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الفاسقون}(المائدة:44ـ47).
ثم يأتي الخطاب مباشرة إلى الرسول الأكرم(ص):
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم
بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق... وأن احكم بينهم بما
أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولّوا
فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيراً من الناس لفاسقون * أفحكم
الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}(المائدة: 48ـ50).
والمفصل القاطع في هذه الآيات يدل على أن التجاوز عن حكم الله يعدّ جاهلية، وكفراً
وفسقاً، واتّباعاً للهوى.
وبسبب ما للأحكام الإلهية من دور مهم في قوام الحكومة الإلهية، فإن الحكام والولاة
الإلهيين سعوا دائماً إلى تعريف أنفسهم بأنهم الأمناء الإلهيون. وفي مقام الدفاع عن
حاكميتهم يظهر الأمر برد الأمانات الإلهية إلى أهلها.
في سورة (النساء) المباركة يقول الله تعالى في معرض الحديث عن شروط الحكومة
الإسلامية:
{إن الله يأمر أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل
إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً}(النساء:58). و(الأمانة) الواردة
في هذه الآية، شاملة للمصاديق المالية وكذلك للمصاديق الحُكمية. ولهذا جاء في
الروايات أن الإمامة والحكومة أمانة إلهية بيد الناس، وهم مكلفون بأن يودوا هذه
الأمانة إلى أهلها.
وعلى أساس هذه الرؤية خاطب موسى(ع) فرعون:
{أن أدوا إليّ عباد الله إني لكم رسول أمين}(الدخان:18).
نعم، فالأنبياء هم الأمناء الإلهيون على العباد، وهم لا يخونون في الوحي، ولا في
الحكم. فالنبي موسى(ع) يقول: أرسل معي (عباد الله)، ويقول فرعون مجيباً: كيف نرسلهم
{وقومهما لنا عابدون}(المؤمنون:47).
وهو يقصد من العبودية طاعتهم له وخضوعهم لحكمه، وهذا ما قصده موسى عليه السلام
بقوله:
{وتلك نعمة تمنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل}(الشعراء:22).
فأي نعمة هي وقد حكمهم فرعون بالظلم والطغيان لسنوات مديدة؟! فالطواغيت يدعون الناس
إلى عبادتهم ويمنعونهم عن عبادة الله عز وجل. وقد تحدث القرآن حول سؤال فرعون لموسى
عن ربّه، وكيف أنه نسب الجنون إلى النبي(ع) وأنهى حواره معه بأنه لا يعلم إلهاً غير
نفسه.
{ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذّبوا بآيات الله}(الروم:10).
{قال فرعون وما ربّ العالمين * قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين
* قال لمن حوله ألا تستمعون * قالا ربّكم وربّ آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي
أرسل إليكم لمجنون * قال ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن
اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}(الشعراء:23ـ29).
وكما أشرنا سابقاً أيضاً، فإن هذه الألوهية التي ادّعاها فرعون لنفسه لم تكن أبداً
بمعنى الخالقية والرازقية، بل بمعنى أنّه كان يعتبر أن رأيه وحكمه هو الذي يؤمّن
سعادة الجميع.
في سورة القصص يأتي تعبير القرآن عن ألوهية فرعون بهذا الشكل:
{قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري}(القصص:38).
وفي سورة المؤمن بهذا النص:
{قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد}(المؤمن: 29).
رغم بُعد الحكام الطواغيت عن المعارف الإلهية، إلا أنهم يتصوّرون أنفسهم المدراء
والمخططين الذين يقودون الناس نحو الرقي والرشد، بينما هم يسعون لإبقاء الآخرين
غارقين في هذه الغفلة حتى تتم الطاعة والانقياد. وعن هذا الأمر يأتي الحديث في سورة
الزخرف بقوله تعالى:
{ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا
تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من
ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً
فاسقين}(الزخرف:51ـ54).
وكما جاء في بعض الآيات القرآنية فإن الاستخفاف أمر حذّر الله تعالى رسوله منه:
{فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون}(الروم:60).
إلا أن فرعون لم يتوانَ عن بذل أي شيء وقول أي كذب لأجل خداع الناس وغوايتهم:
{إني أخاف أن يبدّل دينكم}(غافر:26).
بل إنه أحياناً نسب الإفساد والتخريب إلى النبي(ع):
{أو أن يظهر في الأرض الفساد}
حتى بلغ به الأمر إلى نسبة السحر لموسى وأخيه هارون (عليهما السلام):
{إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم
المثلى}(طه:63).
وفي مقابل هذه الاتّهامات يخاطب النبي موسى(ع) فرعون: دع لي هداية الناس وقيادتهم
لأنني أنا الأمين عليهم.
تلك الأمانة التي كان يتحدث موسى(ع) عنها لم تكن الأمانة على المعادن والمصادر
الطبيعة، أو حتى في إبلاغ الأحكام للناس؛ لأن إبلاغ الأحكام يمكن أن يتحقق من خلال
البحث والدرس، وهذا لا يحتاج إلى نزاع ومواجهة، بل تلك الأمانة كانت الحكومة على
قلوب عباد الله. ولهذا فإن موسى(ع) وأثناء طلبه استرداد عباد الله يدل على نفسه
بأنه أمين؛ لقد كان موسى(ع) يريد من خلال إدارة الشؤون الاجتماعية للناس أن يحفظ
أفكارهم ونفوسهم وأرواحهم وقلوبهم، وكان أميناً في سعيه لإيصالهم إلى لقاء الله.
لو أدرك الناس لقاء الله الذي هو ثمرة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ولو لم يبقوا غافلين عن السير في ملكوت السماوات والأرض الذي لا
يتحقق إلا بقيادة الأنبياء وهدايتهم، لما خضعوا لولاية الطواغيت المضللين وحكمهم.
فما أدى إلى إطاعة غير الله هو استخفافهم نتيجة الأفكار والوعود التي كان يعطيهم
إياها الفراعنة.
في سورة الكهف وبعد بيان التقاء النبي موسى بالخضر(ع)، يجيب الخضر(ع) عن سؤال
موسى(ع)، في شأن ما جرى على تلك السفينة التي خرقها:
{أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ
كل سفينة غصباً}(الكهف:79).
إن هذه الآية لا تظهر خصائص سلطنة الطواغيت من غصب وسائل رزق المساكين والمحرومين
فقط، بل تبين نهج أولياء الله وسيرتهم في حفظ وحراسة أموال المحرومين.
وأيضاً ما جاء في الآيات التالية من نماذج أخرى لسيرة الأنبياء:
{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما
صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري}
كانت تلك بعض الآيات التي تذكر أساليب عديدة للطواغيت في تعاملهم مع المحرومين
مقابل نهج الأولياء الإلهيين.