مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ولاية الفقيه

الدرس الرابع: ضرورة عصمة أولي الأمر

لقد اتضح جيداً من خلال الأدلة العقلية والنقلية المعتمدة على البرهان والآيات القرآنية، أنه لا حق لأحد بالحكومة على الناس إلا الذات الإلهية المقدسة. وهذا الحصر بالولاية الإلهية يقودنا إلى الاستنتاج بأن المؤهل الوحيد من بين الناس للحكومة ينبغي أن يكون معصوماً، لأن المعصوم هو الإنسان الذي تكفل الله به في كافة شؤونه العلمية والعملية؛ فما يفهمه من مسائل علمية هو علم الله وما يؤديه من مسائل عملية هو فعل الله ومن يستند في كل ما يفهمه وفي كل ما يقوم به إلى الله تعالى تكن حاكميته هي الحاكمية الإلهية.
وتؤيد الآيات القرآنية هذا الاستدلال العقلي على ضرورة عصمة ولاة أمور المسلمين؛ ففي الآية 59 من سورة النساء يقول تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً}
وقد مر في الأبحاث السابقة أن لهذه الآية ثلاثة أقسام؛ ففي قسمها الأول يأتي الحديث عن ثلاث جهات من الذين ينبغي طاعتهم: الله تعالى، والرسول الأكرم(ص)، وأولو الأمر. وفي القسم الثاني يأتي الحديث عن مرجعية الله ورسوله. وفي القسم الثالث ينحصر الحديث في التوحيد ورجوع الإنسان إلى الله عز وجل. وهذا إنما يدل على عودة ذلك التثليث وتلك التثنية في الحقيقة إلى التوحيد في العبادة والطاعة؛ فكل طاعة للرسول أو أولي الأمر إنما تعود إلى طاعة الله سبحانه.
وأما ما يدل على عصمة أولي الأمر في هذه الآية المباركة، فهو الأمر بطاعتهم الذي صدر بصورة مطلقة وبدون تقييد، فلو لم يكن ولي أمر الأمة معصوماً أو لو احتمل خطؤه في القول أو الفعل ـ حتى لو كانت عدالته محرزة ـ لا يمكن طاعته مطلقاً؛ لأن العدالة مانعة من الوقوع في المعصية عن عمد، لكنها لا تمنع من السهو والنسيان، والشخص الذي يحتمل الخطأ العلمي أو العملي في عمله، لابد من قياس فعله وقوله بالميزان العلمي والعملي. وفي هذه الصورة لا يكون هذا الإنسان مطاعاً بالمطلق، بل المطاع مطلقاً هو ذلك الذي أصبح قوله وفعله ميزاناً بحد ذاته.
هذا الميزان لا يمكن أن يكون القرآن فقط؛ فألفاظ القرآن وظواهره ليست إلا سواداً على بياض، ويمكن أن تصبح معرضاً لتنوع آراء الناس وأهوائهم فتطبق على أساس تصوراتهم المختلفة، بل الميزان هو القرآن الناطق، الإنسان الذي أدرك حقائق القرآن، فصارت سيرته: أقواله وأفعاله، حركاته وسكناته، ساحةً تعرض عليها آراء الآخرين وأفعالهم.
والشخص الوحيد الذي يمتلك هذه الخاصية هو المعصوم، الذي يمكن أن يكون مطاعاً على الاطلاق. لذا كانت الطاعة المطلقة للنبي الأكرم(ص) والأئمة المعصومين(ع) من جهة عصمتهم، وإن كانت عصمتهم، في ظل العصمة الأصيلة والذاتية لحضرة الحق تعالى عصمة بالتبع والعرض.

معنى عرض أخبار الأئمة(ع) على القرآن
يمكن أن يبرز هذا الاشكال في الذهن، وهو أنه لو كان أولو الأمر أنفسهم ميزاناً للفكر والعمل، ممّا يترتب عليه الطاعة المطلقة أهم بنحو اللزوم والضرورة، فما هو سبب عرض أخبار الأئمة(ع) على القرآن المجيد؟
إن منشأ هذا الاشكال هو تلك النصوص الكثيرة في باب حجية الخبر الواحد، وأيضاً في باب ترجيح رواية واحدة من متعارضتين. وجواب هذه الشبهة: هو أن عرض روايات المعصومين عليهم السلام على القرآن هو لأجل إثبات كلام الإمام وتحديد أصل صدوره. فإذا لم نشك في صدور رواية ما عن الإمام(ع) ولم نحتمل أن سبب صدورها هو وجود التقية، فلا لزوم لعرض كلامه وقياسه على الكتاب الشريف، لأن القرآن ميزان وكذلك المعصوم. ولو كان أحدهما ميزاناً فقط، والآخر يوزن به ويقاس عليه لكان الميزان هو الأصل والآخر فرع له. ولأن الفرع لا يوازي الأصل ـ فعند حضور الأصل لا يتدخل الفرع ـ فيلزم التفكيك بينهما، والحال أن القرآن وسنة المعصومين(ع) ثقلان لا يتصور الانفصال بينهما.
قال رسول الله(ص) بشأن هذين الثقلين:
"إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
إذاً، كل ما ورد بشأن عرض الأخبار على القرآن مرتبط بمقام الإثبات لأنهما (القرآن والعترة) في مقام الثبوت: ميزان واحد، وإن تكثّر في نشأة عالم الطبيعة هذا النور الواحد في القرآن وهو الثقل الأكبر، وفي الإمام المعصوم وهو الثقل الأصغر.
والاختلاف الذي ظهر في عالم الطبيعة بين هذين الثقلين هو الذي أدى إلى علوّ وتفاضل أحدهما على الآخر من هذه الجهة. وبسبب هذا التفاضل الجسماني، يقوم أحدهما ـ أي الإمام ـ بحفظ الآخر الذي هو القرآن والثقل الأكبر. وفي هذا المسير يبذل الإمام (الثقل الأصغر) قصارى جهده وهمته حتى لو كان يؤدي ذلك إلى أن يضحّي ببدنه (لا بروحه) فداء للثقل الأكبر، لأن ما يفتدى في الجهاد هو البدن، وإلاّ فإن الروح أمر أبدي. وعن هذه الأبدية تحكي الآية الشريفة:
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}(آل عمران:169).
هذا لأن ما يقدّمه الشهيد يقع في حدود الجسم، أما الذي يقدّم روحه فهو من الأموات.
ونتيجة الكلام، أن الذي يعرف الحق كميزان، لابد أن يعرف حقانية القرآن وحقانية الإمام. ومن وصل إلى هذا المقام، فإنه لن يقع في الشك والتردد مهما واجه من مخالفين ولن يسأل إمامه المعصوم عن حقانيته. وكما ورد في جواب أمير المؤمنين عليه السلام لسائل سأله عن الأعداء: أيكون كل هؤلاء على باطل، فقال له: اعرف الحق تعرف أهله.
الحق بالذات هو الله سبحانه، وتلك الحقوق التي نجدها في عالم الإمكان تكون من الله تعالى؛ فالحق من الله، ويكون المعصوم مع هذا الحق. ومن هنا جاء الفرق ما بين هذا القول: {الحق من ربك}(البقرة:147)، وقول "عليّ مع الحق والحق مع عليّ، يدور معه حيثما دار"؛ لأن الله الذي ليس كمثله شيء لا يمكن أن يكون معه أحد، فالكل من الله. أما المقصود من الكلام "الحق مع عليّ وعليّ مع الحق" فهو أن الذي يعرف الحق سوف يعرف عليّاً.

سهو النبي(ص)، وبطلانه
إن البرهانين (العقلي والنقلي) اللذين بيّناهما على ضرورة عصمة ولاة الأمر ومن ينبغي طاعتهم بصورة مطلقة لا يدلان فقط على عصمة الأئمة المعصومين عليهم السلام، بل يثبتان أيضاً ضرورة عصمة الأنبياء العظام عليهم السلام؛ فالأنبياء أيضاً يقومون بإدارة المجتمع البشري، ولذلك فإن أوامرهم مطاعة بناء على ذلك الدليل العقلي، وبما أن الله هو الوحيد صاحب الحق في الولاية على الناس، فإن الآخرين يستطيعون أن يجروا هذه الولاية بدليل عصمتهم، لأن علمهم مطابق للعمل والعلم الإلهيين.
وبناء على الدليل النقلي أيضاً، فإن أمر الأنبياء واجب الاتباع بنحو الإطلاق؛ والحال أنه لو احتُمل الخطأ في علم النبي وعمله، فإن طاعته طبق ذلك الأصل الكلي "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" تصبح مقيّدة ومرتبطة بميزان آخر يكون هو مقياساً للحق والباطل. لأن هذه الرواية "لا طاعة لمخلوق" المجمع عليها المرويّة عن الرسول الأكرم(ص) حاكمة على الكثير من الاطلاقات والتعميمات.
وبمفاد هذا الأصل الكلي، فإنه على رغم الأمر بطاعة الوالدين، كما جاء في الآيات الكريمة: {أن أشكر لي ولوالديك}(لقمان:14)، أو {وصاحبهما في الدنيا معروفاً}(لقمان:15)، فإن النهي بعدم طاعتهما يصدر عندما:
{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها}(لقمان:15).
ولكن بإثبات ضرورة عصمة الأنبياء يعلم بطلان الاعتقاد بسهو النبي(ص)، ويعلم أيضاً أن ما صدر من روايات في هذا الباب إنما كان على أساس التقية، وإلا فإن الله تعالى قد صان نبيّه عن السهو والنسيان: {سنقرئك فلا تنسى}(الأعلى:6).
وقال الرسول الأكرم(ص): "قرّة عيني في الصلاة".
فكيف يمكن لمن يرى الصلاة نور عينه، أو لمن فرغ عن الحق فينتزع السهم من رجله أثناء الصلاة فلا يحسّ بالألم، أن يخطئ في ركعات الصلاة ويسلم في الركعة الثانية بدلاً من الرابعة، أو يوصلها إلى الركعة الخامسة؟!(راجع من لا يحضره الفقيه، ج1).

تعيين المعصوم من قبل الله تعالى
ما ظهر من ضرورة عصمة أولي الأمر، يعلم منه أيضاً ضرورة تعيينهم من قبل الله سبحانه، لأن العصمة ملكة نفسانية مستترة (خفية) لا يستطيع أحد الاطلاع عليها إلا الله، ولهذا فنحن لا نقدر على معرفة أولي الأمر إلا بالنص الإلهي.
ولقد تصور البعض من تطبيق (الأمانة) على الإمامة في الآية الكريمة {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}(النساء:58)، أن الإمام يتم انتخابه، وبدليل هذا الانتخاب يصبح الإمام وكيلاً عن الناس.
وجواب هذا التوهّم: أن (الأمانات)، حيث جمعت بالألف والتاء، تشمل جميع أنواع الأمانات وهي أعم من الأمانات المالية والعلمية والحكومية و... وغاية الأمر أن الأمانة لو كانت أمانة مالية وأمثالها، فإن الأمر بردّها يشمل جميع الناس، لأن الجميع مكلفون بأداء الأمانة، أما الأمانة إذا كانت أمانة خاصة (كالإمامة) ففي هذه الصورة يشمل ردّها أولئك الذين في أيديهم هذه الأمانة وهم الأنبياء وأولو الأمر والأئمة المتعهدون بالولاية على الناس.
فإذا كان المقصود من الأمانة الأمانة العامة، فإن ضمير الجمع في كلمة {يأمركم} وكذلك الضمير المستتر (أنتم) في كلمة {تؤدوا} يكون في مقام الخطاب لجميع الناس، وإذا كان المقصود منها الأمانة الخاصة، وهي الإمامة، ففي هذه الصورة يكون هذان الضميران في مقام الخطاب لجميع الأنبياء والأولياء المسؤولين عن هذه الأمانة.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية