المقدمة
في شرح حقيقة الاستبداد ودستورية الدولة
وتحقيق معاني القانون الأساسي ومجلس الشورى الوطني
وبيان مفهوم الحرية والمساواة
اعلم أن من الأمور التي اتفق عليها جميع المسلمين، بل عقلاء العالم أجمع، هو أن
استقامة نظام وحياة النوع البشري متوقفة على وجود سلطنة وحكومة سياسية، سواء قامت
بشخص واحد أو بهيئة، وسواء كان المتصدي لها غاصباً قاهراً أو وارثاً منتخباً.
ومما هو معلوم بالضرورة أيضاً أنه لا يمكن حفظ شرف استقلال أية أمة أو قومية وحفظ
خصائصها الدينية والوطنية إلاّ إذا كان النظام الحاكم فيها منتزعاً منها، وكانت
الإمارة عليها من نوعها، وإلاّ ذهب ناموسهم الأعظم وشرف استقلالهم وقوميتهم هباءً
منثوراً، وإن بلغوا أعلى درجات الثروة والقوة ونالوا ما نالوا من التقدم والرقي.
ومن هنا نجد أن الشريعة المطهرة جعلت حفظ بيضة الإسلام أهم من جميع التكاليف،
واعتبرت الحكومة الإسلامية من الشؤون والوظائف المقررة للإمامة، وتفصيل البحث في
هذه الجهة موكول إلى مباحث الإمامة وخارج عن موضوع بحثنا هنا.
ومن الواضح أيضاً أن كل الجهات الراجعة لتوقف نظام العالم على أصل السلطة وتوقف حفظ
شرف الاستقلال على كون الحكومة من أفراد الشعب الذي تحكمه، إن كل هذه الجهات، ترجع
إلى أصلين هما:
1ـ حفظ وصيانة الأنظمة الداخلية للدولة والتربية النوعية للشعب، وإيصال الحق إلى
صاحبه، والحيلولة دون ظهور عداوات بين أفراد الأمة، وغير ذلك من الوظائف المرتبطة
بمصالح الشعب والدولة.
2ـ حماية الوطن من تدخل الأجانب، والحذر من حيل الأعداء، وإعداد القوة الدفاعية
والمعدات الحربية وغير ذلك من الأمور التي عبر عنها المتشرعون بـ (حفظ بيضة
الإسلام)، وعبر عنها غيرهم بـ (الحفاظ على الوطن). وتسمى الأحكام المقررة في
الشريعة لإقامة هذه الوظائف بالأحكام السياسية والمدنية، وهي الجزء الثاني من
الحكمة العملية(7)، ولذا اهتم سلاطين الفرس والروم قديماً اهتماماً شديداً في
انتخاب الحكماء الذين قطعوا أشواطاً كبيرة في العلم والتجربة كوزراء لهم، وكان
هؤلاء يتقبلون الوزارة مع كمال الاحتياط والورع.
إن وضعية الخراج وكذلك تنظيم سائر القوى النوعية، بل إن السلطة ومنذ بدء تكونها
وبغض النظر عمّن يتصدى لها من الأنبياء أو الحكماء، جاءت من أجل العمل بهذه الوظائف
وتحقيق هذه الجهات، وقد سارت الشريعة المطهرة على نفس الشاكلة مع تكميل النواقص
وتبيين الشروط والقيود.
أما كيفية استيلاء السلطان وتصرفه في البلاد من حيث كونه تملّكاً أو ولاية، فهي على
نحوين لا ثالث لهما:
الأول: الاستيلاء على نحو التملّك، وهو أن يتعامل السلطان مع مملكته كما يتعامل
المالكون مع أموالهم الشخصية، فتعتبر البلاد وما فيها ملكاً شخصياً له، ويجعل الشعب
عبيداً له، فهم كالأغنام والعبيد والإماء لم يخلقوا إلاّ له، فيقرب من كان وافياً
الغرض متفانياً في تحقيق شهوات السلطان، وينفي عن البلاد ـ التي ظنها ملكاً شخصياً
له ـ من وجده مخالفاً له، وقد يعدمه أو يقدمه لقمة سائغة لكلابه وما حوله من الذئاب
الضارية، ثم يأمرهم بنهب أمواله وسلب عياله، فهو ينتزع الأموال من أصحابها متى شاء،
ويوزّعها على من يشاء ظلماً وعدواناً، ويأخذ الحق من أهله غصباً، ويتصرف في البلاد
مختاراً، ويستوفي الخراج كما يستوفي المؤجر مال إجارته، وكما يأخذ صاحب الأرض حقه
الخاص من أرضه، وكما يفعل سائر الملاكين بمزارعهم وضياعهم، وكل ذلك منوط بإدارته
واختياره، فإذا شاء احتفظ بالأموال، وإن شاء وهبها للمتملقين والمتزلفين، وإن شاء
باعها أو رهنها في سبيل تهيئة مصارفه وتأمين شهواته، وربما تطاول على الناموس
الأعظم، وأظهر للملأ عدم التزامه بناموس من النواميس وعدم انقياده لدين من الأديان،
ومع كل ذلك قد ينتحل الصفات القدسية والأسماء الإلهية بمساعدة أعوانه وأصحابه.
وهكذا فكل شيء في البلاد مسخّر لشهواته وسلطانه، مطبّقاً على نفسه قوله تعالى: {لا
يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون}(8)!
وحيث يسود الهوى والتحكم الشخصي في هذا النوع من السلطة، ويبدو نوعاً من الملك
الشخصي، لذا فإنه يسمى استبداداً وتحكّماً واعتسافاً وتسلطاً. وأما وجه هذه التسمية
ونسبة هذه الأسماء إلى مسمياتها فظاهر واضح، وصاحب هذا النوع من السلطة يسمى الحاكم
المطلق والحاكم بأمره ومالك الرقاب والظالم والقهار وأمثال ذلك، والأمة المبتلاة
بهذا الأسر والقهر والذلة تسمى أسيرة وذليلة ومسترقّة. وبملاحظة حالها المشابه
لحالة الأيتام والصغار، حيث لا علم لهم بممتلكاتهم المغصوبة، لذا فهم يُدعون
بالمستصغرين والأمة المستصغَرة، أي المعدودة في عداد الصغار والأيتام، بل إن من
الممكن تسميتها بالأمة المستنبتة، أي المندرجة في عداد النباتات البرية والحشائش
الصحراوية، لأنها أمة مسخرة في مصالح السلطان وفانية في إراداته وميوله، ولم يكن
حظها من حياتها إلا كحظ النباتات التي خلقت لغيرها لا لنفسها.
ولهذا النوع من السلطة درجات تتفاوت تبعاً لطغيان السلاطين من جهة، وإدراك الأمة
لموقفها من جهة ثانية، وتبعاً لدرجة التوحيد عند الأمة ومدى استعدادها لإشراك
السلاطين مع الله سبحانه في (فاعلية ما يشاء، والحاكمية بما يريد، وعدم المسؤولية
عمّا يفعل)، إلى غير ذلك من الأسماء الإلهية والصفات الأحدية من جهة ثالثة.
وبالنسبة للسلطان فإن آخر الدرجات عنده هي ادعاء الألوهية! ولا يقف هذا السيل
الجارف الآخذ بالطغيان والازدياد إلاّ عندما تدرك الأمة لموقفها وتصل درجة
الاستنكاف من تمكين السلطان من ادعاء مقام الألوهية، وإلاّ فإنه يواصل سيره حتى
يبلغ هذه الدرجة، كما يظهر ذلك جلياً في سيرة الفراعنة السابقين.
وبمقتضى المثل السائر (الناس على دين ملوكهم) تكون معاملة أفراد الأمة من دونهم على
نفس منوال السلطان مع الأمة، من حيث المعاملة التعسفية، وهذه الشجرة الخبيثة تستمد
أصلها من جهل الأمة بوظائف السلطنة وحقوقها الشرعية المشتركة، وقوامها الوحيد عدم
وجود محاسبة السلطان في البين، وعدم تحميله المسؤولية عندما يرتكب الأعمال المنافية
لموقعه المسؤول في الأمة.
الثاني: أن لا تقوم السلطة على المالكية ولا القاهرية ولا الفاعلية بما يشاء ولا
الحاكمية بما يريد، وإنما على أساس إقامة تلك الوظائف والمصالح النوعية المطلوبة من
السلطة، وأن تكون اختيارات الحاكم محدودة بحدود هذه الوظائف ومشروطة بعدم تجاوزه
حدود الوظائف المقررة عليه.
وهذان النوعان من السلطة متضادان ولهما آثار ولوازم متباينة متناقضة؛ فالنوع الأول
بجميع مراتبه ودرجاته مبني على القهر والتسخير واستخدام الأمة من قبل السلطان
واستهلاك قدراتها المالية وغير المالية في سبيل أهوائه وشهواته ومواقفه اللامسؤولة؛
فإن فتك فقد فتك بمملوكه، وإن عفا فهو أهل العفو عن عبيده وإمائه، وله أن يقتل
ويقدم المقتول للذئاب الضارية من حوله، وإن قنع بنهب الأموال ولم يتعرّض للناموس
فقد فعل ما يستحق الشكر ويستوجب المنة! فنسبة الشعب للسلطان كنسبة العبيد والإماء
للأسياد، بل الأغنام والأنعام لرعاتها، وربما كانوا أقل رتبة، فكانوا لديه بمنزلة
النباتات التي ليس لها من وجودها أقل نصيب، فهي موجودة لرفع حاجة الغير فحسب...!
وبالجملة فهذه السلطة عبارة أخرى عن الربوبية والألوهية، بخلاف النوع الثاني فإن
حقيقته ولبّه الخالي عن القشور عبارة عن ولاية على إقامة الوظائف الراجعة للدولة.
وبعبارة ثانية هي أمانة نوعية في صرف قدرات البلد في مصالحه، لا في الشهوات والميول
الفردية. ولذا فإن سلوك الحاكم محدود بحدود الولاية على هذه الأمور ومشروط بعدم
تجاوزها، وأفراد الشعب شركاء معه في جميع مقدرات البلد التي تنتسب للجميع بشكل
متساوٍ. وليس المتصدون للأمور إلاّ أمناء للشعب، لا مالكين أو مخدومين. وهم كسائر
الأمناء مسؤولون عن كل فرد من أفراد الأمة، ويؤاخذون بكل تجاوز يرتكبونه، ولكل فرد
من أفراد الشعب حق السؤال والاعتراض في جو يسوده الأمن والحرية، وبدون التقيد
بإرادة السلطان وميوله.
وتسمى السلطة الناشئة عن هذا النوع بالمحدودة، والمقيدة، والعادلة، والمشروطة،
والمسؤولة، والدستورية، ووجه تسميتها بكل من هذه الأسماء ظاهر، ويسمى القائم بهذه
السلطة حافظاً وحارساً، والقائم بالقسط، والمسؤول، والعادل، وتسمى الأمة المتنعمة
بظل هذه النعمة، بالأمة المحتسبة والأبيّة والحرّة والحيّة، ومناسبة كل هذه الأسماء
لمسمياتها معلومة أيضاً...!
ويتقوّم هذا النوع من السلطة بالولاية والأمانة، ولذا فهو كسائر الأمانات والولايات
مشروط بعدم التجاوز ومقيد بعدم التفريط، والعامل الذي يحفظ هذا النوع ويحول دون
انقلابه إلى مالكية مطلقة ويردعه عن التعدي والتجاوز إنما هو المراقبة والمحاسبة
والمسؤولية الكاملة، ولذا اعتبرت العصمة في مذهبنا ـ نحن معشر الإمامية ـ شرطاً في
الوليّ؛ فهي أعلى درجة متصورة في مقام حفظ الأمانة والحيلولة دون الاستبداد وتحكيم
الشهوات. ومن الواضح أن اصابة الواقع والصلاح، وعدم الوقوع في المعصية حتى من باب
الخطأ والاشتباه، وكذلك المحاسبة الإلهية وإيثار الوالي تمام أفراد الأمة على نفسه،
إلى غير ذلك من الخصائص، أمور تنتهي بواسطة العصمة والانخلاع عن الشهوة إلى درجة لا
يصل إلى كنهها أحد، ولا يدرك العقل البشري حقيقتها.
ومع فقدان مثل هذه الشخصية المباركة يصعب الحصول على سلطان هو كأنو شيروان(9)
المستجمع لصفات الكمال، وله من الحاشية مثل بوذرجمهر(10) في ذهنيته العلمية وفي
استعداده لأن يكون حاشية تأخذ على عاتقها المراقبة الكاملة والمحاسبة التامة، على
أن حصول مثل هذه الشخصيات لا يعد وافياً بتمام المقصود ولا يغني عن مشاركة الأمة في
السلطة ومساواتها مع السلطان وسد أبواب الاستئثارات عليه، وإطلاق حرية الأمة في
إبداء الرأي أمامه والاعتراض عليه، لأن أمثال هذه الشخصيات ترى سلوكها نوعاً من
التفضل لا الاستحقاق، رغم أن الحصول على أمثال هذه الشخصيات أندر من العنقاء وأعز
من الكبريت الأحمر، واطرادها أمر ممتنع.
وغاية ما يمكن إيجاده ونهاية ما يتصور اطراده كبديل بشري طبيعي عن تلك العصمة
العاصمة ـ حتى مع مغصوبية المقام(11) ـ هو حل بمثابة المجاز عن تلك الحقيقة وظل
لتلك الصورة. ويتوقف هذا الحل على أمرين:
1ـ إيجاد دستور وافٍ بالتحديد المذكور، بحيث تتميز الوظائف التي يُلزم السلطان
بإقامتها عن المجالات التي لا يحق له التدخّل فيها والتصرف بها. ويتضمن أيضاً كيفية
إقامة تلك الوظائف وإيضاح درجة استيلاء السلطان وحرية الأمة وما لفئاتها وطبقاتها
من حقوق، على وجه يكون موافقاً لمقررات المذهب ومقتضيات الشرع؛ بحيث يكون الخروج عن
عهدة هذه الوظيفة والإفراط أو التفريط في هذه الأمانة إفراطاً خيانة ـ كسائر أنواع
الخيانة بالأمانات ـ موجبة للانعزال عن السلطة بشكل رسمي وأبدي، وتترتب عليها سائر
العقوبات المترتبة على الخيانة. وهو ـ أي الدستور المقترح ـ في باب السياسة والنظام
بمثابة الرسالة العملية للمقلدين في أبواب العبادات والمعاملات، وعلى أساسه تبتنى
السلطة المقيدة المحدودة، ولذا يلزم مراعاته وعدم تخطّيه في الجزئيات والكليات،
ويطلق عليه اسم النظام الدستوري والقانون الأساسي.
وبعد اشتماله على المصالح المطلوبة والتقييد المقصود في مجال السلطة، يكفي لصحته
ومشروعيته عدم مخالفة فصوله للقوانين الشرعية. ولا يعتبر أي شرط آخر في صحته
ومشروعيته، وسيأتي توضيح الجهات التي يلزم مراعاتها إتماماً لهذا الأمر المهم.
2ـ إحكام المراقبة والمحاسبة، وإيكال هذه الوظيفة إلى هيئة مسددة من عقلاء الأمة
وعلمائها الخبراء بالحقوق الدولية المطلعين على مقتضيات العصر وخصائصه، ليقوموا
بدور المحاسبة والمراقبة تجاه ولاة الأمور الماسكين بزمام الدولة، بغية الحيلولة
دون حصول أي تجاوز أو تفريط، وهؤلاء هم مندوبو الأمة والمبعوثون عنها، ويمثلون
قوتها العلمية، والمجلس النيابي عبارة عن المجمع الرسمي المكون منهم، ولا تتحقق
وظيفتهم من المحاسبة والمراقبة وحفظ محدودية السلطة ومنع تحولها إلى ملوكية، إلاّ
إذا كان جميع موظفي الدولة وهم القوة التنفيذية في البلاد تحت نظارة ومراقبة هذه
الهيئة، التي يجب أن تكون هي الأخرى مسؤولة امام كل فرد من أفراد الأمة، ويؤدي
الفتور والتهاون في أداء هاتين المسؤوليتين إلى زوال التحديد المقصود للسلطة،
وانتقاء حقيقة الولاية وصفة الأمانة عنها نتيجة لتحكم الموظفين واستبدادهم، وذلك في
صورة انتقاء مسؤولية الموظفين أمام هيئة المبعوثين عن الأمة، أو عندما يسلك مندوبو
الأمة طريق التحكم والاستبداد ولا يتحلون بروح المسؤولية أمام أفراد الأمة.
أمام مشروعية نظارة هذه الهيئة وصحة تدخلها في الأمور السياسية، فهي متحققة طبقاً
للمذهبين السني والجعفري معاً؛ فعلى المذهب السني، حيث تناط عندهم الأمور بأهل الحل
والعقد، فإن انتخاب المبعوثين يحقق الغرض المطلوب، ولا تتطلب الشرعية طبقاً لهذا
المذهب شيئاً آخر. وطبقاً لأصول مذهبنا، حيث نعتقد أن أمور الأمة وسياستها منوطة
بالنواب العامين لعصر الغيبة، فيكفي لتحقق المشروعية المطلوبة اشتمال الهيئة
المنتدبة على عدة من المجتهدين العدول، أو المأذونين من قبلهم، فإن مجرد تصحيح
الآراء الصادرة والموافقة على تنفيذها كافٍ لتحقق مشروعية نظارة هيئة المبعوثين،
وسيأتي فيما بعد توضيح أكثر لهذا المطلب.
ومما تقدم يتضح أن أساس النوع الأول من السلطنة ـ الذي هو عبارة عن مالكية مطلقة
وفاعلية ما يشاء وحاكمية بما يريد ـ مبني على تسخير الأمة وقهرها بالإرادات
السلطانية من جهة، وجعل السلطة أمراً خاصاً بالسلطان، ولا تشاركه فيها الأمة فضلاً
عن أن تكون مساوية له، وإيكال كل الأمور إليه وحده من جهة ثانية، ويتفرع عن ذلك عدم
مسؤولية السلطان عمّا يقوم به، وكل ما نراه اليوم(12) في إيران من الشنائع المدمرة
للدين والدولة والشعب، والتي لم تقف عند حد، هي من هذا الباب؛ ولا بيان بعد العيان
ولا أثر بعد عين.
وقد عرفت أن أساس النوع الثاني معاكس لأساس النوع الأول، وهو عبارة عن ولاية على
إقامة المصالح العامة، ومبني على تحرير الأمر من الرق البغيض من جهة، ومشاركة أفراد
الأمة بعضهم مع بعض ومساواتهم مع شخص السلطان في جميع أمور البلاد من جهة ثانية،
ويتفرع عن ذلك حق الأمة في المحاسبة والمراقبة ومسؤولية الموظفين.
وقد بلغ من استحكام هذين الأصلين والمسؤولية المترتبة عليهما في صدر الإسلام مبلغاً
عظيماً، حتى قيل للخليفة الثاني مع ما كان عليه من الأبهة والهيبة يوم رقى المنبر
يستنفر الناس للجهاد: لا سمعاً ولا طاعة! لأنهم وجدوه مرتدياً ثوباً يمانياً يستر
جميع بدنه، بينما كانت حصة كل واحد من المسلمين من تلك البرود غير كافية لستر جميع
البدن، ولم يبق أمامه إلاّ أن يجيب بأنه جمع حصته مع حصة ابنه عبدالله الذي وهبها
له فصارت الحصتان ثوباً واحداً يستر جميع البدن، ثم قيل له في جواب الكلمة
الامتحانية التي قالها آنذاك: "لنقوّمنّك بالسيف"! فبدى عليه الفرح والسرور من هذا
الجواب الذي يبيّن استقامة الأمة(13).
وعندما كان هذان الأصلان والفروع المترتبة عليهما محفوظة ومصانة كما جعلها الشارع
ولم تكن السلطنة الإسلامية قد تحولت من النوع الثاني إلى النوع الأول بعد، كان
الإسلام يتسع نطاقه ويسير نحو الرقي بسرعة محيرة للعقول، ولكن بعد استيلاء معاوية
وبني العاص على الحكم تبدّلت تلك الأصول والفروع إلى أضدادها. وفي تلك المدة كانت
الأمم الأخرى تعيش وضعاً مشابهاً للأمة الإسلامية من حيث الاستبداد والقهر؛ ولذا لم
تتراجع حركة الإسلام إلى الوراء، وظلت تراوح في مكانها إلى حين حلول النهضة في هذه
الأمم واتباعها للمبادئ الطبيعية وحصولها على الترقي الهائل، حينئذ بدأ الطواغيت
يعودون بالأمة إلى ما قبل الإسلام، حيث الرجوع إلى الجاهلية، والابتلاء بهذه
الرقيّة الوحشية، والنشأة النباتية الخسيسة {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا
ما بأنفسهم}(14).
وبالجملة، فإن أساس النوع الأول من السلطنة مبني على الاستعباد واسترقاق الأمة وفرض
التحكم والأهواء عليها، وعدم مشاركتها ـ فضلاً عن مساواتها ـ للسلطان، ويتفرع على
ذلك عدم مسؤولية السلطان عمّا يقوم به.
كما أن النوع الثاني مبني على أصل تحرير الأمة من هذه العبودية ومشاركة أفراد الأمة
ومساواتها مع الشخص الوالي في جميع الشؤون، ويتفرع عن ذلك مسؤولية الوالي عمّا يقوم
به.
وفي موارد عديدة من كلام الله المجيد ونصوص المعصومين (عليهم السلام) نجد الشرع
يعبّر عن المقهورية تحت إرادة الجائرين بالعبودية التي هي النقطة المقابلة للحرية
المطلقة، وقد حذّر المعصومون (عليهم السلام) المسلمين من الوقوع في هذه الهلكة، كما
أرشدوهم إلى طرق الخلاص من الذلة، كما يظهر ذلك من قصة فرعون وكيفية استيلائه على
بني إسرائيل؛ ذلك الاستيلاء الذي وصفه القرآن بالاستعباد، رغم أنهم لم يقرّوا
لفرعون كما أقرّ له الأقباط بالعبودية، وكانوا معذبين محبوسين وممنوعين من الوصول
إلى الأرض المقدسة، كما في قوله تعالى في سورة الشعراء على لسان الكليم (عليه
السلام) مخاطباً فرعون: {وتلك نعمة تمنّها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل}(15)، وفي
موضع آخر على لسان قوم فرعون قال تعالى: {وقومهما لنا عابدون}(16). ويبدو من قوله
تعالى على لسانهم أيضاً: {وإنا فوقهم قاهرون}(17)، إن الاستعباد الذي ابتلي به بنو
إسرائيل هو عبارة عن هذه المقهورية، فعبّر القرآن الكريم عن القهر بالاستعباد. وورد
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متواتراً الإخبار باستيلاء الشجرة الأموية
الملعونة والدولة المروانية الخبيثة بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا بلغ بنو
العاص ثلاثين اتخذوا دين الله دوَلاً وعباد الله خوَلاً"(18).
وقد فسّر صاحب مجمع البحرين كلمة (خولاً) بالعبيد(19)، وعمّمها صاحب القاموس حتى
على النعم والمواشي واستدل بقوله تعالى: {وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم}(20).
ومفاد هذا الحديث الشريف المتضمن للإخبار عن الغيب، هو أنه إذا بلغ عدد بني العاص
ثلاثين جعلوا دين الله دولة لهم، واتخذوا عباد الله عبيداً وإماءً لهم.
ونلاحظ في هذا الحديث الذي هو من براهين النبوة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حدد
بداية تحول الحكم الإسلامي من النحو الثاني إلى النحو الأول، أي من الولايتية إلى
التملكية واغتصاب رقاب المسلمين ببلوغ بني العاص هذا العدد المشؤوم..!.
ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته القاصعة ضمن شرحه لمحنة بني
إسرائيل وابتلائهم بالفراعنة "اتخذتهم الفراعنة عبيداً"، ثم فسّر قوله هذا بقوله:
"فساموهم العذاب وجرّعوهم المرار، فلم تبرح بهم الحال في ذلّ الهلكة وقهر الغلبة،
لا يجدون حيلة في امتناع ولا سبيلاً إلى دفاع". ويتحدث في هذه الخطبة أيضاً عن
استيلاء الأكاسرة والقياصرة على بني إسرائيل وبني إسماعيل ويسمي هذه المحنة
بالعبودية ويعرف هذه المقهورية بالربوبية القاهرة، رغم أنهم لم يُدعَوا إلى عبادة
أحد، وما كانوا مبتلين إلاّ بالبعد عن مساكنهم الواسعة في الشام وأطراف دجلة
والفرات، وبالطرد إلى صحراء قاحلة ليس فيها ماء ولا كلأ، فيقول (عليه السلام):
"كانت القياصرة والأكاسرة أرباباً لهم يجتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق إلى
منابت الشيح"(21).
وقال (عليه السلام) في خطبة أخرى بعد أن أظهر سأمه وملالة قلبه من عصيان أهل العراق
له ونفاقهم، وبعد أن أخبرهم بما سيلاقونه بعده نتيجة عملهم هذا معه، وهي حرمانهم من
هذه النعمة العظمى التي بأيديهم وابتلاؤهم ومقهوريتهم تحت حكم بني أمية {يسومونكم
سوء العذاب}(22)، وبعد بيان هذه الجهات يقول (عليه السلام): "وأيم الله، لتجدنّ بني
أمية أرباب سوءٍ من بعدي"(23). فعدل عن التعبير بالولاة إلى التعبير بالأرباب، وفي
ذلك ما يفيد هذا المعنى أيضاً، وهو معنى متّحد مع مفاد الحديث النبوي السابق
المتواتر بين الأمة.
وكذلك نرى سيد المظلومين (عليه السلام) يعد الانقياد لحكم دعي بني أمية نوعاً من
العبودية، ويقول في جواب أرجاس أهل الكوفة عندما عرضوا عليه النزول على حكم بني
عمه: "لا أعطينّكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد... وهيهات منّا
الذلة؛ أبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس
أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام"(24).
فاعتبر (عليه السلام) طاعة الفجرة والانقياد لحكمهم عبودية محضة. كما قال السيد علي
عليه الرحمة:
كيف يلوي إلى الدنيّة جيداً لسوى الله ما لواها(25)
فخضوع نفسه القدسية لله سبحانه هو من هذا الإباء، ففدى نفسه وما عنده من أجل حريته
وتوحيد ربّه، وخط هذه السنة الكريمة لأحرار أمته، ونزّهها من شوائب العصبية
المذمومة. ولهذا نجد التاريخ الإسلامي يسمي أصحاب النفوس الأبيّة السائرين على هذه
السنة المباركة، الحاذين حذوه (عليه السلام) في التضحية بما عندهم أحراراً وأباة
الضيم ويعدّهم غيضاً من فيض وقطرة من بحره الطاهر.
ونجد الإمام الحسين (عليه السلام) يقول للحر بن يزيد الرياحي عندما خلع طوق الرقّية
وخرج عن أسر العبودية لآل أبي سفيان وأدرك شرف الحرية ونال الشهادة في فلك الركب
المبارك، قال له: "أنت الحرّ كما سمّتك أمّك، أنت الحرّ في الدنيا والآخرة"(26).
ويبدو من الأحاديث الواردة في تفسير الآية المباركة {وعد الله الذين آمنوا منكم
وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم}(27).
وكذلك من الفقرات الأخيرة لدعاء الافتتاح(28)، أن الموعود بهذه الكرامة هو الإمام
الثاني عشر أرواحنا فداه، وأن المقصود بالشرك بالذات الأحدية، هو المقهورية أمام
الطواغيت والبيعة لهم والانقياد لحكمهم، كما يظهر ذلك من قول الإمام المهدي (عليه
السلام): "... وليس في عنقي بيعة لطاغية زماني"(29).
وهو ما يبدو منه الاختصاص به (عليه السلام)، بل يظهر من الروايات الواردة في تفسير
الآية المباركة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن
مريم}(30) أن عبادة النصارى لأحبارهم ورهبانهم هي بمعنى الانقياد الأعمى لهم؛ فكما
أن ألوهية السلطان ومعبوديته هي الأخرى عبارة عن هذا المعنى من الخضوع لمالكية
السلطان وإرادته التحكمية، كذلك يكون الانقياد والخضوع الأعمى لرؤساء المذاهب
والأديان عبودية محضة لهم عندما يؤتى بذلك على أنه من الدين.
والرواية المروية في الاحتجاج المتضمنة ذم التقليد الأعمى لعلماء السوء الساعين
وراء الرئاسة الدنيوية تفيد هذا المعنى أيضاً. والفرق بين عبودية السلطان وعبودية
علماء السوء والأحبار، أن النوع الأول مبني على القهر والغلبة والثاني مبني على
الخدعة والتدليس، ولذا اختلف التعبير عن النوعين في الآيات والأخبار، حيث عبّرت
النصوص عن النوع الأول بـ {عبّدت بني إسرائيل} و "اتخذتهم الفراعنة عبيداً"، وعن
النوع الثاني بـ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}. وفي الحقيقة إن
منشأ الاستعباد في النوع الثاني هو تملك قلوب الأمة لا غير.
ومن هنا تظهر جودة استنباط بعض علماء الفن عندما قسم الاستبداد إلى استبداد سياسي
وآخر ديني وربط كلاًّ منهما بالآخر، واعتبرهما توأمين متآخيين يتوقف أحدهما على
وجود الآخر(31).
وقد اتضح أيضاً أن قلع هذه الشجرة الخبيثة والتخلص من هذه الرقّية الخسيسة لا
يكلفنا أكثر من الوعي والانتباه. وهو في النوع الأول أسهل منه في النوع الثاني الذي
يصعب علاجه. وربما يؤدي أيضاً إلى صعوبة العلاج في النوع الأول أيضاً.
وواقعنا المتردي نحن الإيرانيين يجمع النوعين، وتختلط فيه الشعبتان، حيث شهد
الاستبداد والاستعباد بكلا نوعيه، وسيأتي الكشف عن حقيقة الخلط بين الاثنين وتقوّم
الشعبتين ببعضهما، وعن صعوبة علاج الشعبة الثانية وسراية هذه الصعوبة إلى الشعبة
الأولى، وذلك في خاتمة الكتاب عندما نشرح قوى الاستبداد وطرق التخلص منها.
وبالجملة، فإن انقياد الشعب إلى الطواغيت وقطاع الطرق ليس ظلماً وحرماناً لنفس
الشعب من الحرية التي هي أعظم المواهب الإلهية فحسب، بل هو بنص الكتاب المجيد
وأوامر المعصومين (عليهم السلام) عبارة أخرى عن معبودية أولئك الجبابرة، والشرك
بالذات الأحدية في المالكية والحاكمية بما يريد والفاعلية لما يشاء وعدم المسؤولية
عمّا يفعل، إلى غير ذلك من الصفات الخاصة بالألوهية والأسماء القدسية الخاصة به جل
شأنه.
كما أن الغاصب لهذا المقام لا يعتبر ظالماً للعباد وغاصباً لمقام الولاية من صاحبه
فحسب، بل هو غاصب للرداء الكبريائي الإلهي وظالم للساحة الأحدية، وعلى العكس منه
فالتحرر من الرقّية الخبيثة الخسيسة علاوة على كونه موجباً لخروج الأمة من النشأة
النباتية والورطة البهيمية إلى عالم الشرف والمجد الإنساني، فإنه يعدّ من مراتب
التوحيد ولوازم الإيمان بالوحدانية في مقام الأسماء والصفات الإلهية الخاصة، ولهذا
كان استنقاذ حرية الأمم المغصوبة وتخليص رقابها من الرقّية المنحوسة، والإنعام
عليها بالحرية من أهم مقاصد الأنبياء، إذ لم يكن غرض موسى الكليم وهارون (عليهما
السلام) بنص الكلام المجيد {فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم}(32) إلاّ تخليص
رقاب بني إسرائيل من ذل عبودية الفراعنة، وما كان هدفهما إلاّ أخذ بني إسرائيل
معهما أحراراً إلى الأرض المقدسة، وكانا قد ضمنا لفرعون دوام ملكه وبقاء عزّته على
فرض إجابته لطلبهما ـ كما في الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين ـ، لكن الذي أغرق
الفراعنة هو عدم استجابتهم لهذا الطلب وتعقّبهم لبني إسرائيل لإرجاعهم إلى مصر؛
فأدى ذلك إلى غرقهم ونجاة بني إسرائيل. وقد عدّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في
خطبته هذه تخليص بني إسرائيل وبني إسماعيل من رقّ الأكاسرة والقياصرة هدفاً من
أهداف بعثة خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)(33) كما هو ثابت في أخبار
المعصومين (عليهم السلام) ووثائق التاريخ الإسلامي.
أما مساواة الأمة مع شخص الوالي في جميع الحقوق والأحكام، وشدة اهتمام الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بإحكام هذا الأساس لسعادة الأمة فيمكننا التعرف
عليها من خلال سيرته الشريفة.
1ـ المساواة في الحقوق
ونستفيد ذلك من قصة بعث زينب ابنت الرسول حليّها وأدوات زينتها الموروثة لها من
أمها خديجة (عليها السلام) ومن أجل فكاك أسر زوجها أبي العاص من أمير المسلمين حتى
بكى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند رؤية حليّ خديجة، وعمد المسلمون إلى إسقاط
حقوقهم. فانظر إلى أي حدّ كان النبي دقيقاً في هذا الأمر؟!(34).
2ـ المساواة في الأحكام
وتتضح من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتسوية فيما بين عمّه العباس وابن عمّه
عقيل من جهة وسائر أسراء قريش من جهة ثانية حتى في شدّ وثاقهم، بحيث لم يكن هناك
تمييز بينهما وبين باقي الأسرى، رغم أنهما كانا مجبورين على الخروج إلى الحرب(35).
3ـ المساواة في القصاص والعقوبات
وذلك عندما كشف عن كتفيه، وهو على المنبر في الأيام الأخيرة من حياته واشتداد المرض
عليه، طالباً إحضار سوطه أو عصاه الممشوقة ليقتص منه سوادة لادعائه على النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أنه عندما كان سوادة بخدمته في بعض أسفاره أراد النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أن يضرب الناقة فوقعت العصا على كتف سوادة، وأخيراً عدل سوادة
عن القصاص، وقنع بتقبيل خاتم النبوة المضروب على كتف النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)(36).
وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلما) أمام الأشهاد من أجل إحكام هذا الأساس
الشريف حيث فرض المحال قائلاً: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"(37).
فلنتأمل إلى أي حدّ قرّر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمّته الحق بالمطالبة
بالحرية؟.
ولأجل إحياء هذه السنة والسيرة المباركة ومحو بدعة التفضيل بالعطاء واسترداد
القطائع وإقامة أساس المساواة بين المسلمين، خاض أمير المؤمنين (عليه السلام) تلك
الفتن الطاحنة في عصر خلافته، حتى طلب منه أكابر صحابته، أمثال عبد الله بن عباس
ومالك الأشتر وغيرهما، أن يسير بالسيرة المبتدعة للسابقين عليه في العطايا
والتقسيم، وذلك بتفضيل البدريين السابقين والمهاجرين الأوّلين وأمهات المؤمنين على
اللاحقين والتابعين والإيرانيين الجديدي العهد بالإسلام!، فما كان منه إلاّ أن
أسمعهم تلك الأجوبة الصلبة.
كما إن قضية الحديدة المحماة التي أحضرها الإمام (عليه السلام) في جواب طلب أخيه
عقيل منه صاعاً من الحنطة(38)، وعتابه لولده الحسين سيد الشهداء (عليه السلام) ذلك
العتاب المكمّل لمقام العصمة، الذي وجّهه إليه لما طلب مدّاً من عسل من بيت المال
ليطعم به ضيوفاً كانوا عنده(39)، والذي أبكى معاوية لما سمعه على ما به من حقد
وعداوة، وموقفه من ابنته لما أرادت استعارة عقد لؤلؤ كان في بيت المال المسلمين
عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيام(40)، إلى غير ذلك من المواقف المدوّنة في كتب
السير والتاريخ عن حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام)، أمور تّخجل كل ادعاء بالعدل
والقسط والمساواة، وما كانت تلك المواقف إلاّ حفظاً لهذا الركن العظيم ـ المساواة ـ
وخروجاً عن عهدة المسؤولية المترتبة عليه.
ومن أجل إقامة هذه السنة المباركة واتباعاً لهذه السيرة المقدسة المأخوذة عن
الأنبياء والأوصياء في هذا العصر الأخير؛ عصر التمدن والسعادة، عصر التنوّر واليقظة
وانتهاء دور الأسر والسير القهقرائي للمسلمين إن شاء الله تعالى(41)، نهض العلماء
الربانيون والفقهاء الروحانيون رؤساء المذهب الجعفري لتخليص رقاب المسلمين من ذل
الاسترقاق وإنقاذ حريتهم المغتصبة وحقوقهم المسلوبة، وتبعاً للسيرة المقدسة وطبقاً
للمبدأ المقرر (ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه)، عملوا على تحويل السلطة الجائرة من
النحو الأول، الذي تسبب في كثير من الدمار وجعل أصل الدولة الإسلامية مشرفاً على
الانقراض، إلى النحو الثاني الحاسم لأكثر مواد الفساد والمانع لاستيلاء الكفار على
بلاد المسلمين، وبذلوا ما يلزمهم من المهج وقاموا بالجهاد من أجل حفظ بيضة الإسلام.
وحيث كانت يقظة الغيورين من المسلمين من أجل تحرير رقابهم من استرقاق الجائرين
وتحقيق المساواة مع الحاكم، وتكريس حق الاشتراك معه في جميع قدرات البلاد
وإمكاناته، تمثل الوسيلة الأكبر والأقوى لجدهم واجتهادهم في هذا المجال، فقد رأت
شعبة الاستبداد الديني الخبيثة وباسم حفظ الدين أن من الواجب عليها، بمقتضى وظيفتها
المتكلفة بالاحتفاظ بشجرة الاستبداد الخبيثة، عدم الإصغاء للخطاب الشريف {ولا
تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}(42)، والاقتداء بالمخاطبين الأوائل
بالقرآن الذين نبذوا كلام الله وراء ظهورهم. وأخذت تقاوم بكل ما في وسعها هذين
الأصلين ـ الحرية والمساواة ـ اللذين تترتب عليهما حفظ حقوق الأمة وتحديد مسؤولية
الولاة وغير ذلك. وعملت على تنفير وصرف قلوب الشعب عنهما وذلك بإظهارهما بأشنع
الصور.
فالحرية التي تعني تحرير الأمة من ربقة الجائرين، وهي من أعظم المواهب الإلهية على
هذا الإنسان البائس، وكان اغتصابها في الإسلام من بدع الشجرة الملعونة معاوية وابن
العاص، وكان استنقاذها من أهم مقاصد الأنبياء والأوصياء وقادة الشعوب، صوّروها في
عداد المستحيلات واعتبروها أساساً لما هو غير شرعي من الأمور، كعدم ارتداع الملاحدة
عن إظهار المنكرات وإشاعة الكفريات وتجرؤ المبتدعين في إظهار بدعهم وزندقتهم،
وعدّوا من لوازم الحرية خروج النساء المسلمات سافرات الوجوه وغير ذلك مما ليس له
ربط بقضية الاستبداد والدستور. مع أن الدول المسيحية، سواء كانت استبدادية كروسيا
أو شوروية كفرنسا وإنجلترا، إنما لم تمتنع عن تلك الأعمال لأنها غير محرمة في
أديانهم ومذاهبهم، لا لأنهم استبداديون أو شورويون.
والمساواة في جميع الحقوق التي عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على استحكامها
كأساس لسعادة أمته، حتى جرد كتفيه المباركين بتلك الحالة من المرض لاستيفاء قصاص
ادّعائي، والتي تحمّل أمير المؤمنين (عليه السلام) كل تلك المحن والمصائب من أجل
تطبيقها في مواردها التي كان منها التسوية فيما بين البدريين والإيرانيين الجديدين
عهداً بالإسلام، حتى نال كأس الشهادة في محراب العبادة؛ هذه المساواة صورها
الاستبداديون بصورة مساواة المسلمين مع أهل الذمة في أبواب النكاح والميراث والقصاص
والديات. وخبطوا أكثر فجعلوا من مقتضياتها المساواة بين أصناف المكلفين كالبالغ
وغير البالغ والعاقل والمجنون والصحيح والمريض والمختار والمضطر والموسر والمعسر
والقادر والعاجز، وغير ذلك مما كان أساساً لاختلاف التكاليف والأحكام، وبعيداً عن
قضية الاستبداد والشورى كبعدنا عن الفلك الأطلس(43).
وبالجملة فإن رأس مال سعادة الأمة وحياتها وأساس محدودية السلطة والمسؤولية المقدمة
لها، وحفظ حقوق الشعب، كل ذلك ينتهي لهذين الأصلين، الحرية والمساواة، ولذا ترى
شعبة الاستبداد الديني صبغت هاتين الموهبتين العظيمتين بهذه الصبغة القبيحة. ولكن
"لا يمكن حجب أشعة الشمس، كما أن محاولة سد النيل بالمسحاة عمل أحمق"(44).
إن الشعب الإيراني، وحتى لو افترضناه أعمى وأصم وجاهلاً بمقتضيات الدين وضرورات
المذهب، وغافلاً من المطالبة بحقوقه وبحريته من الرقّية الملعونة وبالمساواة مع
الغاصيين، وذاهلاً عن معنى حياته قانعاً بكونه مسخّراً لرفاهية الطفيليين مع
المعممين والمتطربشين، ومهما بلغ به الحال من الجهل بمدى علاقة تلك الأمور بأساس
الاستبداد والشوروية، إلا أنه مع هذا كله يفهم جيداً أن الغاية من البطولات التي
أبداها العقلاء والعلماء والغيورون على هذا الوطن بطبقاتهم من العلماء والأخيار
والتجار هي لاستنقاذ الحرية والمساواة لا لإرسال نسائهم إلى السوق بلا حجاب، ولا
للتواصل مع اليهود، ولا للتسوية بين أمثال البالغ وغير البالغ في مجال التكاليف،
ولا لبسط يد الفسقة وأهل البدع في الجهر بالمنكرات وترويج أسباب الكفر.
فأئمة المذهب ورؤساؤه لا يأمرون إلاّ بما يحفظ بيضة الإسلام ويصون البلاد
الإسلامية، ويصرحون بأن مخالفة هذه الأحكام هي بمثابة إعلان الحرب على صاحب العصر
والزمان (عليه السلام).
وهذا الشعب يعرف جيداً هذه الفئة من الجبابرة والطواغيت الساعين بسيرتهم إلى محو
أحكام الشريعة المطهرة، والمروّجين لأنحاء الفسق والفجور في البلاد، ويعرف أنهم لا
يهدفون بأعمالهم الجنكيزية الشنيعة إلاّ صيانة مقام مالكية الرقاب وفاعلية ما يشاء
وحاكمية ما يريد للحاكم الجائر، وعدم المسؤولية عمّا يفعل، كما أنه يعرف باتصافنا
نحن عبيد الظلمة وحاملي شعبة الاستبداد الديني بالأوصاف المذكورة في رواية الاحتجاج
لعلماء السوء ولصوص الدين ومضلّي ضعفاء المسلمين، حيث ورد في آخرها قوله (عليه
السلام): "أولئك أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد ـ لعنه الله ـ على الحسين"(45)،
ويعلم بانطباق مفاد الآية: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينُنّه للناس
ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون}(46)
علينا، وإننا لا نحصل في النهاية إلاّ على الفضيحة الأبدية والخزي في الدارين: {سنة
الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً}(47).
ومن الأفضل أن أمسك عنان القلم عن شرح هذه الفضيحة التي مهما كانت فإنها تعود على
الجميع بالضرر، وأحيل الكشف عن حقيقة هذه المغالطات إلى حينه، وأختم هذه المقدمة
بذكر فهرست مواضيع الفصول الخمسة للكتاب، وهي على النحو التالي:
الفصل الأول: في حقيقة السلطنة المجعولة في الدين الإسلامي والشرائع الأخرى وعند
الحكماء والعقلاء غير المتديّنين في العالم قديماً وحديثاً، وكونها من النوع الثاني
ـ الولايتية ـ وأن تحولها إلى النوع الأول ـ المالكية ـ هو من بدع ظالمي الأمم
وطواغيت الأعصار.
الفصل الثاني: في أنه هل يجب علينا، في عصر الغيبة الذي قصرت فيه أيدينا عن التمسك
بمقام العصمة، وأصبحت الولاية والنيابة العامة في إقامة هذه الوظائف مغتصبة،
وانتزاعها من الغاصبين غير مقدور لنا أيضاً، هل يجب علينا في مثل هذا الظرف العمل
على تحويل السلطة من النوع الأول المتصف بالظلم والاغتصاب إلى النوع الثاني الذين
هو عبارة عن الحد من الظلم والتسلط بالقدر الممكن؟ أو إن مغصوبية المقام موجبة
لسقوط التكليف؟.
الفصل الثالث: في أنه إذا ما ثبت لزوم التقييد والتحديد المذكور، فهل تتعين هذه
الدستورية الرسمية المتقومة بالأصلين المذكورين؟ وهل وسيلة التحديد منحصرة بها؟ وهل
هي خالية من المحذور والإشكال؟.
الفصل الرابع: في ذكر ودفع بعض الوساوس والمغالطات.
الفصل الخامس: في بيان وظائف النواب، ومشروعية عملهم، وشرائط ذلك.