مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

شؤون وصلاحيات الولي الفقيه

ولاية الفقيه في الروايات

فولاية الفقيه ـ بعد تصور أطراف القضية ـ ليست أمراً نظرياً يحتاج إلى برهان، ومع ذلك دلت عليها بهذا المعنى الوسيع روايات نذكر بعضها: فمنها ـ ما أرسله في الفقيه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون عني حديثي وسنتي"[1]. ورواه في عيون الأخبار بطرق ثلاثة[2] رجال كل يغاير الآخر كما وأن محالّ نقل الحديث متفرقة، فذكر في خلال ما يقرب من مائتي حديث، وزاد في آخره "فيعلّمونها الناس من بعدي". وعن معاني الأخبار بسند رابع غيرها نحوها[3]. وعن المجالس بسند مشترك مع الرابع في أواخره، وفي آخره "ثم يعلّمونها"[4]. وعن صحيفة الرضا (عليه السلام) بإسناده عن آبائه (عليهم السلام) نحوها[5]. وعن غوالي اللئالي نحوها، وفي آخرها "أولئك رفقائي في الجنة"[6] وقريب منها عن الراوندي[7] وغيره. فهي رواية معتمدة لكثرة طرقها، بل لو كانت مرسلة لكانت من مراسيل الصدوق التي لا تقصر عن مراسيل مثل ابن أبي عمير، فإن مرسلات الصدوق على قسمين: أحدهما ما أرسل و نسب إلى المعصوم (عليه السلام) بنحو الجزم كقوله: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) كذا، وثانيهما ما قال: روي عنه (عليه السلام) مثلاً، والقسم الأول من المراسيل المعتمدة المقبولة.
وكيف كان معنى الخلافة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر معهود عن أول الإسلام، ليس فيه إبهام. والخلافة لو لم تكن ظاهرة في الولاية والحكومة فلا أقل من أنها القدر المتقن منها. وقوله (صلى الله عليه وآله): "الذين يأتون من بعدي" معرّف للخلفاء لا محدد لمعناها، وهو واضح، مع أن الخلافة لنقل الرواية والسنة لا معنى لها، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن راوياً لرواياته حتى يكون الخليفة قائماً مقامه في ذلك.
فيظهر من الرواية أن للعلماء جميع ما له (صلّى الله عليه وآله) إلاّ أن يدل دليل على إخراجه فيتبع.
وتوهم أن المراد من العلماء خصوص الأئمة (عليهم السلام) في غاية الوهن، فإن التعبير أن الأئمة (عليهم السلام) برواة الأحاديث غير معهود، بل هم خزان علمه تعالى، ولهم صفات جميلة إلى ما شاء الله لا يناسب للإيعاز إلى مقامهم (عليهم السلام) "أنهم رواة الأحاديث"، بل لو كان المقصود من الخلفاء أشخاصهم المعلومين لقال: علي وأولاده المعصومون (عليهم السلام)، لا العنوان العام الشامل لجميع العلماء.
كما أن احتمال الاختصاص بالراوي والمحدِّث دون الفقيه أوهن من السابق. أما بالنسبة إلى ما ذكر في ذيله بالطرق الكثيرة وهو قوله (صلّى الله عليه وآله): "فيعلّمونها الناس من بعدي" فواضح، لأن المحدث والراوي ليس شغله تعليم سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلاّ إذا كان فقيهاً مثل الكليني والصدوقين ونظائرهم (قدهم)، فإن الراوي محضاً لا يمكنه العلم بأن ما روي هو سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أم لا، إذ كثير من الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) لم تصدر لبيان الحكم الواقعي، لكثرة ابتلائهم بولاة الجور، وليس لنا طريق إلى سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ورواياته إلاّ من قبل الأئمة الهداة (عليهم السلام)، والرواية من غير طريقهم في غاية القلة.
وأما بالنسبة إلى المرسلة التي ليس لها هذا الذيل فلأنه ـ مع إمكان أن يقال: إن هذه الجملة سقطت إما من قلم المصنف (رحمه الله تعالى) أو النساخ، فإن في دوران الأمر بين زيادة جملة وسقوطها كان الثاني أولى، لغاية بعد الأول، وزيادة وقوع الثاني عند الاستنساخ، وإن كان هو أيضاً خلاف الأصل في نفسه ـ لاشك أن المطلوب من بسط السنة هو بسط سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وروايتها، لا ما ينسب إليه ولو كان كذباً وعلى خلاف سنته.
والذي يتيسر له إحراز السنة وعلاج المتعارضين بالموازين التي قررت في محلها مما ورد عنهم (عليهم السلام) وغير ذلك وتشخيص المخالف للكتاب والسنة عن الموافق لهما هو المجتهد المتبحر والمحدث الفقيه، لا ناقل الحديث كائناً من كان.
مع أن مناسبة الحكم والموضوع ترشدنا إلى ذلك، فإن منصب خلافة رسول (صلّى الله عليه وآله) والولاية من قبله لا يعقل أن يكون لرجل عامي غير مميز لأحكام الله تعالى بمجرد حكاية أحاديث، فهو كالمستنسخ للأحاديث، وقد يتوهم أن لازم الأحاديث جعل الخلافة للفقهاء كونهم في عرض الأئمة (عليهم السلام)، وسيجيء دفعه بعد ذكر الروايات.
ومنها ـ علي بن حمزة قال: "سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وابواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها"[8].
وليس في سندها من يناقش فيه إلاّ علي بن حمزة البطائني، وهو ضعيف على المعروف، وقد نقل توثيقه عن بعض، وعن الشيخ في العُدة (عملت الطائفة بأخباره)، وعن ابن الغضائري (أبوه أوثق منه). وهذه الأمور وإن لا تثبت وثاقته مع تضعيف علماء الرجال وغيرهم إياه لكن لا منافاة بين ضعفه والعمل برواياته اتكالاً على قول الشيخ الطائفة، وشهادته بعمل الطائفة برواياته وعمل الأصحاب جابر للضعف من ناحيته، ولرواية كثير من المشايخ وأصحاب الاجماع عنه كابن أبي عمير وصفوان بن يحيى والحسن بن محبوب واحمد بن محمد بن أبي نصر ويونس بن عبد الرحمن وابان بن عثمان وأبي بصير وحماد بن عيسى والحسن بن علي الوشاء والحسين بن سعيد وعثمان بن عيسى وغيرهم ممن يبلغ خمسين رجلاً، فالرواية معتمدة.
ورواها بطريق آخر بلا لفظ (الفقهاء). ومن البعيد جداً زيادة اللفظة، وأما سقوطها فليس ببعيد وإن كان خلاف الأصل في نفسه، لكن في الدوران يقدم النقص.
كما أن التناسب بين الحكم والموضوع يؤيد ذلك، فإن الثلمة التي لا يسدها شيء والتعليل بأنهم حصون الإسلام لا ينطبق إلاّ على الفقيه المؤمن، ولهذا ورد في رواية أخرى "إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء"[9]. وأما الرواية الأخرى التي ذكر فيها (المؤمن) فليس فيها تلك الجملة. ولهذا ليس من البعيد سقوط لفظة (الفقيه) من قوله "إذا مات المؤمن بكت عليه" الخ.
وكيف كان بعدما علم بالضرورة ومرت الاشارة إليه من أن في الإسلام تشكيلات وحكومة بجميع شؤونها، لم يبق شك في أن الفقيه لا يكون حصناً للإسلام كسور البلد له إلاّ بأن يكون حافظاً لجميع الشؤون من بسط العدالة وإجراء الحدود وسد الثغور وأخذ الخراجان والماليات وصرفها في مصالح المسلمين ونصب الولاة في الأصقاع، وإلاّ فصرف الأحكام ليس بإسلام.
بل أن يمكن أن يقال: الإسلام هو الحكومة بشؤونها، والأحكام قوانين الإسلام، وهي شأن من شؤونها، بل الأحكام مطلوبات بالعرض، وأمور آلية لإجرائها وبسط العدالة، فكون الفقيه حصناً للإسلام كحصن سور المدينة لها لا معنى له إلاّ كونه والياً له نحو ما لرسول الله وللأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) من الولاية على جميع الأمور السلطانية.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "الجنود بإذن الله حصون الرعية ـ إلى أن قال ـ وليس تقوم الرعية إلاّ بهم"[10]. فكما لا تقوم الرعية إلاّ بالجنود فكذلك لا يقوم الإسلام إلاّ بالفقهاء الذين هم حصون الإسلام، وقيام الإسلام هم إجراء جميع أحكامه، ولا يمكن إلاّ بالوالي الذي هم حصن.
وبما ذكرناه ظهرت دلالة سائر الروايات، ولا يحتاج في بيان دلالتها إلى اتعاب النفس، كموثقة السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا ؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"[11]. ونقلها في المستدرك عن نوادر الراوندي قائلاً بإسناده الصحيح عن موسى بن جعفر (ع)[12]، وعن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليه السلام) نحوه[13] إلاّ أن في ذيلهما "فاحذروهم على أديانكم".
وكيف كان قوله (ص): "أمناء الرسل" بالتقريب المتقدم يفيد كونهم أمناءً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في جميع الشؤون المتعلقة برسالته، وأوضحها زعامة الأمة وبسط العدالة الاجتماعية، وما له من المقدمات والأسباب واللوازم، فأمين الرسول أمين في كل شؤونه، وليس شأن رسول الله (ص) ذكر الأحكام فقط حتى يكون الفقيه أميناً فيه، بل المهم إجراء الأحكام، والأمانة فيها أن يجريها على ما هي عليها.
ويؤكد ذلك ما في رواية العلل المتقدمة حيث قال في علل الإمامة والأمر بطاعتهم: "إن الخلق لما وقفوا على حدّ محدود ـ إلى أن قال ـ ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم ـ إلى أن قال ـ فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد، ويقيم فيهم الحدود"[14]. فإذا ضم إلى ذلك قوله (صلّى الله عليه وآله): "الفقهاء أمناء الرسل" يعلم منه أنهم أمناء الرسل لأجل ما ذكره من إجراء الحدود والمنع من التعدي والمنع من اندراس الإسلام وتغير السنة والأحكام، فالفقهاء أمناء الرسل وحصون الإسلام لهذه الخصوصية وغيرها، وهو عبارة أخرى عن الولاية المطلقة.
ومنها ـ التوقيع المبارك المنسوب إلى صاحب الأمر (روحي فداه وعجل الله تعالى فرجه) نقله الصدوق عن محمد بن عصام عن الكليني عن اسحاق بن يعقوب، قال: "سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه): أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك ـ إلى أن قال ـ وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله" الخ[15]. وعن الشيخ (قده) روايته في كتاب الغيبة بسنده إلى محمد بن يعقوب، والرواية من جهة اسحاق بن يعقوب غير معتبرة.
وأما دلالته فتارة من ناحية قوله (عليه السلام): "أما الحوادث الواقعة" الخ، وتقريبها أن الظاهر أنه ليس المراد بها أحكامها، بل نفس الحوادث، مضافاً إلى أن الرجوع في الأحكام إلى الفقهاء من أصحابهم (عليهم السلام) كان في عصر الغيبة من الواضحات عند الشيعة، فيبعد السؤال عنه، والمظنون أن السؤال كان بهذا العنوان، فأراد السائل استفسار تكليفه أو تكليف الأمة في الحوادث الواقعة لهم، ومن البعيد أن يعدّ السائل عدة حوادث في السؤال ويجيب (عليه السلام) بأن الحوادث كذا، مشيراً إلى ما ذكره، وكيف كان لا اشكال في أنه يظهر منه أن بعض الحوادث التي لا تكون من قبيل بيان الأحكام يكون المرجع فيها الفقهاء.
وأخرى من ناحية التعليل بأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، وتقريبها بأن كون المعصوم حجة الله ليس معناه أنه مبيّن الأحكام فقط، فإن زرارة ومحمد بن مسلم وأشباههما أيضاً أقوالهم حجة، وليس لأحد ردّهم وترك العمل برواياتهم، وهذا واضح.
بل المراد بكونه آبائه الطاهرين (عليهم السلام) حجج الله على العباد أن الله تعالى يحتج بوجودهم وسيرتهم وأعمالهم وأقوالهم على العباد في جميع شؤونهم، ومنها العدل في جميع شؤون الحكومة، فأمير المؤمنين (عليه السلام) حجة على الأمراء وخلفاء الجور وقطع الله تعالى بسيرته عذرهم في التعدي عن الحدود والتجاوز والتفريط في بيت مال المسلمين والتخلف عن الأحكام، فهو حجة على العباد بجميع شؤونه، وكذا سائر الحجج، وسيما ولي الأمر الذي يبسط العدل في العباد، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويحكم فيهم بحكومة عادلة إلهية.
وأنهم حجج الله على العباد أيضاً بمعنى أنهم لو رجعوا إلى غيرهم في الأمور الشرعية والأحكام الإلهية من تدبير أمور المسلمين وتمشية سياستهم وما يتعلق بالحكومة الإسلامية لا عذر لهم في ذلك مع وجودهم. نعم لو غلبت سلاطين الجور وسلبت القدرة عنهم (ع) لكان عذراً عقلياً مع كونهم أولياء الأمور من قبل الله تعالى، فهم حجج الله على العباد والفقهاء حجج الإمام (عليه السلام)، فكل ما له لهم بواسطة جعلهم حجة على العباد، ولا اشكال في دلالته لولا ضعفه.
مضافاً إلى أن الواضح من مذهب الشيعة أن كون الإمام حجة الله تعالى عبارة عن منصبه الإلهي وولايته على الأمة بجميع شؤون الولاية لا كونه مرجعاً للأحكام فقط، وعليه فيستفاد من قوله (عليه السلام): "أنا حجة الله وهم حجتي عليكم" أن المراد أن ما هو لي من قبل الله تعالى لهم من قبلي، ومعلوم أن هذا يرجع إلى جعل إلهي له (عليه السلام) وجعل من قبله للفقهاء، فلابد للاخراج من هذه الكلية من دليل مخرج فيتبع.
ويؤيد ذلك بل يدل عليه قول أمير المؤمنين (ع) لشريح: "قد جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبي أو وصي أو شقي"[16]، بتقريب أن الفقيه العدل ليس نبياً ولا شقياً، فهو وصي، والوصي له ما للموصي.
ونحوه ما عن أبي عبد الله (عليه السلام): "اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي"[17]، فيظهر أن القضاء للإمام والرئيس العالم العادل، ولما ثبت كون القضاء للفقيه ثبت أنه للرئيس والوصي، فتدبر.
ومنها ـ مقبولة عمر بن حنظلة قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال تعالى {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}[18]، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلن يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رادّ، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حدّ الشرك بالله" الحديث[19].
والرواية من المقبولات التي دار عليها رحى القضاء، وعمل الأصحاب بها حتى اتصفت بالمقبولة، فضعفها سنداً بعمر بن حنظلة مجبور، مع أن الشواهد الكثيرة المذكورة في محله لو لم تدل على وثاقته فلا أقل من دلالتها على حسنه، فلا اشكال من جهة السند.
وأما الدلالة فلأجل تمسك الإمام (عليه السلام) بالآية الشريفة لابد من النظر إليها ومقدار دلالتها حتى يتبين الحال.
قال تعالى: {إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}[20]. لا شبهة في شمول الحكم للقضاء الذي هو شأن القاضي والحكم من الولاة والأمراء . وفي المجمع "أمر الله الولاة والحكام أن يحكموا بالعدل والنصفة"[21]. ونظيره قوله تعالى: {يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالعدل}[22].
ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} الخ[23].
كما لا شبهة في أن مطلق المنازعات داخلة فيه ـ سواء كانت في الاختلاف في ثبوت شيء ولا ثبوته، أو التنازع الحاصل في سلب حق معلوم من شخص أو أشخاص، أو التنازع الحاصل بين طائفتين المنجر إلى قتل وغيره ـ الذي كان المرجع بحسب النوع فيها هو الوالي لا القاضي، سيما بملاحظة ذكره عقيب وجوب اطاعة الرسول وأولي الأمر، فإن اطاعتهما بما هي اطاعتهما هي الائتمار بأوامرهم المربوطة بالوالي. وليس المراد بها اطاعتهما في الأحكام الإلهية، ضرورة أن الاطاعة الأوامر الإلهية اطاعة الله لا اطاعتهما، فلو صلّى قاصداً اطاعة رسول الله (ص) أو الإمام (ع) بطلت صلاته. نعم اطاعة أوامرهم السلطانية اطاعة الله أيضاً لأمره تعالى باطاعتهم.
ثم قال تعالى: {ألم تر إلى الذين آمنوا يزعمون انهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} الخ[24]. وهذه الآية أيضاً مفادها أعم من التحاكم إلى القضاة وإلى الولاة لو لم نقل بأن الطاغوت عبارة عن خصوص السلاطين الأمراء، لأن الطغيان والمبالغة فيه مناسبة لهم لا للقضاة، ولو أطلق على القضاة يكون لضرب من التأويل أو يتبع السلاطين الذين هم الأصل في الطغيان، ويظهر من المقبولة التعميم بالنسبة إليهما.
ثم إن قوله: "منازعة في دين أو ميراث" لا شبهة في شموله للمنازعات التي تقع بين الناس فيما يرجع فيه إلى القضاة، كدعوى أن فلاناً مديون وانكار الطرف ودعوى أنه وارث ونحو ذلك، وفيما يرجع فيه إلى الولاة والأمراء، كالتنازع الحاصل بينهما لأجل عدم أداء دينه أو ارثه بعد معلوميته، وهذا النحو من المنازعات مرجعها الأمراء، فإذا قتل ظالم شخصاً من طائفة ووقع النزاع بين الطائفتين لا مرجع لرفعه إلا الولاة، ومعلوم أن قوله: "في دين أو ميراث" من باب المثال، والمقصود استفادة التكليف في مطلق المنازعات، واستفسار المرجع فيها، ولهذا أكد الكلام لرفع الابهام بقوله: "فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة". ومن الواضح عدم تدخل الخلفاء في ذلك العصر بل مطلقاً في المرافعات التي ترجع إلى القضاة وكذلك العكس، فقوله (ع): "من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت" انطباقه على الولاة أوضح، بل لولا القرائن لكان الظاهر منه خصوص الولاة.
وكيف كان لا اشكال في دخول الطغاة من الولاة فيه، سيما مع مناسبات الحكم والموضوع، ومع استشهاده بالآية التي هي ظاهرة فيهم في نفسها، بل لولا ذلك يمكن أيضاً أن يقال بالتعميم، للمناسبات المغروسة في الاذهان، فيكون قوله بعد ذلك: "فكيف يصنعان؟" استفساراً عن المرجع في البابين، واختصاصه بأحدهما سيما بالقضاة في غاية البعد لو لم نقل بأنه مقطوع الخلاف.
وقوله (عليه السلام): "فليرضوا به حكماً" تعييناً للحاكم في التنازع، فليس لصاحب الحق الرجوع إلى ولاة الجور ولا إلى القضاة، ولو توهم من قوله (عليه السلام): "فليرضوا" اختصاصه بمورد تعيين الحكم فلا شبهة في عدم ارادة خصوصه، بل ذكر من باب المثال، وإلا فالرجوع إلى القضاة الذي هو المراد جزماً لا يعتبر فيه الرضا من الطرفين.
فاتضح من جميع ذلك أنه يستفاد من قوله (عليه السلام): "فإني قد جعلته حاكماً" أنه (عليه السلام) قد جعل الفقيه حاكماً فيما هو من شؤون القضاة وما هو من شؤون الولاية، فالفقيه ولي الأمر في البابين، وحاكماً في القسمين، سيما مع عدوله (عليه السلام) عن قوله: "قاضياً" إلى قوله: "حاكماً" فإن الأوامر احكام، فأوامر الله ونواهيه أحكام الله تعالى، بل لا يبعد أن يكون القضاء أعم من قضاء القاضي وأمر الوالي وحكمه، قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}[25]. وكيف كان لا ينبغي الاشكال في التعميم.
بل يمكن الاستشهاد بأن المراد من القضاء المربوط بالقضاة غير ما هو مربوط بالسلطان بمشهورة أبي خديجة، قال: "بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا، فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارء في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر"[26].
فإن الظاهر من صدرها إلى قوله (عليه السلام): "قاضياً" هي المنازعات التي يرجع فيها إلى القضاة، ومن تحذيره بعد ذلك من الارجاع إلى السلطان الجائر وجعله مقابلاً للأول بقوله (عليه السلام): "وإياكم" الخ هي المنازعات التي يرجع فيها إلى السلطان لرفع التجاوز والتعدي لا لفصل الخصومة.
* * *
الشبهة الأولى:
ثم قد تنقدح شبهة في الاذهان بأن أبا عبد الله (عليه السلام) في أيام امامته إذا نصب للامارة أو القضاء شخصاً أو اشخاصاً كان أمده إلى زمان امامته، وبعد وفاته وانتقال الامامة إلى من بعده بطل النصب وانعزل الولاة والقضاة.
الجواب:
وفيها مالا يخفى، فإنه مع الغض عن أن مقتضى المذهب أن الامام امام حياً أو ميتاً وقائماً أو قاعداً أن النصب لمنصب سواء كان نصب الولاة أو القضاة أو نصب المتولي للوقف أو القيم على السفهاء والصغار لا يبطل بموت الناصب، فمن الضروري في طريقة العقلاء أن مع تغيير السلطان أو هيئة الدولة ونحوهما لا ينعزل الولاة والقضاة وغيرهم من المنصوبين من قبلهم، ولا يحتاجون إلى نصب جديد، نعم للرئيس الجديد عزل من نصبه السابق وتغييره، ومع عدم تبقي المناصب على حالها.
وفي المقام لا يعقل هدم الأئمة اللاحقين (عليهم السلام) نصب الامام أبي عبد الله (عليه السلام)، لأنه يرجع اما إلى نصب غير الفقهاء العدول وارجاع الأمر إليه ـ فمع صلاحية الفقهاء العدول كما يكشف عنها نصب أبي عبد الله (عليه السلام) إياهم لا يعقل ترجيح غيرهم المرجوح بالنسبة إليهم عليهم ولو كان عدلاً امامياً، وقد تقدم أنه كالضروري لزوم كون الوالي عالماً بالقوانين، والجاهل لا يصلح لهذا المنصب ولا لمنصب القضاء ـ أو إلى ارجاعهم إلى ولاة الجور وقضاته، وهو ظاهر الفساد، كالاهمال لهذا الأمر الذي يحتاج إليه الأمم، ولا يعقل بقاء عيشهم إلا بذلك، فمن نصبه الإمام عليه السلام) منصوب إلى زمان ظهور ولي الأمر (عليه السلام).
مضافاً إلى أن من الضروري في الفقه ان نصبه باقٍ، ولا زال تمسك الفقهاء بمقبولة عمر بن حنظلة لاثبات منصب القضاء للفقهاء، كما ان من فهم منها الأعم استدل بها لذلك، وهذا واضح.
الشبهة الثانية:
وهنا شبهة أخرى، وهي أن الإمام (عليه السلام) وإن كان خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولي الأمر، وله نصب الولاة والقضاة لكن لم تكن يده مبسوطة، بل كان في سيطرة خلفاء الجور، فلا أثر لجعل منصب الولاية لأشخاص لا يمكن لهم القيام بأمرها، واما نصب القضاة فله أثر في الجملة.
الجواب:
وفيها ـ أنه مع وجود أثر في الجملة في جعل الولاية أيضاً كما لا يخفى، فإن جعل المرجع للشيعة يوجب رجوعهم إليه ولو سراً في كثير من الأمور، كما نشاهد بالضرورة ـ أن لهذا الجعل سراً سياسياً عميقاً، وهو طرح حكومة عادلة إلهية، وتهيئة بعض أسبابها حتى لا يتحير المتفكرون لو وفقهم الله لتشكيل حكومة إلهية، بل و زائداً على الطرح بعث لهم إلى ذلك، كما هو واضح.
ولقد تصدى بعض المتفكرين لطرح حكومة وتخطيطها في السجن لرجاء تحققها في الآتي، ووفق بعضهم لذلك حتى في عصرنا، فالرسول (صلى الله عليه وآله) عين خلفاء بخصوصهم، وهم الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم)، وفي نصبهم و تعيينهم مصالح: منها تحقق أمة عظيمة بلغت في الحال بحمد الله إلى عدد كبير جداً، بل الغالب في العظماء من الأنبياء وغيرهم الشروع في الطرح أو العمل من الصفر تقريباً.
فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قام بالرسالة ولم يؤمن به في أول تبليغه إلا طفل صغير السن عظيم الشأن وامرأة جليلة، ولكن قام بأعباء الرسالة ونشر الدعوة عن عزم راسخ وإرادة قوية وقوة قدسية غير آيس عن حصول مقصده، وجاهد وتحمل المشاق طيلة حياته حتى بلغ الأمر إلى أن نشر الإسلام في العالم، وبلغت عدة المسلمين في الحال قريباً من سبعمائة مليوناً، وسيزيد إنشاء الله، والله غالب على أمره.
وأبو عبد الله (عليه السلام) قد أسس بهذا الجعل أساساً قويماً للأمة وللمذهب بحيث لو نشر هذا الطرح والتأسيس في جامعة التشيع وأبلغه الفقهاء والمتفكرون إلى الناس ولاسيما إلى الجوامع العلمية وذوي الأفكار الراقية لصار ذلك موجباً لانتباه الأمة والتفاتهم إليه، وخصوصاً طبقة الشبان، فلعله يصير موجباً لقيام شخص أو أشخاص لتأسيس حكومة إسلامية عادلة تقطع أيادي الأجانب من بلاد المسلمين، واللازم على علماء الأعلام والمبلغين (أيدهم الله تعالى) أن يقوموا بهذا الأمر الحيوي ويزيلوا اليأس من قلوبهم وقلوب الطلاب والمحصلين وسائر الناس، فأنه مبدأ الخمود والعقود عن الوصول إلى الحق.
ومنها ـ صحيحة القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة ـ إلى أن قال ـ: وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر"[27]. وقريب منها رواية أبي البختري[28] مع اختلاف في التعبير.
وقد وقع سهو في قلم النراقي (قده) في العوائد حيث وصف رواية أبي البختري بالصحة مع إنها ضعيفة، ولا يبعد أن يكون مراده صحيحة القداح وعند الكتب وقع سهو من قلمه الشريف.
ثم إن مقتضى كون الفقهاء ورثة الأنبياء ـ ومنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسائر المرسلين الذين لهم الولاية العامة على الخلق ـ انتقال كل ما كان إليهم إلا ما ثبت أنه غير ممكن الانتقال، ولا شبهة في أن الولاية قابلة الانتقال كالسلطنة التي كانت عند أهل الجور موروثة خلفاً عن سلف.
وقد مرّ أنه ليس المراد الولاية هي الولاية الكلية الإلهية التي دارت في لسان العرفاء وبعض أهل الفلسفة، بل المراد هي الولاية الجعلية الاعتبارية، كالسلطنة العرفية وسائر المناصب العقلائية، كالخلافة التي جعلها الله تعالى لداود (ع) وفرّع عليها الحكم بالحق بين الناس، وكنصب رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (ع) بأمر الله تعالى خليفة وولياً على الأمة. ومن الضروري أن هذه أمر قابل للانتقال والتوريث، ويشهد له ما في نهج البلاغة: "أرى تراثي نهباً"[29]. فعليه تكون الولاية أي كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما يرجع إلى الحكومة والامارة منتقلة إلى الفقهاء.
نعم ربما يقال: إن المراد بالعلماء الأئمة (عليهم السلام)، كما ورد "نحن العلماء"[30]. وفيه ما لا يخفى، ضرورة أنه مع عدم القرينة يكون لفظ (العلماء) ظاهراً والفقهاء غير الأئمة (عليهم السلام)، فراجع ما ورد في العلماء والعالم والعلم، مع أن قوله (عليه السلام) في صحيحة القداح: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً" لا ينطبق على الأئمة (عليهم السلام) بالضرورة، فهو قرينة على أنهم غير الأئمة (ع).
كما أن قوله في ذيل رواية أبي البختري: "فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً" لا ينطبق عليهم (سلام الله عليهم) بضرورة، فحينئذ يكون قول (عليه السلام): "فانظرواً علمكم هذا عمن تأخذونه. فإن فينا أهل البيت" الخ[31] أمراً متوجهاً إلي العلماء بأن علمهم لابد وأن يؤخذ من معدن الرسالة حتى يصير العالم بواسطته وارثاً للأنبياء، وليس مطلق العلم كذلك، أو متوجهاً إلى الأمة بأن يأخذوا عملهم من ورثة الأنبياء أي العلماء، وكيف كان لا شبهة في أن المراد بهم فقهاؤنا (رضوان الله عليهم وأعلى الله كلمتهم).
وأوهن منه ما قيل من أن وراثة الأنبياء بما هم أنبياء لا تقتضي إلا تبليغ الأحكام، فإن الوصف العنواني مأخوذ في القضية، وشأن الأنبياء بما هم أنبياء ليس إلا التبليغ. نعم لو قيل: إنهم وارث موسى وإبراهيم (عليهما السلام) مثلاً صح الوراثة في جميع ما لهم، وذلك لأن هذا التحليل خارج عن فهم العرف، ولا ينقدح في الأذهان من هذه العبارة الوراثة من موسى و عيسى وغيرهم، سيما مع إتيان الجمع في الأنبياء، فإن الظاهر منه إرادة أفرادهم، ويكون العنوان مشيراً إليهم لا مأخوذاً بنحو الموضوعية.
ولو سلمنا ذلك فلا شبهة في أن ما ثبت لعنوان النبي (ص) في الكتاب والسنة لابد وأن يورث، وقد قال الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}[32]، ونحن لا نريد إلا إثبات وراثة هذا المعنى، إذ فيه جميع المطالب، وهذا واضح وجداً.
كما أن عنوان الرسول والنبي في متفاهم العرف واحد وإن ورد الفرق بينهما في الروايات بأن "النبي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك"[33]. ولا شبهة في أن الوراثة ليست في هذا المعنى الذي في الروايات، ضرورة أن الفقهاء لم يكن منزلتهم كذلك، فحينئذ إذا ثبت شيء للرسول ثبت للفقيه بالوراثة، كوجوب الإطاعة ونحوها، فلا شبهة من هذه الجهة أيضاً.
والعمدة شبهة أخرى، وهي أن احتفاف الرواية بتعظيم العلماء بأن من سلك طريقاً يطلب فيه علماً كذا، وأن الملائكة بالنسبة إليهم كذا، وأن الموجودات يستغفرون لطالب العلم، وأن فضلهم كذا، وبقوله (ص): "إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر" ربما يمنع عن فهم عموم التوريث، وإن لا يبعد ولو لأجل المناسبات التي ذكرناها من قبل.
وكيف كان لا يفهم منها انحصار إرث الأنبياء في العلم أو الرواية، ضرورة أن للنبي (صلى الله عليه وآله) جهات شتى ورثها الأئمة (عليهم السلام)، وقوله (عليه السلام) في رواية أبي البختري: "وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم" لا يراد به الحصر، بل المراد منه أنهم (عليهم السلام) أورثوا العلم بدل الدرهم والدينار، فالحصر لو كان إضافي، مع أن (إنما) لا تدل على الحصر، بل لا تفيد إلا التأكيد والتثبيت، فتوهم إن هذا الحديث مناف لما سبق وهادم للولاية في غاية الفساد، للزوم أن يكون هادماً لوراثة الأئمة (ع) أيضاً، وهو ضروري البطلان.
مع انه لا منافاة بينه وبين ما سبق، لأن الأخبار السابقة دالة على النصب، كقوله (صلّى الله عليه وآله): "خلفائي" و"حصون الإسلام" و"أمناء الرسل" و "جعلته حاكماً". فلو لم يكن ارثه إلاّ العلم ولم يورث غيره لكن كما أنه جعل الأئمة (عليهم السلام) خلفاء ونصبهم للخلافة على الخلق أجمعين جعل الفقهاء خلفاء ونصبهم للخلافة الجزئية، والفرق بينهم (ع) وبين الفقهاء من هذه الجهة هو الفرق بين السلطان وبين الأمراء المنصوبين من قبله في الامصار.
وبهذا يظهر أن جعل الخلافة للفقهاء لا يكون في عرض جعلها للأئمة (عليهم السلام) كما توهم، فإن لازم جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة على الكل أنه ولّى على قاطبة الخلق دون استثناء، فهو ولي وأمير على الحسنين (سلام الله عليهما) وعلى الفقهاء وعلى سائر الناس، فإذا جعل الخلافة الجزئية للفقهاء لا يفهم منه إلا أنهم تحت سلطة الأمير (عليه السلام)، لأنه أمير على الكل، مع أن التقييد عقلاً ونقلاً من أسهل التصرفات.
وبما ذكرنا يظهر الوجه في دلالة روايات أخر غير سديدة الاسناد كما عن الفقه الرضوي أنه قال: "منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء من بني اسرائيل"[34]. وكان موسى (على نبينا وآله وعليه السلام) وكثير من الأنبياء ممن لهم الولاية على بني اسرائيل.
وكالراية المروية عن جامع الاخبار عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: "أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي، فأقول: علماء أمتي كسائر أنبياء قبلي".
وعن عبد الواحد الأمدي في الغرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "العلماء حكام على الناس"[35]. وفي نسخة "حكماء" وهي خطأ.
وكرواية تحف العقول عن سيد الشهداء عن أمير المؤمنين (عليهما السلام)، وفيها "مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه"[36]. وهي وإن كانت مرسلة، لكن اعتمد على الكتاب صاحب الوسائل (قده) ومتنها موافق للاعتبار والعقل.
وقد يقال: إن صدر الرواية وذيلها شاهد على أن المراد بالعلماء بالله الأئمة (عليهم السلام). وأنت إذا تدبرت فيها صدراً ذيلاً ترى أن وجهة الكلام لا تخص بعصر دون عصر، وبمصر دون مصر، بل كلام صادر لضرب دستور كلي للعلماء قاطبة في كل عصر ومصر للحث على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مقابل الظلمة، وتعييرهم على تركهما طمعاً في الظلمة أو خوفاً منهم.
ثم وجّه كلامه (عليه السلام) إلى عصابة المسلمين بأن المهابة التي في قلوب الأعداء منكم "إنما هي بما يرجى عندكم من قيام بحق الله وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون، فاستخففتم بحق الأئمة (عليهم السلام) ـ ثم جرى في كلامه (عليه السلام) إلى أن قال ـ وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول الله محقورة، والعمي والبكم والزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون ـ إلى أن قال ـ وبالأدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمر الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون، وأنتم أشد مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون، ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلال و حرامه ، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق" إلى آخرها مما هي وعظ ودستور لقاطبة المسلمين حاضرهم وغائبهم الموجود منهم ومن سيوجد.
والعدول عن لفظ (الأئمة) إلى "العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه" لعله لتعميم الحكم بالنسبة إلى جميع العلماء العدول الذين هم أمناء الله على حلاله وحرامه، بل انطباق هذا العنوان على غير الأئمة أظهر، إذ توصيفهم (عليهم السلام) بذلك يحتاج إلى القرينة.
والظاهر من الخبر شموله لهم ولسائر العلماء في العصور المتأخرة للمناسبات التي هي عامة لجميع الإعصار، بل لا يبعد دعوى ظهور الرواية صدراً وذيلاً في غير الأئمة (عليهم السلام).
وتوهم أن العالم بالله له مقام فوق مقام الفقهاء فاسد، لأن المراد بالعالم بالله ليس معنى فلسفياً أو عرفانياً، كما أن في صدر الرواية استشهد بقوله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار}[37]. والرباني عبارة أخرى عن العالم بالله، وكيف كان فمن نظر إلى الرواية وتعميم وجهة الخطاب فيها لا ينبغي له التأمل في ظهورها من المقصود.
وبعد ثبوت كونهم ولاة لا مانع من التمسك بما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في كتب العامة والخاصة على ما قيل من أن قال: "السلطان ولي من لا والي له"[38]. ومعلوم أن المراد السلطان العادل، و لو كان فيه إطلاق يقيد بما مضى.
فتحصل مما مرّ ثبوت الولاية للفقهاء من قبل المعصومين (عليهم السلام) في جميع ما ثبت لهم الولاية فيه من جهة كونهم سلطاناً على الأمة. ولابد في الإخراج عن هذه الكلية في مورد من دلالة دليل دال على اختصاصه بالإمام المعصوم (عليه السلام)، بخلاف ما إذا ورد في الأخبار أن الأمر الكذائي للإمام (عليه السلام) أو يأمر الإمام بكذا وأمثال ذلك فإنه يثبت مثل ذلك للفقهاء العدول بالأدلة المتقدمة.
ففي مثل ما وردت في باب الحدود كراراً من ذكر الإمام كقول أبي عبد الله (عليه السلام): "من أقرّ على نفسه عند الإمام ـ إلى أن قال ـ فعلى الإمام أن يقيم الحد عليه"[39]، أو قوله (عليه السلام): "الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحد، ولا يحتاج إلى بينه مع نظره، لأنه أمين الله في خلقه"[40]. وكما عن أبي جعفر (عليه السلام): "إذا شهد عند الإمام شاهدان ـ إلى أن قال ـ أمر الإمام بالإفطار"[41]، إلى غير ذلك من الموارد المشتملة على لفظ الإمام تكون أدلة ثبوت الولاية من قبلهم كافية في إثبات ذلك للفقيه، هذا مع الغمض عن الأدلة الخاصة الدالة على الثبوت للفقيه، كما في الحدود وغيرها.
ثم إنا أشرنا سابقاً إلى أن ما ثبت للنبي (صلّى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) من جهة ولايته وسلطنته ثابت للفقيه، وأما إذا ثبت لهم (ع) ولاية من غير هذه الناحية فلا. فلو قلنا بأن المعصوم (عليه السلام) له الولاية على زوجة الرجل أو يبيع ماله أو أخذه منه ولو لم يقتضِ المصلحة العامة لم يثبت ذلك للفقيه، ولا دلالة للأدلة المتقدمة على ثبوتها له حتى يكون الخروج القطعي من قبيل التخصيص.
______________________________
[1] الوسائل، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 50.
[2] الوسائل، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53. والطرق مذكورة في الباب 54 من أبواب الوضوء، الحديث 4.
[3] الوسائل، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 50 ـ 53.
[4] الوسائل، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 50 ـ 53.
[5] المستدرك، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 ـ 48 ـ 52.
[6] المستدرك، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 ـ 48 ـ 52.
[7] المستدرك، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 ـ 48 ـ 52.
[8] أصول الكافي، ج1، ص38، باب فقد العلماء، الحديث 2ـ3.
[9] أصول الكافي، ج1، ص38، باب فقد العلماء، الحديث 2ـ3.
[10] نهج البلاغة، الرسالة 53، في عهده (عليه السلام) إلى مالك (ره).
[11] أصول الكافي، ج1، ص46.
[12] المستدرك، الباب 35، من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.
[13] المستدرك، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
[14] بحار الأنوار، ج6، ص60.
[15] الوسائل، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
[16] الوسائل، الباب 3، من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
[17] الوسائل، الباب 3، من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
[18] سورة النساء، الآية 60.
[19] الوسائل، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
[20] سورة النساء، الآية 58.
[21] مجمع البيان، ج2، ص63، طبعة صيدا.
[22] سورة ص، الآية 26.
[23] سورة النساء، الآية 59.
[24] سورة النساء، الآية 60.
[25] سورة الأحزاب، الآية 36.
[26] الوسائل، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
[27] أصول الكافي، ج1، ص34.
[28] الوسائل، الباب 8، من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
[29] نهج البلاغة، الخطبة الثالثة.
[30] الوسائل، الباب 7، من أبواب صفات القاضي، الحديث 18.
[31] الوسائل، الباب 8، من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
[32] سورة الأحزاب، الآية 6.
[33] أصول الكافي، ج1، ص176.
[34] بحار الأنوار، ج78، ص346.
[35] المستدرك، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.
[36] المستدرك، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث 36.
[37] سورة المائدة، الآية 63.
[38] سنن البيهقي، ج7، ص105.
[39] الوسائل، الباب 32، من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
[40] الوسائل، الباب 32، من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
[41] الوسائل، الباب 6، من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية