شرط العدالة والوثاقة في ثبوت ولاية المؤمنين
ثم إن مقتضى صحيحة إسماعيل اعتبار العدالة، ومقتضى موثقة سماعة اعتبار الوثاقة، فإن
قلنا بأن اعتبار العدالة إنما هو في البيع والشراء وسائر التصرفات الناقلة واعتبار
الوثاقة إنما هو في مثل التقسيم و تمييز المشتركات فلا إشكال. وأما إن قلنا بأن
المستفاد من كل من الدليلين اعتبار الوصف في كل التصرفات فهل الاعتبار بالوثاقة،
وإنما ذكرت العدالة لأجل ذلك ولو بالمناسبة في المقام، أو أن الاعتبار بالعدالة،
والوثاقة بنحو الاطلاق إذا نسبت إلى الشخص تكون مساوقة للعدالة ـ وربما قيل: إن
الوثاقة مستعملة في الروايات في العدالة ـ أو أن الوثاقة والعدالة أخذتا على نحو
الطريقية إلى حصول التصرف حسب مصلحة الصغير، ولا تكونان معتبرتين على نحو الموضوعية
؟ وجوه:
أردؤها الأخير، فإن ذلك يؤدي إلى الهرج والمرج، مضافاً إلى عدم الدليل عليه حتى
يمكن الخروج عن مقتضى القواعد والأدلة لأجله.
كما أن دعوى أن الوثاقة هي العدالة بلا بينة ـ سيما في المورد الذي كان الموضوع فيه
الجهات المالية، فإنها فيها بمعنى كونه معتمداً عليه، كما أن الأمر كذلك عرفاً
ولغة، ودعوى استعمالها في الروايات بمعنى العدالة ـ غير وجيهة.
نعم قد أطلق الثقة على مثل زكريا بن آدم أو العمري وابنه الذين هم عدول وثقاة، لكن
لا دلالة لذلك على استعمال الثقة في العدل الإمامي بل أطلقت بمعناها الذي هو كون
الشخص معتمداً عليه، وكون المورد عادلاً ككونه وكيلاً من الناحية لا يوجب استعمال
اللفظ في غير معناه.
كما أن رفع اليد عن ظهور صحيحة إسماعيل بن سعد في دخالة العنوان لا وجه له إلا بعض
الاعتبارات التي لا يمكن الركون إليها، فعليه يقع التعارض بين قوله (عليه السلام):
"فال بأس به إذا رضي الورثة وقام عدل في ذلك" كما في الصحيحة وبين قوله (عليه
السلام): "إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فال بأس" كما في الموثقة، نظير التعارض
بين قوله (عليه السلام): "إذا خفي الإذان فقصر"[1]، و "إذا خفي الجدران فقصر"[2].
والظاهر أن مفهوم قوله (عليه السلام) في صحيحة اسماعيل: "وقام عدل في ذلك" نظير
مفهوم الشرط أيضاً أو عينه ولو بحسب العرف العام ومناسبته لقوله (عليه السلام):
"إذا كان الأكابر من ولده"، وكذا قوله (عليه السلام): "إذا رضي الورثة" ضرورة تعليق
الحكم فيهما، بل في المنجد إن (إذا) ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط.
فحينئذ إن كانت العدالة أخص من الوثاقة يمكن التقييد، فتصير النتيجة اعتبار
العدالة، وإن كان بينهما العموم من وجه ولو بحسب مقام الاثبات ـ حيث جعل الشارع
ظهور الصلاح أمارة تعبدية للعدالة ولو لم يحصل بها الظن فضلاً عن الوثوق ـ فيأتي
فيه ما فصل في الأصول في باب تعدد الشرط ووحدة الجزاء.
ولو سلم عدم المفهوم لصحيحة اسماعيل ووجوده في موثقة سماعة بناءً على المفهوم في
الشرط يقع التعارض بين ظهور أخذ عنوان العدالة في الموضوعية وبين حصر الموضوع في
الثقة بناءً على أن بين العنوانين عموماً من وجه.
وبالجملة يكون في الموثقة دلالات ثلاث ومداليل ثلاثة: أصل الدخالة، وكون الثقة تمام
الموضوع لأجل الاطلاق، وكون الموضوع منحصراً. وفي الصحيحة دلالتان: أصل الدخالة
وكونها تمام الموضوع للاطلاق، ولا تعارض بينهما في أصل الدخالة ولا في تمامية
الموضوع، بل التعارض بين الحصر اللازم منه نفي دخالة العدل فضلاً عن كونه تمام
الموضوع وبين ثبوت دخالة العدل.
فحينئذ إن قلنا بأن الدلالة على الحصر دلالة وضعية لفظية ويقدم ذلك على ظهور الفعل
أي ظهور أخذ العنوان في الموضوع في الدخالة يرفع اليد عن ظهور مفاد الصحيحة، ويحمل
العدل على الثقة ويقال: إنه مأخوذ بما أنه ثقة، فيكون الموضوع هو الثقة، وكذا إن
قلنا بأن الظهورين متكافئان، فإن دلالة الموثقة على الحصر ودلالة الصحيحة على
اعتبار العدالة تسقطان بالمعارضة، وتبقى دلالة الموثقة في دخالة الثقة، وكونها تمام
الموضوع بحالها.
وإن قلنا بأن الدلالة على الحصر بإطلاق أداة الشرط أو الشرط أو الجزاء، فإن قلنا
بتقدم ظهور أخذ العنوان في الموضوعية وكونه بياناً يرفع به موضوع الاطلاق يؤخذ
بالصحيحة في موضوعية العدالة.
وأما الموثقة فإن قلنا بأن الاطلاق قابل للتفكيك بالنسبة إلى مقتضياته يرفع اليد عن
اقتضائه الحصر ويؤخذ بمقتضاه بالنسبة إلى تمام الموضوعية، فتكون العدالة تمام
الموضوع، والوثاقة أيضاً تمام الموضوع، كموضوعية كل من الجريان والكرية للاعتصام.
وما جرى من قلم بعض الأعلام (قده) من أن أمثال ذلك لابد فيها من الالتزام بالجامع
لا يصغى إليه، لكون المقام أجنبياً عن القاعدة العقلية.
وإن قلنا بعدم التفكيك تحمل الموثقة على أن المراد بالثقة هو العدل. هذا كله مع
الغض عن أدلة العلاج في المتعارضين، وإلا فالظاهر الترجيح للصحيحة، لذلك ولشهرة
موضوعية العدل ظاهراً.
ثم إن مفاد الروايات المربوطة بالعدل والثقة هو التصرف في مال اليتيم بيعاً وقسمةً،
فهل يصح إسراء الحكم إلى نفس اليتيم وإلى المجنون نفساً ومالاً وإلى الغائب
والمحجور عليه؟ الظاهر هو العدم، أما على احتمال انشاء الاجازة بنفس قوله (عليه
السلام): "لا بأس به" فلأن الاجازة والانشاء لموضوع لا تكون اجازة لموضوع آخر مغائر
له. وما قرع الأسماع من إلغاء الخصوصية ليس هذا مورده.
وكذا على القول بأن ذلك كاشف عن اجازة سابقة، فإن الموضوع الخاص لا يكشف عن موضوع
أعم أو أجنبي.
والظن بعدم الفرق بين النفس والمال أو بين المجنون ومثله وبين الصغير غير مغنٍ عن
الحق، ودعوى القطع عهدتها على القاطع، وأنّى لنا القطع بذلك.
بل وكذا على القول بأنه حكم إلهي، فإن غاية ما يمكن دعواه هو إلغاء الخصوصية
بالنسبة إلى سائر التصرفات غير البيع والقسمة كالاجارة والمضاربة ونحوها، أو
بالنسبة إلى اليتيم وإسراء الحكم إلى صغير جنّ والده، أو حجر عليه، وأما بالنسبة
إلى نفس الصغير فلا فضلاً عن إسراء الحكم إلى غيره من المجنون والغائب ونحوهما، فإن
ذلك القياس لا نقول به.
هل هناك منافاة بين ولاية الفقيه وولاية العدل
ثم إن أدلة ولاية الفقيه لا تنافي ولاية العدل أو جواز تصرفه بلا ولاية إن استندنا
فيها إلى ما لا يدل إلا على جعل الولاية له، كقوله (صلّى الله عليه وآله): "الفقهاء
أمناء الرسل"[3]، أو "حصون الإسلام"[4]. فإن جعل الولاية في أمر أو أمور الفقيه لا
ينافي جعلها لغيره، أو اجازة التصرف له، وإن استندنا إلى قوله (عليه السلام):
"فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا"[5]. فإن قلنا بأن دلالة الهيئة على التعيينية دلالة
لفظية وضعية أو اللفظ منصرف إليها يقع التخالف بينه وبين ما دل على جواز
تصرف العدل الثقة، لكن المبنى ساقط، مع أنه قابل للجمع كما يأتي.
وإن قلنا بأن مقتضى الإطلاق حملها عليها يكون دليل تصدي العدل بياناً يرفع به موضوع
الإطلاق، مع أن المبنى أيضاً غير وجيه.
وإن قلنا بأن البناء على التعيينية ونحوها كالعينية والنفسية من اجل تمامية الحجة
عقلاً أو عند العقلاء كما قررنا في الأصول، فمع أن بيان من المولى ولو منفصلاً
يرتفع موضوع الاحتجاج، سواء كان بين الدليلين عموم من وجه أو التساوي أو غيرهما.
وإن استندنا إلى ما دل على الحصر، كقوله (عليه السلام): "مجاري الأمور والأحكام على
أيدي العلماء بالله"[6] حيث دل ولو بالمناسبات على الحصر، ويمكن تقريب الحصر في مثل
قوله (صلّى الله عليه وآله): "خلفائي"[7] أو "ورثة الأنبياء"[8] بأن يقال: إن مقتضى
الخلافة والوراثة ثبوت كل ما كان للنبي (صلّى الله عليه وآله) له إلا ما دل الدليل
فيه على خلافه، فإذا قال: ((علي (عليه السلام) خليفتي)) يكون مقتضاه أن كل ما ثبت
للنبي (صلّى الله عليه وآله) ثبت له. ومما ثبت له حصر الولاية به في عصره، ولازمه
النفي عن غيره، فحينئذ مقتضى خلافة الفقهاء ووراثتهم حصر الولاية بهم ونفي ثبوتها
لغيرهم، ولازم حصرها بهم حصر كل ما هو من شؤون الولاية بهم، ومنها التصرف والتصدي
لأمر الصغار، فيقع التعارض بينهما وبين ما دل على ثبوت ذلك للعدل.
لكن الذي يسهل الخطب أن بين الدليلين عموماً مطلقاً، لأن الثابت للفقيه كل التصرفات
الثابتة للوالي، ومنها التصرف في مال الأيتام، ولازم الحصر نفي جميع ذلك عن غيره،
وما دل على ثبوت التصرف الخاص للعدل يخصص عموم الحصر أو يقيد إطلاقه، كما أن عموم
ولاية الفقيه مخصص بأدلة ولاية الأب والجد، فكما أن عموم ولايته أو إطلاقها قابل
للتخصيص والتقييد كذلك إطلاق الحصر أو عمومه، ففي المقام ثبت الولاية للفقيه وجاز
التصرف للعادل بناءً على الثبوت الحكم للعدل في زمان الغيبة، لكن قد عرفت الاشكال
فيه.
مزاحمة فقيه لفقيه آخر
ثم إنه هل يجوز مزاحمة عدل للآخر؟ لا بأس بتفصيل الكلام في صور المزاحمة:
منهاـ مزاحمة فقيه لفقيه آخر، ولابد من فرض الكلام كبروياً، أي جواز المزاحمة وعدمه
في موارد تحققها، وأما التكلم في حصول المزاحمة في بعض الموارد وعدمه أو الشك في
الموضوع فهو خارج عن البحث. وصور المزاحمة كثيرة جداً بعد ثبوت الولاية المطلقة
للفقيه، نظير ما إذا نصب المتولي للوقف أو القيم للصغار، فهل للآخر ضم آخر إلى
المنصوب أو عزل ما نصبه الآخر ونصب غيره أو لا ؟ ولو أخذ فقيه الأخماس والزكوات
وجعلها في مكان، فهل للآخر التصرف فيها بلا إذن الأول وبسطها في محالها ؟ وهكذا في
سائر موارد المزاحمة.
وأما ما أفاده الشيخ (قده) وغيره ـ من مثال المزاحمة بأن دخل فقيه في مقدمات فعل
ووضع يده عليه، هل للآخر مباشرة نفس الفعل الذي لم يقع من الأول ؟ ـ فالظاهر أنه
ليس من باب المزاحمة، لأن الثاني لم يزاحم الأول في وضع يده، ولا في سائر المقدمات،
ومباشرة نفس البيع الذي لم يتكفله الآخر ليس مزاحمة لا في المقدمات ولا في ذي
المقدمة، بخلاف ما ذكرناه من الأمثلة، فإنها من باب المزاحمة كما لا يخفي.
ثم إنه لا إشكال في عدم الإشكال الثبوتي في المقام، فإن مزاحمة أحد الفقيهين للآخر
ليست كمزاحمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) التي يكون جوازها
مخالفاً للمذهب، فلو ورد دليل ظاهره ذلك لابد وأن يؤوّل أو يطرح، إلا أن يقال: إن
للرسول (صلّى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) أن يجيز مزاحمة في بعض
الأمور، ففي الحقيقة لا يكون ذلك مزاحمة، بل الإجازة تخرجه عن المخالفة. وكيف كان
لو دل دليل على جواز مخالفة الفقيه لا مانع من العمل به، لكن الشأن في ذلك.
وإجمال الكلام أن المستند لولاية الفقهاء لو كان ما دل على نيابتهم وولايتهم فهل
يمكن إطلاقه لحال المزاحمة ؟ فيه إشكال، من جهة أن القيود التي تأتي من قبل الحكم
لا يمكن أن تؤخذ في الموضوع، فالتقييد بها محال، ومعه لا مجال للإطلاق، وهذا نظير
ما قيل في التوصلي والتعبدي من أن قصد الامتثال لا يمكن أخذه في الموضوع، فلا يمكن
التقييد ولا الإطلاق.
وفي المقام يكون تزاحم الواليين المنصوبين في تصرفهما مترتباً على جعل الولاية، لأن
الشك ليس في جواز تزاحم شخص لشخص ولا عالم لعالم، بل في جواز تزاحم ولي منصوب لولي
كذلك، فهو متأخر عن جعل الولاية ولا يمكن تقييد الدليل به، فلا يمكن الإطلاق. هذا
على رأي من ذهب إلى الامتناع في تلك المسألة، لكن المقرر في محله عدمه، ولهذا رجحنا
أصالة التوصلية.
بل لقائل أن يقول: إن بين المقام وباب التعبدي والتوصلي فرقاً، فإن الحكم هاهنا
منحل إلى أحكام، لأن نظير قوله (صلّى الله عليه وآله): "العلماء ورثة الأنبياء"
منحل إلى جعل الوراثة والخلافة لكل فقيه فقيه، بل ليس ذلك من باب الانحلال وإنما
يستفاد من صيغة الجمع بدلالة وضعية، فعلى هذا يكون ما يأتي من قبل حكم موضوع
مأخوذاً في موضوع حكم آخر، ولا إشكال فيه، وإنما الإشكال فيما إذا أخذ ما يأتي من
قبل الحكم في موضوع نفس هذا الحكم.
إلا أن يقال: إن الفساد المتوهم بحاله، لأن الجعل في العمومات واحد على الموضوعات
المتعددة، ومع وحدته وعرضية الحكم بالنسبة إلى تمام الأفراد والموضوعات يأتي
الإشكال، فتدبر.
وهنا إشكال آخر في إمكان الإطلاق، وهو أن التزاحم لا يكون بين الأحكام المتعلقة
بالطبائع، ولا بين الحكم المتعلق بطبيعة وبين الفرد الخارجي، بل التزاحم بين
الفردين في وجودهما الخارجي، فوجوب الصلاة لا يزاحم وجوب الإزالة، ولا يزاحم
الإزالة الخارجية، بل المزاحمة بين وجود الصلاة والإزالة في وقت واحد، فلا يمكن
الجمع بينهما للتزاحم.
وقد حقق في محله أن الأوامر والأحكام في باب المطلقات متعلقة بالطبائع، ولا يعقل
إسراؤها إلى الأفراد الخارجية، بل ولا إلى القيود اللاحقة بالطبائع، لأن الطبيعة
بما هي لا قيد لها، ولا يمكن مرآتيتها للأفراد، والقيود بما هي أجنبية عن نفس
الطبيعة وأن لحقت بها في العقل أو اتحدت معها في الخارج، فالمزاحمة التي بين
الأفراد متأخرة عن الجعل والمجعول بمرتبتين أو المراتب، وفي مثله لا يعقل الإطلاق
بالنسبة إلى المتأخرة وبالنسبة إلى مورد التزاحم، كما لا يعقل أن يكون المنشئ للحكم
ناظراً من الطبيعة إلى الأفراد، فضلاً عن النظر إلى مزاحمة فرد لفرد آخر من موضوع
آخر.
فعليه لا يعقل إطلاق مثل قوله: طالفقهاء خلفائي" لحال المزاحمة بين فرد من التصرف
لفقيه وفرد آخر من التصرف لفقيه آخر.
ولو سلمنا إمكان الإطلاق لكن لا يقتضي إطلاق على أموال الصغار والأوقاف العامة
والأخماس والزكوات وغير ذلك جواز المزاحمة، لأن حكم الولاية حيثي على الأمور
المذكورة، وليس مقتضى الإطلاق إلا ثبوت هذا الحكم الحيثي عليها، لا جواز المزاحمة
للفقيه الذي يرجع إلى تحديد سلطنته الذي هو نحو ولاية عليه.
نظير قوله: {أحلت لكم بهيمة النعام}[9] فإنه لا يقتضي حلية البهيمة التي للغير وإن
اقتضى حليتها من جهة كونها بهيمة حتى حال كونها مال الغير، وله نظائر كثيرة، كقوله
تعالى: {فكلوا مما أمسكن}[10] وقوله تعالى: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه}[11].
وبالجملة الولاية على مال الصغير بما أنه ماله وإن كانت ثابتة عليه حتى كونه تحت يد
فقيه آخر، لكن لا يقتضي ذلك ولاية على الفقيه ولا جواز التصرف في سلطانه، ولا
منافاة بين الحكم الحيثي والحكم الفعلي المقابل له، فبهيمة الأنعام حلال من حيث هي
بهيمة، وحرام من حيث كونها ملكاً للغير، ولا يستفاد من أدلة الولاية ولاية الفقهاء
بعضهم على بعض، بل لا يعقل أن يكون فقيه ولياً على فقيه ومولى عليه له.
وبعبارة أخرى أن سلطة فقيه على مال ونحوها سلطة بحق، ولابد في رفعها من السلطة عليه
ولا تكفي السلطة على المال. نعم مقتضى الولاية دفع سلطنة الغاصب واليد الجائرة.
ويمكن أن يقال: إن مقتضى إطلاق الخلافة والوراثة أن يكون لكل فقيه كل ما كان لرسول
الله (صلّى الله عليه وآله)، فإن الظاهر من الأدلة أن كل فقيه خليفة ووارث، فمما
ثبت له (صلّى الله عليه وآله) أن ليس لأحد مزاحمته تكليفاً ووضعاً، سواء كان
المزاحم فقيهاً وخليفة له ام لا. وهذا ينتقل إلى كل فقيه، ولازمه عدم جواز مزاحمة
أحد له فقيهاً وخليفةً كان ام لا، وفي مقابل ذلك أن لرسول الله (صلّى الله عليه
وآله) أن يزاحم كل أحد خليفة كان ام لا، وهذا أيضاً قابل للانتقال والتوريث لكن هما
معاً غير ممكن التوريث، للزوم التناقض.
فحينئذ أن قلنا بعدم ترجيح بينهما فلا يصح الحكم بأحد الطرفين، ولكن الظاهر الذي لا
ينكر أن الترجيح لوراثة عدم المزاحمة، فإن ذلك موافق للاعتبار العقلاني وحكم العقل
وبناء الحكومات. وأما توريث المزاحمة بحيث يرجع إلى الهرج وجواز مزاحمة هذا لهذا
وبالعكس فأمر ينكره العقول ومخالف لطريقة العقلاء. ولازم هذا الوجه قيام الدليل
الاجتهادي على عدم جواز المزاحمة، وبطلان تصرف المزاحم وحرمته.
وتوهم أن مزاحمة فقيه لفقيه من قبيل مزاحمة النبي لنفسه غفلة عن أن مثل قوله (صلّى
الله عليه وآله): "خلفائي" و "ورثة الأنبياء" أجنبي عن تنزيلهم منزلة نفسه، بل مضاد
له، لأن الخلافة والوراثة لازمهما التعدد ولحاظه، وهو يخالف التنزيل والهوهوية
الاعتبارية. نعم له وجه في مثل قوله (ع): "منزلة الفقيه كمنزلة الأنبياء في بني
اسرائيل" على اشكال فيه أيضاً.
ولو أغمضنا عما تقدم وشككنا في الولاية مع المزاحمة، فتارة يتصدى فقيه جامع للشرائط
وعند تصديه لم يكن الآخر جامعاً للشرائط إما لعدم اجتهاده حال تصدي الأول أو عدم
عدالته ثم صار جامعاً فيشك في ولايته وجواز مزاحمته حينئذ للآخر فمقتضى الأصل عدم
الولاية، فإنه حال تصدي الأول لم يكن ولياً، فيستصحب عدمها. والحكم الكلي على
العنوان لم يكن منطبقاً عليه قبل تصدي الأول حتى يستصحب.
وأخرى يكون تصديه حال جامعية الآخر للشرائط، فحينئذ إن أحرزنا من الأدلة أن الولاية
بلا قيد ثابتة للفقيه لكن احتملنا أن سبق أحد من الفقهاء موجب لسقوط ولاية غيره حال
تصديه، نستصحب ولايته الثابتة قبل تصدي الآخر، وإن لم نحرز ذلك لكن احتملناه مع
احتمال أن الولاية المحدودة مجعولة له دار الأمر بين الفرد القصير والطويل، فلو كان
المجعول الولاية المحدودة كانت مقطوعة الزوال، ولو كانت مطلقة فإن لم نحتمل على هذا
الفرض السقوط كانت مقطوعة البقاء، وإن احتملناه كانت محتملة البقاء.
وعلى أي حال فجريان الاستصحاب في القدر المشترك أي الكلي موقوف على كون الولاية
الكلية المشتركة المنتزعة من المجعولين حكماً إلهياً أو موضوعة له، وإلا فلا يجري،
وهذا هو الظاهر، ولو أغمض عنه فأصالة عدم الولاية المطلقة بدعوى حكومتها على أصالة
بقاء الكلي مثبتة كما ذكر في محله، فتحصل مما مرّ أن استصحاب الكلي متوقف على أمر
غير مرضي.
ثم إنه ظهر مما مرّ حكم ما إذا شرع الفقيه في مقدمات عمل كالمقاولة للبيع وإرسال
الساعي لجمع الزكاة في ناحية أو المقدر لتقدير مساحة الأراضي الخراجية مقدمة لجعل
الخراج إلى غير ذلك، فإنه إذا قلنا بأن النبي (صلّى الله عليه وآله) إذا شرع في
المقدمات ليس لأحد الدخالة بنحو من الأنحاء فيها ولا في ذيها كما لا اشكال فيه،
فهذا الأمر ينتقل إلى الفقهاء أي إلى كل واحد منهم بمقتضى الوراثة والخلافة
وإطلاقهما، فليس لأحد من الفقهاء الدخول فيما دخل فيه فقيه آخر لذلك، لا لما أفاده
الشيخ (قده) حتى يجاب عنه بأن مزاحمة إمام لإمام آخر لا دليل على عدم جوازها. وقد
مرّ أن لسان الأدلة آب عن إفادة ما ذكره الشيخ (قده). هذا حال مزاحمة فقيه لفقيه
آخر.
مزاحمة فقيه للعدل
وأما مزاحمة فقيه لغيره ممن يجوز له التصدي فلا إشكال في جوازها لأن غاية ما دلت
عليه الأدلة جواز قيام العدل أو الثقة لبيع مال الأيتام. وغاية ما يمكن الاستفادة
منها جواز مطلق التصرفات في أموالهم مع المصلحة. وأما كونهما وليّين عليهم أو على
أموالهم فلا دليل عليه كما مرّ فضلاً عن كونهما بمنزلة الإمام (عليه السلام) أو
النبي (صلّى الله عليه وآله).
فحينئذ مقتضى إطلاق الخلافة والوراثة جواز مزاحمة الفقيه لغيره، خرج منه مزاحمة
فقيه لفقيه آخر كما مرّ وبقي الباقي. هذا إذا صدقت المزاحمة مع شروع العدل في
المقدمات، وإلا فالأمر أوضح، كما ظهر مزاحمة عدل لعدل آخر، هذا لو صدقت المزاحمة مع
الدخول في المقدمة وإلا فلا شبهة في جوازه.
نعم لو قلنا بأن العدل ولي من قبل الله على الأيتام وأموالهم فلا مجال لتصرف غيره
مع وجوده، كما لا مجال للتصرف في مال الصغير لغير الأب والجدّ مع وجود أحدهما.
ولو شك في أن المجعول للعدل هو الولاية من قبل الله أو صرف جواز التصرف أو الولاية
من قبل الإمام والنصب من قبله لا يصح التمسك بإطلاق دليل الخلافة والوراثة، لأن
الشبهة مصداقية بالنسبة إليه، لدوران الأمر بين ما لا يكون من شؤون الولاية للنبي
(ص) حتى يورث ـ كما إذا كان نصباً شرعياً إلهياً ـ وبين ما يكون كذلك، والأمر سهل
بعدما ظهر أن لا دليل لجواز تصدي العدل في زمان الغيبة في غير الحسبيات، ولا فيها
مع وجود الفقيه.
_______________________
[1] الوسائل، الباب 6، من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
[2] الوسائل، الباب 6، من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1. وكلاهما نقل بالمضمون.
[3] أصول الكافي، ج1، ص46.
[4] أصول الكافي، ج1، ص38، باب فقد العلماء، الحديث 3.
[5] الوسائل، الباب11، من أبواب صفات القاضي، الحديث9.
[6] المستدرك، الباب11، من أبواب صفات القاضي، الحديث16.
[7] الوسائل، الباب8، من أبواب صفات القاضي، الحديث50.
[8] أصول الكافي، ج1، ص34.
[9] سورة المائدة، الآية 1.
[10] سورة المائدة، الآية 4.
[11] سورة الأنعام، الآية 118.