توطئة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على أشرف الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء
والمرسلين محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن المطلعين على تأريخ العالم يعلمون بأن الأمم المسيحية والأوربية لم يكن لها قبل
الحروب الصليبية أي نصيب من العلم والمدنية والنظم السياسية، وهذا يرجع إلى أحد
أمرين:
فأما أن الشرائع التي آمن بها الأوربيون لم تكن تنطوي على ذلك، أو أنهم حرفوا تلك
الشرائع والكتب. وبعد وقوع تلك الواقعة العظيمة ـ الحروب الصليبية ـ عزوا انكسارهم
إلى تخلفهم وجاهليتهم، فجعلوا معالجة هذا المرض ـ وهو أساس كل الأمراض ـ نصب أعينهم
وأهم أهدافهم وانطلقوا نحو هدفهم هذا بشوق وحنين، فأخذوا الأصول الإسلامية في حقلي
التمدن والسياسة من الكتاب، والسنة، ومن خطب ومواقف أمير المؤمنين (عليه السلام)
وبقية المعصومين. وقد اعترفوا بذلك في تواريخهم السابقة منصفين، وأقروا بأن العقل
البشري قاصر عن التوصل إلى تلك الأصول والمبادئ، وأعلنوا أن جميع ما حصلوا عليه من
الرقيّ والتقدم، وما وصل إليه المسلمون في أقل من نصف قرن، كان نتيجة للالتزام بتلك
المبادئ واتباعها.
إن حسن ممارسة الأوربيين لهذه المبادئ، وجودة استنباطهم واستخراجهم لها، وبالمقابل
السير القهقرائي للمسلمين ووقوعهم تحت نير الاستعباد المذل، وتحولهم إلى أسرى بأيدي
طواغيت الأمة المعرضين عن الكتاب والسنة هو الذي آل بأمر الطرفين إلى ما نشاهده
اليوم، حتى نسي المسلمون تلك المبادئ، وأخذوا يظنون أن تمكين النفوس لتلك العبودية
وذلك الاسترقاق هو من وحي الإسلام، واستنتجوا أن هذا الدين ينفي التمدن والعدالة
اللذين يمثلان أساس الرقي، وحسبوا أن الإسلام يخالف العقل، وأنه أساس الانحطاط
والتخلف.
وفي هذه البرهة من الزمن حيث وصل السير التراجعي إلى نقطته الأخيرة بحمد الله وحسن
تأييده، وانقضى عهد الذل والخضوع لإرادة الحكام الجائرين وتصرّمت سني الاسترقاق
اللعينة، انتبه عموم المسلمين، وعرفوا مقتضيات دينهم ومذهبهم. وذلك بفضل الدور الذي
لعبه الزعماء الدينيون في إرشادهم وهدايتهم. فعلم المسلمون أن الحرية التي منحها
الله سبحانه لهم تصطدم مع الرقية لفراعنة الأمة، واستأنسوا بالحقوق المشروعة
كالمساواة والمشاركة في جميع الأمور مع الحكام. فانطلقوا كالسمندر(2) يتخطون لهيب
النار لخلع طوق العبودية للجبابرة، واسترداد حقوقهم المغصوبة، غير آبهين ببحار
النيران، ومعلنين أن إراقة دمائهم الطبية في سبيل هذا الهدف هو من أعظم ما يوجب
السعادة والحياة للشعب، ومؤثرين التضمخ بالدم على الحياة الذليلة الأسيرة للظالمين.
وقد تعلّموا كل هذا من سيد المظلومين (عليه السلام) حيث قال: "... نفوس أبيّة، من
أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام"(3).
إنّ صدور الأحكام من علماء الإسلام في النجف الأشرف والتي تنص على وجوب تحقيق هذا
المشروع المقدس، وتعقيب مشيخة الإسلام في اسطنبول التي تمثل مرجعية أهل السنة بفتوى
تنص على براءة الساحة المقدسة للدين الإسلامي الحنيف من الأحكام الجائرة المخالفة
لضرورة العقل النزيه والمستقل لحجة ظاهرة قطعت لسان المعيبين، لكن الذئاب المفترسة
التي تريد الوقيعة بإيران، ومن أجل الإبقاء على شجرة الظلم والاستبداد الخبيثة ومن
أجل اغتصاب أموال ورقاب المسلمين، رأوا في رفع شعار الدين خير وسيلة للوصول إلى
مآربهم. ولهذا رفعوا مقولة فرعون {أخاف أن يبدّل دينكم}(4)، ولم يرفعوا أيديهم عن
هذا الاسم الذي لا مسمى له، وهذا اللفظ الخالي من المعنى، وتواطئوا مع فراعنة إيران
وفعلوا ما فعلوا، حيث جددوا شنائع الضحاك وجنكيز خان وأسموها تديّناً، وقالوا بأن
سلب الصفات الإلهية الخاصة به عز وجل ـ كالإدارة المطلقة والفعل بما يشاء وكونه لا
يُسأل عمّا يفعل ـ من الحكام الجبابرة أمر ينافي الإسلام، وراحوا يشهّرون ـ من خلال
عملهم هذا ـ بالإسلام ويتهمون الشرع القويم بهذه الصفات البذيئة أمام المسيحيين،
الذين طالما تتبعوا وأحصوا السقطات والعثرات وألصقوها بالإسلام، فظلموا الساحة
النبوية المقدسة، بل وحتى الذات الإلهية المقدسة.
وبذلك أوصلوا والاستبداد إلى أعلى الدرجات حيث ظلموا الخالق ليظلموا المخلوق، فصدق
الله العظيم حيث يقول: {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذّبوا بآيات الله
وكانوا بها يستهزئون}(5).
وعملاً بمقتضى الحديث القائل: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه، وإلاّ
فعليه لعنة الله"(6) يكون السكوت على هذه الزندقة والإلحاد والتلاعب بالدين المبين
وعدم الانتصار للشريعة المقدسة في دفع الظلم والضيم البيّن تركاً للواجب والتكليف،
بل هو مساعدة ومعونة للظلم.
لهذا فقد آليت على نفسي أداء التكليف، والقيام بهذه الخدمة، وإظهار مخالفة هذه
الزندقة والإلحاد مع ضرورة الدين الإسلامي. آملاً أن تكون مبادرتي هذه مورد قبول
الحق تعالى وموجبة لسقوط التكليف عن الباقين. وما توفيقي إلاّ بالله، عليه توكلت
وإليه أنيب وهو المسدد للصواب.
وبما أن هذه الرسالة وضعت لتنبيه الأمة إلى ضروريات الشريعة وتنزيه الملة عن هذه
الزندقة والإلحاد والبدعة، لهذا جعلت اسمها (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، وصنفت
مقاصدها على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.