مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ولاية الأمر

اصالة الحاكمية والسيادة في هذا الدين

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)
1ـ اصالة الحاكمية في العقيدة الإسلامية
هناك حقيقة فريدة في القرآن المكي والقرآن المدني على نحو سواء، يتولى القرآن المكي الجانب الاعتقادي منها يرسخها، ويتكفل القرآن المدني بالجانب العملي والتنفيذي منها وتلك الحقيقة هي حاكمية الله تعالى في حياة الإنسان... وتقوم هذه الحاكمية على تجريد الآخرين من السلاطين والحكام والآلهة من حق الولاية والحكم وتقرير المصير في حياة الناس.
وهذان وجهان لقضية واحدة.
ومن أعجب الأمور أن هذه الحقيقة بوجهيها كانت تملأ مشاعر المسلمين في نشأة هذا الدين الأولى، وكانت أول ما يستثير انتباه أعداء هذا الدين، وهي أكثر شيء في هذا الدين كلف الإسلام المسلمين جهد المواجهة ومعاناة الصبر على تحديات الأعداء.
ورغم ذلك كله فان هذه الحقيقة لا تملك اليوم نفوس المسلمين ذلك الوضوح والاشراق.
أن مفهوم (لا إله إلاّ الله) من أوضح المفاهيم في الإسلام، وأكثرها بداهة، وفي نفس الوقت من أكثر المفاهيم التي لابسها الغموض واصابها التعتيم الفكري والثقافي خلال تاريخنا المعاصر.
فان مدلول هذه الكلمة هو تجريد الآلهة من غير الله تعالى من كل سلطان، وسيادة وولاية، وحاكمية في حياة الإنسان، وحصر الولاية والسلطان والحاكمية في الله تعالى.
ولا نستطيع أن نفهم هذا (التجريد) و(الحصر) في كلمة (لا إله إلاّ الله إلاّ من خلال دراسة التصور الجاهلي للآلهة ودراسة الفهم القرآني للإلهة.
ولما كان القرآن يطرح كلا التصورين فان بامكاننا ان نرجع الى القرآن الكريم في رسم كل من هاتين الصورتين: صورة (الإلة) في الذهنية الجاهلية وصورة (الإله) في التصور القرآني.
ولنبدأ برسم صورة الإله في الذهنية الجاهلية.
التصور الجاهلي للإله:
يقول تعالى في تصوير التصورات الجاهلية عن (الإله):
(وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)[1].
(وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ)[2].
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ20 أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ21 إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد)[3].
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[4].
(اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إلَه إِلاَّ هُوَ)[5].
(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ)[6].
هناك مجموعة من النقاط نستطيع ان نستخرجها من هذه الاضبارة من الآيات المباركات التي تعكس لنا التصور الجاهلي لـ(الإله):
1 ـ كان الناس في الجاهلية يعتقدون أن هذه الآلهة لها درجة من النفوذ والسلطان في هذا الكون، ولذلك كانوا يدعونها حين الضر والبأس، فهي تحسن وتسئ، ولها سلطان ونفوذ في الإسائة والإحسان الى الناس.
(إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ)[7].
ومن رد القرآن لهم نكتشف أنهم كانوا يعتقدون أن هذه الآلهة تضر وتنفع.
(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ)[8].
2 ـ كان الناس يلجأون اليهم ويطلبون منهم النصر والعز.
3 ـ يحكمون في حياة الناس، ويشرعون لهم، ويامرون وينهون، وينفذون امرهم ونهيهم في الناس.
4 ـ وكانوا يعتقدون أن الله تعالى هو القاهر لعباده فوق هذه الآلهة، وكانوا لا ينفون وجود الله تعالى، وانما يسلبون الله تعالى سلطانه وولايته وحاكميته في حياة الناس ويمنحونها لآلهتم.
وملاك هذه الأمور الأربعة جميعاً هو أن هذه الآلهة تشارك الله تعالى في سطانه وقيمومته على هذا الكون، وفي نفوذه وقدرته، وانها تملك في حياة الناس السيادة والولاية والحكم والسلطان.
ذلك باجمال شديد التصور الجاهلي للإله.
التصور الإسلامي لـ(الإله):
وننتقل الآن الى الصورة الثانية لـ (الإله) التي يعكسها القرآن الكريم.
ان القرآن ينفي هذه الآلهة جميعاً، ويجردها عن الخلق والتدبير والأمر ويحصر ذلك كله في الله تعالى.
ويعتمد هذا (التجريد) و(الحصر) في كلمة التوحيد في القرآن على اصول منطقية، بعضها يمسك ببعض.. وهي جميعاً تؤدي الى غاية واحدة، وهذه الاصول، كما يرسمها القرآن هي:
1 ـ ان الخلق كله لله تعالى، وليس لله تعالى شريك في الخلق.
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)[9].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)[10]
2ـ ولله تعالى تدبير هذا الكون وهو المهيمن عليه، ولا يشاركه في ذلك احد؛
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)[11]
(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)[12].
3 ـ والله تعالى، وحده يعلم بما في الكون، ولا تخفى عليه خافية في الجو والبر والبحر.
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[13].
ولا شك أن العالم شرط الهيمنة والسلطان على الكون.
وهذه الاصول الثلاثة: توحيد الخلق، والتدبير، والعلم في الكون، تؤدي الى نقتطين هامتين:
1 ـ توحيد الملك: فالكون كله ملك لله تعالى، ولا يشاركه في هذا الملك أحد. فهو المالك يفعل ما يشاء، ولا يسأل عمّا يفعل.
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[14].
(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[15].
2ـ توحيد الحاكمية والأمر والسلطان في حياة الناس.
(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)[16]
(لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[17].
(أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[18].
(قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)[19].
3 ـ ونتيجة ذلك كله توحيد الطاعة والتقوى والانقياد لله تعالى
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)[20].
2 ـ اصالة الحاكمية في الفقه الإسلامي
خصائص الفقه الإسلامي
تحدثنا فيما سبق عن أصالة الحاكمية في العقيدة، ونتبع هذا الحديث بالحديث عن أصالة الحاكمية في الفقه الإسلامي.
والفقه الإسلامي فرع للعقيدة. والخصلة المتأصلة في العقيدة متأصلة في الفقه ايضاً، وبنفس الدرجة من القوة، وصفة الولاية والسيادة والحاكمية البارزة في العقيدة بارزة في الفقه ايضا، ولا يمكن ان ينفصل هذا الفقه في خصائصه عن العقيدة التي تشكل جذوره واصوله.
وها نحن نتحدث عن أهم خصائص الفقه الإسلامي التي تصب في هذا الشأن (مبدا الحاكمية والولاية):
1 ـ شمولية الفقه:
ان نظرة سريعة الى تصنيف أبواب الفقه الإسلامي ومسائله تكشف لنا عن حقيقة هامة في هذا الفقه، وهي صفة الشمولية في هذا الفقه، والتي تغطي كل حاجات الإنسان، وتنظيم كل علاقاته بالله تعالى، وبالدولة وبالمجتمع، بأسرته، وبالأشياء، وبنفسه، ولا تترك مساحة من مساحات الإنسان الشاسعة من دون تغطية فقهية.
فان هذا الفقه يتناول علاقة الإنسان بالله تعالى بصورة شاملة وواسعة في (ابواب العبادات)، ويقوم بدور واسع في تنظيم علاقة الإنسان بالمجتمع وبالدولة.
وهذا باب واسع من الفقه، ثم يتناول علاقة الإنسان باسرته وينظم هذه العلاقة في شؤون الزواج والطلاق والنفقة والميراث والوصاية وهي ما يسمى اليوم بـ(الأحوال الشخصية).
ويتناول الأحكام المتعلقة بتعامل الناس بعضهم مع بعض في الاموال والحقوق، والتي تسمى بالمعاملات او (الاحكام المدنية).
ويتناول الاحكام المتعلقة بعلاقة الأمة بالحكام، وسلطان الحاكم على الرعية ويسمها الفقهاء بـ(الاحكام السلطانية)، وهذه الطائفة من الاحكام تتناول (القانون الاداري)و(النظام المالي) و(الحقوق الدستورية) في التصنيف القانوني الحديث.
ويتناول شؤون الرقابة الاجتماعية في الدولة ويسمى (الأمر بالمعروف)و(نظام الحسبة)ويتناول فصل المرافعات والخلافات التي تقع بين الناس وتحديد العقوبات المتعلقة بعقوبة المجرمين، وضبط وحراسة النظام الداخلي بين الناس، ويسمى هذا الباب بـ(القضاء) و(قانون العقوبات والجزاء). ويتناول فقه الأحكام التي تنظم علاقة الدولة الإسلامية بسائر الدول في شؤون (الحرب)و(السلم) ويسمى بـ(القانون الدولي).
فالفقه الإسلامي إذن فقه شامل يستوعب شؤون حياة الإنسان جميعاً وفي هذا الفقه من المرونة ما يجعله صالحاً لكل زمان ومكان.
وقد ورد في الحديث عن ابي جعفر الباقر عليه السلام (ان الله تبارك وتعالى ـ لم يدع شيئاً تحتاج اليه الأمة إلاّ أنزله في كتابه وبينه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعل لكل شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدّى لذلك الحد حدّاً)[21].
وعن ابي عبد الله الصادق عليه السلام : (ما من شيء إلاّ وفيه كتاب او سنّة)[22].
وعن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، فقال: (ايها الناس، والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه)[23].
وقد عقد الكليني (رحمه الله) في اصول الكافي باباً سماه(باب الرد الى الكتاب والسنة)، وأنه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس اليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب او سنّة.
2ـ الصفة الاجتماعية في الفقه:
ومن خصائص هذا الفقه الصبغة الاجتماعية البارزة فيه، فهو يعطي اهتماماً كبيراً بشؤون الحياة الاجتماعية، في دائرة اوسع من دائرة العلاقات الشخصية والعائلية، وحتى الاحكام التي تخص علاقة الفرد بالله تعالى كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والخمس(العبادات)، فانها مطبوعة بشكل واضح بطابع الحياة الاجتماعية فان اقامة الصلاة جماعة واقامة صلاة الجمعة، وتوقيت صيام المسلمين جميعاً في وقت واحد، وافطارهم في وقت واحد، وتحديد مصارف الخمس والزكاة في حاجات فقراء المسلمين.. والأمر باقامة الحج كل سنة لجميع المسلمين في نقطة واحدة من الأرض كل ذلك يؤكد هذه الصبغة الاجتماعية في الفقه.
3 ـ الخطابات الشرعية الموجهة الى المجتمع:
الاحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة على طائفتين متميزتين طائفة منها تتعلق بالفرد اوالافراد، ومحور الحكم فيها(الفرد او الافراد)، وهي على ثلاثة أقسام:
فقد يتعلق الحكم بفرد معين كالاحكام الخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن. وهذه (الواجبات الشخصية).
وقد يتعلق الحكم بجميع المكلفين، لكن يسقط الحكم بامتثال البعض له، اذا انتفت الحاجة الداعية الى تشريع الحكم، وهذه هي (الواجبات الكفائية) وقد يتعلق الحكم بالجميع، ولا يسقط بامتثال البعض.
ولكن لكل فرد خطاب مستقل وامتثال او عصيان مستقل، وهذه هي (الواجبات العينية)[24].
وطائفة أخرى من الاحكام لا تتعلق بالفرد من حيث الاساس، ولا يكون الفرد فيها مخاطباً، ولا محوراً، ولا موضوعاً للخطاب، وانما يتوجه الخطاب الى المجتمع رأساً وتكون الشخصية الاجتماعية هي موضوع الخطاب، وليس الشخصية الفردية، وهو سنخ آخر من الخطاب والحكم يختلف اختلافاً جوهرياً عن السنخ الاول الذي يتجه فيه الحكم الى الفرد او الافراد، بعكس الواجب العيني الذي كان له امتثالات عديدة ومخالفات عديدة بعدد المكلفين. فلا يكون لهذا الخطاب إلاّ امتثال واحد وعصيان واحد.
ويكون هذا السنخ من الخطابات عادة في الشؤون التي لا تتأتى من الفرد او الافراد كاجراء الحدود، وإقامة صلاة الجمعة والقضاء، والقتال، ومثل هذه الاحكام مما لا يمكن أن ينهض بها فرد او مجموعة الافراد.
والخطاب في هذه الاحكام يتوجه الى المجتمع بصفة الاجماع، فلا يمكن ولا يجوز ان يتولى فرد او افراد من تلقاء انفسهم اجراء الحدود الشرعية مثلاً او القضاء او قيادة القتال، وذلك لاستحالة التنفيذ الفردي لهذه الاحكام عادة والطريقة الطبيعية لتنفيذ مثل هذه الاحكام والخطابات الموجهة الى المجتمع، من حيث المجموع، هو التنفيذ المركزي لهذه الخطابات، وذلك بقيام ولي الامر وجهاز الحكم المركزي بتنفيذ مثل هذه الاوامر، المتعلقة مثلاً باجراء الحدود الشرعية او القضاء وفصل الخصومات، وقيادة القتال والحرب، وامثال ذلك.
وبذلك تتحقق (الصفة الجمعية) في التنفيذ المطلوبة في مثل هذه الاحكام، ومن هذه الاحكام قوله:
(السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا)[25].
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)[26].
(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[27].
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ)[28].
وغير ذلك من الواجبات الاجتماعية في القرآن وهذه الطائفة من الآيات لا تخاطب الافراد على نحو(الواجب الكفائي)، بحيث يكون لكل فرد خطاب فإذا امتثل للخطاب من به الكفاية سقط من الآخرين، وان لم يمتثله احد منهم عوقبوا جميعاً، ولا تخاطب الافراد على نحو(الواجب العيني)، بحيث يكون لكل فرد منهم خطاب وأمر ونهي وعصيان خاص به، وانما يتعلق الخطاب بالمجتمع بصفته الجمعية، ولا يمكن ان يسقط هذا التكليف عن عهدة الجميع عادة إلاّ بقيام أولي الامر بهذا الأمر بصفة مركزية وقيادية ويطاوعه الناس كلهم في ذلك.
وسوف يأتي تفصيل لما أجملناه في هذه النقطة من البحث.
4 ـ فقه حاكم:
ومن خصائص هذا الفقه صفة الحاكمية والولاية والسيادة البارزة في هذا الفقه، فليس هذا الفقه مجموعة من الاحكام التي يناط تنفيذها بارادة الافراد ورغبتهم كما تناط التعليمات الطبية مثلاً والنصائح والمواعظ برغبة الافراد واختيارهم وقناعتهم، وانما يستتبع هذا الفقه الالزام بالتنفيذ في جملة واسعة من الاحكام وهي الاحكام ذات الصفة الالزامية في الحياة الاجتماعية والسياسية، ويتم تنفيذ هذا الالزام ثانياً ضمن جهاز تنفيذي يتابع تنفيذ احكام الله وحدوده.
فأحكام القضاء مثلاً ملزمة ونافذة على كل من الطرفين المتخاصمين، وليس لأي منهما ان يخالف حكم القضاء، والجهاز التنفيذي يتولى عقوبة المخالف وإجباره على الطاعة.
وجهاز الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتولى مراقبة حياة الناس والمحافظة على سلامة اجراء الاحكام الشرعية.. فاذا ظهرت من احد مخالفة في حد من حدود الله الزم بالطاعة والالتزام والكف عن المخالفة، بل وسيلة ممكنة، حتى الضرب والجرح، وهذا مما لا يجوز قطعاً إلاّ ضمن جهاز دولة مركزية ذات سيادة شرعية.
يقول العلاّمة الحلي (رحمه الله):
(لو افتقر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الى ضرب من التأديب والايلام والاضرار والجرح واتلاف النفس.. الظاهر من مذهب شيوخنا الإمامية ان هذا الجنس من الانكار لا يكون الا للأئمة ولمن يأذن له الإمام)[29].
وهذه الصفة الالزامية ، وما يستتبعها من أجهزة تنفيذية في الفقه تعطي لهذا الفقه صفة الحاكمية والسيادة في حياة الناس، وتتطلب وجود جهاز حاكم يتولى أمر السيادة الولاية في حياة الناس ومن دون ذلك لا يمكن تنفيذ هذا الفقه وتحقيق أهدافه في حياة الناس.
فكيف ترى يمكن تنفيذ هذا الفقه في جملة من أبوابه،وهي الحدود والقصاص والديات، ومن دون أن يكون لهذا الفقه وجود جهاز مركزي يتولى الحاكمية والسيادة في حياة الناس.
5 ـ مسؤولية الفقه عن الدعوة:
وهذه خصلة أخرى من خصال هذا الفقه وهي مسؤولة حمل رسالة الدعوة الإلهية الى البشرية جميعاً. وفك الأغلال ورفع الاصر عن الناس ودعوة الناس الى الله تعالى ونبذ طاعة الحكام والامراء والسلاطين الذين يحكمون بغير حكم الله، ويستبعدون الناس، واخراج الناس من عبودية بعضهم لبعض الى عبودية الله تعالى، ونبذ كل سلطان وحاكمية في حياة الناس إلاّ حاكمية الله تعالى.
وواضح أن هذه الرسالة الكبرى لا يمكن ان تتحقق في هذا الدين من غير أن يواجه هذا الدين الواناً من التحدث والمواجهة على كل الاصعدة، وبكل الاشكال من قبل المستكبرين الذين تخترق هذه الدعوة سلطانهم ونفوذهم، ولا يمكن تحقيق رسالة هذه الدعوة في حياة الناس الا بالتصدي المباشر والمواجهة لأئمة الكفر ليتسنى لهذه الدعوة ان تحمل رسالة الله تعالى الى الناس ولا يمكن ذلك من دون قتال أئمة الكفر.
يقول تعالى:
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه)[30].
وليس من الممكن ان يتولى هذا الفقه شؤون هذه الدعوة الكبرى التي تبتغي ازالة الفتنة عن الارض، وازالة كل دين عدا دين الله عن وجه الارض، وحصر الحاكمية والدين في دين الله وحكمه، دون ان ينهض هذا الفقه بشؤون القيادة والولاية والحكم في المجتمع وفي الارض جميعاً.
________________________
[1] مريم ـ 81
[2] يس ـ 74
[3] النحل 20 ـ22
[4] الزمر ـ3
[5] التوبة ـ 31
[6] الشورى ـ 21
[7] هود ـ 54
[8] يونس ـ 18
[9] النحل ـ 20
[10] فاطر ـ 3
[11] الزمر ـ 5
[12] يونس ـ 3
[13] الانعام ـ 59
[14] الفرقان ـ 2
[15] الانبياء ـ 23
[16] الزخرف ـ 84
[17] القصص ـ 71
[18] الاعراف ـ 54
[19] آل عمران ـ 154
[20] التغابن ـ 16
[21] اصول الكافي4/59 باب الرد الى الكتاب والسنة.
[22] اصول الكافي 4/59 باب الرد الى الكتاب والسنة.
[23] اصول الكافي 2/74 باب الطاعة.
[24] يمكن تصنيف الحكم الى الكفائي والعيني، ويكون العيني شاملاً للقسم الاول(الواجب الشخصي)و القسم الثالث.
[25] المائدة ـ 38
[26] النور ـ 2
[27] الانفال ـ 60
[28] الانفال ـ 39
[29] المختلف للعلامة الحلي1/339
[30] الانفال ـ 39

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية