مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ولاية الفقيه

الدرس الخامس:الولاية التشريعية والولاية بمعنى الحكومة

عرفنا من الأبحاث الماضية أن الولاية تنحصر بالله تبارك وتعالى، ومن جملة الآيات التي تدل على هذا الحصر، الآية الكريمة:
{إن الحكم إلا لله}(الأنعام:57).
وأيضاً الآية الشريفة:
{فالله هو الوليّ}(الشورى:9).
وتبين أيضاً أنه في الوقت الذي تختص الولاية بالله سبحانه، يأتي الحديث في القرآن الكريم عن ولاة وحكام آخرين، كما جاء في هذه الآية {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}(المائدة:55).
وأيضاً:
{فما يكذّبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين}(التين:7ـ8).
{وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}(الأعراف:87).
وفي كيفية جمع هذه الآيات، أشرنا في الأبحاث السابقة إلى أن تعبير (خير الحاكمين) أو (أحكم الحاكمين) وإن كان يحكي عن حاكميات متعددة وكثيرة، لكن هذه الحاكميات، إذا كانت قائمة على أساس العدل والقسط، فإنها جميعاً مظاهر حكومة الحق وترجع إلى حاكمية الله تبارك وتعالى. أما إذا كانت حكومة جور فإنها ـ بدليل اختصاص حق الحاكمية بالله ـ حكومات غاصبة وغير شرعية، ولهذا ذكرت في مقام نفي الحكومات غير الإلهية، من قبيل هذه الآية:
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(المائدة:44).
أو الآية الكريمة الأخرى التي تحكي عن ظلمهم:
{... فأولئك هم الظالمون}(المائدة:45).
وأيضاً:
{... فأولئك هم الفاسقون}(المائدة:47).
ومن الآيات الأخرى التي وردت في باب حاكمية الله سبحانه، الآية 59 من سورة النساء:
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}
وكما فصّلنا سابقاً؛ فالحديث وإن كان في البداية عن التثليث في القيادة، لكن وبدون فصل يمر هذا التثليث بالتثنية لينتهي بعد ذلك إلى التوحيد في القيادة. وما نحن بصدد توضيحه هو تلك الدلالة في هذه الآية على وجود سنخين (صنفين) للطاعة؛ ففي صدر الآية في العبارة الشريفة {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} تكرر الأمر بالطاعة {أطيعوا}، وهذا يدل على أن طاعة الله ليست من سنخ طاعة الرسول وأولي الأمر؛ فلو كانتا من سنخ واحد لما لزم تكرارهما. وعدم تكرار الأمر بالطاعة عند {أولي الأمر} يدل على أنها من سنخ طاعة الرسول.
ويعلم من هذا البيان أن طاعة الرسول وأولي الأمر من سنخ واحد، وطاعة الله سبحانه من سنخ آخر. وتوضيحه: أن للرسول في الواقع سمتين: الأولى هي الرسالة، والثانية هي الولاية؛ ففي الجهة الأولى تكليف بإبلاغ الرسالة، فالطاعة هنا في الواقع طاعة لله، لأن ما بلّغه صلى الله عليه وآله ليس شيئاً آخر غير الحكم الإلهي. أما من تلك الجهة التي هو ولي المسلمين، في مقام إجراء الأحكام الإلهية يبين أوامر ونواهي ومقررات خاصة يجب على الجميع اتباعها. والتفاوت بين سنخ طاعة هذه التعاليم وإطاعة التعاليم السابقة هو ذلك الأمر الذي أدى إلى تكرار كلمة (أطيعوا)، وأما ذكر (أولي الأمر) إلى جانب (الرسول) وعطفها على بعضها فهو دليل على ولايتهم وقيادتهم لأمور المسلمين. كما أن الأمر بطاعتهم المطلقة كما بيّنا سابقاً دليل على عصمتهم ومصونيتهم عن الخطأ.
إذاً، ما يفهم من هذه الآية هي تلك الولاية التي للرسول الأكرم(ص) والمعصومين(ع)، حيث إن قسماً منها هو الولاية مباشرة، وأما القسم الآخر الذي هو بحسب الظاهر الولاية فهو بحسب الواقع ليس شيئاً آخر غير الإبلاغ الذي هو مقتضى الرسالة، لأن روح الولاية التشريعية للأنبياء والأئمة(ع) يرجع إلى (ولاية التشريع). والدليل على هذا المطلب ما مر في الأبحاث الأولى للولاية، ومختصره: كما أننا لا نمتلك الإرادة التشريعية كذلك ليس لدينا ولاية تشريعية؛ فما هو موجود إرادة التشريع والولاية على التشريع، والولاية على التشريع تعود إلى النبوة والرسالة.
لأن النبي إذا حصل على حق التقنين والتشريع، فهذا لا يعني أن التقنين مثل بقية شؤون الحياة العادية في اختياره، بل بمعنى أنه قد حصل على هذه القوانين بالوحي والإلهام وهو يبلغها، لكن هذا الإبلاغ تارة يكون بصورة القرآن وتارةً بصورة الحديث القدسي؛ في الصورة الأولى يكون الأمر وحياً و(فرض الله)، وفي الصورة الثانية يكون (فرض الله)، وفي كلتا الصورتين فإن النبي يبين الحكم التشريعي ولا يؤدي عملاً آخر غير الرسالة والنبوة؛ بمعنى أنه لا يزيد شيئاً من عنده ولا ينقص، فهو يبلغ فقط ما أوحاه إليه الولي على التشريع.
وتشهد على هذه العصمة للنبي(ص) في التبليغ الآية الكريمة:
{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}(النجم:3ـ4).
وقد بيّنا سابقاً أن المراد من النطق في هذه الآية ليس خصوص القول، بل يشمل سيرة النبي التي تجمع القول والفعل والتقرير. وأما سر استعمال النطق في التعبير عن السيرة فذلك لأنه أبرز الآثار الإنسانية.
ونظير هذه المسألة مفاد الآية الكريمة في السورة المباركة (ق) حيث يقول تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}(18).
فما يواظب الملاك المراقب على ضبطه ليس قول الإنسان فقط، وإنما جميع التصرفات، وإن كان قد استعمل نطق الإنسان في هذه الآية للدلالة على ما يكتبه الملاك.
فولاية الأنبياء التشريعية ليست عملاً منفصلاً عن رسالتهم، بل هي عين رسالتهم ونبوتهم.

حدود الولاية بمعنى الحكومة
بعد بيان الاختلاف بين الولاية التشريعية والولاية بمعنى الحكومة، وبعد معرفة أن الأمر بالطاعة في الآية الكريمة {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} يتوجه في البداية إلى الولاية التشريعية ثم إلى الولاية بمعنى الحكومة والقيادة، يطرح سؤال عن حدود ولاية الأنبياء وأئمة الهدى عليهم السلام؛ لأنه مع خروج الولاية التشريعية، فإن جميع الأحكام التشريعية المتوجهة إلى الأفعال الإنسانية تخرج عن حدود الولاية بمعناها الأخير.
وجواب هذا السؤال هو أن ولاية الأنبياء والأولياء تقع ضمن حدود إجراء القوانين الكلّية وتطبيق تلك القوانين على الأمور الجزئية وتنصيب المنفذين للقوانين، وهذا ما يعبر عنه بالحكومة والقيادة.
فحدود الولاية بمعنى الحكومة تقع ضمن دائرة التطبيق ولا تتدخل أصل وضع القوانين؛ لأن التقنين هو الولاية على التشريع، وهي مختصة بالله تعالى، ويعود إبلاغها إلى الرسالة. أما إجراء هذه القوانين والأحكام وتطبيقها فهو يعود إلى الحكومة؛ من قبيل تعيين أئمة الجمعة والجماعة، وجباة الزكاة، وبعث الجيوش للدفاع عن حريم الحكومة، ومراقبة العلاقات والأعمال الخارجية والداخلية، ومئات البرامج الإجرائية الأخرى في المجالات العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية.
وبالطبع فإن تعيين الحاكم والولي على هذه الأمور هو حق الله تبارك وتعالى، كما أن قبول هذه الصفة يقع على عاتق الذي يُعيَّن كولي للأمور.

حكم الحكومة والحكم الثانوي
ذكرنا أن الولاية بمعنى الحكومة هي حكم إلهي، وأن حق إثباتها لأفراد معينين مختص بالله سبحانه وتعالى، شأنها في ذلك شأن بقية الأحكام؛ فكما أن الله قد وضع حكم الوجوب على عناوين محددة، كالصلاة والصوم والحج، كذلك فإنه جعل سمة الولاية والحكومة لأشخاص محددين. وبالطبع فإن هذا الجعل يكون أحياناً بنحو خاص، مثل النبوة والإمامة، وأحياناً بنحو عام، مثل ولاية الأب والجد أو ولاية الوصي.
وجعل الولاية في جميع الموارد حكم شرعي أولي، لأن الحكم الثانوي حكم شرعي يعرض على موارد خاصة كانت محكومة بحكم سابق، مثل جواز أكل الميتة عند الضرورة: {فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه}(البقرة:173). أما قضية الولاية فإنها حكم أولي. وكمثال، نأخذ ولاية الأب على أولاده، فلم يكن لدى الأب حكم آخر قبل أن يأتي حكم ثانوي جديد بعنوان الولاية، بل إن الأبوة من البداية جعلت له الحق بالولاية.
وحكومة الحاكم أيضاً مثل ولاية الأب والجد حكم أولي؛ فالاختلاف من بين ولاية الحاكم على المجتمع والولايات المجعولة للأفراد الآخرين هو في دائرة وحجم هذه الولايات، مثل دائرة ولاية الأب والجد التي تقع ضمن مصالح الابن الصغير أو دائرة ولاية الأب على الابنة البالغة في خصوص الزواج وأمثاله.
أما حدود ولاية النبي والأئمة المعصومين عليهم السلام فهي حفظ مصالح الإسلام والمسلمين، لأنهم(ع) أولياء الإسلام وأولياء المسلمين.
الإسلام الذي هو عبارة عن مجموعة القوانين والأحكام قد تمّ في يوم الغدير بعد تشريع وتعيين الولاية، وهناك لم يعد للتخصيص العام أو التقييد المطلق أو النسخ مكان في الحكم؛ فلا زيادة على الواجبات والمحرمات والمكروهات والمستحبات أو المباحات ولا نقصان. وإذا قام الأئمة عليهم السلام بعدها بالتقييد والتخصيص، فذلك من باب وراثة الرسالة وتبيين الأحكام الصادرة، وإلا ففي حدود القوانين الإلهية لا يوجد مجال لزيادة مستحب ولا نقصان مكروه.
إن حفظ مصالح الإسلام والمسلمين، بمعنى حراسة القوانين المذكورة، هو في حدود العمل والتنفيذ؛ فأحكام الإسلام الواسعة ما دامت عبارة عن قوانين مدوّنة وموجودة بالوجود اللفظي أو الكتبي فلن تتعرض لأي مزاحم أو مانع، ولكن في مقام التنفيذ، وحيث إن هذا العالَم عالَم التضاد والتزاحم، فسوف تتعرض للتزاحم أيضاً. ولهذا فإن تكليف ولي المسلمين هو القضاء، أثناء الدفاع عن الأحكام الإسلامية، في التزاحم الذي ينشأ أثناء إجراء الأحكام الإلهية، على أساس المعرفة التي يمتلكها في مجموع القوانين الإسلامية، والحكم في النهاية بترجيح الأهم على المهم وتنفيذه.
وترجيح الأهم على المهم لا يعني التخصيص والتقييد ولا النسخ والتبديل في الحكم، (لأن كل هذه الأمور تعود إلى إثبات أصل الحكم في مقام الاستظهار من الأدلة)، بل هو ناظر إلى مقام إجراء الأحكام الثابتة كقاعدة وضابطة عامة، تكون رعايتها ضرورية لأجل حفظ القوانين الإلهية التي لا تتغير في جميع المسائل ومن بينها المسائل الشخصية.
ومثاله: وجوب إنقاذ الغريق وحرمة العبور من ملك الغير؛ فهما حكمان شرعيان يتزاحمان في بعض الأحيان، فالعمل بأحدهما يستلزم ترك الآخر، وهنا لا خيار سوى التضحية بالمهم وإنجاز الأهم. ولكن هذا الأمر لا يعني إطلاقاً تبديل الحكم الكلي وتغييره، فالمرور على أرض الغير لنجاة الغريق ليس ملازماً لرفع حرمة الغصب، لأن حكم الحرمة ما زال موجوداً، وإن لم يستلزم العقاب على ذلك الفعل مع وجود الشرط.
وفي المسائل الاجتماعية لا يحق للحاكم أن يزيد أو ينقص أي شيء من القوانين الإلهية، وعليه أن يسلّم مقابل كافة الأحكام. أما تكليفه كولي وأمين في مقام إجراء القوانين فهو عند التزاحم ما بين الأهم والمهم، وخاصة عندما يوجد مزاحم لأصل النظام الإسلامي، فعليه أن يؤدي الأهم ويمنع المهم ما دام التزاحم موجوداً. لهذا فإن الحاكم والولي على المجتمع عندما يحكم بوجوب أداء الأهم، لا يكون متميزاً عن باقي أفراد المجتمع في الامتثال لذلك الحكم. وهذا دليل على أن النظام الإسلامي هو الحاكم فوق كل الأفراد.

الأحكام التشريعية والحكومية وحدود الثبات والتغيّر
للإنسان شأنان: أحدهما ثابت، والآخر متغير. فالشأن الثابت يرجع إلى فطرة التوحيد والروح المجردة عن المادة والتي هي فوق حدود الماضي والمستقبل؛ {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}(الروم:30).
والقوانين التي تتعلق بهذا الشأن قوانين ثابتة لا تقبل التغيير.
أما الشأن المتغير عند الإنسان فهو المتعلق ببدنه الأرضي والزمني؛ فالعادات والسنن المختلفة التي نجدها بين الناس في البلدان العديدة أو في الأزمنة المتفاوتة هي التي ترتبط بهذا الشأن المتغير.
أما تلك القوانين التي ترتبط بالفطرة الإنسانية فهي القوانين التشريعية التي لا تتبدل في أية حالة، ومن قبل أي إنسان: "حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة".(الكافي، كتاب فضل العلم).
وأما تلك القوانين المسؤولة عن إدارة علاقات الإنسان بالطبيعة فتعود إلى كيفية تطبيق الأحكام الثابتة والدائمة؛ لأنّ شروط مواجهة الأعداء تقع في مورد التطبيق الذي تظهر فيه التزاحمات.
والحلقة الرابطة في تطبيق تلك القوانين الأبدية على الظروف الاجتماعية المتغيرة هي الولاية بمعنى الحكومة والقيادة، والتي جُعلت بالإرادة التشريعية لولي التشريع.
وكما أشرنا سابقاً، فإن جعل الحاكمية لأولياء المجتمع الإسلامي هو حكم إلهي أوّلي كعجل الولاية للأب: هو حكم إلهي أولي.
فالحاكم الإسلامي ينهض ـ ببركة هذا الحكم الإلهي ـ لتطبيق القوانين الإسلامية وإجراء الأحكام الإلهية الثابتة في المجالات الاجتماعية المختلفة بما يشمل المسائل الاقتصادية كالثروات الطبيعة، الغابات، المعادن، البحار... والمسائل السياسية مثل تنظيم العلاقات الدولية، والمسائل العسكرية من قبيل مواجهة المعتدين وتجهيز الجيوش.
ولا يوجد شك ـ في هذا المقام ـ في أن أداء مثل هذه الأمور سوف يصطدم بتزاحم المهم مع الأهم، مما يتطلب تقديم الأهم بدون أن يكون هناك تقييد أو تخصيص أو نسخ أو تبديل.
فالحاكم الإسلامي يصدر الأوامر والنواهي المختلفة والمتغيرة لأجل تطبيق الأحكام الإلهية بناءً على المقتضيات الاجتماعية، وهذه الأوامر هي التي تنطلق من الحكم الإلهي الأولي الدائر بوجوب إطاعة أوامر أولي الأمر.
 

السابق

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية